Preview seminar afa

النفط والصراعات وعدالة توزيع الثروة في البلدان العربية

نظّم «منتدى البدائل العربي للدراسات»، بالتعاون مع موقع «صفر»، ندوة تتناول مسألة النفط وتوزيع الثروة في البلدان العربية في ظل الحروب والصراعات والتفاوتات المكانية والتنموية التي تطبع هذه البلدان، ولا سيما النفطية منها، ومعاناة بعضها من آثار التنمية غير العادلة وغير المتوازنة التي تعيد إنتاج الصراعات. وتحدّث في هذه الندوة جنان الجابري الباحثة في السياسات الاجتماعية، والسنوسي بسيكري مدير المركز الليبي للدراسات ورسم السياسات، ومحمد العتيبي مستشار في التنمية المستدامة. 

تتشارك غالبية البلدان العربية في كون اقتصاداتها ريعية وتتسم بمعدلات مرتفعة من التفاوتات الطبقية والمكانية، وفي الثروة والدخل والإنفاق والاستهلاك. تبرز تصوّرات مختلفة عن طبيعة التفاوتات في هذه المنطقة، يعتبرها البعض طبيعية، فيما يرى البعض الآخر نتاج سياسات اقتصادية نيوليبرالية غير عادلة تعمل باتجاه تراكم المزيد من المظالم، وأن الخروج منها يتطلّب تقاسم الثروات لا عدالة توزيعها وتصحيحها. وقد عالجت هذه الندوة التساؤلات المرتبطة بعدالة توزيع الثروات والخدمات العامة في البلدان العربية النفطية، وخطورة التفاوتات الملحوظة، التي تدفع إلى التفتّت والتقسيم في بعض الحالات.

النيوليبرالية قوّضت الدولة العراقية وحوّلت البلاد إلى سوق عاجزة 

جنان الجابري

باحثة عراقية في السياسات الاجتماعية ورئيسة منظّمة المرأة الكردية والشرق أوسطية

سوف أتكلّم عن العراق، والإجابة عن السؤال التالي: هل يوجد عدالة في التوزيع في العراق، خصوصاً وأن الثروات النفطية في البلاد هائلة، ولا تنقصه الطاقة الشبابية والقوى العاملة؟ 

من المعروف أن العراق بلد نفطي. يشكّل النفط 99% من صادراته، وتعتمد موازنة الحكومة على إيرادات النفط بنسبة 85%، كما يساهم بنحو 42% من الناتج المحلّي الإجمالي. من الواضح، إذاً، أن الاعتماد كبير على النفط، خصوصاً في ظل الشكوى الدائمة من عدم وجود قطاعات اقتصادية ناشطة، كالصناعة والزراعة الضعيفة مقارنة بالقطاع النفطي. تكمن خطورة الاعتماد على النفط من أن أسعاره لا ترتبط بإدارة الحكومة العراقية وإنّما بتقلبّات السوق العالمية. وبالتالي أي تغيّر في أسعار النفط سوف يكون له تأثيرات مباشرة على حياة الناس. وهذا ما شهدناه فعلاً في مرّات عديدة، إذ تأثّرت رواتب الموظّفين والمتقاعدين، وحصل تأخير في تسديدها بسبب انخفاض أسعار النفط وبالتالي إيرادات البلاد بالعملات الأجنبية. لا شكّ أن هذه المخاطر موجودة في كلّ البلدان النفطية، ولكن تأثّر العراق بها هو أكثر خطورة لأسباب سوف أشرحها لاحقاً. 

تحوّل العراق إلى سوق، وهي سوق عاجزة عن منافسة المنتجات المستوردة بأسعار أرخص من المنتج المحلّي، إذ يتجه المستهلك إلى السلع التي يعتبر أنه يستطيع تحمّل أسعارها

