ليبرالية ما بعد الحرب والقتل الجماعي في كوريا

يستذكر هذا المقال (المنشور في العام 2021) الدور الأميركي في الحرب الكورية، التي استمرّت ثلاث سنوات ممتدّة بين عامي 1950 و1953. ارتكب الجيش الأميركي وحلفائه في خلال تلك الحرب أكثر من 1,461 مجزرة موثّقة، ومورست في خلالها عمليات إبادة جماعية وشتّى أنواع جرائم الحرب التي لم تحاسب لا الولايات المتحدة ولا حلفائها عليها، لا بل كرّمت الجناة وجرّمت الضحايا، ولم تكتفِ بذلك بل ذهبت أيضاً إلى إعادة صناعة ذكرى هذه الحرب بما يوافق روايتها. نتائج تلك الحرب مشابهة لما نراه اليوم في حرب الإبادة الجماعية التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي على غزّة، بدعم من الدول الغربية وبمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يكشف مجدّداً زيف الادعاءات الليبرالية للنظام العالمي، ومعاداة الولايات المتّحدة حق الشعوب في تقرير مصيرها.

المترجم

في زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة في شهر آذار/مارس الماضي، أصبح الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن، المعروف دولياً بجهود إدارته للتقارب مع كوريا الشمالية، أولَ رئيس دولة أجنبي يحضر مراسم منح وسام الشرف الأميركي. والوسام هذا العام من نصيب العقيد رالف بوكيت جونيور، أحد قدامى المحاربين في الحرب الكورية ويبلغ من العمر 94 عاماً، وقد أتى تكريمه تقديراً لتأمينه سلامة الوحدة التابعة له في أثناء انسحابها من أمام الجنود الصينيين بالقرب من نهر يالو عند الحدود الصينية الكورية. وحين دُعِيَ مون لإلقاء كلمة، أشاد ببوكيت ووصفه بـ «بطل حقيقي»، وأضاف قائلاً: «لولا تضحيات العسكريين [الأميركيين]... ما كانت الحرية والديمقراطية التي نتمتع بها اليوم لتزدهر في كوريا». حين تغدو الذكرى مسألة سرد أكثر منها حقيقة صرف، فما يغيب عن هذا السرد يضاهي في أهميته أهمية ما يستذكره. لقد ظلت – بحكم الضرورة – الكثيرُ من الأمور طي الكتمان في رواية مون وبايدن عن الحرب الكورية المحكومة بمقتضيات التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والشكليات المعتادة لمراسم منح الأوسمة.

صحيح أنّ المؤسّسات الدولية والقانون الدولي في حد ذاته لم يتسبَّبا في فظائع الولايات المتحدة وحلفائها في كوريا، إلّا أنّهما خلقا الظروف المواتية لممارسة أعمال العنف وحجبها بعد وقوعها

