Preview الوظائف الهراء

صعود وظائف الهُراء

  • الوظائف الهراء ليست عديمة الفائدة وحسب، إذ تنطوي كذلك على شيءٍ من الادعاء أو الغش. يجب أن يُرغم الموظّف نفسه على التظاهر بأنّ وظيفته نابعة من ضرورة، حتى لو كان يدرك في سرّه سخافة هذا الادعاء.
  • يُقرّ شاغلو الوظائف الهراء هؤلاء بالبؤس الذي يُصيبنا حين يكون التحدّي الوحيد الذي نواجهه في عملنا هو تقبّل غياب أي تحدّيات، وحين يكون سبيلنا الوحيد لممارسة صلاحياتنا ابتداع طرق لإخفاء عجزنا عن ممارسة هذه الصلاحيات، وحين نعترف بأنّنا تحوّلنا رغماً عنّا إلى متطفلين أو مخادعين.

نسخ رسائل البريد الإلكتروني ولصقها، أو اختراع مهام للآخرين، أو حتى التظاهر بالانشغال. لمَ يشعر كثيرون أن عملهم عديم الفائدة؟

في يوم من الأيام، انهارت رفوف الحائط في مكتبي، فتناثرت الكتب على الأرض وظلّ الإطار المعدني المخلوع بزواياه الحادّة متدلياً فوق طاولة المكتب. أنا أستاذ جامعي متخصّص في الأنثروبولوجيا. وصل النجّار بعد ساعة من الحادثة ليتفقّد الأضرار وأبلغني بنبرةٍ جازمة أنّ قواعد السلامة تمنعه من دخول الغرفة أو القيام بأي عمل آخر طالما أنّ الكتب مُتناثرة على الأرض. فطلب إليّ جمع الكتب وتكديسها من دون أن ألمس أي شيء آخر، ثم يعود إليّ لاحقاً في أقرب فرصة سانحة.

لم أرَ وجه النجّار ثانيةً. وكان يتصل بي أحدهم كلّ يوم من قسم الأنثروبولوجيا، مرّات عدّة أحياناً، ليسألني عمّا حلّ بالنجّار الذي بدا في كلّ مرّة أنّه مشغول بأمرٍ ملحّ للغاية. وبعد انقضاء أسبوع، اكتشفتُ أنّ قسم الصيانة يوظّف رجلاً جلّ عمله أن يعتذر عن غياب النجّار، وقد تعامل معي بلباقة، ولكنّي أستبعد أن يكون راضياً عن حياته المهنية.

هذا النوع من الوظائف ليس غريباً عن أحد، ويبدو للوهلة الأولى أنّ لا طائل منها: استشاريو الموارد البشرية، أو منسِّقو الاتصالات، أو باحثو العلاقات العامّة، أو المخطّطون الماليون، أو محامو الشركات أو غيرهم من الأشخاص الذين يمضون وقتهم في ملء لجان تناقش مشكلات لجان أخرى لا ضرورة لها. ماذا لو كانت هذه الوظائف فعلاً بلا فائدة، وأنّ من يشغلونها يدركون ذلك؟ هل هناك ما هو محبط أكثر من الاستيقاظ باكراً خمسة أيام في الأسبوع لتأدية وظيفة نعتقد أنّ لا طائل منها، أو أنّها ببساطة إهدار للوقت أو الموارد، أو حتى تضرّ بمن حولنا؟ كثيرة هي استطلاعات الرأي التي تهدف إلى معرفة ما إذا كان الناس راضين عن عملهم، ولكن ماذا عن تلك التي تسعى إلى الاستدلال عمّا إذا كانوا يشعرون بأنّ وظائفهم لها دواعٍ مقنعة؟ قرّرت تقصّي هذه الظاهرة من خلال دراسة شهادات أكثر من 250 شخصاً حول العالم يشعرون أنّهم شغلوا وظيفة هراء في السابق أو يشغلون واحدةً الآن.

ماذا نقصد بالوظائف الهراء؟

هي وظيفة بلا مغزى إلى درجة أنّ الشخص الذي يؤدّيها يحاول عبثاً إقناع نفسه بأنّ ما يفعله له مبرّر أو فائدة. وقد لا يعترف هذا الشخص لزملائه بذلك، نظراً لوجود أسباب وجيهة تمنعه، ولو كان هو نفسه مقتنعاً بأنّ لا طائل من عمله. الوظائف الهراء ليست عديمة الفائدة وحسب، إذ تنطوي كذلك على شيءٍ من الادعاء أو الغش. يجب أن يُرغم الموظّف نفسه على التظاهر بأنّ وظيفته نابعة من ضرورة، حتى لو كان يدرك في سرّه سخافة هذا الادعاء.