بالإضافة إلى الاعتماد المُفرط على النفط، يتبنّى العراق سياسات نيوليبرالية منذ عهد صدّام حسين، ولو أن هذه السياسات برزت بوضوح أكثر بعد العام 2003، وأحدثت تحوّلات عبر مجموعة من القرارات التي اتخذتها إدارة بريمر وأدّت إلى بيع القطاع الحكومي ومؤسّساته بشكل تدرّجي، ودمج العراق في السوق العالمية. وقد ترتب عن ذلك تقليص دور الدولة في تقديم الخدمات بحجة توسيع دور القطاع الخاص. ولكن سيطرة القطاع النفطي أبقى دور القطاع الخاص محدوداً للغاية.  يأتى ذلك في حين أن القطاع النفطي، على أهمّيته، لا يستحوذ سوى على 1% من القوى العاملة في العراق. ولنا أن نتخيّل تأثيرات ذلك على البطالة في ظل ضعف القطاعين الصناعي والزراعي اللذين أضعِفاً تدريجاً لمصلحة فتح المجال لاستيراد السلع والبضائع من الخارج. تحوّل العراق إلى سوق، وهي سوق عاجزة عن منافسة المنتجات المستوردة بأسعار أرخص من المنتج المحلّي، إذ يتجه المستهلك إلى السلع التي يعتبر أنه يستطيع تحمّل أسعارها. إن تبنّي العراق للسياسات النيوليبرالية، أسوة بغيره من بلدان المنطقة، وضعه تحت ضغط المنظّمات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وأخضعه لشروط هذه المنظمات لقاء الحصول على قروض منها. ومن أبرز هذه الشروط تقليص القوى العاملة في القطاع العام. كان لذلك نتائج وخيمة خصوصاً أن العراق اعتمد على التشغيل العام لعقود كثيرة سبقت قبل العام 2003، بسبب الدور المركزي الذي أدّته الدولة في الاقتصاد، وحتّم عليها زيادة التوظيف العام. تغيّر ذلك كلياً قرابة العام 2003. كان للسياسات النيوليبرالية آثار أخرى. فقد العراق قدرته على المنافسة مع البضائع الأجنبية، وزاد اعتماده على النفط، وتقلّص دور الدولة في خلق فرص العمل والتشغيل في القطاع الحكومي، ما ساهم بتحويل تقديم الخدمات العامّة إلى القطاع الخاص. بالنتيجة، فتح المجال واسعاً أمام القطاع الخاص في مجال التعليم والصحّة.

يضاف إلى الاعتماد المفرط على النفط وتبنّي السياسات النيوليبرالية، مسألة المحاصصة الطائفية. بعد العام 2003، تبنّى العراق نظام المحاصصة الطائفية كنظام سياسي اقتصادي جديد، يقوم على توزيع السلطات وفق أسس طائفية. وهو ما لم يشهده العراق يوماً قبل العام 2003. ومن المعروف أن هذا النظام غير دستوري بل عرفٌ متوافق عليه، شَبَه النظام اللبناني. بموجب هذه الأعراف، أصبحت رئاسة الوزراء مُخصّصة للطائفة الشيعية، ورئاسة البرلمان للطائفة السنية، ورئاسة الجمهورية للأكراد. ولا يتوقّف الأمر هنا. بل برزت محاصصة ضمن مقاعد البرلمان نفسه، إذ باتت الأحزاب الشيعية تحصل على غالبية المقاعد، تليها الأحزاب السنية ومن ثم الكردية. ومن ثمّ يجري توزيع الوزارات على هذه الأحزاب الطائفية، بحيث تكون الحصّة الأكبر دائماً للأحزاب الشيعية. تكمن خطورة هذه المحاصصة بانتهاء ميزانية الدولة الموزّعة على الوزارات في أيدي الأحزاب الطائفية. ولنا أن نتخيّل كيف تنفق هذه الموارد في بلد يفتقد إلى الشفافية ويقبع في أسفل درك مؤشّرات الفساد في العالم. لقد أصبحت المحسوبية والزبائنية ثقافة سائدة وبات الفساد ممأسس. إن كيفية التصرّف بهذه الأموال من خلال الوزارات حرم المواطنين من الحصول على الكثير من الخدمات، ولا سيما في مجال الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، إذ بات الحصول عليها خاضعاً لمنطق الزبائنية الذي تستخدمه الأحزاب لتعزيز نفوذها وتقوية قاعدتها الاجتماعية. 

لم يكن ذلك دونه آثار على الوضع الاقتصادي. أجرت منظّمات عالمية الكثير من الاستفتاءات والمسوحات عن درجة رضا الناس عن أحوالهم المعيشية، وتبيّن في غالبيتها أن النسبة الأكبر من الناس غير راضية عن حياتها وأن الفقر في ارتفاع مضطرد. يضاف إلى ذلك أن نسبة التشغيل لا تشمل أكثر من ثلث السكان في سن العمل. ومن النتائج الفاقعة التي تبيِّن عمق التفاوتات هو استحواذ أغنى 10% على 32% من الدخل فيما يحصل 40% الأفقر على 16% منهم. 