يمكن استذكار يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1950 على أنّه يوم المعركة الصغيرة التي نال العقيد بوكيت التكريم بفضلها، ولكن يمكن استذكاره أيضاً لتداخله مع العديد من فظائع الولايات المتحدة وحلفائها. فقبيل أسابيع من هذا اليوم، ردّ الجنرال دوغلاس ماك آرثر على التدخل العسكري لجيش المتطوّعين الشعبي الصيني بالإيعاز للقاذفات الأميركية «بتدمير كل وسائل الاتصال وأي منشأة ومصنع ومدينة وقرية» تقع بين خطّ المواجهة ونهر يالو الحدودي بين الصين وكوريا الشمالية. وعلى مدار شهر تشرين الثاني/نوفمبر، اختفت 10 بلدات حدودية كبرى في كوريا الشمالية بعد إمطارها بـ 3,300 طن من القنابل الحارقة فيما أصبح بداية لحملة جوية مدمّرة وعشوائية ضد مدن كوريا الشمالية والبنية التحتية المدنية فيها، انتهت إلى تدمير 18 مدينة من أصل 22 مدينة كبرى، وأحالت 5 سدود زراعية وكهرومائية خراباً. ويكشف الطلب المقدم من الجنرال الأميركي ماثيو ريدجواي في أوائل العام 1951، للحصول على قنابل نابالم أكبر حجماً، عن المنطق المريع للقصف الجوي: «القضاء على كل أشكال الحياة في منطقة العمليات». كذلك في يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر، صدرت أوامر الولايات المتحدة بـ «تصفية حزب العمّال الكوري الشمالي»، وقد كان في عضويته آنذاك زهاء 14% من سكّان كوريا الشمالية. وفي الأسابيع والأشهر التالية، نشرت الصحافة الدولية روايات متعدّدة عن عمليات إعدام جماعية للسجناء في كوريا الجنوبية، بينهم أطفال وشيوخ، بتهمة التعاون مع الحزب. قُتل ما يقدّر بنحو 800 شخص بين 11 و16 كانون الأول/ديسمبر ودُفنوا في مقابر جماعية – وكان الجنود الأميركيون راضين عن السماح لـ «الغوك»1 ، نظرائهم الكوريين الجنوبيين، بتنفيذ العمل القذر المتمثل في عمليات الإعدام الجماعية نيابة عنهم. ومثلما أعرب الجنرال جون بي كولتر صراحةً، فإنّ «العدو بالزي المدني» يمكن «تسليمه إلى جمهورية كوريا وهم يعتنون به». على أي حال، لم تكن الفظائع الأميركية في كوريا الشمالية على الأرض بأقل من فظائعها من الجو، حسبما تشير عديد الأوامر من القادة العسكريين الأميركيين لجنودهم بالتوقف عن اغتصاب النساء المحليات.

Previewالحرب الكورية

صورة من العام 1950 أو 1951 لطائرة بوينغ بي-29 سوبرفورترس من فيلق القاذفات 307 التابع للقوات الجوية الأميركية تُسقِط قنابل على هدف كوري. اختيرت هذه الطائرات لقدراتها على القصف الاستراتيجي من ارتفاعات عالية، كما يتضح من الصورة. قبل استخدامها في الحرب الكورية، أسقطت قاذفات بي-29 القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي: وهي الطائرات الوحيدة في التاريخ التي استخدمت الأسلحة النووية في الحرب.

وبتوقيع الهدنة في 27 تموز/يوليو 1953، كانت الولايات المتحدة قد أسقطت على كوريا 635 ألف طن من الذخائر المتفجّرة و32,557 طناً من النابالم، انصب معظمها، وليس كلّها، على الشمال. تتراوح تقديرات عدد القتلى الكوريين (سواء المدنيين أو المقاتلين) بين 3 و4 ملايين – حدثت غالبية الوفيات في الشمال نتيجة (سواء مباشرة أو غير مباشرة) لأكثر حرب جوية غير متكافئة في التاريخ في حينها. بيد أنّ الحرب الكورية تتمتع بمكانة شبه منيعة في الذاكرة العامة الأميركية بوصفها «حرباً جيدة»، ما يعيد إلى الأذهان التخليد التحريفي لذكرى الحرب العالمية الثانية بوصفها كفاحاً قادته الولايات المتحدة ضد الفاشية النازية. وهذا التوصيف للحرب الكورية يرتكز، بحكم الضرورة، على إنكار عمليات القتل الجماعي التي ارتكبتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما تُبيّن تصريحات الرئيس مون في حفل التكريم. لقد كانت الجهود الدعائية الجارية منذ عقود ضرورية لعملية صناعة الذاكرة هذه، ولعل تجلّيها الأوضح كان من خلال الروايات الرسمية الأميركية التي ألقت باللوم على جيش التحرير الشعبي الكوري في مجزرة طالت 5 آلاف إلى 7 آلاف سجين سياسي في مدينة دايجون الجنوبية، مع أنّ الجناة كانوا، في الحقيقة، جنوداً وعناصر شرطة كوريين جنوبيين يتصرفون بعلم الضباط الأميركيين.