عندما نتحدّث عن وظائف هراء فنحن عموماً نقصد بها تلك التي يشغلها أحدهم لصالح شخص آخر ويتقاضى مقابلها أجراً أو راتباً، ومعظم هذه الوظائف يشمل خدمات استشارية مدفوعة. وهنالك من يعملون لحسابهم الخاص ويتقاضون المال متظاهرين بأنهم يقدّمون للغير منفعة أو خدمة ما، وعادةً ما نسمّي هؤلاء نصّابين أو محتالين أو دجّالين أو غشّاشين. ويُقابلهم أشخاص يعملون أيضاً لحسابهم الخاص ويكسبون المال من خلال أذية الغير أو تهديده بالأذى، وهنا نتكلم عن قطّاع الطرق أو السارقين أو اللصوص أو المبتزّين. بالنسبة للفئة الأولى، فإنّ فيها هراء بالتأكيد، ولكن لا يمكننا الحديث هنا عن وظائف هراء، فهي ليست «وظائف» إذا صحّ التعبير، فالاحتيال فعل وليس مهنة. وعندما نتحدّث عن لصوص محترفين، فهذا لا يعني إلّا أنّ السرقة هي مصدر الدخل الأساسي للّص. 

كثيرة هي استطلاعات الرأي التي تهدف إلى معرفة ما إذا كان الناس راضين عن عملهم، ولكن ماذا عن تلك التي تسعى إلى الاستدلال عمّا إذا كانوا يشعرون بأنّ وظائفهم لها دواعٍ مقنعة؟

تساعدنا هذه الاعتبارات في التوصّل، من وجهة نظري، إلى تعريف نهائي للوظيفة الهراء: أشكال العمل المدفوع الأجر التي لا طائل من ورائها أو غير ضروريّة لحسن سير العمل أو حتى سلبية التأثير، إلى درجة أن الموظّف الذي يقوم بها لا يستطيع تفسير أو تبرير وجوده، وإن كان مرغماً على التظاهر بعكس ذلك بحكم ظروف العمل.

الوظائف الهراء بأنواعها الخمس

«المساعدون»

تُناط بهذا النوع من الوظائف مهام بسيطة لتبرير وجودها، ولكن هذا ليس إلّا ذريعة، حيث أنّ الدافع الوحيد أو الأساسي لتوظيف «مساعدين» هو جعل شخص آخر يشعر بالأهمّية أو يظهر بهذا المظهر. الخادم بالنموذج الذي نعرفه هو شخص مثل ستيف. قال لي ستيف إنّه تخرّج حديثاً، وفي «وظيفته» الجديدة لا يؤدّي سوى مهمّة واحدة ألا وهي تلقّي رسائل أعاد مديره توجيهها إليه مع جملة تقول: «ستيف، راجع الرسالة أدناه». بعدئذٍ يردّ ستيف على مديره بأنّ الرسالة الإلكترونية غير هامّة أو عشوائية.

البواب خير مثال على هذا النوع من العمل. البوابون يقومون بالوظيفة نفسها التي تؤدّيها الهواتف الداخلية الإلكترونية (الإنترفون) لأي شخص آخر منذ الخمسينيات في الأقل، إنّما في منازل الأثرياء جدّاً. وفي بعض البلدان، كالبرازيل، ما زال عدد من المباني يوظّف مُشغّلي مصاعد رسميين جلّ ما يفعلونه ضغط زرّ المصعد بدل ركّابه. ومن الأمثلة الأخرى موظّفو الاستقبال والمكاتب الأمامية الذين يعملون في أماكن من الواضح أنّها لا تحتاجهم. مثال آخر، إنّما بطابع من الأهمّية، هو موظّف الاتصالات التسويقية الذي يتواصل مع العملاء المحتملين على اعتبار أنّ السمسار الذين عيّنه مشغول بجني المال إلى درجة أنّه يحتاج مساعدين لإجراء المكالمات الهاتفية نيابةً عنه.

