Preview الحياد السويسري

الحياد السويسري: دروسٌ للبنان ؟

  • لم يعتقد السويسريون أن الاعتراف الدولي بحيادهم سيكفيهم شرّ الاعتداءات أو الحروب. وقد ظهر ذلك جليّاً في أكبر تحدّيين واجههما حياد سويسرا: الحربين العالميّتين اللتين عصفتا بمحيطها. إبّان الحرب العالميّة الأولى كانت سويسرا قد حشدت 220 ألف عسكري بحلول آب/أغسطس 1914. وفي خلال الحرب العالمية الثانية، كان لدى سويسرا 850 ألف رجل تحت السلاح أو في الاحتياط، وهو ما يمثل خُمسْ مجمل السكان.
  • تبدو سويسرا أكثر اتباعاً للحياد السلبي أو الحياد المسلّح. وهي، في سبيل حماية هذا الحياد لجأت إلى تأمين مستلزماته من اعتراف دولي وجهوزية عسكرية رادعة. وحدث ذلك في ظل عقد اجتماعي بين «مكوّنات» متباينة إثنياً ودينياً ولغوياً إنما خاضعة لإرادة سياسية موحّدة. وقد استغلّت سويسرا جغرافيتها في استراتيجيتها الدفاعية، واستفادت من موقعها في جغرافيا الصراع.

شهد لبنان، من جملة ما شهده، منذ منتصف القرن الماضي، بُعيد استقلاله، حروباً خارجية، تدخّلاً ودخولاً لقوى مسلّحة أجنبية، حربين أهليّتين متفاوتتين في العنف والمدة، اجتياحات بريّة من الجيشَين المجاورَين، موجات من الاغتيالات السياسية، وتسوياتٍ وتشنّجات ومغالباتٍ بين القوى السياسية الداخلية.

يبدو جليّاً عند المراجعة السريعة لهذه المحطّات والمسارات انعكاس النفوذ الإقليمي والدولي على موازين القوى واستقرارها واختلالها داخل لبنان. وقد توالت وتبدلت هذه القوى المؤثرة بين الولايات المتحدة، الناصرية، نظام البعث في سوريا، إسرائيل، إيران الإسلامية، السعودية، وغيرها. لذلك، تحدو الحساسية العالية للبنان - البلد الصغير على الساحل الشرقي للمتوسّط - إزاء المتغيّرات الخارجية بالبعض إلى اقتراح الحياد سبيلاً لتجنّب الأزمات الناتجة عن المؤثرات الخارجية.

بَيد أن موضوعة الحياد لم تحظَ في لبنان لا بجدّية الطرح ولا بجدّية النقد. لكن، وكما العديد من الإشكاليات، يمكن أن يكون النظر إلى التاريخ وتجارب الآخرين من دول ومجتمعات والاستفادة منها مدخلاً مفيداً لنقاش الحياد وغيره مع أخذ المتشابهات والفروقات بالاعتبار. ولطالما تلازم «الحياد» في الخطاب العام والأكاديمي مع سويسرا أكثر من أي دولة أخرى. من هنا تلقي هذه المقالة نظرة إلى الحياد السويسري، ظروف تبلوره، محدّدات استمراريته ونجاحه، والتحدّيات التي أحاقت به.

يناقش جون دراير ونيل ج. جيسي هذه المسألة في ورقة بحثية بعنوان «الحياد السويسري؛ نموذج، استثناء، أم كلاهما؟» صادرة عن «مجلة الدراسات العسكرية والاستراتيجية». ويمكن الاستخلاص والاستنباط أن الكاتبين يجدان أربعة عوامل ساهمت في نجاح حياد سويسرا: الضمانة الدولية، الجهوزية العسكرية، المشروع السياسي الداخلي، والموقع الجغرافي.

الضمانة الدولية

تبلورت بدايات تشكّل سويسرا الحديثة وحيادها في خضم حروب أحاطت بها وطالتها. في العام 1798، اجتاحت القوات الفرنسية الكانتونات السويسرية المترامية. وحَّد نابليون الكانتونات وأعاد تنظيمها ضمن الجمهورية الهيلفيتية المركزية. ثم أصدر بعد ذلك دستوراً جديداً لموازنة مركزية الحكم مع رغبة الكانتونات باستقلالية أكبر. بالتوازي، كانت تدور رحى الحروب بين فرنسا النابوليونية وبين تحالفات تنوّعت بين «القوى العظمى» من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا. دفع ذلك بالقوى المناوئة لفرنسا على تشجيع السويسريين لتحقيق استقلالهم وحيادهم. في العام 1814، نبّه الموفد الروسي إلى مجلس زيوريخ إلى «أنّ منطقة من دون وحدة ونظام دستوري، إذا كانت محاطة بممالك قويّة، لا تستحق اسم دولة».

