
تحدّي الافتراضات التقليدية عن حياد النقد
التعامل مع النقد بجدّية
في ما يتعلق بالسياسة النقدية، فلنعترف بأنها تنطوي على اختيارات سياسية تُتّخذ لتحقيق مجموعة متنوعة من الأهداف الاجتماعية المتضاربة في كثير من الأحيان. ومن المهم أن ندرك أن الفائدة هي سعر السيولة الذي يُحدد في الأسواق المالية، وهذا له تأثير على كيفية تفكيرنا في الدّين السيادي. والأهم من ذلك، هي أن النقد ليس محايداً أبداً.
في الاقتصاد النقدي الذي نعيش فيه، يُزاوَلُ الإنتاج بغرض البيع. والأشياء التي لا تُشترى لن تُنتج. وحين تقرر ألّا تستهلكَ شيئاً ما، فإنك لا تجعل هذا الشيء متاحاً لشخص آخر. بل تقلل من إنتاجه، ومن دخل منتجيه، بالقدر نفسه الذي تقلّل به استهلاكك.
لطالما كانت العلاقة بين عالم النقد والعالم الاجتماعي والمادي الملموس سؤالاً مطروحاً في تاريخ الفكر الاقتصادي، وإن لم يكن ذلك بصورة صريحة وواضحة على الدوام. هل للمدفوعات والأسعار النقدية التي نراها في كل مكان من حولنا وجودُها المستقل، منفصلاً عن الأشياء التي ترتبط بها؟ وهل يمكن للأشياء التي تحدث في عالم النقد أن تؤثّر في العالم الحقيقي؟
يتمثّل واحد من الجوانب الأساسية لذلك التاريخ في فكرة مفادها أن الإجابة عن هذه الأسئلة هي إجابة سلبية بالنفي، أو يجب أن تكون كذلك. فالنقد محايد، أو يجب أن يكون كذلك؛ سجلٌّ سلبي وعصا قياس لحقائق اجتماعية واقعية توجد مستقلّة عنه. واستخدام كلمة «واقعية» في الاقتصاد باعتبارها ضداً لكل من «اسمية» و«نقدية» على السواء، فضلاً عن معناها الأنطولوجي أو الوجودي اليومي، ليس أمراً مصطلحياً مربكاً فحسب، بل يعكس التزاماً فكرياً عميقاً أيضاً.
كتب ديفيد هيوم منذ العام 1752:
ليس النقد سوى تمثيل للعمل والسلع ... حتى عندما تكون النقود أوفر ما تكون؛ وعندما تكون ثمّة حاجة إلى كمّية أوفر منها لتمثيل الكمّية نفسها من السلع؛ لا يمكن أن يكون لها أي تأثير، سواء كان حسناً أو سيّئاً.
نسمع الشيء نفسه، عند مطلع القرن الحادي والعشرين، من عضو لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية لورانس ماير: «لا يسع السياسة النقدية أن تؤثّر في المتغيّرات الواقعية مثل الناتج والعمالة». فالنقد، كما يقول، لا يؤثّر إلا في «التضخّم على المدى البعيد. فهذا يجعل استقرار الأسعار على الفور الهدف المباشر والقطعي والوحيد للسياسة النقدية على المدى البعيد».
تتقاسم هاتان الروايتان النظر إلى الكمّيات النقدية والمدفوعات النقدية على أنها محض اختصار لخصائص الأشياء المادية الملموسة واستخدامها. فهي محايدة؛ مجرّد أوصاف لا يمكنها تغيير الأشياء التي هي أساسها. وإذا كان النقد مُحايداً، فلن تؤثّر التغيّرات في عرض النقد أو توافره إلا على مستوى الأسعار، ما يترك الأسعار النسبية والإنتاج على حالهما.
الاستثناء الكبير هو بالطبع كينز. بل ثمة رأي مفاده أن ما هو ثوري في الثورة الكينزية هو قطيعة صاحبها مع العقيدة التقليدية في التعامل مع هذه المسألة على وجه التحديد. ففي الفترة التي سبقت النظرية العامة، أوضح أن الفرق بين العقيدة الاقتصادية التقليدية والنظرية الجديدة التي كان يسعى إلى تطويرها هو في الأساس الفرق بين الرؤية السائدة للاقتصاد لما أسماه «التبادل الواقعي» ورؤية بديلة وصفها «الإنتاج النقدي».
