
هبوط ناعم؟
في آب/أغسطس الماضي، ألقى جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، خطابه السنوي أمام كبار المصرفيين المركزيين والاقتصاديين، فأشعل ما وصفته بلومبرغ بـ«طفرة سعرية في وول ستريت». جاءت هذه الاستجابة على تناقض تام مع ردود الفعل على خطابيه السابقين في جاكسون هول. ففي العام 2022، اعترف باول بخطئه في تقدير التضخّم الأخير حين وصفه بـ«المؤقت»، وتعهّد بمواصلة رفع أسعار الفائدة. أمّا في العام 2023، وبعد رفع أسعار الفائدة إلى نحو 5.5%، أعلن أنّه سوف يتعين إبقاؤها «مرتفعة لفترة أطول». في كلا المناسبتين، هبطت الأسواق.
استندت طفرة هذا العام إلى ثلاث حجج: أولاً، أن التضخّم «في طريقه ليعود إلى نسبة 2%»، وعليه «حان الوقت لتعديل السياسة»؛ ثانياً، أن سوق العمل «تباطأ بشكل ملحوظ»، ولكن ليس بسبب «ارتفاع معدّلات التسريح»، كما يحدث في فترات الركود، بل بسبب «الزيادة الكبيرة في معروض العمل وتباطؤ وتيرة التوظيف السريعة في السابق». وبالتالي، فإن «التفويض المزدوج» للفيدرالي بالحفاظ على انخفاض التضخّم وارتفاع التوظيف يتطلّب النظر في تخفيض أسعار الفائدة للحفاظ على سوق عمل قويّة. بالطبع، لفت باول إلى أن «توقيت التخفيض ووتيرته سوف يعتمدان على البيانات الواردة وسير التوقّعات وموازنة المخاطر»، لكن النبرة العامة لخطابه كانت واضحة: لقد انتصر في معركته ضدّ التضخّم وحقّق ما بدا مستحيلاً، وأعني هنا «الهبوط الناعم»، إذ نجح في الحيلولة دون إنهاك الاقتصاد من دون أن يتسبّب في حدوث ركود. ولكن، أيجب أن نصدقه؟
يدعو البعض الاحتياطي الفيدرالي إلى مزيد من التساهل مع التضخّم، لكن هذا لن يروق للبنك المركزي الملتزم بحماية ثروات الأثرياء
لنجيب عن هذا السؤال، لا بدّ من النظر في التاريخ الحديث لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. على مدى الحقبة النيوليبرالية، تبنّى المجلس – من الناحية العملية، إن لم يكن من الناحية النظرية - وجهة النظر الفريدمانية القائلة بأن «التضخّم ظاهرة نقدية على الدوام»، وعلاجه يكمن بالتالي في تقليص المعروض النقدي. يرفض معظم الاقتصاديين التقدّميين هذا النهج، ويرونه عادة باباً إلى الركود وارتفاع معدّلات البطالة. يدعو البعض الاحتياطي الفيدرالي إلى مزيد من التساهل مع التضخّم، لكن هذا لن يروق للبنك المركزي الملتزم بحماية ثروات الأثرياء. ولن يكون هذا خبراً ساراً للطبقة العاملة أيضاً، إذ سيكون من الضروري وجود قوى مضادة كالنمو السريع والبطالة المنخفضة للتخفيف من أثر التضخم في مستويات المعيشة والسماح للنقابات بزيادة الأجور، وهذه القوى غائبة إلى حد كبير نظراً لضعف الاقتصاد الإنتاجي للولايات المتحدة وتقلّب سوق العمل. يقترح آخرون مكافحة استغلال الشركات الكبرى لتحديد الأسعار، لكن هذا ليس سوى عامل واحد في الارتفاع التضخّمي الأخير، والمسارات المؤسّسية للتصدّي له غير واضحة. وقد تراجعت كامالا هاريس بالفعل عن خطّتها لمكافحة ذلك الاستغلال بعد ردّ الفعل العنيف من الشركات، وأيّ زعيم آخر مهما كانت عزيمته سوف يواجه تحديات تشريعية من الجناح اليميني في السلطة القضائية.