لا تقتصر الأمور على هذه المؤشّرات فحسب. أدّى ارتفاع أسعار النفط إلى تضخّم أسعار العقارات في العراق. ولم تعد كلفة السكن مُتناسبة مع القدرة الشرائية للمواطنين. والواقع أن السكن يستهلك حالياً نحو ثلثي دخل الأسر. يعاني القطاع السكني من أزمة كبيرة ما يدفع الناس إلى بناء العشوائيات التي تدمّر الحكومة جزءاً منها بين الفنية والأخرى بدلاً من حل أزمة غلاء السكن.

ينطوي عدم الرضا الاجتماعي على آثار سياسية، ويعبّر عن ذلك بانخفاض تدريجي في الميل نحو المشاركة في الانتخابات والتصويت

أما بالنسبة إلى الاستفادة من الحماية الاجتماعية، فحدّث ولا حرج. 10% فقط ممن هم تحت خط الفقر يستفيدون من مخطّطات الحماية الاجتماعية فيما تحرم النسبة الباقية منها بسبب إنفاق الأموال على من هم ليسوا تحت خطّ الفقر. وإلى ذلك، لا يتمتع الشباب غير القادرين على إيجاد فرص عمل بأي ضمانات اجتماعية مثل تعويض البطالة، وهو ما ينسحب أيضاً على العاملين في القطاع الخاص غير الرسمي الذين يحرمون من ضمانات اجتماعية كثيرة مثل معاشات التقاعد وإجازات المرض وإصابات العمل. 

تزداد حدّة المظالم عند النظر إليها بعدسة جندرية. يحتل العراق المرتبة 145 من بين 191 دولة في مؤشر اللامساواة بين الجنسين. ويحلّ في المرتبة الأدنى في المنطقة بعد الأردن لناحية مشاركة النساء في سوق العمل والتي تبلغ نسبة 10%، عدا أن الأجور التي تحصل عليها النساء هي أقل بنحو 18% من أجور الرجال في الوظائف نفسها. يأتي ذلك، فيما 10% من الأسر تعيلها نساء، علماً أن 80% منهن أرامل ومحرومات من أي رعاية اجتماعية. 

لقد تدهورت الحياة في العراق بشكل درامي، وحالياً يعتقد 24% من الناس أن الحكومة قادرة على معالجة الأوضاع الاقتصادية وتحسينها. 

ينطوي عدم الرضا الاجتماعي على آثار سياسية، ويعبّر عن ذلك بانخفاض تدريجي في الميل نحو المشاركة في الانتخابات والتصويت. ويعود ذلك إلى ضعف الثقة بالبرلمان وبقدرته على التعبير عن إرادة الناس أو أن يحدث تغييراً. وتبيّن الإحصاءات أن 13% من المواطنين يثقون بالبرلمان و38% يثقون بالسلطة القضائية و25% يثقون بالخدمات المدنية.

أيضاً تعبّر المستويات العالية لعدم رضا الناس عن لا عدالة توزيع الخدمات في العراق. تقول الإحصائيات المتوافرة أن 26% من العراقيين عبّروا عن رضاهم عن الخدمات الصحية في مقابل 74% كانوا غير راضين. والواقع أن المستشفيات تفتقد إلى القدرة على تقديم الخدمات نظراً للتراجع الكبير في معدّل الأسرّة المتوافرة والأطباء الموجودين لتقديم الخدمات الطبّية. أما في القطاع التعليمي فقد عبّر 17% فقط عن رضاهم من التعليم. بالنتيجة، أدّى ضعف خدمات قطاعي الصحّة والتعليم إلى لجوء الناس إلى القطاع الخاص. أما الرعاية الصحّية للمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة فهي متروكة أيضاً على عاتق الأسر. 

وبالوصول إلى الكهرباء، من المعروف أن أزمة انقطاع الكهرباء في أحد أكثر البلدان حرارة، كانت من العوامل التي أدّت إلى اندلاع احتجاجات مليونية في العراق في عامي 2015 و2018. والأمر نفسه ينسحب على أزمة المياه التي أجّجت انتفاضة مدينة البصرة في العام 2018، قبل أن تتوسّع إلى محافظات أخرى. 