إن حقيقة أن سويسرا لم تضطر إلى القتال كانت بفضل إرادتها للمقاومة واستثمارها الكبير في العديد والعتاد في دفاعها الخاص. لقد كانت تكلفة غزو ألمانيا لسويسرا ستكون بالتأكيد عالية جدًا»

تمخّض هذا المسار في مؤتمر باريس في العام 1814 باعتراف «دولي» باستقلال سويسرا. نصّت إحدى مقرّرات المؤتمر على أن: «سويسرا، المستقلة، ستستمر في حكم نفسها. فرنسا ستعترف وتضمن، بالتوافق مع قوى الحلفاء […] التنظيم السياسي الذي ستعطيه سويسرا لنفسها تحت رعاية القوى المذكورة ووفقاً للأسس المتفق عليها معهم». ثمّ كرّس مؤتمر فيينا في العام 1815 حياد سويسرا بضمانة «القوى العظمى».

وإن كان هذا المسار سيسهم في تكريس الحياد السويسري وتثبيته بالأعراف والقوانين والعلاقات الدولية طوال القرنين التاليين، فإنه لن يكون وحده كافياً إزاء التحدّيات التي ستعصف بالحياد السويسري. لاحقاً ستسعى سويسرا لتثبيت حيادها بمختلف الوسائل العسكرية والدبلوماسية والسياسية وموازنة العلاقة بين القوى المتصارعة. ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى أعادت «القوى العظمى» تكريس اعترافها بحياد سويسرا في معاهدة فرساي ولاحقاً في عصبة الأمم.

جهوزية عسكرية – الحياد المسلّح

لم يعتقد السويسريون أن الاعتراف الدولي بحيادهم سيكفيهم شرّ الاعتداءات أو الحروب. وقد ظهر ذلك جليّاً في أكبر تحدّيين واجههما حياد سويسرا؛ الحربين العالميّتين اللتين عصفتا بمحيطها. إبّان الحرب العالميّة الأولى كانت سويسرا قد حشدت 220 ألف عسكري بحلول آب/أغسطس 1914. وقد نشرت قوّاتها على الحدود تحديداً مع فرنسا ولاحقاً مع إيطاليا.

في خلال الحرب العالمية الثانية كتب آلن دالاس، رئيس شبكة التجسّس الأميركية التي كانت تعمل ضد ألمانيا النازية انطلاقاً من قاعدة في سويسرا: «في ذروة تعبئتها، كان لدى سويسرا 850 ألف رجل تحت السلاح أو في الاحتياط، وهو ما يمثل خُمسْ مجمل السكان... إن حقيقة أن سويسرا لم تضطر إلى القتال كانت بفضل إرادتها للمقاومة واستثمارها الكبير في العديد والعتاد في دفاعها الخاص. لقد كانت تكلفة غزو ألمانيا لسويسرا ستكون بالتأكيد عالية جدًا».

هذه أعداد ليست بسيطة مقارنة بعدد سكان الدولة. وربما ساعدها على ذلك نموذج الميليشيا الذي تعتمده. بدأت سويسرا اعتماد الخدمة العسكرية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وهي لا تزال تفرض هذه الخدمة حتى اليوم على الذكور الراشدين من مواطنيها مع خدمة طوعية للنساء.

استندت الاستراتيجية الدفاعية السويسرية تاريخياً كذلك على ما يُسمى «الحصن الوطني». وهو شبكة كبيرة ومعقّدة من التحصينات العسكرية الدفاعية لا سيما في جبال الألب. لجأ السويسريون إلى تفخيخ بين ألفين وثلاثة آلاف بناء أو منشأة مثل الجسور والطرقات الرئيسية والأنفاق، لا سيما تلك الحدودية التي قد تستخدمها أي جهة معادية للقيام باجتياح برّي. حتى يومنا هذا لا يزال عدد هائل من هذه الجسور والأنفاق مفخّخاً. تحاول الحكومة السويسرية إزالة هذه المتفجرات الآن، إلا أن ضخامة الشبكة تحول دون إنجاز المهمّة بالكامل.

