Preview التقارب العظيم

المساواة العالمية وسخطها
التّقارب العظيم

  • من الصعب التنبؤ بالاتجاهِ المستقبلي للتفاوت العالمي. وثمة ثلاث صدمات خارجية تُميز الحقبة الحالية عن كافة الحقب السابقة: جائحة كوفيد التي قلّصت معدلات النمو في البلدان؛ وتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين؛ والغزو الروسي لأوكرانيا، الذي رفع أسعار الغذاء والطاقة في جميع أنحاء العالم وهزَّ الاقتصاد العالمي.

  • في مرحلة ما من العقود المقبلة، قد تصبح حصص السكان الصينيين والأميركيين بين أثرياء العالم متساوية تقريباً، أي أن يكون عدد الأثرياء في الصين بالمقاييس العالمية مساوٍ لعدد الأثرياء في الولايات المتحدة. مثل هذا التطور يُشكل أهمية كبرى لأنه يعكس تحولاً أوسع للقوى الاقتصادية والتكنولوجية بل وحتى الثقافية في العالم

إننا نحيا في عصر اللامساواة، أو هذا هو ما يقال لنا باستمرار، عبر العالم أجمع. وفي الاقتصادات الغنية في الغربِ على وجهِ الخصوص، اتَّسعت الفجوة بين الأثرياء وبقيّة الناس عاماً بعد عام، وتحوَّلت إلى هاويةٍ تُشيع الإضطراب وتؤجِّج الاستياء وتعصف بالسياسة. وهي المسؤولة عن كل شيءٍ بدءاً من صعود الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والتصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى حركة «السترات الصفراء» في فرنسا واحتجاجات المتقاعدين الأخيرة في الصين، التي تحتوي على واحدٍ من أعلى معدلات اللامساواة في الدخل على الصعيد العالمي. وتزعم هذه الحجة أن العولمة وإن كانت قد أثْرَت بعض النُّخب، بيد أنها ألحقت الضرر بالعديدِ من الناس، وقوّضت معاقل الصناعة دفعةً واحدة، وجعلت الناس عُرضةً للتأثُّر بالسياسات الشعبوية.

وإذا ما اكتفينا بالنظر لكل بلدٍ على حدة فهناك الكثير مما هو صحيح في تلك السرديات. بيد أن الصورة سوف تبدو مغايرة إذا ما تجاوزنا مستوى الدولة القومية إلى العالم أجمع. وضمن هذا النطاق، تبدو قصة اللامساواة في القرن الحادي والعشرين معكوسة: فقد بات العالم أكثر مساواة مما كان عليه قبل ما يزيد عن قرنٍ مضى.

حتى إذا تقلّصت فجوة اللامساواة العالمية، فهذا لا يعني أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في كل دولة على حدة سوف تخفت، بل إن العكس هو الصحيح

يشير مصطلح «اللامساواة العالمية» إلى عدم تكافؤ الدخل بين جميع مواطني العالم في زمنٍ مُعين، مع التعديل حسب الاختلافات في الأسعار بين البلدان. وهو يقاس عادةً بمُعاملِ جيني، الذي يبدأ من الصفر، وهي حالة افتراضية للمساواة الكاملة يحصل فيها الجميع على المبلغ نفسه، إلى 100، وهي حالة افتراضية أخرى يحصل فيها فرد واحد على الدخل بأكمله. وبفضل العمل التجريبي الذي قام به العديد من الباحثين بات في وسع خبراء الاقتصاد أن يرسموا المعالم العامة للتغيير الذي طرأ على اللامساواة العالمية المقدَّرة على مدارٍ القرنين الماضيين.

 منذ اندلاع الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين تقريباً، اتّسعت فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي مع تركُّزِ الثروة في البلدان الصناعية الغربية. وبلغت ذروتها أثناء الحرب الباردة، عندما شاعَ تقسيم العالم إلى «العالم الأول»، و«العالم الثاني»، و«العالم الثالث»، في إشارةٍ إلى ثلاثة مستويات للتنمية الاقتصادية. ولكن منذ ما يقرب من عشرين عاماً بدأت فجوة اللامساواة العالمية في التقلُّص، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى النهضة الاقتصادية التي قامت بها الصين، والتي كانت حتى عهدٍ قريب الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان على مستوى العالم. وقد بلغت اللامساواة العالمية ذروتها عند 69.4 نقطة على مؤشر جيني في العام 1988. وانخفضت إلى 60.1 نقطة في العام 2018، وهو مستوى لم نشهده منذ نهاية القرن التاسع عشر.

