نظام اللامساواة

  • مراجعة لكتاب تونغ دونغ باي «نقد المساواة السياسية: الحالة الكونفوشية» الذي قدّم فيه قراءة جديدة لأدبيات المدرسة الكونفوشية، التي تصوّر النظام السياسي بأنه قائم على الجدارة والفضيلة والنزاهة وحسّ الواجب، فيما اهتمامهم الأول يركّز في إعادة تصوّر النظام السياسي وليس الأخلاقي فحسب. وربّما يصحّ القول في تفسير طروحات باي أن الأخلاق تأتي في خدمة السياسة. 

حين التقيتُ البروفيسور تونغ دونغ باي في شانغهاي، أعلمني بصدور كتابه الجديد تحت عنوان جدلي «نقد المساواة السياسية: الحالة الكونفوشية»، الذي قدّم فيه قراءة جديدة لأدبيات المدرسة الكونفوشية. وبنصّه المُحكم الصياغة والحجّة، يجذب هذا الكتاب على السواء المتعطِّشين لاستكشاف الكلاسيكيات الصينية وأولئك الذين يملكون بالفعل مخزوناً لا بأس به من المعرفة بها. وفي مراجعتي هذه، ينصبّ تركيزي على مسألتين جوهريتين قد لا أتفق فيهما مع البروفيسور باي، غير أنّ الكتاب يحوي أجزاءً أخرى تستحق الدراسة لما لها من فائدة على الجميع، خصوصاً تلك التي تتناول الصين المعاصرة، إنّما لن أتطرق إليها في هذه المراجعة. 

يزعم باي في كتابه أنّ قيمة النصوص الكونفوشية لا تقتصر على كونها مجرّد مجموعة من التعاليم الأخلاقية المعنية بالفضيلة والرقيّ الأخلاقي وحسب، بل بوصفها فلسفة سياسية بكلّ ما للمصطلح من دلالات.

يدعم باي أطروحته بمقارنةٍ بين الوضع السياسي الذي عايشه كونفوشيوس ومنشيوس في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد - ما يعني أنّهما عاصرا نسبياً سقراط وأفلاطون – وهما الكاتبان اللذان تشكّل مؤلّفاتهما مجمل الأدلة النصّية التي قدّمها باي، وبين الوضع السائد في أوروبا الغربية على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، أي في حقبة انحلال الإقطاع الأوروبي. والوضعان يُعدّان مرحلتين مِفصليّتين في التاريخ السياسي. 

لم تعد شرعية السلطة السابقة كافية، وكانت النتيجة بحسب باي أنّ أتباع كونفوشيوس ومفسّريه وجب عليهم التأمل في السياسة وإيجاد أسس جديدة لشرعنة النظام السياسي. وهذا يشبه النهضة الإيديولوجية وبروز الفكر «السياسي» في أوائل العصر الحديث لأوروبا الغربية

في الحالة الصينية، شهد الانتقال بين سلالتَي زو وتشين الحاكمتين انهيار النظام «الإقطاعي» (بالمعنى الفضفاض) الهرمي الخاضع لحكم النبلاء وفترةً من الاحتراب المستمر. وخاضت الممالك السبع الكبرى، بحسب ما يشير إليه عصر الممالك المتحاربة (475-221 قبل الميلاد)، حروباً فيما بينها ولم تعد شرعية السلطة السابقة كافية. وكانت النتيجة بحسب باي أنّ أتباع كونفوشيوس ومفسّريه، بينهم منشيوس، وجب عليهم التأمل في السياسة وإيجاد أسس جديدة لشرعنة النظام السياسي. وهذا يشبه النهضة الإيديولوجية وبروز الفكر «السياسي» في أوائل العصر الحديث لأوروبا الغربية.

يرى باي أنّ تعاليم الكونفوشيين الأخلاقية تحتل مرتبةً ثانوية مقارنةً باهتمامهم في الفلسفة السياسية. وعلى الرغم من أنّ النظام السياسي الذي تصوّره هؤلاء يقوم على الجدارة والفضيلة والنزاهة وحسّ الواجب، كما سنرى لاحقاً، إلّا أنّ اهتمامهم الأول تركّز في إعادة تصوّر النظام السياسي وليس الأخلاقي فحسب. وربّما يصحّ القول في تفسير طروحات باي أن الأخلاق تأتي في خدمة السياسة، فكاتبنا يقول إنّ الكونفوشيين كانوا «ثوريين بواجهة محافظة» (ص. 30).

