معاينة رَيْفَرة العالم

أحلام الإمبراطورية في خطط ترامب لغزّة
رَيْفَرة العالم

أعيش على الكورنيش في بيروت، وهي منطقة توازي امتداد الجامعة الأميركية. تشير كلمة كورنيش، المستمدّة من الفرنسية بمعنى «الحافة»، إلى طريق موازية لمنحدر شديد، عادة ما يكون موازياً للساحل أو لواجهة جبلية تشكّل سلسلة من المناظر الخلّابة. ويقترن الكورنيش عادة بالريفييرا الفرنسية، حيث تربط ثلاثة طرق شهيرة - الكورنيش الكبير (La Grande Corniche)، والكورنيش المتوسط (La Moyenne Corniche)، والكورنيش المنخفض (La Basse Corniche) - مدينة نيس بموناكو ومنتون. وفي الكثير من مناطق البحر الأبيض المتوسّط، الكورنيش هو أي طريق ساحلي يحتضن المنحدرات أو التلال: «كورنيش النيل» في القاهرة هو طريق يمتدّ على طول نهر النيل، وكورنيش بيروت في لبنان هو ممشى يمتدّ على طول الواجهة البحرية. لكن خلف هذا المشهد المتلألئ للبحر الأبيض المتوسط، تكمن صورة أشدّ قتامة: تدهور بيئي وانحلال أخلاقي وفساد سياسي. ووراء هذه الطبيعة الخلّابة يبدو ثمة ترابط بين الثروة والاحتيال، والجمال والموت، مع المعالم المعمارية والأخلاقية الضبابية.

لطالما أسَرَت الريفييرا الخيال الأميركي. إنها ملاذ خيالي حيث يلتقي سحر العالم القديم باللذة الحديثة: إنها فندق الأجانب في رواية فيتزغيرالد «رقيق هو الليل»، أو حياة المغتربين في أوروبا في رواية همنغواي «عيد متنقّل»، أو ربّما مدينتا كان ونيس، الممرّات الإجبارية، في فيلم هيتشكوك «للقبض على لص». في هذه التشبيهات وغيرها من المجازات الأميركية التي لا حصر لها، تُصوّر الريفييرا كعالم من الإفراط وإعادة الاكتشاف والغموض الأخلاقي في آنٍ معاً. ولذلك، حين تحدّث الرئيس دونالد ترامب عن تحويل قطاع غزّة - الذي اعتبر لفترة طويلة «سجناً في الهواء الطلق»، وحالياً بات مُصنّفاً بمنطقة منكوبة - إلى أجمل «ريفييرا في الشرق الأوسط»، كان ينهل من مخزون عميق من الأساطير. إنه خيال لا يكتفي بتكرار الخطيئة الأصلية لتأسيس الولايات المتحدة، التي بنيت على قبور الأميركيين الأصليين وحوّلت أرضهم لاحقاً إلى كازينوهات، بل تعكس أيضاً الحقائق الوقحة والصفيقة للرأسمالية المُفرطة.

اقتراح ترامب هو نموذج عن ارتكابات الإمبراطوريات على مرّ التاريخ، واستغلال الإقطاعيين للفقراء، والتخلّص منهم بطردهم من أراضيهم لإعادة تطويرها عقارياً

في نهاية المطاف، تعتبر خطط ترامب لغزّة درساً مُتقناً بكيفية بيع مكان منكوب كما لو أنه جنّة. ومع ذلك، هناك سبيلان لتحقيق هذا الهدف القبيح: إمّا بارتكاب جريمة حرب، إذ يقترح ترامب طرد 2.1 مليون شخص من غزة إلى مصر والأردن، وهو التعريف الفعلي للتطهير العرقي، أو من خلال التكفّل بإعادة بناء ما دمّرته القنابل الأميركية ليتمكّن سكان غزة من إعادة بناء حيواتهم الممزّقة بعدما عانوا من البؤس وعايشوا النكبة. وبالطبع ليس السيناريو الأخير هو ما في جعبة ترامب أو نتنياهو، لأنه يطيح برؤيتهم لبناء مشروع عقاري قبيح على جثث شعب وأنقاض حيوات قابلة للتضحية.

واللافت في إعلان ترامب هو تسليطه الضوء على مأزقنا الحالي. بوسعك أن ترى الماضي يتكشّف في الحاضر، والعكس صحيح: اقتراح ترامب هو نموذج عن ارتكابات الإمبراطوريات على مرّ التاريخ، وكذلك عن استغلال الإقطاعيين للفقراء، وكيفية التخلّص منهم بطردهم من أراضيهم لإعادة تطويرها عقارياً. إنه نموذج عن الإبادة والاستيطان.