وحدة الإرادة، كفاءة التنظيم

تشكل سويسرا نموذجاً استثنائياً من حيث كونها دولةً ذات أربع لغات رسمية (الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، والرومانشية)، واتحاداً فدرالياً من 26 كانتوناً من متكلّمي هذه اللغات، وتوازناً دينياً بين كاثوليكيين وبروتستانت. لكن هذه الاستثنائية بلغت مستوى آخر عشيّة الحرب العالمية الثانية. ليس فقط لأن ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ثلاث دول أساسية في الحرب هي في الوقت عينه دول حدودية لسويسرا، بل لأن تلك الحرب شكّلت امتحاناً أيضاً لما يُسمى «الهويات العابرة للحدود».

حافظت الدولة المحايدة على علاقات تجارية مع طرفي النزاع من المحور والحلفاء. وهو أمر يتطلّب إدارة سياسية حازمة ولا-أخلاقوية 

في الصفحة الأولى من كتابه، «كفاحي»، أعلن أدولف هتلر أن «الدم المشترك يجب أن ينضوي ضمن إمبراطورية (رايخ) مشتركة». وقد أشار إلى ألمانيا والنمسا بوصفهما «دولتين ألمانيّتين نبذل نحن، جيل الشباب، قصارى جهدنا لإعادة توحيدهما بكل الوسائل المتاحة لنا» (على نسق «شعب واحد في بلدين»!).  كان لا بدّ أن يرنّ هذا الكلام في الآذان السويسرية؛ الدولة ذات الأكثرية السكّانية الساحقة للإثنية الألمانية.

لكن المفارقة حسبما يروي ستيفن هولبروك في كتابه «استهداف سويسرا: الحياد السويسري المسلّح في الحرب العالمية الثانية» أن السويسريين الألمان بسبب قدرتهم على سماع وقراءة الأدبيات النازية بالألمانية كانوا أكثر نفوراً من النازيين من مواطنيهم من الإثنيات الإيطالية والفرنسية. كان السويسريون يرون عبث النازيين بالنمسا وما تبع ذلك من تفجيرات واغتيالات لمعارضين نمساويين. وأدركوا أنه «إن كانت النمسا ستكون فطور النازيين، فلا بد أن سويسرا ستكون غداءهم».

وبالفعل في حزيران 1940، وبعد احتلاله فرنسا، أصدر هتلر توجيهات لوضع خطط الهجوم على سويسرا. لكن بسبب التعبئة العسكرية السويسرية الكبيرة، والنافذة الجغرافية الضيّقة والصعبة المُتاحة لشنّ هجوم بري، توصّلت دول المحور أنها بحاجة إلى ما بين 300 ألف و500 ألف عسكري لمهاجمة سويسرا. تأجلت مواعيد الهجوم لصعوبات وأولويات الحرب المختلفة ليخرج ذلك من البحث مع انشغال النازيين في الجبهة الشرقية مع الاتحاد السوفياتي في العام 1941. (طبعاً، كانت سويسرا قد حظرت الحزب الشيوعي في العام 1940!). 

لا شك أن انعدام الحماسة الفعّالة للسويسريين ومنهم السويسريين الألمان لصعود النازية، تعود بجزء منها إلى أنه حين كان أدولف هتلر يجهد في بناء الرايخ الثالث كان قد مرّ ثمانية قرون على بذرة الكونفدرالية السويسرية الأولى بين ثلاثة كانتونات المبنية على الحياد السلبي والمسلّح، وخمسة قرون على استقلالها عن الإمبراطورية الرومانية، وأكثر من قرن كامل على تكريس مؤتمر فيينا لحياد سويسرا وتطبيقه. هذا زمن طويل كرونولوجياً واجتماعياً وسياسياً وعامل مهمّ إذا ما أردنا المقارنة مع حماسة فئات من العرب في مختلف الأقطار العربية لصعود الناصرية، أو لحماسة فئات من المسلمين أيضاً في مختلف الأقطار لصعود تنظيم الإخوان المسلمين أو الثورة الإسلامية في إيران.