انطلقت النظرية التقليدية، في أيامنا هذه كما في أيامه، من اقتصاد جرت فيه مبادلة السلع بسلع أخرى، ثم جاء النقد في مرحلة لاحقة، إن كان قد جاء، من دون أن يغيّر المقايضات المادية الأساسية التي قام عليها التبادل. على النقيض من ذلك، تصف نظرية كينز اقتصاداً ليس النقد فيه محايداً، ولا يمكن فيه فهم تنظيم الإنتاج بمصطلحات غير نقدية. أو على حد تعبيره، هي نظرية «اقتصاد يؤدي فيه النقد دوراً خاصاً به ويؤثر في دوافع وقرارات … على نحوٍ لا يمكن فيه التنبؤ بمسار الأحداث لا على الفترة الطويلة ولا على القصيرة من دون معرفة بسلوك النقد».
قد يكون من السهل أن نرفض فكرة أن النقد حيادي، الأصعب بكثير أن نعرف كيف يرتبط عالم النقد والواقع الاجتماعي الملموس. في كتابي مع أرجون جاياديف، نستكشف أهمّية النقد في أربعة أوضاع: تحديد سعر الفائدة؛ مؤشرات الأسعار و«الكميات الفعلية»؛ تمويل الشركات وحوكمتها؛ الدّين ورأس المال. وأتناول، فيما يلي، أول هذه الأوضاع.
دحض فكرة أن الفائدة ليست ثمناً للمدخرات
رأى أكسل ليجونهوفود منذ فترة طويلة أن نظرية سعر الفائدة كانت في قلب الخلط الذي اعترى الاقتصاد الكلي الحديث. «المشاحنات غير الحاسمة ... التي تطول مدتها لأن الأطراف المتنازعة لا تستطيع الاتفاق على ماهية المشكلة، تنبع إلى حد كبير من هذا المصدر». أعتقد أن هذا لا يزال صحيحاً إلى حد بعيد. هنالك تضارب أساسي بين نظرية في سعر الفائدة ترى أنه ثمن الادخار أو الوقت وبين سعر الفائدة النقدية الذي نلحظه في العالم الواقعي.
ترى النظرية التقليدية إلى سعر الفائدة على أنه سعر المدخرات أو الأموال القابلة للإقراض، أو ترى إليه، بدلاً من ذلك، على أنه المقايضة بين الاستهلاك في المستقبل والاستهلاك في الوقت الحاضر. والفائدة بهذا المعنى ليست في الأساس مفهوماً نقدياً. بل سعر سلعتين، على أساس التوازن نفسه بين الندرة والحاجات الإنسانية التي هي أساس الأسعار الأخرى. فالمقايضة بين قميص اليوم وقميص العام المقبل، معبراً عنها بسعر الفائدة، لا تختلف عن المقايضة بين قميص قطني وقميص من الكتان، أو قميص بأكمام قصيرة إزاء قميص بأكمام طويلة. فالسلعتان تتمايزان بالوقت فحسب، وليس بأي خاصيّة أخرى.
أياً كان الدخل الذي تتلقاه من ملكية أصل من الأصول - سواء أسميناه فائدة أو ربحاً أو كعكاً - فهو مكافأة مقابل إرجاء استخدامك للخدمات الملموسة التي يوفرها هذا الأصل
القروض النقدية، في هذا الرأي، هي مجرد قرض لشيء قابل للقياس. لنفترض أن لدي بعض السكر. جاري يطرق الباب ويطلب استعارته. إذا أعرته إياه، فسوف أتخلى عن استخدامه اليوم. غداً سيعيد لي جارنا الكمية نفسها من السكر، علاوةً على شيء زائدٍ ما، ربما قطعة من الكعك الذي خبزه به. أياً كان الدخل الذي تتلقاه من ملكية أصل من الأصول - سواء أسميناه فائدة أو ربحاً أو كعكاً - فهو مكافأة مقابل إرجاء استخدامك للخدمات الملموسة التي يوفرها هذا الأصل.
تحظى هذه الطريقة في النظر إلى الفائدة بحضور كلّي في الاقتصاد. وفي أوائل القرن التاسع عشر، وصف ناسو سينيور الفائدة بأنها مكافأة على التقشّف، مما يضفي عليها نفحةً لطيفة من الأخلاق البروتستانتية. وفي مقرر دراسي حالي، هو كتاب غريغوري مانكيو، نجد الفكرة ذاتها معبّراً عنها بلغة أكثر حيادية: «يمكن تفسير الادخار والاستثمار، على أساس العرض والطلب، لأموال قابلة للإقراض؛ إذ تقوم الأُسَر بإقراض مدخراتها للمستثمرين أو إيداعها في بنك يقوم بإقراض الأموال».