لا يبعد فندق الريفييرا عن شقّتي كثيراً. وهو فندق أسطوري يقع في شارع باريس على كورنيش بيروت. بُني في العام 1956 في خلال عصر لبنان الذهبي، عندما كانت البلاد تُعرف بـ «سويسرا الشرق». وعلى خطى سويسرا، أصبح لبنان مركزاً للسرّية المصرفية والسياحة والحياد السياسي، إلى أن اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975 بسبب مسألة الحياد في مواجهة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت «سويسرا الشرق» أرضاً يباباً وخراب. نعم يبابٌ وخراب بكل ما تحمّله الكلمة من معنى. يباب يتبدّى في أكوام النفايات المتراكمة في الطرقات وهي النتاج الجانبي لنظام حكم متداعٍ وسامّ ومعطّل. يباب تظهره الفرص الضائعة لبناء دولة ديمقراطية وتقدّمية وشاملة وتعدّدية. يباب يتجلّى بشعب يتبدّد بالفقر وبانهيارات اقتصادية ومصرفية ومالية غير مسبوقة تدعمها طبقة حاكمة جشعة وفاسدة. يباب تركه انفجار مرفأ بيروت الذي يعبّر عن ذروة الإفلات من العقاب والتردّي الأخلاقي. يباب ينتج عن إراقة الدماء والتدمير الذي لا أفق له، فقد تسبّبت الحرب الأخيرة مع إسرائيل بخسائر وأضرار لا تقل عن 8.5 مليار دولار وفقاً للبنك الدولي، وخلّفت جيلاً جديداً من اللبنانيين المصدومين والمشرّدين. وتطول القائمة. وتصبح «الريفييرا» رمزاً لأجيال ضائعة وتطلّعات متلاشية، ومكاناً تجتمع فيه الغطرسة والجشع التجاري فيجسّدان مأساة وطن.

تتراجع الولايات المتّحدة نحو انعزالية يقودها القوميون، وفي الوقت نفسه توسّع مشاريعها في أراضٍ أجنبية ومواقع إستراتيجية. والحقيقة أننا إزاء تراجع حقبة «السلام الأميركي»

لقد أذهل ترامب العالم برؤيته لريفييرا غزّة «المطهّرة» من سكّانها. وهو لا يكتفي بإظهار لامبالاة مُطلقة بالعدالة والتاريخ والكرامة الإنسانية، بل يشير إلى ما هو أكثر أهمّية بكثير، والذي قد يكون مُقلقاً للغاية أو مُطمئناً وفق موقف المرء من الجغرافيا السياسية: تتراجع الولايات المتّحدة نحو انعزالية يقودها القوميون حاملو مشروع «أميركا أولاً»، وفي الوقت نفسه توسّع مشاريعها في أراضٍ أجنبية وفي مواقع إستراتيجية. والحقيقة أننا إزاء تراجع حقبة «السلام الأميركي»، التي كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها حقبة الانتشار العالمي للديمقراطية والاستقرار والسلام.

في مقالة نُشرت مؤخراً في صحيفة «نيويورك تايمز»، ينوح بريت ستيفنز على هذا التراجع ويعتبره خسارة لصورة أميركا الليبرالية العادلة والخيّرة، أميركا التي صوّرت نفسها كقوّة تعمل من أجل الخير. ويحذّر ستيفنز من أن سياسة «أميركا أولاً» التي يقودها ترامب تضعف صدقية الولايات المتّحدة، نظراً لاعتمادها على القوة بدلاً من التحالفات والثقة والقيادة الأخلاقية. والحقيقة أنّ الولايات المتّحدة لم تكن يوماً إلّا دولة معتدية، تتدخّل في شؤون الدول، وترعب أعداءها وحلفائها على حدّ سواء، وتوسّع نفوذها خدمة لمصالحها الخاصّة. لقد كانت سعيدة باستحضار خطاب حقوق الإنسان حين كان الأمر مناسباً، غير أن دافعها الحقيقي لطالما كان الهيمنة الإستراتيجية والاقتصادية. كتب عالم الاجتماع الأميركي، جورج ريتزر، مرّة عن «مكدنلة المجتمع» (من ماكدونالد)، وهي العملية التي أصبح من خلالها منطق الاستهلاك شكلاً للسيطرة الاجتماعية. والآن يبدو أن «رَيْفَرة العالم» سوف تحلّ محل «المكدنلة».
 

ربّما يتنبّه الإنجيليون في الإدارة الجديدة إلى ما يقوله الكتاب المقدّس عن مشاريع مماثلة: «ويلٌ لمن يبنى مدينة بالدماء، ويؤسّس قرية بالظلم».

نُشِر هذا المقال في Boston Review في 8 شباط/فبراير 2025، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الكاتبة.