يستخدم باي المقارنة مع أوروبا الغربية دليلاً غير مباشر على أنّ النصوص الكونفوشية فلسفة سياسية بالفعل. ولعلّ أحد أسباب عدم اعتبارها كذلك هو أسلوب صياغتها المقتضب والرمزي الذي يحتمل تأويلات عدIة. هذه النصوص، على غرار كتاب «تعاليم كونفوشيوس» (The Analects)، غاب عنها القالب التسلسلي المُحكم، ولم تتضمّن أي محاولة لإيضاح كلّ النقاط الوسيطة الواقعة بين البيان الأوّلي ودلالاته الكاملة. وفي دفاعه عن هذا النوع الإيحائي من الكتابة، يحاجج باي بأنّ بعض أنواع المعرفة غني عن التفسير، لا بل إنّ المؤلّفين بلغوا مكانة فكرية أغنتهم عن الشرح بأسلوب متدرّج. ويستشهد باي بمقولة نيتشه بأنّ الطريق الأقصر لعبور الجبال خطّ مستقيم يمتدّ بين قمّتين ولا يجتازه من المحاولة الأولى إلّا شخص طويل الساقين (أي صاحب عقل متّقد). قد يستغرب الشخص العقلاني هذا الدفاع عن الغموض في التفكير، حيث أنّ هذا الغموض يُرفّع إلى منزلة العبقرية. ولكنّ هذا الأسلوب، بمخالفته قواعد الفلسفة السياسية الغربية الحديثة، هو الذي أدى إلى نزع صفة الفلسفة السياسية عن كتابات كونفوشيوس ومنشيوس بلا وجه حق على حد قول باي. وهذا بالتحديد ما يحتاج إعادة نظر.

يقدّم لنا باي إعادة تفسير شاملة وتناظرية لفكر كونفوشيوس ومنشيوس، خصوصاً منشيوس الذي ورد ذكره في الكتاب أكثر من كونفوشيوس. وتكمن شمولية هذا التفسير في أنّه يضع قواعد لتنظيم الدولة «المثالية»، ثم ينتقل إلى القواعد التي يجب أن ينبني عليها النظام الدولي.

ينطلق تعريف النظام السياسي المحلّي من مقولة يدافع عنها منشيوس أكثر من من كونفوشيوس ألا وهي أنّ جميع الأفراد مبدئياً متساوون فيما بينهم وقادرون على الوصول إلى الكمال الأخلاقي والمعرفي، أو في الأقل من تحقيق تطور مُرضٍ في هذين المجالين. وهذا التطور المُرضي الذي يشمل السلوك الفضيل واحترام الآخر والتعاطف والاهتمام بالشأن العام يبدأ بعملية تنشئة بالمعنى الواسع، كالتعليم الأكاديمي والتربية، أي أن القيم تُغرس عادةً بواسطة العلاقات الأسرية والاجتماعية. غير أنّ هذا التطور الأخلاقي المُرضي لا تبلغه إلا مجموعة مُختارة من الأشخاص. وبما أنّ هؤلاء أكثر «إنسانية» من غيرهم (أو كما يقول باي، هم إنسانيون بحقّ في حين أنّ الآخرين بالكاد يجتازون مستوى الطبيعة الحيوانية)، فهم من يُوَلّوا مقاليد الحكم. ينبغي لهؤلاء أن يحكموا الدولة ليس خدمةً لمنفعتهم المادية الشخصية فحسب بل خدمةً للمنفعة العامة، بما يشمل المحكومين. ومن هذا المنطلق تصبح الحكومة مسؤولة أمام عامة الناس ولا تقوم لها شرعية إلّا بصلاح حكمها، وخصوصاً قدرتها على النهوض بالأوضاع الاقتصادية لمحكوميها. ويسلّط باي الضوء، وهو محقّ على الأرجح، على الشقّ من تعاليم منشيوس القائل بأن الفضيلة الأخلاقية لا تتحقق من دون قدرٍ من الاكتفاء المادي، إذ من الصعب التقيّد بالقواعد الأخلاقية البحتة في ظل الحرمان.

إذا كان النظام عاجزاً عن تأدية الواجبات المُناطة به، فلا بدّ من تصحيح، ولو أنّه لم يُبيِّن متى يُصبح هذا التصحيح مبرّرًا أي متى تصبح الثورة مقبولة، ولا كيفية تطبيقه بوجهٍ أعمّ بمعنى هل يمكن أن يكون التصحيح عنيفاً أو لا؟

وعليه فإنّ النظام السياسي المتصوّر شرعي في المبدأ لأنه قائم على الجدارة وخاضع للمساءلة أمام المحكومين. وفي إطار ما يسمّيه باي نظاماً كونفوشياً هجيناً فإنّ «الجماهير تتحلّى بالقدرة الكافية لمعرفة ما إذا كانت راضية أو لا عن النظام وسياساته، غير أنّها تفتقر إلى القدرة على اتخاذ قرارات سياسية من شأنها الحفاظ على مناخ سياسي مُرضٍ أو تُفضي إلى قيامه» (ص. 89). وإذا كان النظام عاجزاً عن تأدية الواجبات المُناطة به، فلا بدّ من تصحيح، ولو أنّه لم يُبيّن متى يُصبح هذا التصحيح مبرّرًا (أي متى تصبح الثورة مقبولة) ولا كيفية تطبيقه بوجهٍ أعمّ (هل يمكن أن يكون التصحيح عنيفاً أو لا؟). 