بيدَ أن حياد سويسرا في الحرب الثانية لم يعنِ انعزالها عمّا يجري. حافظت الدولة المحايدة على علاقات تجارية مع طرفي النزاع من المحور والحلفاء. وهو أمر يتطلّب إدارة سياسية حازمة ولا-أخلاقوية بمعنى أنها لا تعتمد قيماً «أخلاقية» كمنظومة مرجعية. وقد أُثير لاحقاً ضد سويسرا قضايا بشأن علاقاتها الاقتصادية بألمانيا النازية ورفضها استقبال اللاجئين اليهود. وفي العام 1995 وجّه الكونغرس اليهودي العالمي دعوى قضائية ضد المصارف السويسرية لمصادرتها أموالاً تابعة لضحايا المحرقة النازية. انتهت آخر الأمر إلى تسوية بقيمة 1.25 مليار دولار.

الموقع الجغرافي

تظهر العوامل السابق ذكرها دقة وتعقيد النموذج السويسري وحقيقة أن كل واحد من هذه العوامل هو جزء لا يتجزّأ من منظومة الحياد المسلّح. إلا أنّ الأمور في الحقيقة أكثر تعقيداً (أو بساطة!). يذكر جون دراير ونيل ج. جيسي في ورقتهما البحثية أن سويسرا لم تكن الدولة الوحيدة في أوروبا التي تتمتع بكل، أو بعض العوامل المذكورة. بلجيكا، مثلاً، كانت محايدة عشية الحرب العالمية الثانية، وحشدت 200 ألف عسكري لحماية حيادها. إلا أن هذا لم يردع جيوش النازية عن غزوها في العام 1940. يعدّد الباحثان دولاً اعتمدت على القوانين والأعراف الدولية لحماية حيادها في خلال الحرب الثانية، كما في الحرب الأولى، من دون أن يكون لذلك جدوى. بلجيكا، هولندا، الدانمارك، والنروج تندرج في هذا السياق وهي دول جرى انتهاك حيادها وسيادتها في خلال الحرب الثانية.

لذلك يضيف الباحثان معياراً آخر في سياق دراسة مصير حياد كل دولة هو موقعها الجغرافي. والموقع الجغرافي مهم تحديداً في سياق الصراع. بمعنى أين موقع الدولة موضع البحث بالنسبة لجغرافيا الصراع الدائر؟ هل هي ضمن «منطقة عازلة» بين طرفي النزاع؟ أم هي على أطراف منطقة النزاع؟ ولذا تصلح المقارنة والمقابلة بين هولندا، بلجيكا، الدانمارك، والنروج وهي دول اجتاحتها جيوش النازية لتأمين جبهتها الشمالية وحصار أوروبا الغربية، من ناحية، وبين السويد وأيرلندا من ناحية أخرى والتي كانت على أطراف منطقة النزاع في الحرب الثانية، فاستطاعتا النجاة بحيادهما. (في هذا السياق أنظر: لبنان؛ بين سوريا وإسرائيل).

خاتمة

تبدو سويسرا أكثر اتباعاً للحياد السلبي أو الحياد المسلّح. وهي، في سبيل حماية هذا الحياد لجأت إلى تأمين مستلزماته من اعتراف دولي وجهوزية عسكرية رادعة. وحدث ذلك في ظلّ عقد اجتماعي بين «مكوّنات» متباينة إثنياً ودينياً ولغوياً إنما خاضعة لإرادة سياسية موحّدة. وقد استغلّت سويسرا جغرافيتها في استراتيجيتها الدفاعية، واستفادت من موقعها في جغرافيا الصراع.

يرزح لبنان تحت وطأة المشكلات الداخلية والخارجية، ولربما كان تاريخ لبنان تاريخ تفاعل هذه المشكلات الداخلية والخارجية مع بعضها البعض لتنتج تارةً شطوراً زمنيةً من «الاستقرار» ولتنتج طوراً الويلات. لذا يصعب تفسير مسبّبات هذه الويلات على كونها تسلّل «الظلمات البرّانية» إلى سلام لبنان «الجوّاني». وكذلك يصعب وضع لبنان على مسار يجنّبه التأثيرات الخارجية السلبية بمعزل عن مشكلاته الداخلية. والأهم، وعلى الرغم من أنه لا ضرورة دوماً لإعادة اختراع الدولاب، إلا أن صعوبة استنساخ تجربة أخرى، كتلك السويسرية، بسبب من ظروف لبنان الخاصة، تستوجب ابتكار مسار خاص بـ«النموذج اللبناني».

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السرّية المصرفية لا تزال أساساً للرخاء السويسري فيما كانت في لبنان القمقم الذي خرجت منه الوحوش لتلتهم البلد وطبقته العاملة!