معاينة ارونداتي روي

لا يمكن لأي بروباغندا أن تخفي الجرح: فلسطين

  • عندما يرفع بنيامين نتنياهو خريطة للشرق الأوسط مُحيَت منها  فلسطين، وتوسّعت إسرائيل من النهر إلى البحر، يُعتبر صاحب رؤية يسعى لتحقيق حلم الوطن اليهودي. ولكن عندما يهتف الفلسطينيون ومناصروهم «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة»، يتمّ اتهامهم علناً بالدعوة إلى إبادة اليهود.

  • مع تصاعد الفظائع التي نشهدها في غزّة، والآن في لبنان، وتحوّلها بسرعة إلى حرب إقليمية، يبقى أبطالها الحقيقيون خارج الإطار. لكنهم يواصلون القتال لأنهم يعلمون أنه في يوم من الأيام، من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة. نعم ستكون.

 

حصلت الكاتبة والمناضلة الهندية، آرونداتي روي، على جائزة «PEN Pinter 2024»، وهي جائزة سنوية تمنحها جمعيّة PEN الإنكليزية تخليداً لذكرى الكاتب المسرحي هارولد بنتر. بُعيد الإعلان عن فوزها، أعلنت روي عن تبرّعها بحصّتها من قيمة الجائزة لصندوق إغاثة الأطفال الفلسطينيين، وسمّت المعتقل السياسي البريطاني-المصري، علاء عبد الفتّاح، «كاتب الشجاعة»  لهذا العام لتتشارك معه جائزتها. ما يلي هو نصّ كلمة ألقتها روي عند استلامها الجائزة في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2024 في المكتبة البريطانية.

أشكركم، أعضاء جمعيّة PEN الإنكليزية وأعضاء لجنة التحكيم، على تكريمي بجائزة PEN Pinter.

أود أن أبدأ كلمتي بالإعلان عن اسم «كاتب الشجاعة» لهذا العام الذي اخترت مُشاركته الجائزة.

تحيّاتي لك، علاء عبد الفتّاح، كاتب الشجاعة، وزميلي في الجائزة.

كنا نأمل ونصلّي أن يُفرَج عنك في أيلول/سبتمبر الماضي، لكن الحكومة المصرية وجدت أنك كاتب مُبدع وأخطر من منحك حرّيتك. لكنّك معنا في هذه القاعة. أنت الشخص الأهمّ هنا. كتبتَ من سجنك تقول: «لقد فقدت كلماتي قوّتها، ومع ذلك استمرّت بالخروج مني، لا يزال لديّ صوت، ولو أن قلّة تسمع». ونحن نسمع عن كثب يا علاء.

تحيّاتي لك أيضاً، عزيزتي نايومي كلاين، صديقتنا المُشتركة علاء وأنا. أشكرك على وجودك هنا الليلة. حضورك يعني لي الكثير.

تحيّاتي لكلّ المجتمعين هنا، وأيضاً لأولئك الذين قد يكونون غير مرئيين بالنسبة إلى هذا الجمهور الرائع، ولكنّهم مرئيون لي كأي شخص آخر في هذه القاعة. 

قبل الكونترا والمجاهدين، كانت حرب فيتنام، حيث برزت عقيدة الجيش الأميركي الثابتة التي أمرت جنودها بـ «قتل أي شيء يتحرّك»

أتحدّث هنا عن أصدقائي ورفاقي في سجون الهند؛ من محامين وأكاديميين وطلّاب وصحافيين. أتحدّث عن عمر خالد، وغلفيشة فاطمة، وخالد سيفي، وشرجِيل إمام، ورونا ويلسون، وسوريندرا غادلينغ، وماهيش راوت.

أوجّه حديثي إليك، يا صديقي خرم برويز، أحد أروع الأشخاص الذين أعرفهم. لقد قضيتَ حتى الآن ثلاث سنوات في السجن. وإليك أيضاً يا عرفان مهراج. وإلى آلاف المساجين في كشمير وفي جميع أنحاء البلاد الذين دُمِّرت حياتهم.