إن الكيفية التي من المفترض أن نتصور بها هذه الأموال غامضة بعض الشيء، لكن من الواضح أنها شيء موجود أصلاً قبل أن يدخل البنك في الصورة. وكما هي الحال مع السكر، إذا لم يكن مالكه يستخدمه حالياً، فيمكنه إقراضه لشخص آخر، والحصول على مكافأة مقابل ذلك. لا يدخل النقد والتمويل هذه القصة. وكما يقول مانكيو، يمكن للمستثمرين الاقتراض من مجموع المواطنين بشكل مباشر أو غير مباشر عبر البنوك؛ والمنطق الاقتصادي هو نفسه في الحالتين.
يمكن أن ندحض هذه الحكاية من جهتين. أحد الانتقادات - التي وجّهها بييرو سرافا لأول مرة في مناظرة شهيرة مع فريدريك هايك قبل نحو 100 عام - هو أن كل سلعة في عالم غير نقدي سوف يكون لها سعر فائدة مميّز خاص بها. لِنَقُل إن رطلاً من الدقيق سوف يقايض بنحو 1.1 رطل (أو كيلوغرام) من الدقيق بعد عام من الآن. فما هو السعر الذي سوف يقايض به رطل أو كيلوغرام من السكر اليوم؟ إذا ارتفع، في خلال العام الفاصل، سعر الاستخدام نسبة إلى سعر الدقيق، فإن كمية معينة من السكر اليوم سوف تُقايَض بكمية من السكر بعد عام من الآن أقل من الكمية نفسها التي سوف يُقايَض بها الدقيق. وما لم يُثبّت السعر النسبي للدقيق والسكر، فإن سعري فائدتهما سوف يختلفان. فالدقيق اليوم سوف يقايض بسعر معين للدقيق في المستقبل، والسكر بسعر مختلف؛ وسوف يقايض استخدام سيارة أو منزل، أو كيلواط من الكهرباء، وما إلى ذلك، بالشيء ذاته في المستقبل بمعدلات خاصة بها، تعكس الظروف الفعلية والمتوقعة في أسواق كل من هذه السلع. وما من طريقة للقول إنّ أياً من هذه الأسعار الخاصة التي لا تُعد ولا تحصى هو «الـ» سعر للفائدة.
سوف تعترف النقاشات المدققة التي تناولت السعر الطبيعي للفائدة بأن هذا السعر لا يُعرَّف إلا على افتراض أن الأسعار النسبية لا تتغير أبداً.
المشكلة الأخرى هي أن قصة الادخار تفترض أن الشيء الُمراد إقراضه - سواء كان سلعة محددة أو أموالاً عامة - موجود بالفعل. ولكن في الاقتصاد النقدي الذي نعيش فيه، يُزاوَلُ الإنتاج بغرض البيع. والأشياء التي لا تُشترى لن تُنتج. وحين تقرر ألّا تستهلكَ شيئاً ما، فإنك لا تجعل هذا الشيء متاحاً لشخص آخر. بل تقلل من إنتاجه، ومن دخل منتجيه، بالقدر نفسه الذي تقلّل به استهلاكك.
لنتذكّر أن الادخار هو الفرق بين الدخل والاستهلاك. بالنسبة إليك كفرد، يمكنك أن تعتبر دخلي معطىً عند أخذ قرارٍ بشأن مقدار الاستهلاك. وعليه، فإنّ استهلاكاً أقل يعني ادخاراً أكثر. ولكن على مستوى الاقتصاد ككل، ليس الدخل مستقلاً عن الاستهلاك. فلا يزيد قرارٌ بتقليص الاستهلاك من الادخار الكلي، بل يخفّض الدخل الكلي. وهذه هي مغالطة الاستهلاك التي أكد عليها كينز: القرارات الفردية بشأن الاستهلاك والادخار لا أثر لها في الادخار الكلي. وبذلك ترتبط مسألة كيفية تحديد سعر الفائدة ارتباطاً مباشراً بفكرة قيود الطلب.
