معاينة poverty

قياس الفقر العالمي

تعتمد الأمم المتحدة على تقديرات البنك الدولي لنسبة السكان في العالم الذين يعيشون تحت ما يُعرف بخط الفقر العالمي (IPL) لتتبّع التقدم نحو هدف القضاء على الفقر المدقع بحلول العام 2030. 

في العام 1990، أجرت مجموعة من الباحثين المستقلين والبنك الدولي دراسة لخطوط الفقر الوطنية في بعض أفقر بلدان العالم، وحوّلت تلك الخطوط إلى عملة مُشتركة من خلال استخدام أسعار صرف تبعاً لتعادل القدرة الشرائية (PPP). ووضِعت أسعار صرف تبعاً لتعادل القوة الشرائية لضمان تسعير الكمية نفسها من السلع والخدمات بشكل متساوٍ في جميع البلدان. في جميع هذه الإحصائيات، لم يأخذ الباحثون في الحسبان الدخل النقدي للأفراد فحسب، بل دخلهم غير النقدي وإنتاجهم المنزلي أيضاً.

احتسب خط الفقر العالمي بنحو 1.90 دولار يومياً بناءً على متوسط خطوط الفقر الوطنية لـ 15 دولة فقيرة في التسعينيات، مع الأخذ في الاعتبار تعادل القدرة الشرائية للعام 2011. اختيرت هذه الدول الـ 15 الفقيرة بناءً على البيانات المحدودة المتاحة في ذلك الوقت. توسّعت مجموعة الدول المرجعية مع جمع وتحليل بيانات جديدة من بلدان أخرى منخفضة الدخل. يُستمد الآن خط الفقر العالمي كمتوسط خطوط الفقر الوطنية لـ 28 من أفقر بلدان العالم، معبراً عنه بتعادل القوة الشرائية لعام 2017.

في أيلول/سبتمبر 2022، تم تعديل خط الفقر العالمي من 1.90 دولار إلى 2.15 دولار في اليوم. يعكس هذا التغيير تحولاً في الوحدات التي يستخدمها البنك الدولي للتعبير عن بيانات الفقر وعدم المساواة، من الدولارات الدولية المحدّدة وفقاً لأسعار العام 2011، إلى الدولارات الدولية المحددة وفقاً لأسعار العام 2017. ويعني هذا أن أي شخص يعيش  بأقل من 2.15 دولار في اليوم يُعتبر في حالة «فقر مدقع». يعاني نحو 700 مليون شخص في العالم من هذه الحالة.

تعريف الأمم المتحدة للفقر المدقع هو العيش بأقل من 2.15 دولار في اليوم

بحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2019، وهي السنة الأخيرة التي تتاح بيانات لها، فإن 8.4% من سكان العالم  يعيشون في فقر مدقع أو 700 مليون شخص.

لكن لا يقدّم هذا الرقم العالمي قياساً دقيقاً للفقر. هناك فقراء في كل بلد، أشخاص يعيشون في مساكن سيئة ويكافحون لتوفير السلع والخدمات الأساسية مثل التدفئة والنقل والطعام الصحي لهم ولعائلاتهم. لذلك، يختلف تعريف الفقر من بلد لآخر، ولكن في البلدان المرتفعة الدخل يصل خط الفقر إلى نحو 30 دولاراً في اليوم. حتى في أغنى دول العالم، يعيش جزء كبير من الناس تحت هذا الخطّ. وإذا طبقنا خط الفقر البالغ 30 دولاراً في اليوم على توزيع الدخل العالمي، يظهر أن 85% من سكان العالم يعيشون على أقل من 30 دولاراً في اليوم، أي 6.7 مليار شخص.