إن التقدم صوب إحراز المزيد من المساواة العالمية ليس محتوماً. فقد أصبحت الصين الآن أكثر ثراءً من أن تتمكن من المساعدة في تقليصِ اللامساواة العالمية، وقد تعجز الدول الكبرى مثل الهند عن تحقيق النمو بالقدر اللازم لإحداثِ التأثير الذي أحدثته الصين. وسيتوقف الكثير على أداء البلدان الأفريقية؛ حيث يمكن للقارةِ أن تعمل على التقليص المستقبلي للفقرِ واللاّمساواة في العالم. ولكن حتى إذا تقلّصت فجوة اللامساواة العالمية، فهذا لا يعني أن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في كل دولة على حِدةٍ سوف تخفت، بل إن العكس هو الصحيح. فبالنظرِ إلى الفوارق الشاسعة في الأجور العالمية، ظلّ الفقراء الغربيون لعقودٍ يُصنَّفون ضمن فئة الأعلى دخلاً في العالم. بيد أن هذه الحال لن تظل على ما هي بعد الآن، حيث سيعمل غير الغربيين من ذَويِ الدُّخول المرتفعة على إزاحة الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة من الغربيين عن عروشهم. ومن شأن هذا التحول أن يسلط الضوء على الاستقطاب في البلدان الغنية، بين الأثرياء وفق المعايير العالمية والبقية.

ثلاث حِقَب من اللامساواة 

تمتد الحقبة الأولى من اللامساواة العالمية من العام 1820 إلى العام 1950، وهي الفترة التي اتسمت بارتفاع اللامساواة باضطراد. كانت فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي منخفضة نوعاً في زمن الثورة الصناعية حوالي العام 1820. وفي العام 1820، كان الناتج المحلي الإجمالي للبلد الأغنى (المملكة المتحدة) أكبر بخمس مرات من الناتج المحلي للبلد الأفقر (نيبال). إن النسبة المماثلة بين الناتج المحلي الإجمالي في أغنى وأفقر البلدان اليوم تزيد عن 100 إلى 1. إن الدرجة الإجمالية التي بلغها مؤشر جيني عند 50 نقطة في العام 1820، تعد تقليدية بالنسبة إلى البلدان التي تعاني من اللامساواة البالغة اليوم، مثل البرازيل وكولومبيا، غير أنه عند النظر إلى العالم بصورةٍ عامةٍ، يعد هذا المستوى من اللامساواة منخفضاً إلى حدٍ ما في الواقع. (وللتوضيح، يقدر معامل جيني حالياً في الولايات المتحدة حاليا بـ 41 نقطة، بينما في الدنمارك، الدولة الديمقراطية الاجتماعية التي تتباهى بمذهب المساواة، فيقدر بـ 27 نقطة). 

وكان نمو اللامساواة العالمية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مدفوعاً باتّساعِ الفجوات بين مختلف البلدان (قياساً على الاختلافات في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي) وبزيادة التفاوتات داخل البلدان (قياساً إلى الفروق في دخول المواطنين في بلد معين). ولقد عكست الاختلافات بين الدول ما أطلق عليه المؤرخون الاقتصاديون «التباعد العظيم»، وهو يشير إلى اللامساواة المتزايدة بين الدول الصناعية في أوروبا الغربية، وأميركا الشمالية، ثم اليابان في وقت لاحق، والصين والهند وشبه القارة الأفريقية، والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، حيث تعرض نصيب الفرد من الدخل للركود أو حتى التراجع. وكان لهذا التباعد الاقتصادي نتائج سياسية وعسكرية، تجاوزت الدول الإمبراطورية الصاعدة الدول المُحتضرة أو المهزومة بأشواطٍ. تزامنت هذه الحقبة مع الغزو الأوروبي لمعظم أفريقيا، واستعمار الهند وجنوب شرق آسيا، والاستعمار الجزئي للصين.

في القرن التاسع عشر أدى صعود الغرب إلى اتساع فجوة اللامساواة بين البلدان. وفي الآونة الأخيرة، أدّى صعود آسيا إلى تقليص فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي.  شكّلت الفترة الأولى فترة التباعد والفترة الراهنة فترة التقارب.

أما الحقبة الثانية فتمتد إلى النصف الأخير من القرن العشرين. وتكشف عن ارتفاعٍ شديد في اللامساواة على الصعيد العالمي، حيث تراوحت بين 67 و 70 نقطة على مؤشر جيني. وكانت فجوة اللامساواة بين البلدان مرتفعة للغاية: ففي العام 1952، على سبيل المثال، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة يعادل 15 ضعف نظيره في الصين؛ ساهمت الولايات المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 6% من سكان العالم بـ 40% من الناتج العالمي. بيد أن اللامساواة داخل البلدان كانت آخذة في الانخفاض في كلِّ مكانٍ تقريباً. فقد انخفضت في الولايات المتحدة حين صار التعليم العالي أكثر اتساعاً وبأسعارٍ معقولة للطبقات المتوسطة وتشكّلتْ أُسس دولة الرفاه؛ وانخفضت في الصين الشيوعية عبر تأميم الأصول الخاصة الضخمة في خمسينيات القرن العشرين، ثم المساواة القسرية التي طبّقتها الثورة الثقافية؛ وانخفضت في الاتحاد السوفييتي عندما قلّصت إصلاحات الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف الأجور والامتيازات المرتفعة للغاية لطبقةِ «النومينكالتورا» الستالينية.

