فلسطين تغيّر كل شيء
- أظهرت فلسطين مرّة تلو الأخرى، بالمقارنة مع أي دولة محتلة أخرى في التاريخ الحديث، أنّها المنطقة الفعلية التي يتحقّق فيها سباق التسلّح الغربي. إنّ تراجع التصنيع في الغرب لا يصاحبه تراجع في إنتاج الأسلحة، بل تزايد، مع احتلال الولايات المتحدة موقع الصدارة في هذه الصناعة.
- في عالم مُفرط في فردانيّته، فإنّ القوة المُطلقة للفلسطينيين وتصميمهم على المقاومة مع إدراكهم لحتمية الموت المؤلم كمجموعة، تتحدّى العقلانية الرأسمالية المتمثلة في المصلحة الذاتية الفردية والحماية الذاتية والبقاء للأصلح. وهذا ليس تبجحاً عاطفياً، بل عملٌ سياسي من أجل مستقبل مشترك.
يشير التطهير العرقي المستمر والإبادة الجماعية للفلسطينيين في العام 2023 إلى سقوط قناع النظام الليبرالي الغربي السلمي. راح ضحية عنف الحرب المباشر 940 ألف شخص على الأقل في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وباكستان. الحال أنّ هذه البلدان خضعت لمدّ العنف الإمبراطوري وجزره، بيد أنّ أبهظ الأثمان دفعها الفلسطينيون. لطالما كان الاحتلال التاريخي لفلسطين شرطاً اجتماعياً اقتصادياً لتماسك مجموعة السبع، ولكن لم يعد بالإمكان احتواء التطهير العرقي الحالي بالأدوات المُعتادة للتحكّم في السردية ومناخ الخوف المكثّف الرامي إلى وأد الدعم الشرعي لفلسطين على الصعيد الدولي وإسكاته. وكما يلاحظ ستيفن سلايطة، أظهرت لنا الإبادة الجماعية أنّ «الإفلات من العقاب ليس رهين الشجب»، ولا يزال علينا واجب الشهادة على الإبادة الجماعية أمام جيلنا والجيل القادم. الإبادة الجماعية الحالية أوضح تعبير عن انحطاط النظام الغربي إلى حالة من الانتروبيا المستمرة. ويلزم عمّا سبق استحضار الذرائع المعتادة «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان»، ليكون بذلك أكثر عرياً ووحشية ورجعية. يسير النظام الغربي بقدميه إلى حتفه. وهذه المسيرة بقيادة فلسطين. فلسطين تغيّر كل شيء.
نظام عالمي جديد: لا مزيد من الأكاذيب
يتردّد صدى النضال الفلسطيني في المؤسّسات واضعة المعايير، ويكشف مجدّداً عن الفشل الذريع للعمل المتعدّد الأطراف. بعد شهور من إعرابه عن «الصدمة» و«الأسف» و«الشجب»، وإشاراته المبتذلة إلى «الأعداد الصادمة وغير المقبولة للقتلى المدنيين» في فلسطين، لجأ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش إلى المادة 99 من ميثاق الأمم المّتحدة ليزيد من المساعدات الإنسانية إلى مدنيي غزة.
لطالما كان الاحتلال التاريخي لفلسطين شرطاً اجتماعياً اقتصادياً لتماسك مجموعة السبع، ولكن لم يعد بالإمكان احتواء التطهير العرقي الحالي بالأدوات المُعتادة للتحكّم في السردية ومناخ الخوف المكثّف الرامي إلى وأد الدعم الشرعي لفلسطين
أتى هذا بعد 58 يوماً من قتل واستهداف المدنيين المتعمّد بحصيلة تقارب 20 ألف فلسطيني. إلى جانب قصف المناطق السكنية، تركّز القصف على المشافي والمدارس ودور العبادة. وأفادت وزارة الصحة الفلسطينية، حسبما نقلت وكالة رويترز، بأنّ 70% من ضحايا غزة نساءٌ وأطفالٌ دون الثامنة عشرة.
في لجوئه إلى المادة 99، يقول غوتيرش بحق إنّ ما حدث لا سابق له في خلال فترة ولايته أميناً عاماً. ما لا يذكره أو حتى يلمح إليه، أنّ اللجوء إلى التدخّل الإنساني ليس مجرّد إلهاء عن المساءلة، وهو إلهاء قاصر، ولكنه إلى ذلك إجراء آخر يعزّز في النهاية القوة الأميركية.