«البلطجية»

هؤلاء يَشغلون وظائف ذات طابع عنيف أو عدواني، وعلّة وجودهم الوحيدة أنّ الآخرين يُعيّنون أمثالهم لهذه الأدوار. ولعلّ المثال الأبرز هنا هو القوات المسلّحة الوطنية. فالدول تحتاج الجيوش لا لسبب سوى أنّ غيرها من الدول لديه جيشه، وإلّا فما الداعي لإنشاء الجيوش؟ ولكنّ هذا الأمر ينطبق كذلك على معظم العاملين في جماعات الضغط واختصاصيي العلاقات العامّة والمسوِّقين عبر الهاتف ومحامي الشركات.

لا يشكو البلطجية انعدام القيمة الإيجابية من وظيفتهم وحسب، بل يعتبرون أنّ عملهم في الأساس يقوم على التلاعب أو العدائية. وفي صفوف هؤلاء عدد كبير من عمّال مراكز الاتصال. وجاء في إحدى الشهادات التي وصلتني: «ما أقوم به تطفّل متعمّد على الآخرين»، وتابع قائلاً: «كنتُ أتصل بالناس لأقنعهم بشراء ترّهات، وأقصد هنا تمكينهم من الاطلاع على «تصنيفهم الائتماني» الذي يمكن أن يحصلوا عليه مجّاناً من مكان آخر. ولكن ما نقدّمه يأتي مع خدمات إضافية عديمة النفع مقابل 6.99 جنيه استرليني في الشهر».

«المرقّعون»

السبب الوحيد لتعيين أشخاص في هذه الوظائف هو وجود خلل أو ثغرة في المؤسّسة، فهم يعملون على حل مشكلة يجب ألّا تكون موجودة أصلاً. وأبرز مثال على ذلك «المرقّعون»، ومهمّة هؤلاء معالجة الضرر الذي يتسبّب به مدراؤهم المستهترون أو غير الأكفاء.

تنشأ وظائف «الترقيع» في معظمها نتيجة وجود خلل ما في النظام لم يكترث أحد لإصلاحه، وتُناط بها مثلاً مهام تسهِّل أتمتتها، ولكن ذلك لم يحدث إمّا لأنّ أحداً لم يتصدَّ لهذه المهمّة أو أنّ المدير يريد الحفاظ على أكبر عدد من ممكن من المرؤوسين أو بسبب التباس هيكلي.

كان عمل ماجدة يتطلّب منها تدقيق تقارير بحثية يعدّها ألمع باحثو الشركة في مجال الإحصاء. «الرجل يجهل أبسط الأمور في علم الإحصاء، ويتعذّر عليه كتابة جملة صحيحة لغوياً. كنتُ أكافئ نفسي بكعكة كلّ مرّة عثرتُ فيها على فقرة واضحة ومفهومة. فقدتُ حوالى خمسة كيلوغرامات ونصف من وزني في أثناء عملي لدى الشركة. حاولتُ مراراً إقناعه بإعادة صياغة تقاريره، ولكن بلا جدوى، فما كان منّي إلّا رفع التقارير إلى مديري الشركة، وهم أيضاً غير ملمّين بالإحصاءات. ولكن بما أنهم المديرون، كانوا يماطلون ويزيدون الطين بلّة».

«مسؤولو الشكليّات»

مهمّتهم الوحيدة أو الأساسية تمكين الشركة من القول إنها تقوم بشيء هي في الواقع لا تقوم به. وليس الجانب الأتعس إدراك هؤلاء أنّ عملهم لا يُساعد إطلاقاً في تحقيق غرضه المزعوم وحسب، بل إنّه يقوّض الجهود الرامية إلى ذلك بتحوير الوقت والموارد عن الغرض نفسه.

إن التعريف النهائي للوظيفة الهراء هو: أشكال العمل المدفوع الأجر التي لا طائل من ورائها أو غير ضروريّة لحسن سير العمل أو حتى سلبية التأثير، إلى درجة أن الموظّف الذي يقوم بها لا يستطيع تفسير أو تبرير وجوده، وإن كان مرغماً على التظاهر بعكس ذلك بحكم ظروف العمل

هذا النوع من الوظائف ليس غريباً على أحد، فكلّنا شهدنا مثالاً عنه في العمل الحكومي. إذا ضُبط أحد الموظّفين الحكوميين وهو يرتكب فعلاً شنيعاً، كأن يتلقّى رشوى أو يُطلق النار على مواطن تجاوز الإشارات المرورية، تكون ردّة الفعل الأولى تشكيل «لجنة تقصي حقائق» لكشف ملابسات الحادثة. لهذا الإجراء غايتان، الأولى الإصرار على أنّ أحداً لم يكن على دراية بما يحدث، ما خلا بعض المشكّكين، وهذا بالطبع لا يصحّ إلّا نادراً؛ وثانياً التلميح إلى أنّه سيتم اتخاذ التدابير المناسبة بمجرّد الإحاطة بكلّ الوقائع. وهذا أيضاً غير صحيح عادةً.