شكَّل النصف الثاني من القرن العشرين ــ المرحلة التي شهدت أعلى مستويات اللامساواة العالمية ــ زمن «العوالم الثلاثة»: العالم الأول الذي ضمَّ البلدان الرأسمالية الغنية، والتي يقع أغلبها في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية؛ وضمّ العالم الثاني الدول الاشتراكية الأكثر فقراً، بما فيها الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية؛ وشمل العالم الثالث البلدان الفقيرة، التي ينتمي معظمها إلى أفريقيا وآسيا والعديد منها كان متحرراً لتوّه من الاستعمار. وكثيراً ما تُضاف بلدان أميركا اللاتينية إلى هذه المجموعة الأخيرة، على الرغم من أنها كانت في المتوسط أكثر ثراءً من بلدان العالم الثالث الأخرى، وكانت تتمتع بالاستقلال منذ أوائل القرن التاسع عشر.

واستمرت تلك الحقبة عبر العقد الذي تلا نهاية الحرب الباردة، بيد أنها أفسحت المجال لحقبةٍ جديدة في مطلع القرن الحادي والعشرين. بدأت فجوة اللامساواة العالمية في التراجعِ قبل عقدين من الزمن، ولا تزال مستمرة في التراجع حتى يومنا هذا. وقد انخفضت من 70 نقطة على مؤشر جيني في العام 2000 إلى 60 نقطة بعد عقدين من الزمن. كان هذا التراجع في اللامساواة العالمية، والذي تحقق في غضونِ فترةٍ قصيرةٍ لا تتجاوز العشرين عاماً، أكثر سرعة من توسُّع اللامساواة العالمية خلال القرن التاسع عشر. ويرجع هذا التراجع إلى صعود آسيا، ولا سيما الصين. قدمت هذه البلاد مساهمة هائلة في الحدِّ من اللامساواة على الصعيد العالمي بفضلِ عددٍ من العوامل: بدأ اقتصادها من قاعدةٍ منخفضةٍ وتمكن من النمو بالتالي بمعدلٍ مذهل على مدى جيلين، وبفضل عدد سكان البلاد لَامَس النمو ما بين ربع وخمس جميع سكان الأرض. 

ومن الممكن للهند، وهي الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، بالنظرِ إلى عدد سكانها الضخم وفقرها النسبيّ، أن تؤدي دوراً مماثلاً للدورِ الذي لعبته الصين على مدى السنوات العشرين الماضية. وإذا أصبح المزيد من الهنود أكثر ثراءً خلال العقود المقبلة، فسوف يساعدون في تقليصِ فجوة اللامساواة العالمية بوجهٍ عام. تُخيّم العديد من الشكوك على مستقبل الاقتصاد الهندي، بيد أن المكاسب التي حققها في العقود الأخيرة لا تقبل الجدل. في السبعينيات، كانت حصة الهند من الناتج المحلي الإجمالي في العالم أقل من 3%، في حين أن حصة ألمانيا، وهي القوة الصناعية الكبرى، كانت 7%. وبحلول العام 2021، تُبودِلت هذه النسب. 

ولكن حتى مع انخفاض فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي عموماً منذ مطلع هذا القرن، فقد ارتفعت فجوة اللامساواة في العديد من البلدان الكبرى، بما في ذلك الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة، بل وفي دول الرفاه في أوروبا القارية. وكانت أميركا اللاتينية ولا غير هي التي خالفت هذا الاتجاه وذلك عن طريق الحدّ من فجوة اللامساواة المرتفعة من خلال برامج إعادة التوزيع الواسعة في بوليفيا والبرازيل والمكسيك وفي أماكن أخرى. وتعكس الحقبة الثالثة الحقبة الأولى: فقد شهدت ارتفاع الدخول في شطرٍ من العالم وانخفاضهاَ النسبي في شطره الآخر. في الحقبة الأولى، كان التصنيع في الغرب وما صاحبه من تراجع التصنيع في الهند (ثم تحت إمرة البريطانيين الذين قمعوا الصناعات المحلية)؛ وفي الحقبة الثالثة، كان التصنيع في الصين وتراجع التصنيع في الغرب إلى حدٍّ ما. بيد أن العصر الحالي شهد تأثيراً مضاداً للامساواة العالمية. ففي القرن التاسع عشر أدى صعود الغرب إلى اتساعِ فجوة اللامساواة بين البلدان. وفي الآونة الأخيرة، أدَّى صعود آسيا إلى تقليص فجوة اللامساواة على الصعيد العالمي. لقد شكّلت الفترة الأولى فترة التباعد، أما الفترة الراهنة فهي فترة التقارب.

