التحوّل الطاقوي على طريقة كبار منتجي النفط والغاز
تركّزت الأنظار في الأسابيع الماضية (30/11/2023- 13/12/2023) نحو مؤتمر الأطراف بنسخته الـ28 (COP28)، الذي انعقد في دبي بالإمارات العربية المتحّدة لمناقشة التحدّيات الداهمة الناجمة عن تغيّر المناخ في ظل أجواء سياسية مُعقّدة في المنطقة. انطلقت أعمال المؤتمر وسط خيبة لدى المجتمعات إزاء قادة عاجزين عن اتخاذ قرار لوقف إطلاق النار ووضع حدّ لحرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على غزّة، وانعدام الثقة من قدرتهم على اتخاذ قرارات مصيرية لحماية الأجيال القادمة من مخاطر شتّى تهدّد أشكال الحياة على سطح الأرض.
وعلى الرغم من محاولة المؤتمرين، بما فيهم الدولة المستضيفة، الخروج بقرارات عملية في مواجهة انطباعات الفشل السائدة في المجتمعات المتضرّرة من آثار التغيّر المناخي، أتت القرارات غير المُلزمة التي خرج بها المؤتمر لتؤكّد أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن أزمة المناخ باقية وتتمدّد، ولو أنها سجّلت للمرّة الأولى منذ ثلاثين عاماً إعلان «بداية النهاية» استخدام الوقود الأحفوري، إذ بقي مجرّداً من أي جدول زمني محدّد لإنهائه الاعتماد على هذا المصدر الطاقوي الملوِّث أو آليات موثوقة للوصول إلى الأهداف المعلنة.
بالمحصّلة، تبقى مصالح كبرى شركات الوقود الأحفوري الرابح الأكبر والدائم، تدعمها إخفاقات وثغرات لغوية مقصودة وبعيدة عمَّا كانت تبتغيه معظم الدول، خصوصاً على صعيد تمويل المناخ للتأقلم مع آثار التغيّر المناخي (Climate Finance for adaptation)، ليبقى التحدّي في ما سيفعله القادة المجتمعون على صعيد السياسات العامّة والتمويل عندما يعودون إلى بلدانهم.
أبرز مقرّرات المؤتمر
استقطب مؤتمر COP28 حوالى 100 ألف مشارك على مدار أسبوعين، بما في ذلك 2,456 من أعضاء مجموعات الضغط الداعمة للوقود الأحفوري، وهو عدد يفوق مجموع أعضاء البعثات الوطنية للدول. وحصل ذلك في هذا العام الذي اعتُبر الأشدّ حرارة عبر التاريخ.
الخطط الحالية ستؤدّي إلى زيادة إنتاج الفحم الحجري بنسبة 460%، والغاز بنسبة 83%، والنفط بنسبة 29% عمَّا هو مسموح به لإبقاء هدف عدم تجاوز 1.5 درجة مئوية
انتهت أعمال قمّة الأطراف بالإعلان عن 11 تعهّداً وإعلاناً لمواجهة التغيّر العالمي، إلا أن أبرز مقرّرات «اتفاق الإمارات» الختامي، الذي شكّل دعوة للإبقاء على هدف عدم زيادة حرارة الأرض بما يفوق 1.5 درجة مئوية عن مستويات الثورة الصناعية في نهاية القرن بالمتناول، تتلخّص بالآتي:
- الإعلان عن زيادة الإنتاج من الطاقات المُتجدّدة ثلاثة أضعاف، ومضاعفة مساهمة كفاءة الطاقة من 2% إلى 4% بحلول العام 2030، وهو إعلان مُهِّد له منذ فترة، ونال إجماع حوالى 120 دولة، باستثناء الصين والهند، وهو بمثابة إشارة قويّة لصنّاع السياسات ورجال الأعمال والمموّلين أن المستقبل هو للطاقات المتجدّدة، محدّدين البوصلة للعقد المقبل.
- إعلان 22 دولة، بما فيها الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا نيتهم زيادة الإنتاج من الطاقة النووية بثلاثة أضعاف بحلول العام 2050.