يوصف عمل السلطات المحلية بأنّه لا يعدو كونه سلسلة لامتناهية من شكليات روتينية تتمحور حول «مستهدفات» شهرية. وكثيرة هي الطرق التي توظّف الشركات الخاصة من خلالها أشخاصاً لتقتنع بأنّها تفعل شيئاً هي في الواقع لا تفعله. فعلى سبيل المثال، تُصدر عدة شركات كبرى مجلّات أو حتى تبث قنوات تلفزيونية داخلية غايتها المفترضة إبقاء الموظّفين على اطلاع بآخر الأخبار والمستجدات المهمّة. غير أنّ وجود هذه المجلّات أو القنوات لا مبرّر له سوى إشباع رغبة كبار التنفيذيين في الظهور ولفت الانتباه من خلال قصص إيجابية تروّج لهم في الإعلام. 

«المشرفون»

ينقسم هؤلاء إلى فئتين، الأولى تضم موظّفين يوزّعون العمل على الآخرين. وهذه الوظيفة تندرج في خانة الهراء إذا كان المشرف يعتقد أنّ لا حاجة لتدخله وأنّه إذا غاب، يستطيع مرؤوسوه تأدية المهام وحدهم بكفاءة.

يُمكن اعتبار الفئة الأولى من المشرفين بلا فائدة، غير أن الثانية تتسبّب بضرر حقيقي، فمهمّتها الأساسية خلق مهام بلا قيمة للآخرين أو الإشراف عليها أو حتى استحداث وظائف بلا قيمة جديدة كلّياً.

قد يمضي المشرف 75% من وقته على الأقل في توزيع المهام ومراقبة ما إذا كان مرؤوسوه يؤدّونها حتى لو لم يساوره أدنى شك بأنّ المرؤوس سوف يتصرف خلاف ذلك في غيابه.

«بيانات الرسالة الاستراتيجية» (أو الأسوأ «وثائق الرؤية الاستراتيجية») تدبّ الرعب في نفوس الأكاديميين. فهذه الأدوات تسمح لأساليب الإدارة المؤسسية بأن تتسلّل إلى الوسط الأكاديمي، وهنا نقصد وضع منهجيّات كمّية لتقويم الأداء، وإجبار المعلّمين والباحثين على تمضية وقت أطول في تقويم عملهم وتبريره ووقت أقل في تأدية هذا العمل. 

لا بدّ لي أن أضيف هنا أنّ هناك فئة واحدة من الأشخاص لا تكتفي بإنكار أنّ ما تقوم به عديم الفائدة بل تُبدي كذلك عدائية إزاء فكرة أنّ اقتصادنا بات يعجّ بوظائف هراء. وكما توقعتم، فأنا أقصد أصحاب الشركات وغيرهم من المسؤولين عن توظيف العمّال وتسريحهم. هم يُصرّون على أنّ أحداً لن يصرف أموال الشركة على موظّفٍ لا حاجة له. كلّ من هم مقتنعون بأنّ وظائفهم بلا قيمة مخدوعون أو معتدّون بأنفسهم أو ببساطة لا يفهمون المعنى الحقيقي لوظيفتهم، وهذا ما لا يدركه إلّا من هم في أعلى الهرم. أمام هذه الإجابة، ألا يبدو أنّ هذه الفئة من الناس وحدها الغافلة عن وظيفتها الهراء؟

هل وظيفتكم بلا قيمة؟

يُقرّ شاغلو الوظائف الهراء هؤلاء بالبؤس الذي يُصيبنا حين يكون التحدّي الوحيد الذي نواجهه في عملنا هو تقبّل غياب أي تحدّيات، وحين يكون سبيلنا الوحيد لممارسة صلاحياتنا ابتداع طرق لإخفاء عجزنا عن ممارسة هذه الصلاحيات، وحين نعترف بأنّنا تحوّلنا رغماً عنّا إلى متطفلين أو مخادعين. فيما يلي شهادات محجوبة:

حارس لغرفة خاوية

«عملتُ حارساً لصالح شركة خدمات أمنية عالمية في متحفٍ تُركت إحدى غرف عرضه شاغرة. كانت مهمّتي أن أحرس تلك الغرفة الخالية ومنع زوّار المتحف من لمس «اللا شيء». ولكي أحافظ على تركيزي وانتباهي، مُنعت عنّي كلّ أشكال اليقظة الذهنية كالكتب والهواتف وما إلى ذلك. وبما أنّ أحداً لم يقرب الغرفة، كنتُ أجلس فيها وأطقطق بأصابعي لسبع ساعات ونصف الساعة يومياً، منتظراً أنّ يدق إنذار الحريق. ولو حصل ذلك، وجب عليّ الوقوف والخروج من الغرفة بهدوء، لا أكثر ولا أقل». 

يُقرّ شاغلو الوظائف الهراء هؤلاء بالبؤس الذي يُصيبنا حين يكون التحدّي الوحيد الذي نواجهه في عملنا هو تقبّل غياب أي تحدّيات، وحين يكون سبيلنا الوحيد لممارسة صلاحياتنا ابتداع طرق لإخفاء عجزنا عن ممارسة هذه الصلاحيات، وحين نعترف بأنّنا تحوّلنا رغماً عنّا إلى متطفلين أو مخادعين

نسخ ولصق

«كُلّفت بمهمّة واحدة لا غير: مراقبة صندوق بريدي تصله رسائل إلكترونية باستمارة محدّدة يملؤها الموظّفون طلباً للمساعدة الفنية، وكانت مهمّتي أن أنسخها وألصقها في استمارة أخرى. لم يكن ذلك مثالاً نموذجياً عن وظيفة قابلة للأتمتة وحسب، بل إنّها كانت مَهمّة آلية سابقاً. غير أنّ خلافاً بين المديرين نتج عنه توحيد للمعايير  أبطل الأتمتة».

تظاهر بأنّك مشغول

«عُيّنت في وظيفة مؤقّتة من دون أن توكل إليّ أي مسؤوليات. قيل لي إنّه من المهم أن أبقى مشغولاً، ولكن ممنوع عليّ أن أتسلّى بألعاب أو أن أتصفّح الإنترنت. وظيفتي الأساسية كانت أن أشغل كرسياً وأسهم في آداب المكتب. بدا ذلك سهلاً في البداية، ولكن سرعان ما أدركت أن التظاهر بالانشغال من أصعب الأنشطة المكتبية الممكن تخيّلها. وبعد مرور يومين أدركتُ أنّ هذا سيكون أسوأ عمل لي على الإطلاق. حمّلت برنامج «لينكس» وهو متصفّح نصّي بالكامل يشبه نافذة نظام تشغيل القرص. ليست فيه أي صور، إنّما نصوص بخط أحادي الحيز على خلفية سوداء بلا نهاية. كنتُ أتصفّح الإنترنت شريد الذهن فبدوتُ كأني فنّي ماهر، والمتصفّح بمثابة بوابة أطبع فيها الأوامر باجتهاد للدلالة على إنتاجيتي الغزيرة».

الجلوس في المكان المناسب

«أعمل في مهجع طلاب جامعي في فصل الصيف منذ ثلاث سنوات، وما زالت مهامي الفعلية غير واضحة حتى الآن. في الأساس، يبدو أنّ عملي يتطلّب مني الجلوس خلف مكتب الاستقبال. وفي أثناء ورديتي أنا حرّ «لأعمل على مشاريعي الخاصة»، فأصنع كرات مطاطية من رباطات مطاطية أجمعها من الخزائن. وعندما لا أكون مشغولاً في ذلك، قد أتفقد حساب البريد الإلكتروني الخاص بالمكتب (لستُ مدرّباً ولا أملك أي صلاحية إدارية بالطبع، وكلّ ما أستطيع فعله هو إعادة توجيه هذه الرسائل إلى مديري)، أو أنقل الطرود من أمام الباب حيثُ يتم إلقاؤها إلى غرفة الطرود، أو أردّ على المكالمات (أكرّر أنّ ليس لي علم بشيء ونادراً ما أتمكّن من الإجابة على سؤال فأرضي المتصل)، أو أعثر على أغلفة كاتشاب يعود تاريخها إلى العام 2005 في أدراج المكتب. أتقاضى 14 دولاراً أميركياً لقاء هذه المهام».

نُشِر هذا المقال على مدوِّنة ديڤيد غرايبر في العام 2020.