والحال أنّ أسباب الصراع الذي صار يُعرَف بالحرب الكورية يمكن إرجاعها إلى الاستعمار الياباني، لكنَّ النظام القانوني الدولي الوليد للحرب الباردة يشكِّل سياقاً سياسياً حاسماً بدأت فيه الحرب واستمرت (هدنة العام 1953 لم تأتِ بنهاية رسمية للحرب). صحيح أنّ المؤسسات الدولية والقانون الدولي في حد ذاته لم يتسبَّبا في فظائع الولايات المتحدة وحلفائها في كوريا، إلّا أنّهما خلقا الظروف المواتية لممارسة أعمال العنف وحجبها بعد وقوعها.

راح في سياق قمع انتفاضة جيجو، على مدار عام كامل، ما بين 25 ألفاً إلى 30 ألفاً من سكان الجزيرة البالغ عددهم 300 ألف نسمة، وأصبح عدد مماثل أو أكبر بلا مأوى بعد تدمير أكثر من نصف القرى

لقد شُرعِن «العمل الشرطي» بقيادة الولايات المتحدة في كوريا تحت مظلة ميثاق الأمم المتحدة ونُفِّذ تحت قيادة الأمم المتحدة وبإدارة وتوجيه من جنرالات الولايات المتحدة الذين كانوا يتولون في الوقت نفسه القيادة العملياتية للجيش الكوري الجنوبي، مثلما يتولونها اليوم. وحتى قبل البداية الرسمية للحرب الكورية، قدمت الأمم المتحدة آليةً لإقامة دولة متحالفة مع الولايات المتحدة في الجنوب. بعد الحرب العالمية الثانية، اتفق الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على دعم الانتخابات في عموم كوريا، غير أنَّ الولايات المتحدة انسحبت من المفاوضات حين اتضح أنَّها لن تتمكّن من منع الحزب الشيوعي الكوري الشعبي من المشاركة. وبدلاً من ذلك، نُظِّمَت انتخابات جزئية منفصلة في كوريا الجنوبية وحدها لانتخاب حكومة تَدّعي السيادة على شبه الجزيرة بأكملها؛ قُوطِعَت هذه الانتخابات على نطاق واسع. خاض سينغمان ري، المرشّح المفضّل للولايات المتحدة وهو الذي أعاده الجنرال ماك آرثر شخصياً إلى كوريا بعدما أمضى 40 عاماً في الولايات المتّحدة، الانتخابات من دون منافسة تقريباً. ولم تتشكَّل جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية – المعروفة لمعظم الناس بكوريا الشمالية – إلا بعد إقامة جمهورية كوريا الموالية للولايات المتحدة في الجنوب.

بنظر الكوريين، كانت هذه المرة الثانية التي تحبط فيها الولايات المتحدة الجهود المحلية لتنظيم دولة تتمتع بتقرير المصير: اتسمت بداية الاحتلال الأميركي في 8 أيلول/سبتمبر 1945 برفض الحكومة العسكرية التابعة للولايات المتحدة الاعتراف بجمهورية كوريا الشعبية قصيرة العمر والفض العنيف للجان الشعبية غير التقليدية ولكن ذاتية التنظيم التي شكَّلت أساس الدولة الوليدة. كانت سلطة الحكومة العسكرية محل اعتراض على الدوام: في غضون ثلاث سنوات، حارب الكوريون التقسيم والحكم الأميركي لشبه الجزيرة من خلال تنظيم مئاتٍ من عمليات التمرد والإضرابات والاحتجاجات المحلية، قوبلت عادةً بالقمع الوحشي. ولتتمكَّن من الحكم، استوعبت الحكومة الشعبية بقايا الجهاز الاستعماري الياباني السابق، وأعادت الشرطة الوطنية المكروهة وعيَّنَت مديرين استعماريين سابقين داخل بيروقراطيتها. وفي خلال هذه الفترة تشكَّل أيضاً جيش كوريا الجنوبية في تحدٍ لأوامر واشنطن، وسرعان ما امتلأت صفوفه بالمحاربين الكوريين من الجيش الإمبراطوري الياباني، أولئك الذين خدموا مستعمريهم السابقين بإخلاص في الحرب على المغاوير الشيوعيين والصينيين والكوريين المناهضين للاستعمار في منشوريا.

