انبعاثات الحرب على غزّة تعادل انبعاثات دولة صناعية كبيرة
في مقالة نشرها أخيراً ثلاثة أساتذة في جامعة اليرموك الأردنية، جاء «أن العمليات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق في غزة لا تشكّل مصدراً للقلق الإنساني العميق فحسب، بل إنها تشكل أيضاً قضية بيئية بالغة الأهمية». لقد أجرى المؤلفون تقييماً لمجموعة من مصادر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بما في ذلك استهلاك الوقود والذخائر والمواد المتفجّرة وهدم المباني والبنية التحتية المدنية. ووجدوا أن الأعمال الحربية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة، أسفرت، إلى جانب القتل والتشويه والدمار والتجويع، عن كارثة بيئية ناتجة من انبعاث نحو 60.3 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، في الأيام الـ35 الأولى من هذه الحرب، أي أنها تبلغ 629 مليون طن في السنة، وهو ما يعادل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لدولة صناعية من حجم ألمانيا في العام 2020.
لم تُثر هذه الوقائع الرهيبة حفيظة الغيورين على المناخ، الذين كانوا مجتمعين في هذه الأثناء في COP28 في دبي. ففي الوقت الذي كانت المناقشات تدور حول الفشل في الإيفاء بالتزامات الدول الغنية بالتزاماتها لتخفيض الانبعاثات، وتتقاذف الاتهامات وتتبادل العراقيل، كانت إسرائيل تشنُّ حرب إبادة جماعية ضدّ سكان غزّة، وتمنح الحريصين على البيئة ونوعية الحياة البشرية سبباً لرفع الصوت ضد هذه الحرب، أقلّه للأسباب المتصلة بمصادر الاحترار والتغييرات المناخية، التي تعدّ الحروب من أبرزها.
«لا عدالة مناخية من دون سلام». هو أحد الشعارات التي رفعها بعض الناشطين البيئيين، في الوقفة الاحتجاجية الرمزية جداً التي سُمح لهم بها في الأسبوع الأخير من قمة المناخ في دبي. إلا أن الحديث في الإعلام الغربي تجاهل كلّياً القضية التي يثيرها هذا الشعار في ظل الظروف الخطيرة القائمة، وراح ليصنّف مواقف الناشطين البيئيين بين مؤيّد لإسرائيل ومعارض لها، من دون أي ربط لهذه المواقف بالمسؤولية الضخمة التي يتحمّلها الجيش الإسرائيلي حالياً، والجيوش الكبيرة عموماً، في تفاقم الانهيار المناخي.
يعدّ حلف الناتو، الحليف الرئيسي لإسرائيل، أحد أكبر مصادر انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، الذي تفشل الدول في الإيفاء بالتزاماتها لتخفيضه، وعدم تجاوز سقف ارتفاع الحرارة أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستوياتها في العام 1850. يبلغ متوسّط بصمة الناتو الكربونية العسكرية السنوية نحو 205 ملايين طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. وبحلول العام 2028، سينفق نحو 2.57 تريليون دولار إضافية على التسلّح والصناعات العسكرية، وهو مبلغ يكفي لتمويل برنامج الأمم المتّحدة للبيئة المقترح للتكيّف مع التغيّر المناخي في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل لمدّة 7 سنوات.
تحرص الدول القوية على إبقاء عمليّاتها العسكرية خارج الالتزامات بالحد من الكوارث البيئية. ولم تُلزم اتفاقيات المناخ الدول بالإبلاغ انبعاثات جيوشها وصناعاتها العسكرية وعملياتها القتالية.
300 كيلوطن من الوقود في شهر واحد
تحت عنوان «الخسائر البيئية الناجمة عن الصراع في غزة: زيادة في انبعاثات الكربون»، تُسلّط المقالة الضوء على التأثير البيئي للحروب المعاصرة، وتخلُص إلى أن انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن الاستخدام المكثف للوقود في مناطق الصراع تساهم بشكل كبير في تغيّر المناخ.
تُنتج الجيوش العسكرية نحو 6% من إجمالي الانبعاثات العالمية من دون أن تشمل هذه النسبة التقديرات الفعلية بسبب تكتّم الحكومات عن الإعلان عن أعمالهم العسكرية بحجة الأمن القومي
وأظهرت الأرقام أن قوات الاحتلال الاسرائيلي زُوّدت بـ 300 كيلو طن من الوقود لآلياتها العسكرية خلال شهر أيلول/سبتمبر فقط. وفي تشرين الأول/أكتوبر ارتفع هذا الرقم بشكل ملحوظ ثلاث مرات، «وهذه الزيادة تُشبه تلك التي حدثت في خلال الحرب الروسية الأوكرانية». وقد أدى استهلاك هذه الكمية من الوقود إلى إنتاج نحو 1.92 طن من ثاني أكسيد الكربون على الأقل.