أصدر المؤرخ ميخائيل موتسوس مجموعة بيانات عالمية جديدة تعود إلى قرنين من الزمن. وفقاً لأبحاثه، عاش ثلاثة أرباع العالم في فقر مدقع في العام 1820. وهذا يعني أنهم «لم يتمكّنوا من تحمل تكاليف مساحة صغيرة للعيش، أو توفير حد أدنى من التدفئة، أو طعام يقيهم من سوء التغذية». انخفضت نسبة الفقر بشكل حادّ منذ ذلك الحين. ولكن لم يتراجع عدد سكان العالم الذين يعيشون في «فقر مدقع»، كما عرّفه البنك الدولي، أسرع من العقود الثلاثة الماضية.

نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع

وكان انخفاض وتيرة الفقر في الصين سريعاً بشكل خاص.

نسبة السكان الصينيين الذين يعيشون في فقر مدقع

هل أوشك إذاً الفقر العالمي على الإنتهاء؟ يتوقف الأمر على مدى القبول بخط الفقر الذي حدّده البنك الدولي. يمكن القول إن خط الفقر العالمي محلّ شك كبير. على عكس الكثير من الخطوط الوطنية، لا يعتمد خط الفقر العالمي على أي تقييم مباشر لكلفة الاحتياجات الأساسية. إنه خط مطلق ثابت في القيمة. باستخدام هذا المقياس، يوحي بأن «الفقر المدقع» كان هو القاعدة لمعظم البشرية على مرّ التاريخ، حتى القرن التاسع عشر، عندما جاء الاستعمار والرأسمالية أخيراً لإنقاذ الوضع.

شكك روبرت ألين في هذا الاستنتاج. وأوضح أن بيانات الناتج المحلي الإجمالي التي يستخدمها البنك الدولي تؤدي إلى تشوّهات كبيرة عند استخدامها لتقييم الفقر. استخدم ألين بدلاً من ذلك بيانات الاستهلاك ليُنشئ خط فقر يعتمد على «الاحتياجات الأساسية»، ويعادل تقريباً خط الفقر العالمي بمعدّل 1.90 دولار، ثم احتسب نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت هذا الخط في ثلاث مناطق رئيسة: الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والهند. أظهرت النتائج أن معدّلات الفقر المدقع المرتفعة في آسيا هي في الواقع ظاهرة حديثة. وكتب ألين أنها «تطور الحقبة الاستعمارية». وتابع: «قد يكون هناك الكثير من العوامل المساهمة، لكن لا بد أن الإمبريالية والعولمة أدّتا أدواراً رئيسة». تشير نتائج ألين إلى أن الفقر المدقع في آسيا في القرن العشرين كان أسوأ بكثير من الفقر في ظل الإقطاع في القرن الثالث عشر. في الواقع، وجد ألين أن معدّل 1.90 دولار في اليوم هو أقل من مستوى استهلاك الأشخاص المستعبدين في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. بمعنى أن عتبة الفقر التي يستخدمها البنك الدولي، وتشكل أساس سردية «التقدّم»، هي أدنى من مستوى حياة الأشخاص المستعبدين.

يُعتبر خطّ الفقر العالمي الذي حدّده البنك الدولي عند 2.15 دولار في اليوم منخفضاً بشكل يبعث على السخرية. إذ أن 5 دولارات في اليوم هي الحد الأدنى الذي تقدّره وزارة الزراعة الأميركية لتوفير الغذاء الكافي. ولا يشمل هذا التقدير المتطلبات الأخرى للبقاء على قيد الحياة، مثل المأوى والملبس. في الهند، لا يزال الأطفال الذين يعيشون على 2.15 دولار في اليوم معرّضون بنسبة 60% للإصابة بسوء التغذية. أمّا في النيجر، فيبلغ معدل وفيات الرضع الذين يعيشون على 2.15 دولار ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي. وأقل من 1% من سكان أفريقيا لديهم دخل أعلى من متوسط الدخل في الدول الغربية.