التقارب العظيم

لست وحيداً على القمة

 وإذا ما نزلنا إلى مستوى الفرد الواحد، فإن ما سيغدو واضحاً ربما يكون أكبر عملية إعادة ترتيب للأوضاع الفردية على سلم الدخل العالمي منذ الثورة الصناعية. يميل الناس بطبيعة الحال إلى الاهتمامِ بأوضاَعهم عبر مقارنتها بالمحيطين بهم، وليس بالبعيدين الذين نادراً ما يلتقون بهم. بيد أن التراجع في ترتيب الدخل العالمي ينطوي على تكاليفٍ حقيقية. إن العديد من السلع والخبرات ذات الأسعار العالمية قد تصبح غير متاحة على نحوٍ متزايد لأفراد الطبقة المتوسطة في الغرب: على سبيل المثال، إن القدرة على حضور الأحداث الرياضية أو الفنية الدولية، أو قضاء العطلات في الأماكن الغريبة، أو شراء أحدث الهواتف الذكية، أو مشاهدة مسلسل تلفزيوني جديد، قد تصبح بعيدة المنال من الناحية المالية. قد يضطر العامل الألماني إلى الاستعاضة عن إجازته التي تستغرق أربعة أسابيع في تايلاند بعطلة أقصر في مكانٍ مغاير ربما أقلّ جاذبية. قد لا يتمكن المالك الإيطالي لشقةٍ في البندقية الذي يكابد ضغوطاً شديدة من الاستمتاع بها نظراً لأنه يحتاج إلى تأجيرها على مدار العام من أجل زيادة دخله. 

تاريخياً، احتل الأفراد المنتمون إلى الفئات ذات الدخل المنخفض في البلدان الغنية مرتبة عالية في توزيع الدخل العالمي. ولكن الآسيويين يتفوقون عليهم الآن من حيث الدخول. لقد أدى النمو السريع في الصين إلى إعادة تشكيل كافة جوانب توزيع الدخل العالمي، بيد أن التغيير كان أكثر وضوحاً حول الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة في الترتيب العالمي، وهو القِسم العامر عادةً بأفرادِ الطبقة العاملة في البلدان الغربية. وفي أعلى المستويات، في فئة الـ5% الأعلى دخلاً في العالم، لم يكن للنموّ الصيني أثر كبير نظراً لأنه لم يكن هناك ما يكفي من الصينيين الذين أصبحوا أثرياء بالقدرِ الكافي لإزاحة أغنى الغربيين، ولا سيما الأميركيين، الذين سيطروا تاريخياً على قمة هرم الدخل العالمي خلال المائة وخمسين أو المائتي سنة الماضية.

والرسم البياني أدناه، الذي يوضح كيف تغير ترتيب الدخل العالمي للناس في مختلف البلدان، يبيّن أوضاع الفئات العشرية الحضرية في الصين (تتألف كل فئة عشرية من 10% من سكان ذلك البلد، مرتبة من الأفقر إلى الأغنى) مقارنة بالفئات العشرية الإيطالية في عامي 1988 و 2018. إنني أستخدم البيانات الخاصة بسكان المدن في الصين لأن الصين تجري مسوحاً منفصلة للأسر في المناطق الحضرية والريفية ولأن سكان الحضر في الصين (أكثر من 900 مليون نسمة الآن) أكثر اندماجاً مع بقية العالم من سكان الريف. وارتفعت نسبة الصينيين الحضريين ما بين 24 إلى 29 عالمياً، وهذا يعني أن المنتمين إلى الشريحة العشرية الحضرية في الصين تخطوا أكثر من ربع سكان العالم أو أكثر في غضون 30 عاماً لا غير. على سبيل المثال، في عام 1988، كان الشخص ذو الدخل المتوسط في المناطق الحضرية في الصين سيدخل في شريحة الـ 45 الأعلى دخلاً على مستوى العالم. وبحلول العام 2018، سيكون مثل هذا الشخص قد تقدم إلى شريحة الـ 70. وهذا ليس مفاجئاً في ضوء معدل نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي المرتفع إلى حد غير عادي في الصين خلال تلك الفترة ــ بمتوسط نحو 8% سنويا. لكن المكانة المتنامية لأصحاب الدخل الصينيين أدت إلى الانخفاض النسبي لأصحاب الدخل في بلدان أخرى.

وتقدم إيطاليا أوضح مثال على هذا التأثير. فبين عامي 1988 و2018، شهد الإيطاليون العاديون في الشريحة العشرية الدنيا في البلاد انخفاض ترتيبهم العالمي بنسبة 20%. وانخفضت الفئتان العشرية الإيطالية الثانية والثالثة على مستوى العالم بمقدار 6 و 2% على التوالي. ومن ناحية أخرى، بالكاد تأثّر الوضع العالمي للإيطاليين الأثرياء بصعود الصين: فقد تبين أن الإيطاليين الأكثر ثراء يميلون إلى احتلال ذلك الجزء من التوزيع العالمي الذي أحدث النمو الصيني تغيراً هائلاً. والتغييرات التي لوحظت في إيطاليا ليست قاصرة على ذلك البلد. فقد انخفض متوسط الدخل الألماني في أفقر الشرائح العشرية دخلاً في البلاد من الشريحة المئوية العالمية 81 في العام 1993 إلى الشريحة المئوية 75 في العام 2018. في الولايات المتحدة، تراجع متوسط الأشخاص المنتمين إلى أفقر الشرائح العشرية بين عامي 1988 و 2018 من الشريحة المئوية 74 إلى الشريحة 67. ولكن الألمان الأثرياء والأميركيين ظلوا كما كانوا من قبل: على القمة. 

