Preview هل تجتاح إضرابات العمل الولايات المتحدة الأميركية مجدداً؟

هل تجتاح إضرابات العمل الولايات المتحدة الأميركية مجدداً؟

بين عامي 2022 و2023، ارتفع عدد العمال المضربين أو المتوقفين عن العمل بنسبة 141% تقريباً، أي من 224,000 إلى 539,000 شخص، بحسب مرصد الحراك العمالي الأميركي (Labor Action Tracker) الذي وثّق 466 إضراباً و4 عمليات إغلاق شرعت بها شركات عند نزاع عمالي. وهو ما يشكّل 470 توقفاً عن العمل في المجمل، وهو أعلى بنسبة 9% تقريباً عن العدد الذي وُثّق في السنة السابقة، ويعادل نحو 24,874,522 يوم إضراب (مدة الإضراب مضروبة في العدد التقريبي للعمال المضربين).

ما أهمية أرقام مرصد الحراك العمّالي؟

على المستوى التقني، تعوّض أرقام مرصد الحراك العمالي الأميركي، بشكل كبير، عن القصور التقني الذي تعاني منه الأرقام الرسمية التي يصدرها مكتب إحصاءات العمل الأميركي، وذلك منذ تخفيضات التمويل التي أقرّتها إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، إذ يعتبر مكتب إحصاءات العمل نفسه غير معني إلا برصد «التوقفات الكبيرة عن العمل» أي تلك التي تضم  1,000 عامل أو أكثر، وتستمر لنوبة عمل واحدة على الأقل في خلال أسبوع العمل، من الإثنين إلى الجمعة باستثناء العطلات الفيدرالية.

الإضرابات الاميركية

للمفارقة، تشير بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي عن حجم الشركات إلى أن 58% من العاملين في القطاع الخاص يعملون في شركات يعمل بها أقل من 1,000 موظف، ما يعني أن أي نشاط يشرع به هؤلاء العمّال لن يسجّل في البيانات الخاصة بالتوقف عن العمل. على سبيل المثال، لم يتم تسجيل الإضراب الممتد لستة أسابيع وشارك فيه 750 من طلاب الدراسات العليا بجامعة تمبل في بيانات العام 2023.

على الرغم من ذلك، تشير بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي، عن حصول  33 توقفاً كبيراً عن العمل، في العام 2023،  وهذا هو أكبر عدد من حالات التوقف الكبيرة عن العمل منذ العام 2000،  إلا أنه لا يشكل سوى 7% فقط من عدد الحالات التي وثّقها المرصد. علماً أن مكتب إحصاءات العمل قد أفاد من ناحية أخرى عن 458,900 عامل مشاركين في حالات توقف العمل الرئيسية التي بدأت في العام 2023، أي 85% من عدد العمّال الموثقين من قبل مرصد الحراك العمالي.

الإضرابات الاميركية

الإضرابات الأربعة الأكبر

ترجع الزيادات في حالات الإضراب والمشاركين فيها إلى الإضرابات الكبيرة البارزة التي حصلت في العام 2023، بما في ذلك إضراب نقابة ممثلي الشاشة والاتحاد الأميركي لفناني الراديو والتلفزيون، وإضراب تحالف نقابات شركات كايزر بيرماننت للتأمين الصحي، وإضراب منطقة لوس أنجلوس التعليمية الموحّدة، وإضراب عمّال السيارات المتحدون، حيث كانت هذه الإضرابات الأربعة الأكبر في العام الماضي وشملت نحو 350,100 عامل من أصل 539,000 عامل، أي 65% من جميع العمّال المشاركين في الإضرابات عن العمل.

إضراب نقابة ممثلي الشاشة والاتحاد الأميركي لفناني الراديو والتلفزيون (SAG-AFTRA): أعلنت النقابة إضراباً بدأ في 14 تموز/يوليو وانتهى في 8 تشرين الثاني/نوفمبر (100 يوم) ضدّ استوديوهات الإنتاج الكبرى في هوليوود، حيث طالب المنتسبون إليها بتحسين الأجور وظروف العمل، بالإضافة إلى عقود تتضمّن أحكاماً بشأن الذكاء الاصطناعي.

تمثل هذه النقابة نحو 160,000 شخص في صناعة الترفيه، بما في ذلك ممثلين وفناني التسجيلات وشخصيات إذاعية وغيرهم من المنخرطين في مجال الإعلام، علماً أن نقابة الكتاب الأميركية (WGA) وهي تحالف من نقابتين تمثلان كتاب السينما والتلفزيون والأخبار والإذاعة والإنترنت، سبقت SAG-AFTRA في الإضراب في استوديوهات الإنتاج منذ أيار/مايو.