أفريقيا مقابل الدول الأكثر نمواً - 2018

استخدم بيتر إدوارد من جامعة نيوكاسل، في ورقة بحثية في العام 2006، مقياساً يحسب أن الناس بحاجة إلى حوالي 2.7 إلى 3.9 ضعف خطّ الفقر العالمي الحالي المعتمد من قبل البنك الدولي من أجل تحقيق متوسط العمر الطبيعي المتوقع الذي يزيد قليلاً عن 70 عاماً. ويعادل هذا في الماضي 5 دولارات في اليوم. وباستخدام الحسابات الجديدة للبنك الدولي، يرتفع هذا الرقم إلى حوالي 7.40 دولار في اليوم. ووفقاً لهذا التقدير، يعيش اليوم حوالي 4.2 مليار شخص في الفقر، بزيادة قدرها مليار شخص في خلال السنوات الـ 35 الماضية.

يعتبر النمو الاقتصادي الكبير الذي أخرج 800 مليون شخص في الصين من الفقر المدقع منذ العام 1990 مساهماً أساسياً في الانخفاض العالمي للفقر. وجد بيتر إدوارد أن عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم بلغ 1,139 مليار شخص في العام 1993 وانخفض إلى 1,093 مليار في العام 2001، أي بنحو 85 مليون شخص. ولكن انخفاض الفقر في الصين في خلال هذه الفترة كان بنحو 108 ملايين شخص (من دون أي تغيير في الهند)، ما يعني أن كلّ الانخفاض في أعداد الفقر، وليس بالنسبة المئوية، كان بفضل الصين. وإذا استثنينا الصين، فإن إجمالي عدد الفقراء لم يتغيّر في معظم المناطق، بينما ارتفع بشكل كبير في أفريقيا جنوب الصحراء.

ثمة مقياس آخر للفقر، وهو مؤشر الفقر المتعدد الأبعاد، الذي يشمل 101 بلداً نامياً. يشير هذا المقياس إلى معدّل فقر يبلغ 23% وليس 8%. بين عامي 1990 و 2015، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون تحت هذا الخطّ في أفريقيا جنوب الصحراء والشرق الأوسط بنحو 140 مليوناً. وبالتالي، لم يرتفع مستوى معيشة أفقر سكان العالم، الذين يعيشون بأقل من نصف خط الفقر الذي حدّده البنك الدولي، إلا بشكل طفيف خلال السنوات الثلاثين الماضية. لا يزال العالم بعيداً جداً من القضاء على الفقر.

في الواقع، دعونا ننظر إلى طريقة أخرى لقياس الفقر العالمي. قبل قرنين من الزمن، عاشت الغالبية العظمى من الناس في السويد في فقر مدقع. مات طفل من كلّ أربعة، وعاش نحو 90% من السكان في فقر مدقع، لدرجة أنهم لم يتمكنوا من تحمل تكاليف مساحة صغيرة للعيش، أو توفير حد أدنى من التدفئة، أو الحصول على غذاء يقيهم من سوء التغذية. تَحدد اليوم خط الفقر في السويد عند حوالي 30 دولاراً في اليوم (وفقًا لمبدأ تعادل القوة الشرائية). أتاح النمو الاقتصادي القوي خلال القرن الماضي إمكانية عيش الغالبية العظمى من السويديين فوق هذا الخط.

يبدو هذا مقياساً جيداً لجميع شعوب العالم. إذا اعتمدنا على عتبة 30 دولار في اليوم كتعريف لـ «الفقر» العالمي وأخذنا في الاعتبار مستويات الأسعار المختلفة عبر البلدان، تُظهر أحدث الإحصاءات أن 85% من سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر هذا، أي 6.7 مليار شخص.