اقتربت الصين من أمر ما كان لأحد أن يتوقعه حين توفي ماو في العام 1976، وهو أن الدولة الفقيرة آنذاك سوف تحظى بعد سبعين عاماً بعدد من المواطنين الأثرياء لا يقل عن عدد الأثرياء في الولايات المتحدة 

وتكشف البيانات عن قصة لافتة للنظر، وهي القصة التي يصعب اكتشافها عندما نحصر أنفسنا في إطارِ الدراسات الوطنية المتعلقة بعدم المساواة: تتألف الدول الغربية على نحو متزايد من أشخاص ينتمون إلى أجزاء مختلفة تماماً من توزيع الدخل العالمي. تتوافق مراكز الدخل العالمية المختلفة مع أنماط الاستهلاك المختلفة، وتتأثر هذه الأنماط بالصيحات العالمية. ونتيجة لهذا يغدو الشعور باتساع فجوة اللامساواة في الدول الغربية قد حاداً مع انتماء سكانها على نحو متزايد، قياساً على مستويات الدخل، إلى أجزاء مختلفة تماماً من التسلسل الهرمي العالمي للدخل. ومن شأن الاستقطاب الاجتماعي الذي قد يترتب على ذلك أن يجعل المجتمعات الغربية أشبه بمجتمعاتِ العديد من بلدان أميركا اللاتينية، حيث تتجلى فجوة في الثروة وأسلوب الحياة على نحو لا يصدق. 

وخلافاً للفئة الوسطى في التوزيع العالمي للدخل، ظل تركيب الفئة العليا على حاله إلى حد كبير على مدى العقود الثلاثة السابقة: حيث هيمن عليه الغربيون. في العام 1988، تشكّلت شريحة الـ5% الأعلى دخلا في العالم من 207 مليون شخص؛ وفي العام 2018، بلغ هذا العدد 330 مليون، مما يعكس الزيادة في عدد سكان العالم واتساع نطاق البيانات المتاحة. وهم يمثلون مجموعة من الناس نستطيع أن نطلق عليهم وصف «أثرياء العالم»، وهم يقعون أسفل القمة العالمية للنخبة المنتمية إلى فئة الـ1%.

ويشكل الأميركيون أغلبية هذه المجموعة. وفي عامي 1988 و2018، كان أكثر من 40% من أثرياء العالم مواطنين أميركيين. ويأتي المواطنون البريطانيون واليابانيون والألمان بعد ذلك. وعموماً، يمثل الغربيون (بما في ذلك اليابان) ما يقرب من 80% من هذه المجموعة. ولم يقتحم الصينيون الحضريون مجموعة أثرياء العالم إلا في الآونة الأخيرة. وارتفعت حصتهم من 1.6% في العام 2008 إلى 5.0% في العام 2018.

ومن البلدان الآسيوية (باستثناء اليابان)، لا يندرج حقاً في هذه المجموع سوى الصينيين الحضريين. وكانت حصص الهنود والإندونيسيين الحضريين في شريحة الـ5% الأعلى دخلاً على مستوى العالم ضئيلة في العام 1988. ولم ترتفع هذه الأرقام إلا قليلا بين عامي 2008 و2018: في حالة الهند، من 1.3 إلى 1.5%؛ إندونيسيا من 0.3 إلى 0.5%. ولا تزال هذه النسب صغيرة. ويصدق نفس القول على شعوبٍ في أجزاء أخرى من العالم، بما فيها أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، التي لم تحظى قَطّ، باستثناء سكان البرازيل وروسيا، بمشاركة كبيرة في مجموعة الأثرياء العالميين. وعلى هذا، تظل قمة توزيع الدخل العالمي خاضعة لهيمنة الغربيين، ولا سيما الأميركيين. ولكن إذا استمرت الفجوة في معدلات النمو بين شرق آسيا، والصين على وجه الخصوص، والغرب، فإن التركيبة الوطنية الداخلة في مجموعة أثرياء العالم سوف تتغير بالتبعية. ويدل هذا التغير على تطور ميزان القوة الاقتصادية والسياسية في العالم. وما تكشف عنه هذه البيانات على المستوى الفردي هو، كما كانت الحال في الماضي، صعود بعض القوى والتراجع النسبي للبعض الآخر.

التقارب العظيم

اللحاق

من الصعب التنبؤ بالاتجاهِ المستقبلي للتفاوت العالمي. وثمة ثلاث صدمات خارجية تُميز الحقبة الحالية عن كافة الحقب السابقة: جائحة كوفيد التي قلّصت معدلات النمو في البلدان (على سبيل المثال، كانت معدلات النمو في الهند سالب 8% في العام 2020) ؛ وتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، وهو ما سيؤثر حتماً على اللامساواة العالمية، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الولايات المتحدة والصين تشكلان أكثر من ثلث الناتج المحلي الإجمالي في العالم ؛ والغزْو الروسي لأوكرانيا، الذي رفع أسعار الغذاء والطاقة في جميع أنحاء العالم وهزَّ الاقتصاد العالمي.