وبدلاً من انتقاد قصة الأموال القابلة للإقراض، يمكننا أن نبدأ من الجهة الأخرى، من العالم النقدي الذي نعيش فيه بالفعل. وعندها سنرى أن التعاملات الائتمانية لا تنطوي على ذلك النوع من المقايضة بين الحاضر والمستقبل الذي تركز عليه العقيدة التقليدية.
لنفترض أنك تشتري منزلاً. في اليوم الذي تسدّد فيه المبلغ النهائي، تزور البنك لإتمام الرهن العقاري الخاص بك. يقوم مدير البنك بإدخال قيدين في سجلك: الأول هو رصيد في حسابك، ويُعد التزاماً على البنك، وهو ما نسميه الوديعة. أما القيد الثاني، مساوٍ للأول ومعوّض له، فهو رصيد في حساب البنك نفسه، والتزام عليك. هذا ما نسميه القرض. القيد الأول هو إقرار بالدّين (IOU) لك من البنك، يمكن دفعه في أي وقت. أما القيد الثاني فهو إقرار بالدّين منك للبنك، مع مدفوعات محدّدة كل شهر، وعادة في الولايات المتحدة، تستمر لمدة 30 عاماً. وتُنشأ هذه القيود في سجلّك، مثل الإقرارات بالدّين العادية (IOUs)، بمجرد أن تُسَجّل؛ في الأوقات السابقة كان يُطلق عليها نقد «قلم الحبر».
تُحوّل الوديعة، بعد ذلك على الفور، إلى البائع، مقابل الحصول على حقّ ملكية المنزل. بالنسبة إلى البنك، يعني هذا ببساطة تغيير الاسم الموجود على الوديعة؛ في حقيقة الأمر، أنت تبلغ البنك بأن دَينه الذي كان مستحقاً لك، أصبح الآن مستحقاً للبائع. وفي بيان الموازنة خاصتك، جرت مبادلة أحد الأصول بأصل آخر؛ الوديعة البالغة 250 ألف دولار، في هذه الحالة، مقابل منزل بقيمة 250 ألف دولار. ويقوم البائع بإجراء المبادلة المعاكسة، حق ملكية المنزل مقابل إقرار بالدّين (IOU) بقيمة مساوية من البنك.
كما نرى، لا يوجد هنا ادخار أو ادخار سلبي. إذ قام الجميع بمبادلة أصول ذات قيمة متساوية وحسب. وهذا الرهن العقاري ليس قرضاً بأموال موجودة مسبقاً أو بأي شيء آخر. ولم يكن على أحد أن يودع أولاً في البنك حتى يُتاح له أن يمنحَ هذا القرض. الوديعة –النقد أُنشئت خلال عملية تقديم القرض نفسه. ولا تقوم المصارف بتوجيه الادخار نحو الاقتراض كما هو الحال في وجهة النظر التي ترى أن الأموال قابلة للإقراض، بل هي تسمح بمبادلة وعود.
من غير الدقيق الحديث عن وضع النقد في البنك. فسجلّ البنك هو النقد. وهذا أمر معروف على أحد المستويات. ولكن نادراً ما يُمعَن النظر في التداعيات الأكبر. فما الذي تكوّنت منه هذه المعاملة؟ مجموعة من الوعود. قدم البنك وعداً للمقترضين، وقدم المقترضون وعداً للبنك. ثم نُقل وعد البنك إلى البائعين الذين يمكنهم تحويله إلى طرف ثالث بدورهم. والسبب وراء الحاجة إلى البنك هنا هو أنه لا يمكنك أن تقدّم وعداً للبائع مباشرةً.
أنت مستعدّ لأن تقدّم وعداً بدفعات مستقبلية تكون قيمتها الحالية أعلى من القيمة التي يضعها البائع على منزله. ومن شأن قبول هذه الصفقة أن يجعل الطرفين على السواء في وضع أفضل. إلا أنك لا تستطيع إتمام هذه الصفقة، لأن وَعْدَك بدفعات على مدى الثلاثين عاماً القادمة ليس محلّ ثقة. فهم لا يعرفون ما إذا كنت مناسباً لذلك. وليس لديهم القدرة على فرض ذلك. وحتى لو وثق بك البائع، ربما لأنك قريبه أو لأنّ علاقة أخرى تجمعكما، فإن الآخرين لا يثقون بك. وبالتالي لا يستطيع البائع أن يحوّلَ وعدك بالدفع إلى مطالبة فورية بأشياء أخرى قد يرغب فيها.