- الانتقال بعيداً من الوقود الأحفوري في أنظمة الطاقة، بطريقة عادلة ومنظّمة ومُنصفة، للوصول إلى صفر انبعاثات بحلول العام 2050. وتعدّ هذه المرّة الأولى التي تتمّ فيها الإشارة إلى هذه المصادر منذ 30 عاماً، وهذا ما أخّر المؤتمر ليومٍ إضافي، وشكّل مدار تجاذبٍ وضغوطٍ كبيرة، كون النسخة الأولى للبيان الختامي لم تتضمّن أي إشارة للوقود الأحفوري الذي يتسبّب بحوالى 90% من انبعاثات الكربون في العالم، عدا عن أن اللغة المُستخدمة في البيان لم تذكر التخلّص أو التخفيض التدريجي لاستخدام هذه المصادر (Phasing-Out or Phasing-Down of fossil fuels) وإنما الانتقال الابتعاد منها (Transitioning Away from Fossil Fuels). ويعد التخلّص أو التخفيض التدريجي للوقود الأحفوري من المطالب الأساسية للناشطين البيئيين كونها تحمل في طيّاتها لغة ملزمة وتتضمّن إقراراً بضرورة بدء التخلّص من المصادر الملوّثة، بينما «الانتقال بعيداً من الوقود الأحفوري»، لا يعني بالضرورة التخلّص منه، بل أن شركات النفط العالمية يمكنها الاستمرار بالإنتاج، وأن الدول يمكنها استخدام هذه المصادر من دون الحاجة إلى خفضها بشكل كبير. بالمحصّلة، هذا الهدف لن يحصل تلقائياً، والنتائج ستكون كارثية على سكّان الأرض.
- إعلان «شرعة النفط والغاز لإزالة الكربون» من قبل 50 شركة نفط وطنية وعالمية، تمثّل 40% من إنتاج النفط العالمي، 60% منها شركات وطنية، لتصفير انبعاثات الكربون في مختلف العمليات النفطية بحلول العام 2050، وإيقاف عمليّات الحرق (flaring) بحلول العام 2030.
- التخفيض التدريجي لاستخدام الفحم الحجري والحدّ من معامل الإنتاج العاملة على هذه المصادر، وهو قرار بدأ العمل على بلورته في مؤتمر COP 26 في اسكتلندا.
- خفض الانبعاثات الكربونيّة غير ثاني أوكسيد الكربون، وتحديداً غاز الميثان بحلول العام 2030.
- تفعيل «صندوق الأضرار والخسائر» الذي أقرّ العام الماضي في COP 27 بشرم الشيخ، ورفده بحوالى 700 مليون دولار من المساهمات، وهو رقمٌ يشكّل نقطة في بحر ما قد تحتاجه الدول المتضرّرة من التغيّر المناخي بحلول العام 2030 والتي تقدَّر بحوالى 580 مليار دولار. والاتفاق على بدء الحديث بهدف جديد لحاجات تمويل المناخ، يستبدل المئة مليار دولار الذي اتفق عليه في العام 2009 كمساهمة من الدول المتقدّمة للدول النامية.
كبار مُنتجي النفط والغاز: 1% مساهمة في التحوّل الطاقوي
أبرز المشاهدات، التي يمكن استخلاصها من المؤتمر وغير المرتبطة بأي من التعهّدات، هو الصراع الظاهر للعلن بين المطالبين بتسريع عمليّة التحوّل الطاقوي ومن بينهم الوكالة الدولية للطاقة (IEA) وبين منظّمة أوبك (OPEC) التي أظهرت تشدّداً كبيراً ومقاومة لأي نصّ يتطرّق صراحة إلى التخلّص من الوقود الأحفوري قبل القبول بالنص الأخير مع ما يتضمّنه من هشاشة وتأويلات.
هدف زيادة الإنتاج من الطاقات المتجدّدة ثلاثة أضعاف يعني أننا بحاجة إلى إنتاج نحو 11 تيراواط من هذه الطاقات في 2030
إن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على رغبة الدول المنتجة للنفط بالتحوّل الطاقوي على طريقتها ووفق أجنداتها. بحسب تقرير لمنظّمة «أوكسفام»، يتسبّب الـ1% الأغنى في العالم بانبعاثات كربونيّة توازي تلك التي يصدرها 66% من الفقراء، فيما استثماراتهم الحالية في مجال التحوّل الطاقوي توازي 1% فقط من الاستثمار العالمي الأخضر، بحسب الوكالة الدولية للطاقة. ففي حين تطالب هذه الأخيرة في تقريرها الدول بمواجهة «لحظة الحقيقة»، ليس عبر وقف الاستثمارات في مجال النفط والغاز فحسب، بل برفع الاستثمارات التي تحفّز الطاقات النظيفة، مشيرة الى أن عليها وضع نصف استثماراتها السنوية في هذا المجال بحلول العام 2030، وأن ما من شركة نفط أو غاز عالمية ستبقى بمنأى عن هذا التحوّل.