على صعيد الذخائر، تشير التقديرات إلى أن متوسط انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكل جولة قصف مدفعي يبلغ نحو 2.59 مليون طن. وقد استخدمت إسرائيل ما مجموعه 30 ألف طن من مادة تي إن تي، أي ما يعادل 30 مليون كيلوغرام. ومن المعلوم أن احتراق كل كيلوغرام واحد من مادة تي إن تي يولّد نحو 1.467 كيلوغرام من ثاني أكسيد الكربون. ويبلغ إجمالي الانبعاثات الناتجة عن استخدام مادة تي إن تي حتى الآن 0.044 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
وكان لهدم المباني، النسبة الأكبر من الانبعاثات، ووفقاً للمقالة: «عندما يتم هدم مبنى، فإنه لا يولّد كمّية كبيرة من النفايات فحسب، بل يؤدّي أيضاً إلى انبعاثات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون. على سبيل المثال، يؤدّي هدم مبنى مساحته 100 متر مربع إلى حوالى 1,000 طن متري من النفايات وحوالى 110,000 كلغ من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون». وبلغ إجمالي الانبعاثات الناجمة عن عمليات هدم المباني في غزة بعد شهر وخمسة أيام على اندلاع الحرب نحو 27.5 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
تشير التقديرات إلى أن ليس الهدم وحده مولّداً للانبعاثات، بل إعادة بناء كل وحدة مدمّرة تولّد بدورها نحو 565 طناً من ثاني أكسيد الكربون، ونظراً للأضرار الجسيمة التي حدثت في غزة في خلال تلك الفترة، فإن إعادة بناء نحو 50 ألف وحدة سينجم عنه انبعاثات نحو 28.25 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
الجيوش تفاقم الانهيار المناخي
على أقل تقدير، تُنتج الجيوش العسكرية نحو 6% من إجمالي الانبعاثات العالمية من دون أن تشمل هذه النسبة التقديرات الفعلية بسبب تكتّم الحكومات عن الإعلان عن أعمالهم العسكرية بحجة الأمن القومي، وبالتالي هي مرجحة لأن تكون أعلى بذلك بكثير. المفارقة أن هذه النسبة التي تفوق المعدلات السنوية الإجمالية لانبعاثات العديد من البلدان، تتزامن مع ارتفاع الإنفاق العسكري العالمي إلى مستويات قياسية وصلت إلى حد 2.24 تريليون دولار، أي 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفق دراسة تبادل النيران المناخية: كيف يساهم هدف الـ2% من الإنفاق العسكري للناتو في انهيار المناخ، التي تشير إلى أن أغنى الدول وأكثرها تلويثاً للكربون تعمل أيضاً على زيادة قوتها العسكرية.
سبعة من البلدان العشرة الأوائل المصدِّرة للانبعاثات، هي أيضاً من بين البلدان العشرة الأوائل في الإنفاق العسكري على مستوى العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا
هذا الكلام يتقاطع ودراسة أخرى تقول إن الدول المسؤولة عن زيادة الإنفاق العسكري الباهظ «غير قادرة على إيجاد حتى جزء من الموارد أو نسبة ضئيلة من الالتزام لمعالجة مشكلة الاحتباس الحراري»، مُشيرةً إلى أن البلدان الأكثر ثراءًٍ تنفق على قواتها المسلحة ما يزيد على 30 ضعفاً مما تنفقه على توفير التمويل المناخي للبلدان الأكثر ضعفاً في العالم التي تلتزم بها قانونياً.
كذلك، إن سبعة من البلدان العشرة الأوائل المصدِّرة للانبعاثات، هي أيضاً من بين البلدان العشرة الأوائل في الإنفاق العسكري على مستوى العالم، والتي تضمّ كل من الولايات المتحدة التي تعد الأكثر إنفاقاً من حيث الحجم، تليها الصين، وروسيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، واليابان، وألمانيا. من هنا، يتبين أن كل دولار يُنفَق على الجيوش لا يسهم فقط بالقتل والدمار والتشويه والتشريد، بل يسهم في زيادة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ويؤدّي أيضاً إلى تحويل الموارد المالية والمهارات والاهتمام بعيداً من معالجة أحد أكبر التهديدات التي واجهتها البشرية على الإطلاق. وأمام هذه المعطيات، يبدو مفهوماً سبب سكوت قمة المناخ عن مناقشة صناعات الأسلحة ووضعها على جدول أعمالها، وبالتالي سكوتها عن انبعاثات الإبادة الجارية في غزة.