لقد استخدمت الولايات المتّحدة حق النقض مرّتين لغاية تاريخه على قرارات مجلس الأمن في اعتراضها على الوقف المؤقت للقتال للسماح بدخول المساعدات الإنسانية. إنّ السماح لأكبر قوة عسكرية في العالم باستخدام حق النقض على وقف إطلاق النار في الإبادة الجماعية المستمرّة، يكشف لنا طبيعة السلطة المؤسسية في الأمم المتّحدة. علاوة على ذلك، وكما الحال دائماً في التركيز الحصري على المقاربات الإنسانية للاحتلال الفلسطيني، تبتعد السردية عن السياسي. وهذه حالة نموذجية من حالات اللجوء إلى اتفاقية الإبادة الجماعية للأمم المتحدة والاتفاقية واضحة في فرض تعهداتٍ على:
الدول الأطراف باتخاذ التدابير اللازمة، بما فيها سنّ التشريعات اللازمة، لمنع وقوع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها، «سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظّفين عامين أو أفراداً» (المادة الرابعة). وهذا التعهّد، بالإضافة إلى حظر ارتكاب الإبادة الجماعية، يعَدُّ من أعراف القانون الدولي، وعليه يكون ملزماً لجميع الدول، سواء صادقت الدولة على الاتفاقية أو لم تصادق عليها.
طالبت المنظّمات النسوية في الجنوب العالمي مجموعة 77 والصين باللجوء إلى هذه الاتفاقية. ومع وجود محاولات مستمرّة بين الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة لمواجهة المعارضة الأميركية لوقف إطلاق النار، تظل الحقيقة أنّ الأمم المتّحدة بحاجة إلى معالجة غرضها المؤسّسي، فلا يمكنها تقديم نفسها على أنّها محصلة الدول الأعضاء، في حين تظل هذه الدول خاضعة لإرادة دولة واحدة. في هذه اللحظة، ليس أمام الأمم المتحدة إلا اتفاقية الإبادة الجماعية للحفاظ على مصداقيتها لأنّ فشلها الحالي في حماية الفلسطينيين ليس استثناءً غريباً على تاريخ عملياتها السابقة، بل قرين أسلوب منظم. وكما لاحظت سارة روي، بعد ثلاث حروب كبرى على غزة (2008-2009 و2012 و2014) كانت خطط إعادة إعمارها بقيادة الأمم المتحدة، المنفّذة الرئيسة للحصار، أمراً بالغ الأهمية في تمكين القبضة الإسرائيلية على المنطقة. بعيداً من فلسطين، كان دور الأمم المتحدة في جميع أنحاء العالم أبعد ما يكون عن التهدئة. تشمل بعض الأحداث التاريخية المفصلية مذبحة سربرنيتسا وبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق. بالإضافة إلى ذلك، بيّنَت جميمة بيير، في السياق الهايتي، أن حصانة الأمم المتحدة من المقاضاة سمحت لها بالإفلات من أي مساءلة حقيقية.
كما الحال دائماً في التركيز الحصري على المقاربات الإنسانية للاحتلال الفلسطيني، تبتعد السردية عن السياسي. وهذه حالة نموذجية من حالات اللجوء إلى اتفاقية الإبادة الجماعية للأمم المتحدة
في الوقت نفسه، تجاهر إسرائيل في تهديدها الأمم المتّحدة والمحكمة الجنائية الدولية بينما تخرق كلّ القواعد الدولية. ولم تكن إسرائيل لتفلت من العقاب لولا السياستين الأميركيتين الداخلية والخارجية؛ على سبيل المثال، يساوي قرار مجلس النواب الأميركي رقم 894 معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، وتواصل الولايات المتّحدة نسف وقطع جميع المسارات السياسية المؤدّية إلى أي قرار متعدّد الأطراف لوقف إطلاق النار.
