Preview توسيع قناة السويس

توسيع جديد لقناة السويس: ممرّ ملاحي للأزمة المقبلة

إن الندرة الشديدة في النقد الأجنبي، وما أنتجته من آثار تضخّمية واضطراب في سعر الصرف وشحّ في السلع المستوردة، بدت كلّها قابلة للحلّ مع بدء تدفّقات النقد الأجنبي منذ مطلع آذار/مارس الحالي، وبدا أن ثمّة انفراج في الأفق، ولو مؤقّت، للأزمة العميقة التي يواجهها الاقتصاد المصري، وبلغت ذروتها في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية. 

على الرغم من الإجراءات القاسية التي صاحبت تلك الانفراجة، وتمثّلت في تحرير سعر الصرف ورفع الفائدة بنسبة 6%، اعتبرت تلك التدفّقات فرصة جيّدة لتخفيف الآثار الاجتماعية للأزمة عبر إجراءات سريعة لتوفير السلع الأساسية وضبط الأسواق. لكن خيارات الحكومة بدت مختلفة، فما إن أُبرِمت صفقة رأس الحكمة ولحقها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، حتى بدأ الحديث عن مشروع «قومي عملاق» جديد، يذكّر بتلك المشروعات التي سبقت دخول الاقتصاد المصري في أزمته المستمرّة، إذ أعلن رئيس هيئة قناة السويس، أسامة ربيع، في الرابع من آذار/مارس، عن بدء إعداد الدراسات اللازمة لتوسيع قناة السويس.

يعرف هذا المشروع بـ«الازدواج الكامل لقناة السويس»، ويشمل حفر وتجريف 80 كيلومتراً، منها 50 كيلومتراً شمالاً في اتجاه البحر المتوسط و30 كيلومتراً جنوباً في اتجاه خليج السويس. وبإتمام هذا المشروع يصبح الممرّ الملاحي لقناة السويس مزدوجاً بالكامل، أي أنه سوف يسمح بمرور السفن في الاتجاهين، وبالتالي سوف يقلّل وقت انتظار السفن ويسرّع المرور في القناة.

Previewتوسيع قناة السويس

عودة إلى الماضي القريب 

يبدو المشروع جيّداً بالفعل، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار زيادة حركة التجارة العالمية مستقبلاً، والوضع التنافسي لقناة السويس مع خطوط التجارة المنافسة للقناة. لكن مجرد طرح المشروع، أعاد إلى الأذهان مشروع التوسيع والازدواج الجزئي لقناة السويس الذي أطلقه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في العام 2014، وكان عبارة عن مسار مائي موازٍ لقناة السويس بطول 35 كيلومتراً، بالإضافة إلى توسيع مناطق أخرى في الممرّ الملاحي بهدف خفض مدّة عبور السفن من 18 ساعة إلى 11 ساعة فقط، وبالتالي زيادة الطاقة الاستيعابية لقناة السويس.

لا شك أن المشروع يحمل في طياته الكثير من الأبعاد الإيجابية، التي تتصل مباشرة بزيادة عوائد قناة السويس، ورفع قدرتها التنافسية، ومواكبتها لمعدلات الزيادة في حركة التجارة العالمية وأحجام السفن الجديدة.

بلغت التكلفة الإجمالية للمشروع نحو 8.2 مليار دولار، وتم توفير التمويل اللازم عبر طرح شهادات ادخار في أكبر مصرفين حكوميين تحت اسم «شهادات قناة السويس»، بهدف جمع نحو 60 مليار جنيه لتمويل المشروع بفائدة 12%، تم رفعها لاحقاً إلى 15% مع قرار تحرير سعر الصرف في 2016.