إن هذه الصدمات وآثارها غير المؤكدة تجعل من التنبؤ بمستقبل اللامساواة العالمية مهمة لا يحسد عليها خبراء الاقتصاد. بيد أن بعض التطورات تبدو مرجحة. ذلك أن زيادة ثروة الصين سوف يقلص من قدرتها على الحد من اللامساواة العالمية، وسوف تبدأ الطبقات فوق المتوسطة والعليا في الدخول بأعداد كبيرة إلى قمة توزيع الدخل العالمي. وسوف ينتج عن زيادة دخول الآسيويين الآخرين، القادمين من بلدان مثل الهند وإندونيسيا، تأثيراً مماثلاً.

وفي مرحلة ما من العقود المقبلة، قد تصبح حصص السكان الصينيين والأميركيين بين أثرياء العالم متساوية تقريباً، أي أن يكون عدد الأثرياء في الصين بالمقاييس العالمية مساوٍ لعدد الأثرياء في الولايات المتحدة. مثل هذا التطور يُشكل أهمية كبرى لأنه يعكس تحولاً أوسع للقوى الاقتصادية والتكنولوجية بل وحتى الثقافية في العالم. 

العالم أكثر مساواة مما كان عليه قبل ما يزيد عن قرنٍ مضى

ويتطلب تحديد متى قد يحدث هذا على وجه الدقة حسابات معقدة إلى حد ما تستند إلى العديد من الافتراضات، بما في ذلك معدلات النمو المستقبلي في كلا الاقتصادين، والتغيرات في توزيع الدخل الداخلي، والاتجاهات الديموغرافية، والتوسع الحضري الجاري في الصين. بيد أن العامل الأكثر أهمية في تحديد متى سيتساوى عدد الصينيين الأثرياء عالميًا مع عدد الأميركيين الأثرياء عالميًا هو الفرق في معدلات نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين الصين والولايات المتحدة الأكثر توسعًا بشكل أسرع. وكان هذا الفرق (المعروف باسم «فجوة النمو») ست نقاط مئوية في الثمانينات وسبع نقاط مئوية في التسعينات ولكنه ارتفع إلى تسع نقاط مئوية في الفترة الممتدة بين انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001 والأزمة المالية العالمية في العام 2008. وانخفض الفارق منذ ذلك الحين إلى نحو أربع نقاط مئوية ونصف. وقد تتقلص هذه الفجوة إلى ما يتراوح بين نقطتين وأربع نقاط مئوية، حيث من المرجح أن يتباطأ النمو الصيني في الأعوام المقبلة. وعلى نحو مماثل، قد لا تختلف معدلات النمو السكاني في البلدين كثيراً حتى ولو كانت الولايات المتحدة تتباهي حالياً بمعدل أعلى قليلاً من نظيره في الصين.

مع وضع كل ذلك في الاعتبار، فمن الممكن تقدير متى يتطابق العدد المطلق للصينيين الذين يحققون دخلاً مساوياً أو أعلى من متوسط الدخل في الولايات المتحدة مع العدد المطلق لأمثالهم من الأميركيين. (وهذا الأخير يمثل، بحكم التعريف، نصف سكان الولايات المتحدة). وفي الوقت الحاضر، لا يفي بهذا الشرط سوى أقل من أربعين مليون صيني (في مقابل نحو 165 مليون أميركي). ولكن مع وجود فجوة نمو تبلغ حوالي 3% سنويا، فإن المجموعتين ستكونان متساويتين في الحجم في غضون عشرين عاماً؛ وإذا كانت فجوة النمو أصغر (ولنقل، 2% فقط سنويا)، فسوف يتحقق التكافؤ بعد عقد من الزمن. 

إن جيلا أو جيلا ونصف من الآن أقل من الوقت الذي انقضى منذ انفتاح الصين في الثمانينات حتى الوقت الحاضر. لقد اقتربت الصين على نحو يثير العجب من أمرٍ ما كان لأحدٍ أن يتوقعه حين توفي ماو في العام 1976: ألا وهو أن الدولة الفقيرة آنذاك سوف تحظى بعد سبعين عاماً بعدد من المواطنين الأثرياء لا يقل عن عدد الأثرياء في أميركا. 

القاطرة الأفريقية

ونتيجة لهذا التحول الدراماتيكي، لن تساهم الصين بعد الآن في تقليص فجوة اللامساواة العالمية. غير أن البلدان الأفريقية قد تعمل على تقليصها مستقبلاً. تحتاج الدول الأفريقية إلى نموٍّ أسرع من بقية دول العالم، ولا سيما الدول الغنية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والصين، لتحقيق ذلك الهدف. إنها تؤدي دوراً محورياً هنا ليس لأنها فقيرة فحسب، بل لأنه من المتوقع، بالنظر إلى انخفاض معدلات المواليد إلى ما دون مستويات الإحلال في جميع أنحاء العالم، أن ينمو عدد سكان أفريقيا في هذا القرن وربما حتى في القرن التالي.

ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تتمكن أفريقيا من تكرار النجاح الاقتصادي الأخير الذي حققته آسيا. ولا يوفر سجل أفريقيا بعد العام 1950 إلا القليل من الأسباب للتفاؤل. ولنأخذ كهدف افتراضي الحفاظ على معدل نمو بنسبة 5% للفرد على مدى خمس سنوات على الأقل، وهو هدف طموح بيد أنه ليس بعيد المنال: فلم تنجح في تحقيقه سوى ستة بلدان أفريقية في السنوات السبعين الماضية. وشملت حالات النمو الاستثنائية هذه جميع البلدان الصغيرة للغاية(سكانياً) باستثناء حالة واحدة، وتلك التي اعتمد نموها على سلعةٍ تصديريةٍ (النفط في حالة غابون وغِينيا الاستوائية، والكاكاو في حالة كوت ديفوار). وقد تمكنت بوتسوانا والرأس الأخضر من تحقيق ذلك أيضاً، ولكنهما دولتان صغيرتان للغاية. وكانت إثيوبيا الدولة الوحيدة من حيث عدد السكان (أكثر من 100 مليون نسمة) التي حافظت على معدل نمو مرتفع، وهو ما فعلته لمدة 13 عاما متتالية، من العام 2005 إلى العام 2017. وقد انتهى هذا الاتجاه منذ ذلك الحين بسبب اندلاع حرب أهلية جديدة في العام 2020 وتجدُّد النزاع مع إريتريا.

وتشير هذه الممارسة البسيطة إلى أن البلدان الأفريقية الأكثر اكتظاظاً بالسكان ـ نيجيريا، وأثيوبيا، ومصر، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتنزانيا، وجنوب أفريقيا ـ سوف تضطر إلى مخالفة الاتجاهات التاريخية لتلعب الدور الذي لعبته الصين في العقود الأخيرة في الحد من اللامساواة العالمية. وبطبيعة الحال، يعتقد العديد من المراقبين أنه من غير المرجح أن تشهد آسيا نمواً اقتصادياً هائلاً. على سبيل المثال، توقع الخبير الاقتصادي السويدي جونار ميردال، الحائز على جائزة نوبل، في كتابه الصادر في عام 1968، «الدراما الآسيوية: تحقيق في فقر الأمم»، أن آسيا سوف تظل فقيرة في المستقبل المنظور، نظراً للاكتظاظ السكاني الواضح والتقدم التكنولوجي المحدود الذي أحرزته. ولكن بعد عقدٍ من نشر كتاب ميردال، بدأت المنطقة تسجل معدلات نمو مرتفعة بشكل استثنائي وأصبحت رائدة في بعض مجالات التكنولوجيا. 

سوف يظل الأغنياء في أي بلدٍ غربي أغنياء على المستوى العالمي، بيد أن الفقراء في ذلك البلد سوف يهبطون إلى أدنى النظام العالمي

ومن غير المرجح أن تكون المعونة محركاً هاماً للنمو. وتُظهِر العقود الستة الماضية من المساعدات الغربية لأفريقيا بصورةٍ لا لبس فيها أن مثل هذا الدعم لا يضمن التنمية في البلاد. إذ أن المساعدات غير كافية وغير ذات صلة. وهي غير كافية لأن البلدان الغنية لا تخصص على الإطلاق قسماً معتبراً من ناتجها المحلي الإجمالي للمعونة الخارجية ؛ إن الولايات المتحدة، أغنى دولة في العالم، تقدم حاليا 0.18% فحسب من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات، ويندرج جزء كبير من ذلك على أنه «متعلق بالأمن» ويستخدم لشراء المعدات العسكرية الأميركية. ولكن حتى لو كان إجمالي المعونة أكبر، فإنها لن تكون ذات أهمية. ويشير سجل البلدان الأفريقية المتلقية للمعونة إلى أن هذا الدعم يعجز عن تحقيق نموٍ اقتصادي مُجدٍ. وغالبا ما يساء تخصيص المساعدات بل وتُسرق. وآثارها أشبه بتلك الآثار التي تخلفها «لعنة الموارد»، حيث لا يزال أداء الدولة التي تنعم بسلعةٍ قيِّمةٍ هزيلاً: فهي تجني مكاسب أولية هائلة من دون أي استمرارية حقيقية أو رفاه مستدام ومشترك على نطاق واسع. 

وإذا ظلت أفريقيا على تلك الحال من الضعف، فسوف يستمر هذا الركود في الدفع بالعديد من الناس إلى الهجرة. ففي نهاية المطاف، فإن المكاسب الناجمة عن الهجرة هائلة: إذ أن الشخص الذي يتمتع بدخل متوسط في تونس وينتقل إلى فرنسا ويبدأ في تحقيقِ دخلٍ هناك وليكن عند شريحة الدخل المئوية العشرين في فرنسا، مازال بوسعه أن يضاعف دخله بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبا، بالإضافة إلى خلق فرص حياة أفضل لأبنائه. ومن الممكن أن يكسب الأفارقة جنوب الصحراء الكبرى المزيد من خلال الانتقال إلى أوروبا: فالشخص الذي يجني دخلاً متوسطاً في أوغندا وينتقل إلى النرويج ليحقق دخلاً عند شريحة الدخل المئوية العشرين في النرويج، سوف يضاعف دخله 18 ضعفاً. إن عجز الاقتصادات الأفريقية عن اللحاق بنظيراتها الأكثر ثراء (وبالتالي الفشل في الحد من اللامساواة العالمية فى الدخول مستقبلا) من شأنه أن يحفز المزيد من الهجرة، وقد (في عدم المساواة في الدخل العالمي) سوف يحفز المزيد من الهجرة وقد يعزز كراهية الأجانب، والأحزاب السياسية المعادية للمهاجرين في البلدان الغنية، ولا سيما في أوروبا. 