 تجدر الإشارة إلى أن SAG-AFTRA ونقابة الكتاب الأميركية قد أضربوا مرات عدّة قبل ذلك، إلا أن الممثلين والكتاب لم يدخلوا في «إضراب مزدوج» سوى مرة واحدة من قبل في العام 1960، ووفقاً لتحليل مركز بيو للأبحاث للبيانات الفيدرالية فإن إضراب الممثلين هو ثاني أكبر نزاع عمّالي في الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود على الأقل.

إضراب تحالف نقابات شركات كايزر بيرماننت للتأمين الصحي: في تشرين الأول/أكتوبر 2023، شارك أكثر من 75,000 من العاملين في مجال الرعاية الصحية في «كايزر برماننت» الذين يمثلهم تحالف من نقابات متعددة في أكبر إضراب مسجّل في تاريخ الولايات المتحدة لقطاع الرعاية الصحية، شمل الإضراب الذي استمر لمدة ثلاثة أيام الممرضات والفنيين الطبيين وموظّفي الدعم في مئات من منشآت كايزر في 7 ولايات ومقاطعة كولومبيا، مع أكبر مجموعات من عمّال كايزر المضربين في كاليفورنيا

بعد استمرار الإضراب لثلاثة أيام، توصل العمّال إلى اتفاق مبدئي مع شركة كايزر تضمن زيادة في الأجور بنسبة 21% على مدى أربع سنوات، ومكافآت إضافية، ومبادرات جديدة للتدريب والتعليم والتوظيف لزيادة مستويات التوظيف.

إضراب عمّال السيارات المتّحدون: في 15 أيلول/سبتمبر 2023، أضرب أكثر من 12,000 عامل في شركات جنرال موتورز وفورد وستيلانتس بعد انتهاء عقودهم، ودخل العمال - الذين تمثلهم نقابة عمال السيارات المتحدة - في إضراب لتأمين أجور ومزايا أفضل بعد تنازلات سابقة في العقود التي أعقبت ركودالعام 2008. بين عامي 2013 و2023، شهدت شركات صناعة السيارات الثلاث ارتفاعاً في أرباحها بمقدار 250 مليار دولار، في حين لم يحصل أعضاء اتحاد عمال السيارات المتحدين على إي تعديل في ما يتعلق بتكلفة المعيشة منذ العام 2009

بشكل عام، شارك نحو 53,000 عامل في الإضراب عن العمل، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها اتحاد عمال السيارات المتحدون بالإضراب في شركات صناعة السيارات الثلاث في الوقت نفسه، وانتهى الإضراب بعد شهرين بعد أن توصل عمال السيارات المتحدون وجنرال موتورز وفورد وستيلانتس إلى اتفاقيات تضمّنت زيادات على الأجور لا تقل عن 33% لجميع العمال، ومكافآت سنوية للمتقاعدين، وإلغاء نظام الأجور ذي المستويين التي تتلقى فيها مجموعة من العمال أجوراً أو استحقاقات أقل من مجموعة أخرى،  وغير ذلك من الامتيازات الجديدة.

إضراب منطقة لوس أنجلوس التعليمية الموحّدة: أضرب الآلاف من العمّال المدعومين من المعلمين في آذار/مارس 2023، واحتشدوا خارج مقر المنطقة التعليمية في وسط مدينة لوس أنجلوس وكان الهدف هو المطالبة بتحسين الأجور وزيادة عدد سائقي الحافلات وعمال الكافتيريا ومساعدي المعلمين وغيرهم من الموظفين الذين تمثلهم النقابة.

تخدم المنطقة التعليمية أكثر من نصف مليون طالب وطالبة في المنطقة، وهو حجم التحاق يأتي في المرتبة الثانية بعد نظام المدارس العامة في مدينة نيويورك.

في النهاية، تم الوصول إلى اتفاقية تزيد الأجور بنسبة 30% للعاملين الذين يتقاضون في المتوسط 25,000 دولار سنوياً، كما تشمل أيضاً مكافأة قدرها 1000 دولار للموظفين الذين عملوا في خلال جائحة كوفيد-19 ومزايا رعاية صحية عائلية موسّعة.