لكنّ المشكلة أعمق من ذلك، فباي، مستنداً مرّة أخرى إلى منشيوس، يدعو إلى ما يُعرف اليوم بـ«تكافؤ الفرص»، أي أنّه يجب أن يحظى الجميع بالفرصة نفسها للنجاح. وتكافؤ الفرص هذا يبرِّر القول بأنّ الحاكمين على أساس الجدارة هم «الحكّام الشرعيون». وإذا وضعنا جانباً مسألة ما إذا كان هذا التبرير مقبولاً أم لا (بمعنى آخر التسليم جدلاً بأنّه يجب أن تحكمنا «أرستوقراطية» بالمعنى الاشتقاقي للمصطلح)، بقي أمامنا سؤالان في الأقل يحتاجان إجابة.

السؤال الأول هو هل المعايير التي يستند إليها التمييز بين المُختارين للحكم وغيرهم من الناس تحظى بالقبول؟ وهل يُمنح الحق في الحكم على أساس الدرجة التي يحصّلها الفرد في اختبارات «سات» أو معرفته بالشعراء القدماء مثلاً؟ وكيف تُعرّف معايير «الاهتمام بالمجتمع» بخلاف المصلحة الذاتية والأنانية، والأهم كيف يتم التقيّد بها؟ ومن الجهة المخوّلة مراقبة هذا الالتزام وتقييمه؟ ألن يكون لدى الحكّام حافز لتطويع النظام لمصلحتهم الشخصية والادعاء بأنّ سماتهم الشخصية تنمّ عن الورع والفضيلة، على غرار فرسان القرون الوسطى الذين وجدوا في نَسَبهم وقدرتهم القتالية أسمى الفضائل؟

تبرز المشكلة الثانية بمجرّد أن تتعاقب الأجيال على النظام. وإن سلّمنا بـ«مثالية» هذه الدولة ومعايير انتقاء نخبها، سيتضح لنا سريعاً أن أولاد النخب يحظون بنقطة انطلاق أفضل بكثير من سائر أقرانهم. وبذلك فإنّ الفرضية الأساسية التي يرتكز عليها النظام بأكمله، أي تكافؤ الفرص، تنهار سرعان ما يبدأ النظام بسيرورته التطوّرية. وفي ضوء ما شهدناه مراراً عبر التاريخ فإنّ هذا الوضع يؤول بصورة شبه حتمية إلى حكم نخبة صغيرة تُعهد إليها مقاليد السلطة ليس لمقدرة خاصّة تمتلكها بل بفضل روابطها العائلية أو صداقاتها أو علاقاتها الزبائنية.

يطرح باي نظرية شبيهة بالنظرية السابقة من الناحية الهيكلية فيما يتعلّق بالعلاقات الدولية، مستنداً مرة أخرى إلى تعاليم كونفوشيوس ومنشيوس. وفي هذا السياق، يميّز المفكّرون الكونفوشيون بشكل أساسي بين الشيا (xia) أو الدول المتحضّرة واليي (yi) أو الدول «البربرية». ويسعى باي جاهداً إلى التأكيد على أنّ هذا التمييز لا يقوم على أسس عرقية، ولو أنّ التفسير الشائع سابقاً يرجّح العكس، فما إن توحّدت الصين حتى بدأت علاقاتها تميل نحو شعوب اعتبرهم الصينيون أدنى منهم ثقافياً حتى لو كانوا متفوّقين عليهم عسكرياً، وبحسب باي، لم يتبدّل هذا الوضع إلّا حينما بدأ الاحتكاك مع الغرب الذي كان أقوى من الصين عسكرياً وكان من الصعب التعامل مع شعوبه على أنّهم «بربريين» نظراً لما كان أحرزه الغرب من تقدّم فلسفي وعلمي. واقترح الكونفوشيون أسلوب تعامل متمايز مع الشيا واليي، حيث أنّ استخدام أساليب العنف، كالاجتياح أو تغيير الحكومات أو الضمّ، كان محظوراً بين دول الشيا، فالدول المتحضّرة لها أن تتنافس فيما بينها لكن عليها ألّا تلجأ أبداً إلى العنف الواحدة ضد الأخرى. وعلى النقيض من ذلك، يحق لدولةٍ متحضّرة استخدام وسائل العنف ضد دولةٍ بربرية على أن يكون الهدف الأسمى مساعدة الأخيرة في الارتقاء إلى مصاف دول الشيا.