إن الوفرة التي تتمتع بها أفريقيا من الموارد الطبيعية إلى جانب فقرها الدائم وحكوماتها الضعيفة من شأنها أن تدفع القوى العالمية المهيمنة إلى التنافس على القارة. وعلى الرغم من أن الغرب قد أهمل إفريقيا بعد نهاية الحرب الباردة، إلا أن الاستثمارات الصينية الأخيرة في القارة نبهت الولايات المتحدة وغيرها إلى أهميتها. وقد تملقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الصين بشكلٍ غير مباشر، ليس فقط من خلال تحويل اهتمامها نحو أفريقيا، وإنما عبر اتخاذ قرار بالتركيز على المزيد من مشاريع البنية التحتية التقليدية التي تفضلها الصين. لقد بدأت البلدان الأفريقية تتعلم أن تنافس القوى العظمى ليس بالضرورة أمراً بالغ السوء بالنسبة لها، وذلك لأنها تستطيع أن تلعب إلى جانب إحدى القوى العظمى ضد الأخرى. ولكن هناك سيناريو أكثر قتامة، حيث تنقسم القارة إلى حلفاء وأعداء، يتنافسون بدورهم أو حتى يخوضون الحرب فيما بينهم. ومن شأن هذه الفوضى أن تجعل فكرة السوق الأفريقية المشتركة القادرة على تكرار نجاح المجموعة الاقتصادية الأوروبية بعيدة المنال. إن احتمالات حدوث طفرة في النمو الأفريقي قادرة على لجم اللامساواة العالمية في الأعوام المقبلة ضئيلة للغاية.

العالم الآتي

وأياً كان الاتجاه الذي ستتخذه فجوة اللامساواة العالمية، ينتظرنا قدراً كبيراً من التغيير. وما لم يتباطأ النمو الصيني بصورةٍ كبيرةٍ، فإن حصة المواطنين الصينيين بين الفئات العليا لتوزيع الدخل العالمي سوف تستمر في الارتفاع، وفي المقابل، سوف تنخفض حصة الغربيين المنتمين لتلك الشريحة. وسوف يشكل هذا التحول تغيُّراً ملحوظاً مقارنةً بالوضع القائم منذ الثورة الصناعية، الذي شهد تمثيل الغربيين بأغلبيةٍ ساحقةٍ عند قمةِ هرم الدخل العالمي، وحتى الفقراء الغربيين احتلوا مرتبة عالية على المستوى العالمي. إن الهبوط التدريجي في وضع الدخول العالمية للطبقتين الدنيا والمتوسطة في الغرب يخلق مصدراً جديداً للاستقطاب المحلي: فسوف يظل الأغنياء في أي بلدٍ غربيّ أغنياء على المستوى العالمي، بيد أن الفقراء في ذلك البلد سوف يهبطون إلى أدنى النظام العالمي. أما عن الاتجاه التراجعي في فجوة اللامساواة العالمية، فهو يتطلب نمواً اقتصادياً قوياً في البلدان الأفريقية المكتظة بالسكان، ولكن هذا يظلّ غير مرجح. إن الهجرة من أفريقيا، وتنافس القوى العظمى على موارد القارة، واستمرار الفقر والحكومات الضعيفة، ربما يستمر في مستقبل أفريقيا كما كان في ماضيها.

بيد أن إيجاد عالم أكثر مساواة يظلّ هدفاً مفيداً. والواقع أنه لا يوجد سوى قِلّة من المفكرين أدركوا أهمية المساواة بين الدول مقارنةً بالفيلسوفِ الاسكتلندي آدم سميث مؤسس الاقتصاد السياسي في القرن الثامن عشر. إذ لاحظ في كتابه العظيم «ثروة الأمم» كيف أدّت الفجوة في الثروة والقوة بين الغرب وسائر العالم إلى الاستعمار والحروب الظالمة، كتب يقول: «لقد تفوق الأوروبيين في القوة بصورةٍ هائلةٍ، حتى أنهم تمكنوا من اقتراف شتّى أنواع المظالم في تلك البلدان النائية والإفلات من العقاب». لقد غذت التفاوتات الهائلة أعمال العنف والوحشية، بيد أن سميث ظل يرى سبباً للأمل. ويتوقع سميث: «في المستقبل، ربما يزداد سكان تلك البلدان قوة، أو ربما يزداد سكان أوروبا ضعفاً». «وقد يحقق سكان العالم في أنحائه المختلفة تلك المساواة في الشجاعة والقوة التي تستطيع وحدها التغلب على جَوْرِ الأمم المستقلة وتحويلهِ إلى نوعٍ من الاحترامِ لحقوقِ بعضها البعض، عن طريقِ بثّ الخوف المتبادل».

نشر هذا المقال في Foreign Affairs في 14 حزيران/يونيو 2023.