في الواقع، تبتعد خطط الطاقة في البلدان النفطية كلّ البعد عن تعهّدات المناخ. تشير الأرقام إلى أن الخطط الحالية ستؤدّي إلى زيادة إنتاج الفحم الحجري بنسبة 460%، والغاز بنسبة 83%، والنفط بنسبة 29% عمَّا هو مسموح به لإبقاء هدف عدم تجاوز 1.5 درجة مئوية في المتناول. في حين يشير تقرير Carbon Tracker الذي يشمل 40 دولة نفطية، إلى أن عملية التحوّل الطاقوي التدريجي بين عامي 2023 و2040 سيُفقد 28 دولة على الأقل حوالى نصف عائداتها بحلول العام 2040 مع انخفاض الطلب والأسعار على مصادر الوقود الأحفوري، فتقارب عائداتها 9 تريليون دولار بدلاً من 17 تريليوناً حالياً. يدعو التقرير الدّول المعنيّة أيضاً إلى تنويع اقتصاداتها وخلق قطاعات جديدة، وإنهاء الدعم المُفرط للوقود الأحفوري من أجل تسريع التحوّل نحو مصادر أخرى.
بناء على ما تقدّم، يبدو جليّاً أن أي تغيير جذري وجوهري في السياسات القائمة سيجابه بمقاومة أصحاب المصالح القائمة على مراكمة الأرباح، إذ يُتوقّع أن تبلغ نسبة الوقود الأحفوري في توليد الطاقة حوالى 73% في العام 2030 (هي تبلغ حوالى 80% حالياً) بحسب مسار الأمور الحالي في حين تطالب وكالة الطاقة الدولية أن تنخفض هذه النسبة إلى حدود 60%، وهو هدفٌ لا يزال بعيداً من التحقّق، في ظلّ اللغة الهشّة للمقرّرات، وغياب التوافق العالمي والتنسيق لتطبيق الأهداف المرجوّة.
الطاقات المُتجدّدة: كيف نصل إلى ثلاث أضعاف القدرة الحالية؟
تبدو خارطة الطريق واضحة من حيث المبدأ. هناك ضرورة للانتقال نحو استخدام أكثر فعاليّة للطاقات المتجدّدة، نظراً لكون هدف زيادة الإنتاج من الطاقات المتجدّدة ثلاثة أضعاف يعني أننا بحاجة إلى إنتاج نحو 11 تيراواط (11 مليون ميغاواط) من هذه الطاقات في 2030 بحسب تقرير بلومبرغ، في حال اعتمدنا أرقام العام 2022، واستثمارات بحجم 1,175 مليار سنوياً بين عامي 2023 و2030. أي أنّ الزيادات السنويّة يجب أن تواصل ارتفاعها بنسبة 17% سنوياً بين عامي 2024 و2030، من حوالى 400-500 غيغاواط في 2023 إلى 1,500 غيغاواط في 2030.
استغرق الوصول إلى 3,6 تيراواط من الطاقة المتجدّدة مضاعفة ما كان موجوداً في العام 2010 ثلاث مرّات، والمطلوب اليوم القيام بذلك في 8 أعوام فقط للجم حوالى 9 مليار طنّ من الانبعاثات
يبلغ حجم مجمل الطاقات المُتجدّدة على اختلافها في نهاية العام 2022 نحو 3,6 تيراواط، وقد استغرق الوصول إلى هذا الحجم مضاعفة ما كان موجوداً في العام 2010 ثلاث مرّات، أي أن العملية الأولى احتاجت 12 عاماً، معظمها عبر الطاقة الشمسية والرياح، فيما المطلوب اليوم القيام بذلك في 8 أعوام فقط للجم حوالى 9 مليار طنّ من الانبعاثات بحلول العام 2030. فالطاقة الشمسية الموجودة في نهاية العام 2022 هي 27 ضعفاً ما كانت عليه في العام 2010، وطاقة الرياح تضاهي 5 أضعاف ما كان موجوداً في تلك الفترة.
يبقى التحدّي الأساسي في إيجاد البيئة الاستثمارية المؤاتية للوصول إلى هذه الأهداف الصعبة، لكن غير المستحيلة، من خلال جذب التمويل للمشاريع والإسراع في إعطاء التراخيص وتحضير شبكات النقل لتلقّي وتوزيع كميّات مماثلة، والشروع في تنفيذ وتطبيق التعهّدات التي اتفق عليها.