بالنظر إلى أن التضخّم، من الناحية العرضية على الأقل، على أنه «وفرة المال مقابل شحّ السلع»، تكمن الطريقة الفضلى لمعالجته في زيادة المعروض من السلع والخدمات التي ترتفع أسعارها. لكن هذا من شأنه أن يحرم مجلس الاحتياطي الفيدرالي من الاحتكار شبه الكامل للسياسة الاقتصادية، ويتطلّب بدلاً من ذلك دولة تنموية قادرة على اتباع سياسة صناعية فاعلة، ليس من خلال توجيه الائتمان وحده والبحث والتطوير وتدفقات التجارة والاستثمار، بل أيضاً من خلال التحكّم في رأس المال بدلاً من تركه يتحكّم بنا. وهذا طلب صعب. ويتصوّر الاقتصاديون التقدّميون ممن يشيرون إلى السياسة الصناعية أن «أجندة بايدن الاقتصادية تفعل هذا». لكن في الواقع، لم يتعدَ برنامج بايدن تقديم إعانات ضخمة للشركات، وكان نجاحه في إعادة تشكيل مشهد الاستثمار محدوداً.
ومه استبعاد هذه الخيارات، تعتمد السلطات الأميركية على مؤسّسة واحدة لا غير - الاحتياطي الفيدرالي - للسيطرة على التضخّم، ولديها أداة واحدة لا غير لتحقيق ذلك: أسعار الفائدة. وعلى الرغم من لجوء الاحتياطي الفيدرالي إلى تفويضه المزدوج لتبرير قراراته، فإن سجله لا يُظهر اهتماماً كبيراً بزيادة البطالة أو التسبّب في ركود اقتصادي. فزيادة بول فولكر الشهيرة في العام 1979، وهي ذروة الحماس النقدي للبنك المركزي، رفعت سعر الفائدة إلى قرابة 20%، وتسبّبت في ركود مزدوج وارتفاع نسبة البطالة إلى أكثر من 10% بحسب التقديرات الرسمية المحافظة. بعد أربعة عقود، لا يزال الاحتياطي الفيدرالي غير مُكترث بجزء التوظيف من تفويضه. ولكن يوجد جانب آخر تغيّرت فيه المؤسّسة تغيّراً جذرياً. لقد تقيّض لفولكر في الماضي اتخاذ هكذا خطوات جذرية لأنّ النيوليبرالية كانت لا تزال في بدايتها والأمولة على وشك الانطلاق. ولذلك لم يَكُن قلقاً بشأن انفجار فقّاعات الأصول. أما اليوم فالوضع مختلف. لا يستطيع باول تكرار صدمة فولكر، حتى لو أراد ذلك، لأنّ التشديد النقدي بات يتعارض مع مصالح الطبقة الرأسمالية.
تكمن الطريقة الفضلى لمعالجة التضخم في زيادة المعروض من السلع والخدمات التي ترتفع أسعارها، دولة تنموية قادرة على اتباع سياسة صناعية فاعلة من خلال توجيه الائتمان والتحكّم في رأس المال
خَلَفَ آلان غرينسبان فولكر في رئاسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وبدأ فترة ولايته بإنقاذ الأسواق من انهيار مالي في العام 1987 عن طريق ضخّ كمّيات سخيّة من السيولة. بات يعرف هذا التدخل بمصطلح «Greenspan put»، وتشير كلمة «put» في لغة السوق إلى عرض تعاقدي لشراء أصل بسعر معيّن بغض النظر عن الأسعار السائدة، وهذا في جوهره تحوط ضد انخفاض الأسعار. قَرَن غرينسبان هذا التوجّه مع قسوة شديدة تجاه العمّال، فقد كان يحاول «البقاء متقدّماً على المنحنى» من خلال رفع أسعار الفائدة قبل ظهور أي إشارات على تشدّد سوق العمل. لكن هذه الأهداف التكميلية - دعم أسعار الأصول ورفع الفائدة لكبح جماح العمّال - وُضعت في مسار تصادمي مع تطوّر عملية التوسّع المالي (الأمولة). في أواخر التسعينيات، أسفرت زيادات الاحتياطي الفيدرالي في أسعار الفائدة عن انفجار فقاعة سوق الأسهم. ومع انفجارها، أوجب عليه منطق «Greenspan put» القيام بتخفيض أسعار الفائدة إلى مستويات تاريخية، ليس لإنقاذ المؤسسات المالية فحسب، بل أيضاً للحفاظ على نمو فقاعة الإسكان وخلق فقاعة ائتمانية إلى جانبها.