Previewالحرب الكورية

صورة لمستودع الإمدادات الكوري الشمالي الذي دمّرته القوات البحرية التابعة للأمم المتحدة في خلال حصار وونسان، وهو حصار بحري استمر 861 يوماً على مدينة وونسان الساحلية الجنوبية الشرقية في كوريا الشمالية من شباط/فبراير 1951 إلى حين توقيع الهدنة الكورية في تموز/يوليو 1953. وقد صارت المدينة أطلالاً جراء القصف من البوارج والطائرات الأميركية.

بعدما عاشوا بالفعل رعب احتلالٍ مؤقّت ظاهرياً، كان احتمال الاحتلال الدائم نتيجة للتقسيم أصعب من أن يتحمّله غالبية الناس في كوريا الجنوبية ممن لم تتحسّن ظروفهم المعيشية بشكل ملحوظ منذ التحرير من اليابان – بل ساءت في كثير من الحالات. وقبل إجراء انتخابات الجمعية الدستورية في أيار/مايو 1948، اندلع تمردٌ في جزيرة جيجو الجنوبية الكبيرة تحت قيادة اللجنة الشعبية المحلية وبدعم من حزب العمّال في كوريا الجنوبية. وبحلول الخريف، كان التمرد قد امتد إلى مدينتي يوسو وسونتشون في مقاطعة جولا الجنوبية، ثم تحوّل إلى حرب مغاوير طويلة الأمد بعدما لجأ الفلّاحون والجنود المنشقون إلى الجبال هرباً من حملة القمع اللاحقة. وقبل البداية الرسمية للصراع المعروف اليوم بالحرب الكورية في حزيران/يونيو 1950، تسبّبت حملة مكافحة التمرّد تحت توجيه الولايات المتحدة بمقتل 100 ألف إلى 200 ألف شخص في كوريا الجنوبية، من أجل سحق قوة المغاوير التي قدّرت وكالة المخابرات المركزية أن عددها لا يزيد عن 6 آلاف مقاتل في أوائل العام 1949. عَمِدَت فرق من جيش كوريا الجنوبية، والشرطة الوطنية، والجماعات شبه العسكرية الفاشية – العاملة بتوجيه ودعم ومراقبة المستشارين العسكريين الأميركيين – إلى إحراق القرى وتنفيذ عمليات إعدام جماعية واغتصاب في جميع أنحاء جزيرة جيجو ومقاطعات جولا الجنوبية الغربية. وراح في سياق قمع انتفاضة جيجو، على مدار عام كامل، ما بين 25 ألفاً إلى 30 ألفاً من سكان الجزيرة البالغ عددهم 300 ألف نسمة، وأصبح عدد مماثل أو أكبر بلا مأوى بعد تدمير أكثر من نصف القرى. وبحلول الوقت الذي صوّت فيه مجلس النواب لصالح الاعتراف بجمهورية كوريا حكومةً شرعية، كانت قد أُعلِنت الأحكام العرفية في جيجو، وصدرَ مرسومٌ ينص على إطلاق النار على أي شخص يتحرّك على مسافة تزيد عن 5 كيلومترات في عمق البلاد. إنّ إشراف الأمم المتحدة على الانتخابات والاعتراف بدولة كوريا الجنوبية في نهاية المطاف كان سبباً في تبييض عملية تقسيم كوريا بوصفه تعبيراً مشروعاً عن تقرير المصير الكوري، حتى مع رفض الجماهير الجنوبية للدولة المفروضة بقوة السلاح.

ظهرت أدلة تشير إلى وقوع 1461 مجزرة بحق المدنيين، وأشهرها ارتُكِبَ في قرية نوغون-ري، حيث حاصر الجنود الأميركيون مئات القرويين في نفق للسكك الحديدية وشرعوا في قتل ما يقدّر بنحو 400 شخص

