Preview الاحتجاجات في مصر

مصر: الأزمة الاقتصادية تتصاعد والاحتجاجات عليها تتراجع

في تقرير بعنوان «احتجاجات هادئة ودفاعية وأخرى يائسة»، رصدت «منصّة العدالة الاجتماعية» نحو 1,890 احتجاجاً اجتماعياً وعمّالياً في مصر في العام 2022، لكن هذا العدد من الاحتجاجات الجماعية يعكس تراجعاً على أرض الواقع، كما يعكس تغيّراً في شكل هذه الاحتجاجات، إذ أن 93.6% منها اتخذ شكل التعبير الآمن عن مطالب مُحدّدة عبر البيانات والشكاوى والمناشدات ومن دون رفع مستوى المواجهة.

حصلت هذه الاحتجاجات في ظل عوامل عدّة يمكن تلخيصها على الشكل التالي:

أولاً، أن الأزمة الاقتصادية كانت عنوان العام 2022، الذي كان يفترض أن يكون عام التعافي من الآثار الاقتصادية لوباء كورونا، ولكنه شهد انتكاسة اقتصادية جديدة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فقد شهد الربع الأول من العام صدمة أسعار الحبوب والقمح والطاقة الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، ووكان التأثير مباشر وسريع بالنسبة لمصر التي تعدّ أكبر مستورد للقمح في العالم، ومستورد صافي للطاقة. ففي آذار/ مارس 2022 بدأ سعر الدولار في الارتفاع في مصر من 15.70 جنيهاً مطلع العام ليصل إلى حوالى 24.70 جنيهاً في نهايته. وانعكست تلك الأوضاع بشكل فوري على معدّلات التضخم. افتتح العام بنسبة 8%، ليصل في نهاية العام إلى أكثر من 19%، وهو ما دفع الحكومة لاتخاذ بعض التدابير الاجتماعية للتخفيف من آثار الأزمة مثل رفع حدّ الإعفاء الضريبي وزيادة العلاوة الاجتماعية، ولكن الأزمة التي خلفتها الحرب كانت أشد وطأة من تلك الإجراءات. 

تكشف التقارير التي ترصد الاحتجاجات تراجعاً واضحاً على مدى السنوات الماضية، ففي حين بلغت 3,008 احتجاجات في العام 2014، تراجعت إلى 1,890 احتجاجاً في العام 2022

ثانياً، في ظل الأزمة الاقتصادية التي خيّمت على العام 2022، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في نيسان/أبريل 2022 إلى حوار وطني بين السلطة والقوى السياسية، وجرى تسويق على أنها بداية انفراجة سياسية بعد سنوات من الاحتقان، خصوصاً أنها اقترنت بتشكيل لجنة العفو الرئاسية التي أحيل إليها ملف سجناء الرأي بهدف تصفيته. لكن المسار الذي شهدته الأحداث بعد ذلك لم يوحي بأي انفراجة، إذ بقي العمل العام مُقيّداً والأنشطة السياسية شبه محظورة. وحتى ملف السجناء السياسيين، لم يشهد أي تحوّل، واكتفت السلطة بإخلاء سبيل عدد محدّد من السجناء على فترات متباعدة من دون اتخاذ خطوات جدّية لتصفية الملف. لم يؤدِ الحوار الوطني الذي أطلقته السلطة في ربيع 2022 إلى تغيّر حقيقي في الحياة السياسية، خصوصاً على مستوى ممارسة الحقّ في التعبير والاحتجاج، وبدا أنه في حقيقته مجرّد محاولة لإحكام السيطرة على أحزاب وقوى المعارضة، ولكن هذه المرّة على مائدة الحوار وليس في الزنازين.

ثالثاً، وهو ما لا يجب إغفاله، يتصل على نحو مباشر بالاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، ويكمن بإجراء انتخابات النقابات العمّالية في صيف العام 2022. وبحسب التقارير الحقوقية التي تناولت الانتخابات، فقد كانت العملية الانتخابية نموذجاً لمصادرة السلطة للعمل النقابي والسيطرة عليه في مراحله كافة، ابتداءً من هيمنة السلطة التنفيذية على سير الانتخابات بالكامل، واستبعاد المرشّحين بناءً على التقارير الأمنية وتهديد آخرين. وفي الحصيلة، تم تطهير التنظيم النقابي من أي معارضين أو حتى ناشطين.

تبدو طبيعة الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية في العام 2022 أوضح في هذا السياق، فمن ناحية هناك أوضاع اقتصادية ضاغطة بالفعل تتمثّل في ارتفاع معدّلات التضخم، وتدفع إلى رفع المطالب وتنظيم الاحتجاجات، ولكن من ناحية أخرى هناك مناخ سياسي وأمني كابح للعمل الاحتجاجي والنشاط السياسي بشكل عام، والأهم هناك تنظيم مفقود في ظل هيمنة السلطة على النقابات العمّالية، التي من شأنها توفير المظلة التنظيمية للمطالب والاحتجاجات الاجتماعية.