صاحب المشروع، منذ إطلاقه في صيف 2014 وإتمامه في صيف 2015، دعاية واسعة النطاق عن عائداته السريعة والآثار الاقتصادية التي سوف تتحقّق فوراً. والحقيقة أنه عقب انتهاء المشروع وافتتاحه كانت الأوضاع الاقتصادية غير مواتية، إذ لم تتحقّق العوائد السريعة للمشروع، بل ما حصل فعلياً هو فرض ضغوط إضافية ومتزايدة على مالية الدولة نتيجة الديون، التي ارتفعت أعباؤها من 280.5 مليار جنيه في العام المالي 2013/2014 إلى 429.4 مليار جنيه في العام المالي 2014/2015، ومن ثم إلى 484 مليار جنيه في العام المالي 2015/2016.

ومن حينها، استمرت أعباء الديون في الارتفاع من دون توقّف، وعكست تأثير المشروع المموّل بفائدة مرتفعة على المالية العامة للدولة، إذ أنفقت الدولة من ميزانيتها نحو 7.4 مليار جنيه سنوياً لمدة خمس سنوات لدفع فوائد «شهادات قناة السويس» وفقاً لورقة بحثية صادرة عن مركز «حلول للسياسات البديلة» التابع للجامعة الأميركية في القاهرة. وتشير الورقة التي تحمل عنوان «قناة السويس بين الواقع والطموح» إلى ملاحظة رئيسة، وهي ارتفاع نسبة المصروفات في قناة السويس - وتشمل الأجور والضرائب ونفقات مختلفة أخرى - إلى إيرادات القناة من 16.3% في العام المالي 2001/2002 إلى 52.2% في العام المالي 2020/2021. ما يعني أن عائد المصروفات والتكاليف تراجع بنسبة كبيرة، وهو ما يؤكّد على ضعف الجدوى المحقّقة بالمقارنة مع التكاليف التي تكبّدتها الميزانية العامّة، وعدم إنتاج المشروع للعائد المنتظر منه. ففي حين استهدفت الحكومة تحقيق عائد سنوي بقيمة 13.5 مليار دولار بحلول العام 2023، بلغ أقصى عائد محقق نحو 9.4 مليار دولار في العام المالي 2022/2023، بزيادة 35% عن العام السابق.

التأثّر بالتقلّبات الخارجية

الحقيقة أن قناة السويس، مع التأكيد على أهميتها الخاصة، كأحد أهم ممرات التجارة العالمية، إلا أنها تبقى شديدة التأثر بالمتغيرات العالمية والإقليمية. كلّ اضطراب في سلاسل الإمداد العالمية يؤثر مباشرة في قناة السويس، وكل اضطراب إقليمي يلقي بظلاله مباشرة على القناة. والوضع الماثل حالياً هو خير دليل. فمنذ بدء تصدّي حركة «أنصار الله» اليمنية لمرور السفن الإسرائيلية أو التي على علاقة بإسرائيل في خليج باب المندب دعماً للمقاومة الفلسطينية، خسرت قناة السويس 47% من إيراداتها. 

كذلك تعد قناة السويس شديدة الحساسية تجاه تقلّبات أسعار النفط. كل انخفاض في أسعار الوقود يؤدي إلى تراجع تنافسية قناة السويس مع خطوط الملاحة الطويلة، إذ تضع السفن مفاضلات بين كلفة اجتياز مسافات أطول، والتي تنخفض بانخفاض أسعار الوقود، وكلفة دفع رسوم المرور في قناة السويس، ما يدفع هيئة قناة السويس إلى خفض رسوم المرور للحفاظ على تنافسيتها، وبالتالي خفض إيراداتها. ما يعني أن مشاريع التوسيع والازدواج في قناة السويس، بتكلفتها الباهظة، ليست العامل الأكثر تأثيراً في إيرادات القناة.

لا يعني ذلك عدم وجود جدوى أو أهمّية في تطوير القناة، لكن الأمر يتعلّق بالأولويات. ففي ظل أزمة اقتصادية خانقة، لا يمكن أن تتركّز الأولوية على ضخّ استثمارات ضخمة في مشروعات شديدة التأثّر بالتقلّبات الخارجية وغير مؤكّدة. والتجربة السابقة أنتجت بالفعل أعباءً إضافية وعمّقت الأزمة.