فلسطين نموذج مصغّر للنضال ضد الإمبريالية الغربية
تندرج المقاومة الفلسطينية في إطار حقّ الشعوب في تقرير مصيرها؛ وقد كانت مقاومة دؤوبة ومتواصلة، وعلى غرار أي نضال من أجل الاستقلال، فقد زخرت بالتناقضات. لكن هذه التناقضات لا تُقدّم أبداً على أنّها نتاج اختيار مقصود، بل نتاج غياب الخيارات. على العكس من ذلك، تُقدّم المقاومة التاريخية للشعب الفلسطيني، حسبما استعرض عبد الجواد عمر ولوي ألداي، في صورة كابوس وحشي غرضها مطاردة وعرقلة أي طرق بديلة للتفكير بشأن الفلسطينيين، وبهذا تحافظ على تمسّكٍ حازم بالوضع الراهن. وعلى الرغم من أنّ القضية الفلسطينية توصَف بالـ«معقدة»، فإنّها تسوَّق في الآن ذاته كسردية مفرطة في التبسيط وسهلة الهضم عن الأشرار العرب القتلة عديمي اللباقة.
هذه المرة، تراجعت هذه السردية بسبب هول الفظائع المرتكبة. ترتكز الممارسة الفكرية المتمحورة حول الغرب على بعض الأساطير عمّا يمكن للعالم فعله للمستعمَر وما لا يمكنه، إلا أنّ وحشية الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين أعلت من ضرورة المقاومة الفلسطينية؛ وصار يتردّد صداها الآن في شوارع كلّ بلد، بما في ذلك الغرب الاستبدادي، ولا يمكن لأي عدد من القوانين الشعبوية إلغاء الواقع.
وهذا تذكير أكثر من أي وقت مضى بالسبب الذي جعل المقاومة الفلسطينية دائماً جزءاً لا يتجزأ من النضال ضد الاستعمار في العالم الثالث. إنّ الإبادة الجماعية الفلسطينية لحظة نادرة من الوضوح تبرز بأوضح شكل الطبيعة المعاصرة للاستعمار الغربي.
بنية رأس المال المالي والتنمية الدولية
تُقدّم معظم التحليلات بصدد صعود الرأسمالية المالية وتراجع التصنيع في الغرب على أنّه عملية حثيثة من الاقتلاع من الموطن. تنشغل هذه الفكرة بتحليل أسباب اضطهاد الطبقات العاملة الغربية، وغالباً ما تُلخّص بمصطلحات مثل «التقشّف». في هذه المقاربات، تُطرح الأمولة في غالبية الحالات كفكرة مجرّدة وتسريع للنيوليبرالية ومرحلة جامحة من مراحل الرأسمالية. وما يحدث في العالم الثالث، بوصفه أحد محرّكات الأمولة، تراه تحليلات كهذه هامشياً. ولكن في الواقع، فقد ترافقت التبعية المالية للعالم الثالث مع تدميره.
بعد ثلاث حروب كبرى على غزة كانت خطط إعادة إعمارها بقيادة الأمم المتحدة، المنفّذة الرئيسة للحصار، أمراً بالغ الأهمية في تمكين القبضة الإسرائيلية على المنطقة
أظهرت فلسطين مرّة تلو الأخرى، بالمقارنة مع أي دولة محتلة أخرى في التاريخ الحديث، أنّها المنطقة الفعلية التي يتحقّق فيها سباق التسلّح الغربي. إنّ تراجع التصنيع في الغرب لا يصاحبه تراجع في إنتاج الأسلحة، بل تزايد، مع احتلال الولايات المتحدة موقع الصدارة في هذه الصناعة. لقد تحقّقت بنية هذه القوة الإنتاجية، وتظهر جلية، في جثامين الضحايا الفلسطينيين وأجسادهم المشوّهة. لقد تجسّدت الطريقة الأميركية في الحرب وأعادت إنتاج نفسها باستمرار في الدعم الأميركي لإسرائيل. وفي الحالة التاريخية والمقارنة للعالم العربي، لاحظ علي القادري أنّ:
«العالم العربي يُبدي معدّلات أعلى من فائض القيمة مقارنة بعدد سكّانه، لأنّ القضاء المبكر على الأرواح البشرية في الحرب يعطي معدّلاً أعلى بكثير من فائض القيمة مقارنة بما يعطيه الاستهلاك البطيء لقوّة العمل».