عندما راسلتني، روث بورثويك، رئيسة جمعيّة PEN الإنكليزية ولجنة جائزة Pinter، للمرّة الأولى بخصوص هذا التكريم، قالت إن جائزة Pinter تُمنَح لكاتب سعى إلى تعريف «الحقيقة الواقعية لحياتنا ومجتمعاتنا بإصرار فكري حازم وغير مُتردّد وحادّ». وهذا اقتباس من خطاب هارولد بنتر عند نيله على جائزة نوبل.

جعلتني كلمة «حازم» أتوقّف للحظة، لأنني أرى نفسي شخصاً مُتردّداً على الدوام.

أود أن أتأمّل قليلاً في مسألتيْ «التردّد» و«الحزم»، وقد يكون هارولد بنتر أفضل من عبّر عن ذلك:

كنتُ حاضراً في اجتماع في السفارة الأميركية في لندن في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. وكان الكونغرس الأميركي على وشك اتخاذ قرار بشأن منح المزيد من الأموال للكونترا في حملتهم ضدّ دولة نيكاراغوا. كنت عضواً في وفد يتحدّث نيابة عن نيكاراغوا، ولكن العضو الأهمّ في الوفد كان الأب جون ميتكالف. حضر قائد الوفد الأميركي رايموند سايتز، وقد كان في حينها الرجل الثاني في السفارة قبل أن يصبح لاحقاً السفير نفسه.

قال الأب ميتكالف: «سيدي، أنا مسؤول عن رعية في شمال نيكاراغوا. لقد بنى أفراد رعيّتنا مدرسة ومركزاً صحّياً ومركزاً ثقافياً. لقد عشنا في سلام. قبل بضعة أشهر، هاجمت قوّة من الكونترا الرعيّة. لقد دمّروا كلّ شيء، المدرسة والمركز الصحّي والمركز الثقافي. اغتصبوا الممرِّضات والمعلِّمات، وذبحوا الأطباء بأبشع الطرق. لقد تصرّفوا بوحشية. أرجو أن تطالب الحكومة الأميركية بوقف دعمها لهذا النشاط الإرهابي الصادم».

تمتّع رايموند سايتز بسمعة طيّبة، ووُصِف بالرجل العقلاني والمسؤول والمحنّك. حظِى باحترام كبير في الأوساط الدبلوماسية. أصغَ بإمعان، ثم توقّف قليلاً، وبعدها قال بجدّية: «يا أبتي، دعني أخبرك بشيء. في الحرب، يعاني الأبرياء دائماً»، ساد صمت مُطبق. حدّقنا به. لم يكن مُتردّدا أبداً.

أذكر أن الرئيس ريغان وصف الكونترا بأنهم «المكافئ الأخلاقي لآبائنا المؤسّسين». تعبيرٌ كان واضحاً أنه المفضّل لديه، فقد استخدمه أيضاً لوصف المجاهدين الأفغان المدعومين من وكالة الاستخبارات المركزية، الذين تحوّلوا فيما بعد إلى حركة طالبان. وهي نفسها طالبان التي تحكم أفغانستان اليوم بعد حرب استمرّت عشرين عاماً ضدّ الغزو والاحتلال الأميركي.

أرفض الخوض في لعبة الإدانات. ولأكون أكثر وضوحاً، أرفض الإملاء على الشعوب المُضطهدة كيف تقاوم المُضطهد أو مع من تتحالف

قبل الكونترا والمجاهدين، كانت حرب فيتنام، حيث برزت عقيدة الجيش الأميركي الثابتة التي أمرت جنودها بـ «قتل أي شيء يتحرّك». إذا قرأت أوراق البنتاغون وغيرها من الوثائق بشأن أهداف الحرب الأميركية في فيتنام، ستقع على نقاشات صريحة وحازمة بشأن كيفية ارتكاب إبادة جماعية: هل الأفضل قتل الناس مباشرة أم تجويعهم ببطء؟ أيهما سوف يبدو أفضل؟ المشكلة التي واجهتها النخبة «الرحيمة» في البنتاغون هي أن الآسيويين - على عكس الأميركيين الذين لا يريدون سوى «الحياة والسعادة والثروة والسلطة» - «يتقبّلون بجلَدٍ تدمير الثروات وفقدان الأرواح»، ويجبرون الولايات المتّحدة على اتباع «منطقها الاستراتيجي حتى نهايته أي الإبادة الجماعية». عبء فظيع يجب تحمّله بحزم.