التوقف عن العمل بحسب القطاعات

بحسب البيانات التي يعرضها المرصد، حاز قطاع خدمات الإقامة والطعام على العدد الأكبر من حالات التوقف عن العمل، وبلغت نسبتها 33.4% من الإجمالي، علماً أن هذا القطاع شمل إضراباً لعمال ستاربكس استمر ليوم واحد وتزامن مع حملة ستاربكس الترويجية: «يوم الكوب الأحمر»، الذي يعد أحد أكثر أيام الشركة ازدحاماً، وكان إضراب «يوم الكوب الأحمر» لعام 2023 أكبر إضراب لنقابة عمال ستاربكس المتحدة حتى الآن، حيث شارك فيه أكثر من 5,000 عامل في 200 متجر.

من جهة أخرى، استحوذ قطاع المعلومات على أكبر عدد من العمّال المضربين عن العمل، إذ بلغت نسبتهم 34.5% من إجمالي العمّال المضربين، وكذلك استحوذ على غالبية أيام الإضراب، إذ بلغت نسبتها 83.8% من إجمالي أيام الإضراب، وشملت إضراباً لمدة ستة أسابيع ضد شركة فيرايزون في العام 2016 (شارك فيه 36,500 عامل، و1.2 مليون يوم تعطيل)، وإضراب 1800 عامل كهرباء ضد شركة تشارتر كوميونيكيشنز الذي بدأ في العام 2017 واستمر لأكثر من خمس سنوات.

الإضرابات الاميركية

ما متوسط المشاركة؟

بحسب المرصد، استمر 62% من جميع الإضرابات في العام 2023 أقل من خمسة أيام. مع ذلك، فإن ما يقرب من نصف العمّال المشاركين في الإضرابات عن العمل في العام 2023 كانوا على خط الاعتصام لمدة تزيد عن شهر، علماً أن أكثر من خُمسي الحالات قد شارك فيها أقل من 50 عامل، وشاركت الغالبية العظمى من العمال في حالات انضم إليها أكثر من 1,000 عامل.

دور النقابات

بحسب Economic Policy Institute، حشدت النقابات أكثر من 16.2 مليون عامل في العام 2023، بزيادة قدرها 191,000 عامل عن العام 2022، وبحسب المرصد، فإن 78% من حالات التوقف عن العمل في العام 2023 بدأها عمال نقابيون. 

من جهة أخرى، كانت الغالبية العظمى (92.8%) من جميع الإضرابات النقابية مصرح بها من قبل النقابة، مقابل 5.5% غير مصرح بها و1.7% غير معروفة، واستحوذت الإضرابات المصرح بها على النسبة الأكبر من عدد العمال المضربين (99.7%) وأيام الإضراب (100%).

الإضرابات الاميركية

هل من معنى لهذه الأرقام؟

على الرغم من اقتصارها على الإضرابات الأكبر، لا تزال بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي المرجع الذي يمكن استخدامه لاستنباط اتجاه تاريخي لأرقام الإضرابات في الولايات المتحدة الأميركية، فقد بدأ مرصد الحراك العمّالي بتوثيق الإضرابات في أواخر العام 2020 والاحتجاجات العمالية في أوائل العام 2021، إلا أن قاعدة بياناته للإضرابات هي الأكثر دقة اعتباراً من العام 2021. 

بحسب بيانات مكتب إحصاءات العمل، يمكن القول إن ذروة الإضرابات كانت في العام 1952، عندما كان هناك 470 حالة توقف عن العمل، شملت أكثر من 2.7 مليون عامل، وتسببت في 48.8 مليون يوم تعطل عن العمل، وهو ثالث أكبر عدد مسجل. 

سواء تم قياسها بالعدد الإجمالي أو العمال المشاركين أو أيام التوقف عن العمل، فإن الإضرابات الكبيرة عن العمل أصبحت أقل شيوعاً بعد العام 1980. إذ نما الاقتصاد الأميركي بعيداً من قطاعات التصنيع التي كانت تضم عدداً كبيراً من النقابات، وتحولت الحكومة الفيدرالية في عهد الرئيس رونالد ريغان إلى معاداة العمال المنظمين، فعلى سبيل المثال، لم يحدث سوى 5 اضطرابات كبيرة عن العمل في العام 2009، شملت ما مجموعه 12,500 عامل فقط.

بالعودة إلى بيانات مكتب إحصاءات العمل الأميركي، فإن عدد حالات التوقف عن العمل في 2023 وصل إلى ضعف متوسط الحالات في السنوات العشرين الماضية، وهو في ارتفاع مستمر منذ 3 سنوات. فهل يشهد المجتمع الأميركي عودة اجتياح الإضرابات؟ الأرقام قاصرة حتى الآن عن الاجابة، إلا أنها تفصح عن أزمة عمل في معقل الرأسمالية العالمية.