لاحقاً، حين تسبّب ازدهار السلع العالمية في حدوث تضخّم وضغط هبوطي على الدولار، اضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي مرّة أخرى إلى اللجوء إلى رفع أسعار الفائدة. وكان تأثير ذلك تفجير فقاعتي الإسكان والائتمان، ما أسهم في الأزمة المالية لعام 2008. وفي أعقاب تلك الأزمة، خُفِّضت أسعار الفائدة إلى مستويات شبه صفرية، كما استُخدِم التيسير الكمّي و«التوجيه المستقبلي» لإحياء الأسواق المالية. بحلول ذلك الوقت، أصبحت مشتريات الأصول وسيلة للحفاظ على نموذج الأمولة الأميركي. وتحت قيادة خلفاء غرينسبان، أصبح التدخّل الفيدرالي (Put) أداة تسهِّل التراكم الخاص من خلال فقاعات المضاربة، بينما تُحمَّل الخسائر على المجتمع ببساطة عبر طباعة المزيد من الأموال.
على مدار العقد ونصف العقد الماضيين، وعلى الرغم من كثرة الحديث عن الإصلاح المالي، نمت فقّاعات الأصول إلى حدّ أصبحت فيه تشكّل «فقاعة شاملة»، لا تكف تتوسّع بينما يعاني الاقتصاد الحقيقي من ركود. وعلى الرغم من نسب الفضل إلى الاحتياطي الفيدرالي في إبقاء التضخّم منخفضاً في خلال هذه الفترة، فالحقيقة أنّ هذا التضخم ظل تحت السيطرة بفعل عوامل أخرى. بعد أزمة الديون في العام 1982، استخدمت الولايات المتحدة قوّتها الإمبريالية لفرض التكييف الهيكلي على عدد كبير من دول العالم الثالث، بينما نقلت الإنتاج إلى الصين بالتحديد. وبهذه الطريقة، حافظت على انخفاض أسعار الواردات الأساسية - السلع الأساسية والمصنوعات المنتجة بالخارج - بينما فرضت ضغوطاً على أجور العمّال في الداخل. لكن جاءت عشرينيات القرن الحادي والعشرين لتضع حدّاً لهذا العصر من الأسعار المنخفضة. فقد تسبّبت اضطرابات جائحة كورونا، ومعها التوترات التجارية مع الصين، بالإضافة إلى اندلاع الحرب في أوكرانيا، في ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة. ومع عودة التضخّم، وجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه في مأزق، فهذه الفقاعات المالية تعتمد على السيولة النقدية السهلة، وبالتالي لا يمكنه استخدام الوسيلة الوحيدة المتاحة لديه لمواجهة ارتفاع الأسعار.
حين تسبّب ازدهار السلع العالمية في حدوث تضخّم، اضطر الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة، وكان تأثير ذلك تفجير فقاعتي الإسكان والائتمان اللتين أسهمتا في الأزمة المالية لعام 2008
يعكس الرسمان البيانيان أدناه هذا المأزق. يوضح الأول العلاقة بين أسعار الفائدة ومؤشر أسعار المستهلك الصادر عن مكتب إحصاءات العمل، وهو المقياس الأكثر شيوعاً للتضخم. أمّا الثاني فيوضح العلاقة بين أسعار الفائدة ونفقات الاستهلاك الشخصي الصادر عن مكتب التحليل الاقتصادي، وهو المقياس المفضّل لدى الاحتياطي الفيدرالي عند تبرير تأثير قراراته بشأن أسعار الفائدة في الاستهلاك العام.