توزيع الدخل العالمي بالدولار الدولي

عوضاً عن الإشارة إلى خروج مليار شخص من الفقر وانخفاض الفقر العالمي من 35% إلى 9% بين عامي 1990 و2018 وفقاً لخط الفقر المدقع للبنك العالمي، يتبيّن أن 40% من سكان العالم لا يزالون يعيشون في فقر عند مستوى 5 دولارات في اليوم؛ و62% يعيشون بأقل من 10 دولارات في اليوم، وتصل النسبة إلى 85% عند معدل 30 دولار في اليوم. يعيش عدد كبير من السكان في فقر في جميع الدول. وحتى في أغنى دول العالم، يعيش عدد لا يستهان به من الناس تحت خط الفقر. لم تتمكن أي دولة، حتى الأغنى منها، من القضاء على الفقر. لا يوجد دول «متقدمة».

نسبة سكان العالم الذين يعيشون في الفقر

يحتاج الاقتصاد العالمي إلى أن يزيد خمسة أضعاف بالحد الأدنى لكي يتراجع الفقر العالمي المقاس بـ 30 دولار في اليوم بشكل ملحوظ. وفي هذا السيناريو، سوف تختفي الفجوة بين جميع دول العالم تماماً. لذلك، ينبغي اعتبار ذلك كحساب للنمو الأدنى الضروري للقضاء على الفقر.

pie chart

يمكن أن يؤدي ارتفاع معدلات النمو في البلدان الفقيرة إلى تقارب مستويات المعيشة على الصعيد العالمي. يرى البنك الدولي أن العائق الأساسي أمام القضاء على «الفقر المدقع» هو عدم انتقال الموارد من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة. وهذا يعني أنه يمكن إنهاء الفقر (كما تم تعريفه) إذا قررت الحكومات ذلك. وأوضح البنك الدولي فكرته كالآتي: «افترض أن النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي في العالم النامي ككل هو 5% سنوياً. إذا حصل 10% من هذا النمو على 21% من سكان العالم النامي الذين يعيشون في فقر مدقع، وتوزعت هذه الـ 10% بطريقة تجعل نمو دخل كل شخص فقير يتوافق تماماً مع المسافة التي تفصله عن خط فقر البنك الدولي، فإن الفقر المدقع سوف ينتهي». 

لكن لا تكاد توجد أي علامات على أن الاقتصادات النيوكولونيالية الخاضعة لليوم لهيمنة الإمبريالية يمكن أن تغلق فجوة الدخل مع الكتلة الإمبريالية. وفي الوقت الراهن، تزيد المساعدة الإنمائية الدولية قليلاً عن 100 مليار دولار في السنة. وهذا بالكاد يساوي خمسة أضعاف المكافأة التي دفعها موظّفو غولدمن ساكس لأنفسهم في خلال عام واحد شهد أزمة، وأقل بخمسة أضعاف تدفقات الدخل السنوي من البلدان الفقيرة إلى الأغنياء. ووفقاً للأونكتاد (UNCTAD)، بلغ متوسط التحويلات الصافية للموارد من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة 700 مليار دولار سنوياً، حتى بعد احتساب المساعدة الخارجية. ما يعني أن تحويل الموارد لا يحصل من البلدان الغنية إلى البلدان الأفقر. 

خلُص المقرّر الخاص للأمم المتحدة فيليب ألسون في تقريره بشأن الفقر العالمي، إلى التنبيه من أن «استخدام معدلات النمو التاريخية واستبعاد أي آثار سلبية للتغير المناخي، وهو سيناريو مستحيل بالأساس، سوف يستغرق 100 عام للقضاء على الفقر وفقاً لخطّ البنك الدولي، و200 عام وفقاً لخط الفقر المحدّد بنحو 5 دولارات في اليوم (أجندة 2230!). وهذا سوف يتطلّب أيضاً زيادة تتراوح بين 15 إلى 173 ضعفاً في الناتج المحلي الإجمالي العالمي على التوالي». في الخلاصة، سوف يبقى هناك فقراء طالما هناك رأسمالية.

نُشِر هذا المقال على مدوّنة مايكل روبرتس في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.