التكاليف المتوقّعة للمشروع الجديد

يبلغ طول القناة المزدوجة الجديدة نحو 80 كيلومتراً، أي أكثر من ضعف تفريعة العام 2014. وهو ما يعني، من الناحية الحسابية فقط، ومن دون الدخول إلى تفاصيل طبيعة الموقع والتربة، أن التكاليف على أقل تقدير سوف تتجاوز ضعف تكاليف المشروع السابق، من دون احتساب التغيّر في الأسعار والوضع الاقتصادي في مصر. 

وعلى الرغم من الحديث عن أن تكلفة المشروع سوف تتحمّلها ميزانية هيئة قناة السويس، سوف يؤول العبء بشكل غير مباشر على موازنة الدولة، لا سيما أن فوائض إيرادات القناة يفترض تحويلها إلى خزانة الدولة، إلا أن مشروعاً مماثلاً سوف يمتص جزءاً وازناً من إيرادات القناة نفسها ومن التدفقات النقدية التي قد تتحقّق سواء من صفقة رأس الحكمة، أو من القرض من صندوق النقد أو من حزمة الدعم الأوروبية. وهو ما يعني في الخلاصة إعادة إنتاج الأزمة نفسها مجدّداً.

من الواضح أن سيطرة هوس «المشاريع العملاقة» على الفكر الاقتصادي الرسمي في مصر في خلال السنوات العشر الماضية، مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة والقطار الكهربائي بالإضافة إلى مشروع قناة السويس، لم يفرز سوى المزيد من الأعباء على الاقتصاد من دون عائد واضح. وهو ما أشار إليه صندوق النقد الدولي في «وصاياه» التي كرّر فيها مراراً ضرورة التوقّف عن ضخّ الأموال في المشاريع العملاقة ضعيفة العائد، حتى أنه اعتبر ذلك من أحد شروط إبرام الاتفاقيات مع الصندوق.

ومن الواضح أيضاً أن العقلية الريعية هي التي تقود القرار الاقتصادي، وليس العقلية الإنتاجية. ففي حين تعطّل الحكومة مشاريع إنتاجية ضخمة وتصفيها، مثل مجمع الحديد والصلب جنوب القاهرة، وشركة النصر للكوك والكيماويات، منهية بذلك العديد من الوظائف والطاقات الإنتاجية، تضخّ في المقابل مبالغ ضخمة في مشاريع شديدة الحساسية تجاه المتغيّرات العالمية والإقليمية، وأيضاً غير إنتاجية لا توفّر سوى وظائف مؤقتة تنتهي بانتهاء تلك المشاريع.

اللافت أن الحديث عن مشروع ازدواج قناة السويس ترافق مع حديث آخر منفصل عن بدء أعمال المرحلة الثانية من العاصمة الإدارية الجديدة في بداية العام المقبل، بتكلفة تقترب من 5 مليارات دولار. وهو ما يعد استمراراً للمنطق الريعي الذي يسعى إلى رفع القيمة العقارية لأراضي في الصحراء عبر ضخّ أموال ضخمة على مشاريع فيها، بدلاً من السعي إلى خلق قيمة مضافة عبر دعم القدرات الإنتاجية.

الأزمة التي يشهدها الاقتصاد المصري منذ سنوات، أعقبت السعي المحموم للحكومة لإنجاز مشاريع كبرى، دعمت ببروباغندا واسعة عن أثر تلك المشروعات وعوائدها. وعلى الرغم من امتصاص تلك المشاريع لاستثمارات ضخمة، إلا أنها ظلت كالإسفنجة لا يغيّرها ما تمتصّه. وبدلاً من جني الثمار، جنت تلك المشاريع على الاقتصاد وتركته فريسة للديون. وبعد عشر سنوات من التجربة، لم يتغيّر شيء. إن المليارات المتدفّقة، سواء عبر قروض تثقل كاهل الموازنة أو صفقات تمنح مستثمري دول الخليج العربي امتيازات واسعة، تشق طريقها مجدّداً نحو المشاريع الكبرى، مخلّفة وراءها المزيد من الديون والأزمات.