وها نحن الآن، بعد كلّ هذه السنوات، وبعد أكثر من عام على إبادة جماعية أخرى. الإبادة الجماعية المتواصلة بلا تردّد، وتُبَثّ على شاشات التلفاز، وتشنّها الولايات المتّحدة وإسرائيل في غزّة، والآن في لبنان، دفاعاً عن احتلال استعماري وعن دولة تمييز عنصري. 

وصلت الوفيات، حتى الآن، إلى 42 ألف وفقاً للأرقام الرسمية، معظمهم من النساء والأطفال. ولا يشمل هذا العدد أولئك الذين ماتوا وهم يصرخون تحت أنقاض المباني والأحياء وتحت مدن بأكملها، ولم تدفن جثثهم بعد. أفادت دراسة حديثة أجرتها منظّمة «أوكسفام» بأن عدد الأطفال الذين قتلوا على يد إسرائيل في غزّة يفوق عدد الأطفال الذين قُتلوا في أي حرب أخرى في فترة زمنية مماثلة في العشرين عاماً الماضية.

هيّأت الولايات المتّحدة وأوروبا الظروف لإبادة جماعية أخرى لتخفيف شعورهم الجماعي بالذنب اتجاه لامبالاتهم الأولية حيال إبادة جماعية واحدة، وهي الإبادة النازية لملايين اليهود الأوروبيين.

وكما الحال مع أي دولة نفّذت تطهيراً عرقياً وإبادة جماعية عبر التاريخ، بدأ الصهاينة في إسرائيل - الذين يعتقدون أنهم «شعب الله المختار» - بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم قبل طردهم من أراضيهم وقتلهم.

وصف رئيس الوزراء مناحيم بيغن الفلسطينيين بأنهم «وحوش تمشي على قدمين»، بينما أطلق إسحق رابين عليهم اسم «الجراد» الذي «يمكن سحقهم». وقالت غولدا مئير «لم يكن ثمّة شيء اسمه الفلسطينيون». أمّا وينستون تشرشل، المحارب الشهير ضدّ الفاشية، فقد قال: «لا أعترف بأن الكلب في المذود له حقّ فيه، حتى لو نام فيه لفترة طويلة جداً»، ثمّ تابع ليعلن أن «عرقاً أسمى له الحقّ النهائي في المذود». وبمجرّد قتل هؤلاء الوحوش ذوو القدمين والجراد والكلاب والأشخاص غير الموجودين، وتطهيرهم عرقياً وتجميعهم في غيتوهات، وُلدت دولة جديدة. احتُفل بها على أنها «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض». كان من المُقرّر أن تكون الدولة النووية الإسرائيلية المُسلّحة نقطة عسكرية وبوّابة للثروات والموارد الطبيعية في الشرق الأوسط للولايات المتّحدة وأوروبا. إنها صدفة رائعة من الأهداف والمصالح!

أصل كل هذا العنف هو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وإخضاع الشعب الفلسطيني. التاريخ لم يبدأ في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023

دُعِمت الدولة الجديدة بلا تردّد ومن دون أي تراجع بالسلاح والمال. إنها دولة مُدللة ومُثني عليها، بغض النظر عن الجرائم التي ترتكبها. نَمَت كطفل مُدلّل في منزل ثري، يبتسم له والداه بفخر بينما يرتكب الفظائع تلو الأخرى. ولا عجب أن هذه الدولة تفاخر اليوم بحرّية وعلناً بارتكاب الإبادة الجماعية. على الأقل كانت أوراق البنتاغون سرّية، وكان يجب سرقتها وتسريبها. لا عجب أن الجنود الإسرائيليين فقدوا كلّ حسّ بالكرامة. ولا عجب أنهم يُملئون وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو مُنحرفة لأنفسهم وهم يرتدون ملابس داخلية لنساء قتلوهن أو شرّدوهن، ومقاطع لأنفسهم وهم يسخرون من الفلسطينيين المحتضرين والأطفال الجرحى أو الأسرى المُغتصبين والمعذّبين، وصور لأنفسهم وهم يفجّرون المباني بينما يدخّنون السجائر أو يرقصون على أنغام الموسيقى في سماعاتهم. 