بسبب اللاعدالة في توزيع الخدمات على الرغم من الموارد الكثيرة المتوافرة، بات الناس في صراع مع الدولة نفسها. يوجد في العراق صراع أفقي وآخر عمودي. الأخير هو بين سلطة تضع يدها على ثروات البلد وتوزّعها على مؤيديها من جهة وبين مئات آلاف الشباب العاطلين عن العمل من جهة ثانية، ما أسفر عن سلسلة من الاحتجاجات المليونية آخرها في العام 2019. ولا يزال العراق مشغولاً بالاحتجاجات المحلّية، وآخرها احتجاجاً لخريجي كلية الطب العاجزين عن إيجاد فرص عمل لهم على الرغم من وجود حاجة إليهم.  في المقلب الآخر، لجأ الكثير من الشباب العاطلين عن العمل إلى الميليشيات، وهو ما يغذّي بدوره حالة من العنف والصراع داخل المجتمع. تستخدم الميليشيات والأحزاب التابعة لها الشباب لقمع الاحتجاجات. فيتحوّل جزء من الشباب العاطلين عن العمل إلى أداة لقمع فئة أخرى من الشباب العاطلين عن العمل أيضاً ويحتج للمطالبة بحقوقه وتحسين ظروفه. 

يضاف إلى تدهور الأحوال الاقتصادية تدهوراً مناخياً يضرب العراق، ويؤثر على الكثير من الأسر وسكان القرى الذي هاجروا بسبب انخفاض مستويات المياه وتراجع الزراعة ونزحوا إلى مناطق أخرى. إن ترك الأمور على حالها خلق نوعاً من المناطقية والصراعات الاجتماعية بين الأهالي المحلّيين في المناطق التي نزح إليها سكان القرى وبين هؤلاء الأخيرين، كما حصل في البصرة حيث ارتفعت شعارات تقول البصرة للبصريين. 

يترتّب عن هذه الأوضاع الاقتصادية المزرية، ارتفاع هجرة الشباب، ولا سيما نحو كردستان بحثاً عن فرص عمل وحياة أفضل. خلق كلّ ذلك ضعفاً في الشعور بالانتماء إلى الوطن أو بالغربة عنه، وهذا يفسّر الشعار المرفوع في انتفاضة تشرين «أردي وطن». ويضاف إلى كل ذلك، ارتفاع نسبة تناول المخدرات في العراق وكذلك الانتحار. 

أمام هذه الإشكاليات الماثلة، لا بدّ من توسيع نطاق سياسات الحماية الاجتماعية لتطال الناس الذين يحتاجون إلى فرص عمل، وسدّ احتياجاتهم وخصوصاً الشباب منهم. العراق أسوة ببلدان أخرى في المنطقة يربط الحصول على ضمان اجتماعي بالعمل. وهذا ما يجب معالجته. أيضاً لا بدّ من التصدّي لمسألة استغلال النساء. صحيح أن نسبة مشاركة النساء العراقيات في سوق العمل هي 10%، لكن مشاركتهن أكبر من ذلك بكثير، إذ يقمن بعمل رعائي غير مرئي وغير محسوب، قد تصل قيمته وفق بعض التقديرات إلى ربع الناتج القومي. 

ومن المسائل الأخرى التي يفترض التصدّي لها هو القضاء على نظام المحاصصة الطائفية، التي تحيلنا بدورها إلى بنية الاقتصاد السياسي، وهو ما يفترض بالتالي تخصيص المناصب السياسية وفقاً للكفاءة وليس الانتماء الحزبي. ولا ننسى المحاسبة والشفافية في إدارة الوزارات والمشاريع، وتفعيل قوانين تعقّب الفاسدين.

هذه بعض التوصيات التي يمكن البدء بها، ولمنظّمات المجتمع المدني دور كبير في الضغط وفرض التغيير من الأسفل إلى الأعلى.

البلدان لا تحكم بالمؤامرات الخارجية بل بالمصالح 

محمد العتيبي

مستشار سوداني في التنمية المُستدامة

هناك حاجة لإيجاد مخرج لحقيقة اللاعدالة، سواء الاجتماعية أو الاقتصادية، في البلدان العربية، بما فيها السودان، لما فيها ظلم كبير للمواطنين، وفي حالة السودان للمنتجين وخصوصاً في الأرياف المطرية والرعوية وكذلك للنساء. 

هذا موضوع معقّد جداً وتتداخل فيه جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة. كما يتداخل فيها الدين منذ سبعينيات القرن الماضي لتشكيل صورة تنطوي على الاستغلال البشع للقيم الدينية، سواء المسيحية أو الإسلامية أو اليهودية، لتوجيه الرأي العام واحتكار السلطة واستغلال الموارد لمصلحة قلّة قليلة من الانتهازيين. ونظراً لتعقيد المسألة، سوف أركّز على بعض النقاط، التي قد لا تكون حلولاً بقدر ما قد تشكّل إضاءات على هموم الناس والوسائل الفاعلة لانتزاعهم  حقوقهم.