تكشف التقارير التي ترصد الاحتجاجات تراجعاً واضحاً على مدى السنوات الماضية، ففي حين بلغت 3,008 احتجاجات في العام 2014، تراجعت إلى 1,890 احتجاجاً في العام 2022. ولكن هذا التراجع الكمّي ليس هو الفارق الوحيد الذي يرصده تقرير «منصّة العدالة الاجتماعية»، بل هناك فوارق لافتة في طبيعة وآليّات تلك الاحتجاجات.

في العام 2014، استخدم المحتجون آليات الشكاوى والبيانات والمناشدات بنسبة 3.6%، وانقلبت الآية في العام 2022، إذ مثلت هذه الآليات نسبة 93.6% من الاحتجاجات

ففي العام 2014، على سبيل المثال، استخدم المحتجون آليات الشكاوى والبيانات والمناشدات بنسبة 3.6% من إجمالي الاحتجاجات، بينما كانت أكثرية الاحتجاجات تعتمد على الإضراب والتظاهر والاعتصام وغيرها من آليّات الاحتجاج الجماعي الميداني. انقلبت الآية في العام 2022، إذ مثلت الشكاوى والبيانات والمناشدات نسبة 93.6% من الاحتجاجات التي رصدها التقرير، علماً أن الأزمة الاقتصادية ازدادت حدّتها، على عكس التوقّعات في حينه بتراجع الآثار الاقتصادية لوباء كورونا. ما يعني أن ما تراجع بالفعل هي القدرة على التعبير والاحتجاج نتيجة الانسداد السياسي والضغط الأمني وغياب التنظيم النقابي.

إن مقارنة مؤشّرات الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية في مصر توضح أن العاملين الأمني والسياسي كان لهما تأثير بالغ على معدّلات الاحتجاجات وطبيعتها، أكثر من تأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

الاحتجاجات في مصر

ملاحظات على الرصد

تجدر الإشارة إلى صعوبة إجراء حصر شامل للاحتجاجات في مصر.

أولاً، بسبب غياب التنظيم عن غالبية الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي افتقادها لإطار المتابعة. 

ثانياً، تعتمد التقارير التي ترصد الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية على ما يُنشر عبر وسائل الإعلام، والتي لا تغطّي الاحتجاجات كافة على نحو منتظم لأسباب متنوّعة، ومع ذلك تفيد هذه التقارير في قراءة منحى هذه الاحتجاجات.

في الواقع، شهدت السنوات التي تراجعت فيها الاحتجاجات بشكل حادّ التحوّل السياسي الكبير في مصر بدءاً من صيف 2013، ولم تقتصر على الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، بل امتدّت إلى مصادرة كل مساحة لحرية التعبير والاحتجاج، خصوصاً بعد إصدار قانون التظاهر، الذي وضع قيوداً مشدّدة على حق التظاهر وعقوبات رادعة على مخالفته. وهو ما انعكس على الفور في تراجع حادّ في الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية في العام التالي 2014، ومع استمرار المناخ الأمني الخانق في السنوات التالية تحت شعار (الحرب على الإرهاب) استمرّ تراجع العمل الاحتجاجي أكثر في السنوات التالية.

والمفارقة أن العام 2017 الذي شهد المعدّل الأقل للاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، هو نفسه العام الذي تفجّرت فيه آثار سياسات الإصلاح الاقتصادي التي أطلقتها الحكومة في نهاية العام 2016، ونتج عنها معدّلات تضخّم تجاوزت 32% وتراجع حادّ لقيمة العملة المحلّية بنسبة تجاوزت 50% دفعة واحدة. ومع ذلك كانت الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية هي الأقل في العام الذي تحمّلت فيه الطبقات الفقيرة تلك الآثار.

الصعود التالي الذي شهده منحنى الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، صاحبه تغيّر نوعي في طرق الاحتجاج، فبعد أن كانت الشكاوى والمناشدات والبيانات تمثل 3% فقط من طرق الاحتجاج في 2014، أخذت هذه النسبة بالارتفاع لتصل إلى أكثر من 88% في العام 2019، ثم 94% العام 2020، قبل أن تبدأ معدّلات الاحتجاج في التراجع مجدّداً في عامي 2021 و2022 ولكن ستظل نسبة التعبير عن الاحتجاج بالشكاوى والمناشدات أعلى من 90%.

تطوّر معدّلات الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية منذ تاعام 2013 وحتى العام 2022 يوضح كيف تمكّنت السلطة في مصر من الوصول بالشارع إلى حالة الضبط التي كانت تسعى إليها، والمظاهرات والإضرابات التي رفعت المطالب الاقتصادية والاجتماعية، حلّت محلّها الشكاوى والمناشدات، والتي لا تجد بدورها من يستجيب لها.

ولكن سنوات الاستقرار تلك، والتي جرّب فيها النظام سياسات الإصلاح الاقتصادي بأنواعها، هي نفسها التي شهدت أعلى معدّل للفقر بين السكّان، وصل إلى ثلث السكان في العام 2019 بحسب بحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ما يعني أن الاستقرار الذي تتمتع به السلطة هو الاستقرار الذي يصنعه الكبت ومصادرة المجال العام ومنع كافة مظاهر الاحتجاج أو حتى التعبير. استقرار هشّ ومؤقت حتى وإن استمر لسنوات، ولكنه ينهار سريعاً متى أصبحت تكلفة الصمت أعلى من تكلفة القمع.