لدينا هنا 3 نقاط جديرة بالاهتمام. أولاً، يقلّل مقياس التضخّم المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي من تقدير التضخّم. إذ يأخذ في حسبانه «الإحلال» الذي يحدث حين تتّجه الأسر إلى شراء السلع الأقل كلفة، بمعنى أنّه يجعل من آليات التكيّف الأسرية حجة ليصطنع تقليص أرقام التضخّم. كما أنّه يمنح وزناً أقل لتكاليف السكن، على الرغم من ارتفاعها الحادّ بفعل فقّاعة الإسكان وفقّاعة الأصول الشاملة. ثانياً، منذ العام 2000، حين تسارع الاحتياطي الفيدرالي في جهوده لدفع النمو المدفوع بالفقاعات وغيّر مقياس التضخّم المفضّل لديه إلى مؤشّر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي، كان مؤشّر أسعار المستهلك يتجاوز في الغالب الهدف البالغ 2%. وبغض النظر عن المقياس المستخدم للتضخّم، فقد كان التضخّم عموماً فوق أسعار الفائدة في خلال هذه الفترة، ما يجعل أسعار الفائدة الحقيقية سلبية. أخيراً، لا يزال التضخّم اليوم أعلى بكثير من هدف 2%، حتى لو انخفض تحت أسعار الفائدة في الأشهر الأخيرة؛ لكن يرفض الاحتياطي الفيدرالي رفضاً قاطعاً زيادة أسعار الفائدة أكثر، بعدما رفعها إلى 5.33% في تموز/يوليو 2023. في النهاية، تسبّبت هذه الزيادة بالفعل في اضطرابات كبيرة، بداية من فشل سلسلة من البنوك كان أولها «بنك سيليكون فالي» إلى زعزعة أسواق العقارات التجارية والأسهم الخاصة وسندات الخزانة وغيرها.
على الرغم من ادعاء الاحتياطي الفيدرالي أنّ التضخم انخفض إلى 2.9%، والتنبؤ بأنّه سينخفض أكثر، يمدّنا تحليل مكتب إحصاءات العمل لأرقام التضخّم بصورة مختلفة كلياً. ففي حين تراجع التضخّم بفضل انخفاض أسعار المواد الغذائية والطاقة، فإنّ التضخّم الأساسي، وهو مقياس يستبعد تلك الأسعار بسبب تقلّباتها، لا يزال عند 3.2%. ومع توقّع زيادة أسعار المواد الغذائية والطاقة في الأشهر المقبلة، بسبب استمرار تحريض الولايات المتّحدة وحلف الناتو على الحرب، قد يكون إعلان باول عن النصر سابق لأوانه بكثير.
ماذا عن زعمه بتحقيق «هبوط ناعم»؟ لدينا من الأسباب ما يكفي لنشكّك بذلك. من جهة، تشير بيانات الوظائف السلبية إلى أن الركود ربما لا يزال محتملاً. ومن جهة أخرى، إذا نجحت تخفيضات أسعار الفائدة في منع الركود، فذلك يفتح المجال لاستمرار التضخّم و«انعدام الهبوط» من أصله. بعدما ابتدأت حقبة النيوليبرالية في العام 1979 بزيادات تاريخية غير مسبوقة في أسعار الفائدة، حرم الاحتياطي الفيدرالي نفسه من حينها من القدرة على استخدام السلاح الوحيد المضاد للتضخّم في ترسانته بسبب حضانته لفقاعات الأصول المتعاقبة. وبعدما استأثر لنفسه بمسؤولية إدارة الاقتصاد، أثبت الآن عجزه عن القيام بذلك.
نُشِر هذا المقال في New Left Review في 9 أيلول/ سبتمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.