البلدان ليست محكومة بالمؤامرات الخارجية للغرب وفي مقدّمه الولايات المتّحدة، بل تقوم على المصالح وتحكم بها

بداية، من هم أصحاب الحق ومن هم القائمين بالواجب من منظور التنمية المستدامة؟ لا بدّ من اتباع توجّه يركّز على القيم الإنسانية التي فطر عليها الإنسان منذ ولادته، والتي تتشوّه في كبره نتيجة الظلم والاحتكار والانقضاض علي القيم. أصحاب الحق هم المواطنون حيثما وجدوا، والقائمون بالواجب هم المهتمون بشؤون المجتمع وقضاياه، من ضمنهم الباحثين والناشطين، وقبلهم جميعاً الحكومة، وهي جهاز مفترض من واجباته تقديم الخدمات لأصحاب الحق أي المواطنين. وهذا ما نسعى إليه جميعاً في اتجاهنا لإقامة اقتصاد بديل عن الاقتصاد القائم الذي تسيطر عليه قلّة، وهو اقتصاد قائم على الظلم وتراكم الثروة وفق آليات وقوانين تخدمهم. وهذا ما ينطبق على النفط وإنتاجه وتوزيع منافعه وأثر ذلك على العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

البلدان ليست محكومة بالمؤامرات الخارجية للغرب وفي مقدّمه الولايات المتّحدة، بل تقوم على المصالح وتحكم بها. كل دولة تسعى إلى تحقيق مصالحها، والشعوب القوية بالمعرفة والعزّة تستطيع الحفاظ على مواردها وحدودها بما يمنع أي دولة من تخترقها. وهنا تقوم العلاقة بين الدول على المصالح المتبادلة. وهذه مسألة مهمّة جداً. ونحن نلمسها بالعودة إلى السودان الدولة النفطية التي حقّقت مداخيل نفطية عالية جداً تفوق المليارات بين عامي 1999 و2010. ولكنها لم تستخدم بطريقة رشيدة تحقّق مصالح أصحاب الحق، أي المواطنين السودانيين، بل وجّهت النسبة الأكبر منها، أي ما يصل إلى 80% أو أكثر إلى السلطة الحاكمة، أي المؤتمر الوطني ومؤيديه والجيش والسلطات الأمنية، فيما خصّصت النسبة المتبقية لتقديم خدمات الدولة.

من هنا، لا بدّ من تناول موضوع النفط وفق استخداماته لتحقيق المصلحة العامة، وفي إطار المصالح المتبادلة في العالم، خصوصاً أنه لا يزال مورداً أساسياً ومهماً لكثير من الدول على الرغم من محاولات استبداله. أما المسألة الثانية التي تبرز في حديثنا عن النفط وآثاره على العدالة هو الوعي الشعبي. الوعي هو الأساس، لأن مهما قدّمنا من دراسات ومعلومات فهي لن تكون نافعة في غياب الاحتكاك بالقواعد الشعبية وتمليكها الحقائق لأنها هي من تصنع التغيير. لقد تبدّل عالم اليوم، عمّا كان عليه في الثمانينيات. الآن يوجد اهتمام شعبي بالحقوق، ولا سيما بين الشباب، عكس ما كان عليه الوضع سابقاً، يومها لم يكن الناس يهتمون بالسياسة والاقتصاد، كانوا مسلّمين لواقع أن الحكومة هي من ستهتم بكل المسائل.

إن تمليك شعبنا بالمعرفة تصنع التغيير الحقيقي، وتسمح بتقويم مسائل العدالة الاقتصادية والاجتماعية في الدساتير والسياسات الاقتصادية الكلية، والتي هي بالأساس حقوق إنسانية مهضومة في الدساتير الحالية. صحيح يوجد دساتير راهنة ولكن يجري الالتفاف عليها بطرق عدّة بما فيها استغلال الدين وتحويل أي قضية اجتماعية واقتصادية وسياسية إلى صدام مع الدين والمعتقدات. وينطبق ذلك على شريحة واسعة من الناس، بما يمكّن الاستغلاليين من التحكّم بموارد البلاد وإمكاناته كما حصل في السودان سواء في قطاع النفط أو غيره من القطاعات. 