من هم هؤلاء الناس؟ وما الذي قد يبرّر أفعال إسرائيل؟

الإجابة، وفقاً لإسرائيل وحلفائها، ومن خلفهم وسائل الإعلام الغربية، هي هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي قتل مواطنين إسرائيليين وأسر آخرين. بالنسبة إليهم، بدأ التاريخ منذ عام فقط.

إذن، هذا هو الجزء من خطابي الذي يُتوقع أن أُظهر فيه التردّد لحماية نفسي، وحماية «حيادي»، ومكانتي الفكرية. هذا هو الجزء الذي من المُفترض أن أنغمس فيه في التكافؤ الأخلاقي وإدانة حماس، والمجموعات المُسلّحة الأخرى في غزّة، وحليفهم حزب الله في لبنان، بسبب قتل مدنيين وأخذ رهائن. وأن أدين سكان غزّة الذين احتفلوا بهجوم حماس. بعد القيام بذلك، يصبح كلّ شيء سهلاً، أليس كذلك؟ حسناً، الجميع سيئون للغاية، ما الذي يمكن للمرء فعله؟ دعونا نذهب للتسوّق بدلاً من ذلك...

أرفض الخوض في لعبة الإدانات. ولأكون أكثر وضوحاً، أرفض الإملاء على الشعوب المُضطهدة كيف تقاوم المُضطهد أو مع من تتحالف.

عندما التقى الرئيس الأميركي جو بايدن برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومة الحرب الإسرائيلية في زيارته لإسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2023، قال: «لا أعتقد أنه يجب أن تكون يهودياً لتكون صهيونياً. وأنا صهيوني».

على عكس الرئيس جو بايدن، الذي يصف نفسه بأنه صهيوني غير يهودي، ويموِّل إسرائيل ويسلِّحها بلا تردّد بينما ترتكب جرائم حرب، لن أُعلن عن نفسي أو أُعرِّف نفسي بأي طريقة أضيق من كتاباتي. أنا ما أكتبه.

ما الوسائل السلمية التي لم يجرِّبها الشعب الفلسطيني؟ ما التنازلات التي لم يقبلون بها باستثناء التنازل الذي يتطلّب منهم الزحف على ركبهم

أنا مُدركة تماماً أن كوني هذه الكاتبة، وهذه غير المُسلمة، وهذه المرأة، قد يجعل من الصعب، وربّما المستحيل، أن أعيش لفترة طويلة تحت حكم حماس أو حزب الله أو النظام الإيراني. ولكن هذا ليس موضوعنا. الفكرة هي أن نثقف أنفسنا في التاريخ والظروف التي أوجدتهم. الفكرة هي أنهم، في هذه اللحظة، يقاومون إبادة جماعية مستمرّة. الفكرة هي أن نسأل أنفسنا: هل يمكن لقوّة قتالية ليبرالية علمانية أن تواجه آلة حرب إبادية؟ عندما تتَّحد جميع قوى العالم ضدّهم، إلى من يلجؤون غير الله؟ 

أنا مُدركة أن حزب الله والنظام الإيراني لديهم معارضون في بلادهم، بعضهم يقبع في السجون أو يواجه نتائج أسوأ من ذلك. وأنا مُدركة أن بعض أفعالهم، مثل قتل المدنيين وأخذ رهائن في 7 تشرين الأول/أكتوبر من قِبل حماس، تُعتبر جرائم حرب. ومع ذلك، لا يمكن المساواة بين هذا وما تقوم به إسرائيل والولايات المتّحدة في غزّة والضفّة الغربية، والآن في لبنان. أصل كل هذا العنف، بما في ذلك عنف 7 تشرين الأول/أكتوبر، هو احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وإخضاع الشعب الفلسطيني. التاريخ لم يبدأ في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