بدأت الحكومة العسكرية المجازر واتسعت رقعتها في ظل الجمهورية الكورية وحكومة الظل التابعة للجيش الأميركي واستمرّت مع الحرب الكورية. أوعز سينغمان ري بإعدام 60 ألف يساري إلى 200 ألف يساري مشتبه به في صيف العام 1950 حين تقهقرت حكومته جنوباً بفعل تقدّم جيش الشعب الكوري. وقد تلقت لجنة الحقيقة والمصالحة الكورية الجنوبية، المؤسَّسة في العام 2005، قرابة 10 آلاف تقرير فردي عن مجازر مدنية في الجنوب، وكان 82% منها يُعزى إلى «عناصر تابعة للدولة»، أي القوات الأميركية والكورية الجنوبية. وفي نهاية المطاف ظهرت أدلة تشير إلى وقوع 1461 مجزرة بحق المدنيين، بينها استخراج الجثث من 154 مقبرة جماعية. وأشهر هذه المجازر ارتُكِبَ في قرية نوغون-ري، حيث حاصر الجنود الأميركيون مئات القرويين في نفق للسكك الحديدية وشرعوا في قتل ما يقدّر بنحو 400 شخص، عُرِف منهم 218 شخصاً. عاد الجنود مرات عدّة على مدار أيام بحثاً عن الناجين المتبقين، وكان معظم قتلاهم من النساء والأطفال. ومع انسحاب القوات الأميركية جنوباً في مواجهة جيش الشعب الكوري، استهدف القادةُ اللاجئين في مناطق القتال المقاتلين الأعداء – وبرّروا ذلك بتعذّر التمييز بين المدني والمغاور. أشارت مذكرة للقوات الجوية الأميركية كتبها العقيد تيرنر روجرز قبل يوم واحد من مجزرة نوغون-ري: «طلب الجيش منا التعامل بالنيران مع أي لاجئٍ مدني [...] يقترب من مواقعنا [...] وقد امتثلنا لغاية الآن». وجاء في برقية من جون موتشيو، أول سفير أميركي في كوريا، إلى مساعد وزير الخارجية دين راسك ما يلي: «إذا ظهر اللاجئون من شمال الخطوط الأميركية فسوف يتلقون طلقات تحذيرية، وإذا استمروا في التقدم فسوف يُطلَق النار عليهم».

«الماي لاي» سوف يذكرها الجنرال الأميركي تشارلز ويلوبي لاحقاً، في إشارة فجّة إلى المجزرة الأميركية بحق المدنيين الفيتناميين في العام 1968، التي كانت تحدث «طوال الوقت» في كوريا. نُشِرَت العديد من التقارير تصف المجزرة الوحشية الأميركية والكورية الجنوبية بحق المدنيين في الأيام الأولى من الحرب، قبل بدء القمع الرسمي للصحافة. وفي إطار الرد على تقارير عن المجزرة الكورية الجنوبية بحق المدنيين في خلال الشهر الأول من الحرب الكورية، كتب تيلفورد تايلور، كبير محامي الادعاء في محاكمات نورمبرغ، في صحيفة نيويورك تايمز: «تقاليد وممارسات الحرب في الشرق لا تتطابق مع ما تطور في الغرب… فحياة الأفراد لا تحظى بتقدير كبير في الأعراف الشرقية. ومن غير الواقعي على الإطلاق أن نتوقع من جندي كوري [جنوبي] اتباع مبادئنا الحربية السامية».

Previewالحرب الكورية

صورة لعناصر الفيلق الأول في سلاح الجو التابع للبحرية يعرضون «هدايا عيد الميلاد» للكوريين. في حزيران/يونيو 1952، شاركت 75 طائرة من الوحدة في الهجمات على سد سوي-هو، وهو اسم سلسلة من الغارات بأمر من قيادة الأمم المتحدة على البنية التحتية لمحطات الطاقة الكهرومائية في كوريا الشمالية. دمّرت الهجمات 90% من منشآت الطاقة الكهرومائية في كوريا الشمالية دماراً كاملاً، ما تسبّب بانقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد لمدة أسبوعين.