هذه السياسات الموجّهة مهمّة جداً، ولا يمكن للمتخصّصين أن يحدّدوها، من دون انخراط شعبي ومشاركة شعبية تعبّر عن احتياجات الناس وتصوراتهم للحلول للمشاكل التي يواجهونها

من يضع السياسات الاقتصادية الكلّية؟ السياسات هي التي تحدّد ماذا الذي نستورده، وما الذي نصدّره، والقطاعات التي نركّز عليها، وبماذا توظّف عائدات النفط والدعم والقروض الخارجية. هذه السياسات الموجّهة مهمّة جداً، ولا يمكن للمتخصّصين أن يحدّدوها، من دون انخراط شعبي ومشاركة شعبية تعبّر عن احتياجات الناس وتصوراتهم للحلول للمشاكل التي يواجهونها. وهذا يقودنا إلى مسألة العدالة القطاعية.

في الدول التي نعيش فيها، يسيطر القطاع الخاص، الذي يملك امتيازات تسمح له بالانطلاق والتطوّر، وتفتح له مجالات التمويل الداخلية والخارجية. علماً أنه في السابق، كان للقطاع العام هيبته ودوره قبل أن يتقلّص تدريجياً بسبب التحرير الاقتصادي. وهذا ما ينسحب أيضاً على القطاع التعاوني الذي أهمل بشكل كبير، وكذلك القطاعات الاجتماعية وقطاعات الاقتصاد البديل. ويخلق هذا الواقع لاعدالة في التعبير عن حرية الحياة وحق الحياة وحق الحرية، في أن يختار المواطنون الأنشطة التي يستطيعون الإنتاج فيها والعيش منها، بدلاً من فرض وسائل وسياسات لا تخدم مصالحهم.

إن الثورة النفطية في البلدان العربية، وكيفية إدارتها، والتوجيه التنموي الذي يفترض أن ينعكس على رفاهية الشعب والتنمية المستدامة وتحقيق كرامة المواطنين هو موضوع صعب ومتداخل، ولا سيما في الدول النفطية التي لا تولي اهتماماً بالقطاعات الاقتصادية الأخرى، وتشكو من الفساد والتغيرات المناخية وطمع الغرب فيها. علماً أن الغرب بالأساس يعيش من الفوائض والإمكانيات الموجودة في الدول الأخرى في أفريقيا وآسيا، ويسعى إلى بناء شركات مع الدول التي استعمرها في السابق، ليعيد استعمارها بصورة أخرى. وهذا ما يجعل تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية معقداً للغاية. 

القضية المهمّة هنا، هل باستطاعة الدول العربية أن تجاوز التحدّيات من خلال إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة أم سوف تجتر التجارب السابقة وتضع أمام مواطنيها أسباباً واهية لاستمرار تعظيم امتيازات الطبقة الحاكمة التي تشكّل قلّة قليلة من المجتمع؟ هذا هو التحدّي. يجب أن يكون هناك إصلاحات اقتصادية واجتماعية عميقة، لاستئصال المرض والتعافي منه. وهذا حصل بثورة فكرية وثورة شعبية تمتلك ما يكفي من قيم إنسانية. 

الإشكالية ليست في إنتاج النفط ومداخيله الكبيرة بل في العقلية التي تحكمنا وتسيّر الاقتصاد وتضع السياسات الاقتصادية الكلّية. محور هذه العقلية ليس الإنسان السوداني ولا حتى الشريحة الأوسع من القطاع الخاص، وإنما قلّة قليلة من المستفيدين من السياسات الاقتصادية. لا بدّ من التغيير ولو أنه سوف يأخذ وقتاً طويلاً.

مشكلة ليبيا تكمن بافتقارها إلى آفاق معالجة التفاوت في الدخل والثروة 

السنوسي بسيكري

مدير المركز الليبي للدراسات ورسم السياسات

يكاد يكون النفط مورد الدخل الوحيد في ليبيا. تصل نسبة مشاركة النفط في الإيرادات العامة إلى 98%، ويشكل النفط تقريباً 70% من الناتج المحلي الإجمالي الليبي ونحو 96% من الصادرات. 