أسألكم، أي منا نحن الجالسين في هذه القاعة يقبل طوعاً الخضوع للمهانة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة والضفّة الغربية منذ عقود؟ ما الوسائل السلمية التي لم يجرِّبها الشعب الفلسطيني؟ ما التنازلات التي لم يقبلون بها، باستثناء التنازل الذي يتطلّب منهم الزحف على ركبهم وأكل التراب؟

إسرائيل لا تخوض حرباً للدفاع عن نفسها. إنها تخوض حرباً عدوانية، حرباً لاحتلال المزيد من الأراضي، لتعزيز نظام التمييز العنصري وتشديد سيطرتها على الشعب الفلسطيني والمنطقة.

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وبالإضافة إلى عشرات الآلاف الذين قتلتهم، شرّدت إسرائيل غالبية سكّان غزّة مرّات عدّة. قصفت المستشفيات. واستهدفت الأطباء عمداً وكذلك موظّفي الإغاثة والصحافيين وقتلتهم. إنها تجوّع شعب بأكمله، وتسعى لمحو تاريخه. كلّ هذا مدعوم أخلاقياً ومادياً من أقوى وأغنى حكومات العالم، ووسائل الإعلام الخاصّة بها. وأشمل هنا بلدي، الهند، الذي يزوّد إسرائيل بالأسلحة وآلاف العمّال. لا يوجد أي فارق بين هذه الدول وإسرائيل. في العام الماضي وحده، أنفقت الولايات المتحدة 17.9 مليار دولار في شكل مساعدات عسكرية لإسرائيل. لذا، دعونا نتخلّص مرّة واحدة وإلى الأبد من الكذبة القائلة بأن الولايات المتّحدة هي وسيط، أو قوّة ردع، أو كما قالت ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، التي تُعتبر على أقصى يسار السياسة الأميركية السائدة: «نعمل بلا كلل من أجل وقف إطلاق النار». لا يمكن لطرف مشارك في الإبادة الجماعية أن يكون وسيطاً.

إسرائيل تخوض حرباً عدوانية، حرباً لاحتلال المزيد من الأراضي، ولتعزيز نظام التمييز العنصري وتشديد سيطرتها على الشعب الفلسطيني والمنطقة

لا يمكن لكلّ قوّة العالم وماله، ولكلّ أسلحة الأرض ودعايتها، أن يُخفوا بعد اليوم الجرح، والجرح هو فلسطين، جرح ينزف من خلاله العالم بأسره، بما في ذلك إسرائيل.

تُظهر الاستطلاعات أنّ غالبية المواطنين في الدول التي تدعم حكوماتها الإبادة الجماعية الإسرائيلية يعارضون ذلك. لقد شاهدنا مسيرات تضمّ مئات الآلاف من الناس - بما في ذلك جيلٌ جديد من اليهود الذين سئِموا من استغلالهم ومن الكذب عليهم. من كان يتخيّل أننا سوف نعيش لنرى اليوم الذي تعتقل فيه الشرطة الألمانية مواطنين يهود بسبب الاحتجاج ضدّ إسرائيل والصهيونية واتهامهم بمعاداة السامية؟ من كان يظن أن الحكومة الأميركية، وخدمة للدولة الإسرائيلية، سوف تقوّض مبدأها الأساسي في حرّية التعبير عبر حظر الشعارات المؤيِّدة لفلسطين؟ إن ما يُسمّى البنية الأخلاقية للديمقراطيات الغربية - مع بعض الاستثناءات الجديرة بالاحترام - أصبح محل سخرية مريرة في بقية أنحاء العالم.

عندما يرفع بنيامين نتنياهو خريطة للشرق الأوسط مُحيَت منها  فلسطين، وتوسّعت إسرائيل من النهر إلى البحر، يُعتبر صاحب رؤية يسعى لتحقيق حلم الوطن اليهودي. ولكن عندما يهتف الفلسطينيون ومناصروهم «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة»، يتمّ اتهامهم علناً بالدعوة إلى إبادة اليهود.