يقابل بعض الشخصيات من الغرب هذا التأكيد بالتشكيك، لكنّنا لا نجد أي جواب بديل عن سؤال لماذا يتواصل سقوط ضحايا مدنيين في مناطق بعينها؟
لقد كانت فلسطين الموقع الدائم للجهود الإنسانية العالمية بقيادة الولايات المتّحدة، بينما فلسطين تتعرّض للقصف بلا هوادة بالتزامن مع بذل تلك الجهود. وهذا نموذج مثالي لرطانة التعبئة النيوليبرالية والخطاب المزدوج من قبيل إعادة الإعمار وإعادة التأهيل وحتى المرونة. كل هذه الكلمات تشمل على التفاعل بين العنف والنزعة الإنسانية الغربية، حيث تُرسَل الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل والمساعدات الأميركية لفلسطين في وقت واحدٍ من دون أي تناقض في الدبلوماسية الخارجية أو الشاغل الإنساني. وبينما يعاني الفلسطينيون من المجاعة والتشرد إلى جانب القصف المستمر، ينصب تركيز الحركة الإنسانية العالمية على تقديم المساعدات وإنهاء المجاعة. ومن ثم فإنّ دورة نموذج التنمية تديم نفسها بنفسها.
ترتكز الممارسة الفكرية المتمحورة حول الغرب على بعض الأساطير عمّا يمكن للعالم فعله للمستعمَر وما لا يمكنه، إلا أنّ وحشية الإبادة الجماعية الإسرائيلية في فلسطين أعلت من ضرورة المقاومة الفلسطينية
في مواجهة فكرة التنمية هذه، اقترح آدم هنية سابقاً إعادة صياغة التنمية كمقاومة ونضال يستلزم معها التشديد على وحدة الفلسطينيين ككلّ ورفض اختزال القضية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل مدّها لتشمل اللاجئين الفلسطينيين والشتات وحملة الجنسية الإسرائيلية. وبأكثر من طريقة، أوضح مرتكبو هذه النكبة الثانية الموعزة من الغرب أهمّية هذا الاقتراح. في نظر ضحايا الحرب على الإرهاب، وكذلك مَن يواجه العنف اليومي للإمبريالية، لطالما كانت قدسية المؤسّسات الدولية والقانون الدولي والحكم الليبرالي خديعة لتجميل صورة العنف. لكنّ الإبادة الجماعية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية غيّرتا هذا الأمر. وهكذا رُفِع الحجاب ولم يعد من الممكن إلغاء ما حدث. فلسطين تغيّر كل شيء، الرسالة إلى العالم الثالث مؤداها أنّه بينما الإمبراطورية تسقط وتتعثّر وتفشل، لا يزال إفلاتها من العقاب بلا قيد أو شرط وقد يكون التالي أيّ أحد. ومع أنّ شجاعة الصحافيين والناشطين الفلسطينيين تكشف مستقبل العالم الثالث، فقد كان إخفاء هذا الأمر والرقابة عليه الدور المنوط بالصحافة السائدة.
دأب الفلسطينيون على الإعراب عن رغبتهم بألّا يُنسَوا كضحايا مجهولي الهوية لإسرائيل. «أنا لست رقماً». وهم يؤكّدون هوياتهم وكذلك صراعهم المتواصل منذ أجيال. في عالم مُفرط في فردانيّته، فإنّ القوة المُطلقة للفلسطينيين وتصميمهم على المقاومة مع إدراكهم لحتمية الموت المؤلم كمجموعة، تتحدّى العقلانية الرأسمالية المتمثلة في المصلحة الذاتية الفردية والحماية الذاتية والبقاء للأصلح. وهذا ليس تبجحاً عاطفياً، بل عملٌ سياسي من أجل مستقبل مشترك. وهي تبيِّن لنا معنى النضال الجماعي من أجل قضية تاريخية. كما تبيِّن لنا أنّ الأرض والحقوق السيادية للعيش كأمّة تظل محورية لجميع حركات التحرّر. ومن أجل مستقبلنا يمكن لنا الوقوف معهم.
من النهر إلى البحر فلسطين ستتحرّر. تحيا فلسطين.
نشر هذا المقال في Developing Economics في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023.