كَون النفط المورد الرئيس للإنفاق العام هو إشكالية قائمة منذ إنتاج وتصدير النفط بكميات اقتصادية في العام 1963. وفي العام 1979، مع تبنّي النظام السابق التوجّه الاشتراكي في الاقتصاد، وتأميم القطاع الخاص، وسيطرة الدولة على كل المشهد الاقتصادي إنتاجاً وتوزيعاً، حدث تشوّه كبير في الاقتصاد، فقد كان القطاع الخاص الناشئ يستوعب نحو 75% من القادرين على العمل، والبقية كان يستوعبها القطاع الحكومي. لكن بعد مرور 10 سنوات على اعتماد السياسات الاشتراكية، أي في العام 1989، أصبح نحو 85% من القادرين على العمل يعملون لصالح مؤسسات الدولة، فيما يستوعب القطاع الخاص الذي تم التضييق عليه ومحاصرته فقط 15% من العمالة، في شكل أعمال حرفية ورعي وغير ذلك.

ظل القطاع العام إلى اليوم هو السيد، ويصل عدد الذين يعملون في الجهاز الحكومي إلى 2.3 مليون موظف وعامل، ويعتبر هذا الرقم من أكبر الأرقام في العالم نسبياً، فيما لو قارنا بين العاملين في الجهاز الحكومي كنسبة من عدد السكان

حاول النظام السابق أن يغيّر هذا الخلل الكبير في الاقتصاد بعد مطلع التسعينيات، ولكن ظل مشروع الإصلاح الاقتصادي الذي تم تبنّيه محدود التأثير، حتى وقع التغيير الجذري في العام 2011. ومع فشل محاولات النظام إعادة التوازن بين القطاعين العام والخاص، ظل القطاع العام إلى اليوم هو السيد، ويصل عدد الذين يعملون في الجهاز الحكومي إلى 2.3 مليون موظف وعامل، ويعتبر هذا الرقم من أكبر الأرقام في العالم نسبياً، فيما لو قارنا بين العاملين في الجهاز الحكومي كنسبة من عدد السكان.

خلقت إشكالية تكدس العاملين  في الجهاز الحكومي مشكلة أساسية في ليبيا، وهي أن الدولة، بإنفاقها الهائل، لن تستطيع أن توفر الخدمات الاجتماعية للمجتمع. في هذا السياق، يصح أن نعطي تفصيلاً بسيطاً عن تركيبة النفقات في الميزانية العامة: تشكل الرواتب نحو 53% من بند النفقات في الميزانية العامة، أما دعم المحروقات والبنزين ودعم الكهرباء والدعم الاجتماعي وغيرها غهو يساوي نحو 20% من النفقات. وإذا أضفنا إليه شكلاً من آخر أشكال الدعم، وهو الإنفاق على الجهاز الحكومي الذي تصل نسبته إلى 10% من النفقات، فنحن نتحدث عن نحو 80% من فاتورة الإنفاق السنوي التي تذهب في شكل إنفاق استهلاكي، فيما يوجّه الباقي إلى التنمية. لم تستطع الحكومات المتعاقبة، بعد التغيير السياسي الذي وقع في العام 2011، أن تصلح تركيبة الاقتصاد والتوجّهات التي تم تبنيها في نهاية السبعينيات، باعتبار أن الأمر مرتبط بتركيبة اجتماعية معقدة.

تجدر الإشارة إلى أن الذين يعتمدون في دخلهم الأساسي على الراتب الحكومي، ليسوا ذوي دخول عالية. أيضاً، بالنسبة إلى تكدّس الموظّفين في القطاع العام، أعطي مثالاً إيضاحياً آخر مبني على إحصائية حديثة، تشير إلى أن عدد من يعملون في القطاع التعليمي يساوي حوالي 689 ألف فرد، وهؤلاء يعملون في قطاع التعليم الأساسي وليس الجامعي. علماً أن هؤلاء يشرفون على إدارة 2 مليون طالب، أي أن هناك معلم لكل 3 طلاب! يقال إن عدد الموظّفين في قطاع التعليم في ليبيا يجب أن لا يزيد عن 300 ألف كادر تعليمي، أي أننا نتحدث عن 400 عمالة زائدة في قطاع واحد، والحالة تتكرر في قطاعات أخرى كالصحة والقطاعات الخدمية.

يرى البعض أن اعتماد 80% من الليبيين على الخزانة العامة في شكل رواتب هو نوع من أنواع التوزيع العادل للثروة، وأنا أشك أن يكون هذا رداً سليماً، أعتقد أن هناك إشكالية بأن يكون 53% من الإنفاق العام يتجه إلى رواتب ليست مجدية، علماً أن متوسط المداخيل بالدولار يساوي نحو 210 دولارات في الشهر، وهي قيمة محدودة للغاية، خصوصاً أن الاقتصاد الليبي ليس اقتصاداً منتجاً، بل هو اقتصاد منكشف، بمعنى أن 90% من احتياجات الليبيين اليومية تأتي من الخارج. وعندما يكون اعتمادك على الخارج كبير وقدرتك الشرائية محدودة فأنت في وضع اقتصادي اجتماعي مأزوم ولست في خضم خطة توزيع عادلة للثروة.