بحلول العام 1950، عاد تايلور إلى الحياة المدنية. وعلى الرغم من أنّ افتتاحياته لم تكن ذات أهمية رسمية، فقد كان لإرث حججه في نورمبرغ آثارٌ عميقة في طريقة فهم القتل الجماعي في كوريا. يشير المؤرّخ ديرك موزس في كتابه «مشاكل الإبادة الجماعية» إلى أنّ تايلور «أدخل التمييز بين الإبادة الجماعية بوصفها جريمة كراهية غير سياسية وبين الضرورة العسكرية بوصفها ممارسة مشروعة» لحماية الحلفاء من الملاحقة القضائية على خلفية قصفهم المدنيين في خلال الحرب العالمية الثانية. ومن نورمبرغ وما بعدها، بات مصطلح «الإبادة الجماعية» كتوصيف قانوني مستجد يتحدّد بالقصد بالإضافة إلى التأثير. ومثلما مرّت الحملة الجوية العشوائية للحلفاء في أوروبا من دون مساءلة، مرّت الحملة في كوريا أيضاً. لن تُعقد أي محاكمات لجرائم الحرب في الحرب الكورية، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة حاولت لفترة وجيزة القيام بذلك إبان الخمسينيات من القرن الماضي – ليس لمقاضاة نفسها أو حليفتها، بل لتحميل مسؤولية فظائعها في زمن الحرب لكوريا الشمالية، وبعضها صار من المعروف اليوم أنّ مَن ارتكبه كان الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. في حالة مجزرة دايجون، حضر الضباط الأميركيون على قتل الآلاف من السجناء السياسيين الشيوعيين، بينهم نساء وأطفال، على يد القوات الكورية الجنوبية؛ وقد أخفت هيئة الأركان المشتركة الأدلة الفوتوغرافية على المجزرة إلى أن نُشِرَت في العام 1999.

لم تُعقد أي محاكمات لجرائم الحرب في الحرب الكورية، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة حاولت لفترة وجيزة القيام بذلك إبان الخمسينيات من القرن الماضي، ليس لمقاضاة نفسها أو حليفتها، بل لتحميل مسؤولية فظائعها في زمن الحرب لكوريا الشمالية

على الرغم من أنّ اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية تُعرِّف جريمة الإبادة الجماعية بأنّها «أي فعل من الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية» (التشديد لي)، فإنّ الولايات المتحدة لم تواجه قط أي تهمة رسمية بالإبادة الجماعية على المجازر التي كانت وراءها في جميع أنحاء شبه الجزيرة قبل الحرب الكورية وفي أثنائها. كما أنّها لم تتحمّل المسؤولية عن قصفها المدمر للأهداف المدنية، وهو ما يمكن وصفه بـ «الإخضاع عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً»، بحسب المادة الثانية من الاتفاقية. إنّ الفكرة الثنائية المتمثلة في «جرائم الكراهية غير السياسية» وأعمال القتل الجماعي «السياسية» المزعومة غير المدفوعة بـ «الكراهية» هي في حد ذاتها ضرب من الوهم: كانت ممارسات القتل الجماعي الكورية والأميركية تجري، في جميع المراحل، على منطق عنصري. على سبيل المثال، كانت سياسة الولايات المتحدة في استهداف اللاجئين في مناطق القتال مبرّرة على أساس منطق مؤداه تعذّر التمييز بين المدنيين والمغاوير، وقد استُحضِرَ السلوك العسكري الأميركي السابق في خلال ما يسمى «الحروب الهندية» – أي ضرورة التدمير الكامل – لتوصيف هذه الممارسات والدفاع عنها. تحت غطاء الدفاع عن «الضرورة العسكرية» والمظهر المناهِض للعنصرية بحكم سياسة إلغاء الفصل العنصري الرسمية للقوات المسلحة الأميركية، تشوّشت الصلات بين العنف العسكري الاستراتيجي والعنف «العنصري» بفعل السوابق القانونية الموضوعة لغرض التحقيق في الإبادة الجماعية والتقاضي بشأنها. يقدّم المؤرّخ الأميركي بروس كامينغز ملخصاً دقيقاً لتشابكات اتفاقية الإبادة الجماعية مع عمليات القتل الجماعي في كوريا: «أُجِيزَت [اتفاقية الإبادة الجماعية] في العام 1948 ودخلت حيز التنفيذ في العام 1951 – حينما كانت [القوات الجوية الأميركية] ترتكب بحق مواطني كوريا الشمالية إبادةً جماعية بموجب هذا التعريف وتحت إشراف قيادة الأمم المتحدة».