الوضع يؤول بصورة شبه حتمية إلى حكم نخبة صغيرة تُعهد إليها مقاليد السلطة ليس لمقدرة خاصّة تمتلكها بل بفضل روابطها العائلية أو صداقاتها أو علاقاتها الزبائنية

يطبّق باي هذه القاعدة على العلاقات الدولية الحالية معتبراً أنّ الشؤون الداخلية لدولة ما ليست شأنها وحدها إذا كانت دولة يي (بربرية)، بل شأناً دولياً. لذا، وعلى سبيل المثال، فإنّ الدول التي تترك مواطنيها في براثن الفقر، وتنتهك حقوق الإنسان، وتعبث باستقرار دول أخرى وما إلى ذلك تُعدّ أهدافاً سائغة للمجتمع الدولي المكوّن من دول الشيا، والسلوك العنيف تجاهها مقبول، لا بل مرغوب ربّما. والغريب في الموضوع أنّ باي نسيَ أنّ الحجج ذاتها تقريباً، أي الفقر المدقع والظروف الصحية الرديئة والأمراض المُعدية ووأد الأطفال كلّها وُظفت لتبرير محاولات «نشر التحضّر» و«تحقيق السلام» في الصين، غير أنّ «المساعي الدولية» الرامية إلى ذلك لم تجلب للصين سوى الحروب والخراب. ومن غير الواضح لماذا سيكون الوضع مختلفاً في دول أخرى. 

من الواضح أنّ هكذا فكرة تمهِّد الطريق أمام «الفوضى العظمى تحت السماء». فإذا كانت المعايير المحلية لاختيار النخبة غير واضحة، كما ذكرتُ آنفاً، فما بالك بالمعايير الدولية للتمييز بين الدول «المتحضّرة» والدول «البربرية»؟ ألن تكون أكثر غموضاً وجدلية؟ ونذكر هنا أنّ الدولة المثالية، بحسب معايير باي، يمكن أن تعتبرها دولة ديمقراطية ليبرالية دولة يي لأنّ الأخيرة لا تتقبّل الديمقراطية ولا حكم الشعب. تكمن المفارقة هنا في أنّ القواعد الدولية التي يطرحها باي يمكن استخدامها لإسقاط دولته الكونفوشية «المثالية»! ولكنّ هذه أبسط مشاكلنا، فمن يقرّر المعايير التي تُصنّف على أساسها الدولة بأنها «بربرية»؟ تعريف باي شامل للغاية: «الدولة البربرية هي التي تستبدّ بشعبها نتيجة عدم كفاءتها أو لامبالاتها، وتحرمه من الخدمات الأساسية، وتضعه في معاناة شديدة؛ كما أنّ هذه الدولة تهدِّد سلامة الشعوب الأخرى أو تتملّص تماماً من واجبها تجاههم كواجب حماية البيئة المشتركة» (ص. 185). نستطيع استخدام هذا التعريف كلّما شئنا لنقل دولة إلى خانة الدول «البربرية» أو التي تستحق اجتياحاً من تحالف لدول «متحضّرة».

ذكرتُ سابقاً أنّ النظامين المحلي والدولي اللذين يحاجج بهما باي يقومان على أرضية تناظرية. وتكمن أوجه التناظر فيما بينهما في طرح نخبة مختارة على أساس معايير محددة (في الحالة الأولى الأقلية المتعلّمة، وفي الأخرى الدول «المتحضّرة»)، بتعريفات فضفاضة أو جدلية للغاية لهذه النخبة، وكذلك في الحقوق الممنوحة لها لتحكم غيرها. وعلى الصعيد المحلّي، يتمتّع المحكومون مبدئياً وفي الحد الأدنى بحق التمرّد على النخبة حال فساد الإدارة، غير أنّ هذا الحل النظري غير متاح على الصعيد الدولي.

على كلا المستويين، يضعنا باي أمام نظام شديد النخبوية واللامساواة ولا يصلح إلّا إذا اعتمد على القوة الغاشمة لإبقاء «الأقنان» المحليين و«البرابرة» الأجانب تحت السيطرة، أو على قبول الرعايا المحليين ودول اليي الأجنبية بمنزلتهم الدونية، وهو أمر صعب المنال. ولعلّ هذا النظام اللامتساوي كان ليحظى بالقبول، ضمنياً أو صراحةً، قبل آلاف السنين، غير أنّ فرص قبوله باتت شبه معدومة اليوم، لحسن الحظ.

نشر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 12 نيسان/أبريل 2024.