كما قلت، فشلت كل المحاولات لتغيير الوضع القائم، وظل الاعتماد على النفط بدرجة كبيرة إلى يومنا هذا. ما قد يكون له عواقب كبيرة. مثلاً في ظل النزاع المستمرّ منذ الإطاحة بالنظام السابق، وعندما أقفِلت منشآت النفط والحقول والموانئ في العام 2013، تأزم الاقتصاد بشكل عام وتراجع مستوى مستوى عيش الليبيين. حتى الخطة تلك التي تم تبنيها في العام 2018 فشلت في إصلاح الوضع، كونها عالجت بعض نتائج الأزمة ولم تمضِ نحو الجذور.

تكمن المشكلة الرئيسة في ليبيا بعدم وجود أفق سياسي لمعالجة الإشكاليات المتعلقة بالدخل والتوزيع العادل للثروة. في هذا الصدد، نذكر أن مدن الشمال في ليبيا تستوعب نحو 80% من السكان، وتتمتع بخدمات أفضل بكثير من مناطق الجنوب، التي هي مصدر الثروة النفطية والمياه وتواجه ظروفاً معيشية صعبة جداً على الصعد كافة. هذا وضع قديم جديد وغير متعلق بالأزمة التي تعاني منها البلاد 12 عاماً، وتعود جذورها إلى عقود قديمة. ويضاف إلى ذلك كله الفساد والتفاوتات التي سمحت بمراكمة أموال طائلة لدى فئات محددة.

أنهي هنا بسمة أخرى للأزمة في ليبيا. لعلكم تابعتم ما وقع مؤخراً من قرارات وقرارات مضادة بين سلطات الشرق والغرب. أصدر مجلس النواب في الشرق قرارات أنهى بها وجود السلطة التنفيذية في الغرب، واعتبر أن الحكومة التابعة لمجلس النواب هي الحكومة الشرعية الوحيدة. ردّ المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية في الغرب على ذلك بإقالة محافظ المصرف المركزي، الذي اقترب من سلطات الشرق بعد أن كان حليفاً لسلطات الغرب، ووافق على تمويل ميزانية اعتمدتها سلطات الشرق بنحو 197 مليار دينار ليبي. 

تكمن المشكلة الرئيسة في ليبيا بعدم وجود أفق سياسي لمعالجة الإشكاليات المتعلقة بالدخل والتوزيع العادل للثروة

بعد إقالته قاموا بتعيين مجلس إدارة جديد، الذي رفض القرار وأبقى على تحكمه في منظومة إدارة المصرف المركزي وخرج من البلاد، في حين أن المحافظ الجديد لا يملك مفاتيح إدارة هذا المصرف المركزي، الأمر الذي سينعكس سلباً على حركة المصارف عموماً، وعلى سعر صرف الدينار وسعر صرف العملات الأجنبية في السوق الموازية. مع العلم أن المصرف المركزي هو من يشرف على إنفاق الميزانية العامة، في القسم الشرقي والغربي. وهو من يقوم بصرف الأموال. هناك حالة من الجمود وسيكون لذلك تداعيات اقتصادية كبيرة.

هناك سيناريوهات عدّة للحلّ، لكن أكثرها حظاً في رأيي هو تكريس الانقسام الحالي، بمعنى حتى وإن تدخّلت أطراف خارجية فحالة الانقسامات الراهنة سوف تتكرّس، أي حتى لو تم تخفيف النزاع الحالي واحتوائه، فسيكون ذلك من خلال تقسيم الموارد النفط على الحكومتين الحاليتين. وهناك أيضاً سيناريو الانتفاضة الشعبية بسبب سوء الأوضاع بدرجة كبيرة واحتمالية أن تزيد بدرجة أكبر بعد الأزمة الأخيرة. إن إقفال المصرف المركزي، وانعكاس ذلك على مستوى عيش الناس ربما يقود إلى درجة عالية من السخط الشعبي. 

أما السيناريو الثالث فهو التوافقات من خلال الضغط الدولي، أي أن يدخل المجتمع الدولي على الخط ويحتوي النزاع الحالي، الذي وصل الى ذروته، ومن ثمّ التوافق على الذهاب إلى انتخابات، وفي رأيي هذا أقل السيناريوهات احتمالية.