وبعيداً عن التواطؤ الأممي وأوجه القصور في اتفاقية الإبادة الجماعية، لا بد من النظر في دور المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى لعام 1946، أو محاكمات طوكيو، في تشكيل منطقة المحيط الهادئ بعد الحرب تحت السلطة العسكرية والقانونية الأميركية. أعدًّت الولايات المتحدة، بصفتها المنتصر الظافر، المحاكمات لمقاضاة الفظائع اليابانية على نحوٍ انتقائي. فقد انحصرت المحاكمة في أعمال الحرب اليابانية ضد الأراضي الاستعمارية البريطانية والفرنسية والبرتغالية والأميركية (معظم جنوب شرق آسيا وأوقيانوسيا وهونع كونع) بوصفها «جرائم ضد السلام»، أما الفظائع الاستعمارية اليابانية في أراضيها قبل العام 1931 (ريوكيو/أوكيناوا وتايوان وكوريا وسخالين) فقد جرى تجاهلها جنباً إلى جنب مع جرائم قوات الحلفاء، بما في ذلك القصف الذرّي لهيروشيما وناغازاكي. بين عامي 1950 و1953، هدّد كل من الجنرال ماك آرثر والرئيسين ترومان وأيزنهاور، كلٌ على حِدة، باستخدام القنبلة الذرية أو اتخذوا خطوات نحو استخدامها من دون أي اعتبار لشرعية هجوم مماثل. كما استبعدت المحكمة من تحقيقاتها تجنيد الجيش الياباني نحو 200 ألف امرأة، جلُّهن من الكوريات، إماءَ جنس أو «نساء متعة». وأسفر هذا عن حماية الولايات المتحدة من التدقيق فيما يتعلق بإدارتها «محطات المتعة» في كوريا واليابان المحتلتين، وتطوّرت هذه المحطات على مدى عقود إلى منظومة البغاء العسكري المعاصرة الممتد عبر القواعد الأميركية في المحيط الهادئ.

يواصل النظام الليبرالي الدولي إجازة القتل الجماعي في شبه الجزيرة على هيئة عقوبات شاملة ضد كوريا الشمالية، ونسختها الحالية صدرت في العام 2016 رداً على برنامجها النووي

واليوم، يواصل النظام الليبرالي الدولي إجازة القتل الجماعي في شبه الجزيرة والمستمر على هيئة عقوبات شاملة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد كوريا الشمالية، ونسختها الحالية صدرت في العام 2016 رداً على البرنامج النووي لكوريا الشمالية. لقد خلص تقرير صادر عن منظمة «كوريا بيس ناو» إلى أنّ 3,968 شخصاً، معظمهم من الأطفال دون الخامسة من العمر، لقوا حتفهم في العام 2018 بسبب النقص والتأخير في برامج المساعدات الأممية وحدها. ونظراً لأنّ الحرب الكورية لم تنته والولايات المتحدة لا تزال تشكِّل تهديداً عسكرياً حقيقياً لكوريا الشمالية (لا يزال 28 ألف جندي أميركي يحتلون كوريا الجنوبية)، فهذه العقوبات تُجرِّم كوريا الشمالية فعلياً بسبب اتخاذها تدابير مماثلة لردع أي هجوم نووي. لم يكتفِ النظام السياسي الدولي القائم بالفشل، عند كل منعطف، في حماية الشعب الكوري من عنف الدولة الأميركية فحسب، بل شكَّل إطاراً مطواعاً لشرعنة ذلك العنف. ومع استمرار الولايات المتحدة في شن الحروب تحت ذريعة حقوق الإنسان وتحت غطاء المؤسسات الدولية، فإنّ استعراض تاريخ كوريا ونضالها من أجل التحرير يعطينا طريقاً نحو أممية مناهضة للإمبريالية إزاء المعتقدات الوحشية لليبرالية.

نُشِر هذا المقال في مجلّة  The Funambulist في العام 2021.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.