هل هم حقّاً كذلك؟ أم أن ذلك مجرّد خيال مريض يُسقط ظلامه على الآخرين؟ خيال لا يستطيع تقبّل التنوّع، ولا يستطيع تقبّل فكرة العيش في بلد مع آخرين على قدم المساواة وبحقوق متساوية، كما يفعل كل شخص آخر في العالم. خيال لا يستطيع تحمّل الاعتراف بأن الفلسطينيين يريدون أن يكونوا أحراراً، مثل جنوب إفريقيا والهند، ومثل كلّ الدول التي تخلّصت من نير الاستعمار. إنها دول متنوّعة، ومليئة بالعيوب، وربما بعيوب قاتلة، لكنّها حرّة. عندما كان الجنوب أفريقيون يهتفون بشعارهم الشعبي «أماندلا! السلطة للشعب»، هل كانوا يدعون إلى إبادة البيض؟ لم يكونوا كذلك. كانوا يدعون إلى تفكيك نظام الفصل العنصري، تماماً كما يفعل الفلسطينيون.

الحرب التي بدأت الآن سوف تكون مروّعة. لكنها سوف تؤدي في النهاية إلى تفكيك نظام التمييز العنصري الإسرائيلي. سوف يصبح العالم كلّه أكثر أماناً للجميع - بما في ذلك الشعب اليهودي - وسوف يصبح أكثر عدالة. سوف يكون ذلك أشبه بنزع سهم من قلبنا الجريح.

أنفقت الولايات المتحدة 17.9 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل، لذا دعونا نتخلّص من الكذبة القائلة بأن الولايات المتّحدة هي وسيط أو قوّة ردع

إذا تراجعت الحكومة الأميركية عن دعمها لإسرائيل، يمكن للحرب أن تتوقّف اليوم. ويمكن أن تنتهي الأعمال العدائية في هذه اللحظة. ويمكن تحرير الرهائن الإسرائيليين، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين. ويمكن أن تجري المفاوضات مع حماس وأصحاب الشأن الفلسطينيين الآخرين. مفاوضات لا بد أن تعقب الحرب الآن، لتمنع معاناة ملايين الناس. كم هو مُحزن أن يعتبر معظم الناس هذا اقتراحاً ساذجاً وقابلاً للسخرية.

بختام كلمتي، دعوني أعود إلى كلماتك، علاء عبد الفتاح، من كتابك «أنت لم تُهزم بعد» الذي كتبته في السجن. نادراً ما قرأت كلمات بهذا الجمال عن معنى النصر والهزيمة، وعن الضرورة السياسية للنظر بصدق في عين اليأس. نادراً ما رأيت كتابة يفصل فيها المواطن نفسه عن الدولة، وعن الجنرالات، وحتى عن شعارات الميدان، بهذا الوضوح الجلّي.

أقتبس: «المركز هو خيانة لأنه لا مكان فيه إلّا للجنرال... المركز هو خيانة ولم أكن يوماً خائناً. يظنّون أنهم دفعونا إلى الهامش. لا يدركون أنّنا لم نغادرها قط، فقط ضللنا الطريق لبعض الوقت. لا صناديق الاقتراع، ولا القصور، ولا الوزارات، ولا السجون، ولا حتّى القبور كبيرة بما يكفي لأحلامنا. لم نسعَ يوماً إلى المركز لأنه لا يتّسع إلّا لمن يتخلّون عن الحلم. حتى الميدان لم يكن كبيراً بما يكفي لنا، لذا كانت معظم معارك الثورة تحدث خارجه، وظلّ معظم الأبطال خارج الإطار». 

ومع تصاعد الفظائع التي نشهدها في غزّة، والآن في لبنان، وتحوّلها بسرعة إلى حرب إقليمية، يبقى أبطالها الحقيقيون خارج الإطار. لكنهم يواصلون القتال لأنهم يعلمون أنه في يوم من الأيام، من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة. نعم ستكون.

أبقِ عينيك على التقويم، وليس على ساعتك، لأن هذه هي طريقة الناس، وليس طريقة الجنرالات، هذه طريقة الناس الذين يناضلون من أجل التحرير لقياس الوقت.