تبدأ النظرية التقليدية من افتراض أن كل شخص يمكنه إبرام عقدٍ بحرية على الدخل والسلع في أي وقت في المستقبل. وتقوم معادلة أويلر المعروفة على فكرة مفادها أنه بإمكانك تخصيص دخلك من أي فترة مستقبلية للاستهلاك في الوقت الحاضر، أو العكس. وذلك هو الإطار الذي يبدو من خلاله سعر الفائدة وكأنه مقايضة بين الحاضر والمستقبل. ولكنك لا تستطيع أن تفهم الفائدة ضمن إطارٍ يُجرّد بعيداً من الوظيفة التي يؤديها النقد والائتمان في الاقتصادات الواقعية.
الدور الأساسي الذي يؤديه بنك، كما أكد هيمان مينسكي، ليس الوساطة بل القبول. فالبنوك تؤدي وظيفة أطراف ثالثة توسّعُ نطاق التعاملات التي يمكن أن تُقام على أساس وعود. فأنت مستعد للالتزام بتدفقٍ من المدفوعات النقدية لكي تحصلَ على حقوق قانونية بالمنزل. ولكن هذا لا يكفي للحصول على المنزل. من ناحية أخرى، فإن البنك، بالضبط لأن وعوده موثوقة على نحو واسع، فهو في وضع يسمح له بقبول وعد منك.
لا تُدفع الفائدة لأن الاستهلاك اليوم مرغوب أكثر من الاستهلاك في المستقبل. بل تُدفع الفائدة لأن الوعود الموثوقة بشأن المستقبل يصعب تقديمها.
الفائدة كسعر للسيولة
لا تكمن تكلفة قرض الرهن العقاري في أن شخصاً اضطر إلى أن يؤجّلَ إنفاقه. التكلفة هي أن الميزانيات العمومية لكلا المتعاملَيْن أصبحت أقل سيولة. ويمكننا أن نفكر في السيولة من حيث المرونة؛ أي أن أصلاً أو وضعَ ميزانيةٍ عموميةٍ يكون سائلاً بقدر ما يوسّع نطاق خياراتك. سيولة أقل تعني خيارات أقل.
لم يكن على أحد أن يودع أولاً في البنك حتى يُتاح له أن يمنحَ هذا القرض. الوديعة –النقد أُنشئت خلال عملية تقديم القرض نفسه. ولا تقوم المصارف بتوجيه الادخار نحو الاقتراض بل هي تسمح بمبادلة وعود
بالنسبة إليك كمشترٍ لمنزل، تتمثل نتيجة المعاملة في أنك ألزمت نفسك بمجموعة من المدفوعات النقدية الثابتة على مدى الثلاثين عاماً القادمة، واكتسبت الحقوق القانونية المرتبطة بملكية منزل. من المفترض أن هذه الحقوق ذات قيمة بالنسبة إليك أكبر من المساكن المستأجرة التي يمكنك الحصول عليها بتدفق مماثل من المدفوعات النقدية. ولكن لا يمكن بسهولة تحويل ملكية المنزل إلى نقد وبالتالي إلى مطالبات بأجزاء أخرى من المنتَج الاجتماعي. إذ تنطوي ملكية المنزل - في السراء والضراء - على التزام طويل الأمد بالعيش في مكان معين. والمقايضة التي يقوم بها مشتري المنزل عن طريق الاقتراض ليست مزيداً من الاستهلاك اليوم مقابل استهلاك أقل غداً. بل مستوى أعلى من الاستهلاك اليوم وغداً، مقابلَ مرونة أقل في ميزانيته والمكان الذي سيعيش فيه. فالالتزام بسداد أقساط الرهن العقاري وانعدام إمكانية استبدال ملكية المنزل يتركان، على السواء، فسحةً أصغر للتكيف مع التطورات المستقبلية غير المتوقعة.
وعلى الجانب الآخر، أضاف البنك التزاماً على شكل وديعة يتطلب السداد في أي وقت، وأصلَ رهن عقاري لا يَعِدُ في حد ذاته بالسداد إلا وفق جدول زمني محدد في المستقبل. وهذا على حد سواء يقلل من حرية البنك في المناورة. فهو معرض ليس لخطر ألّا يقومَ المقترض بسداد الدفعات فحسب، بل ولخطر خسارة رأس المال إذا ارتفعت أسعار الفائدة خلال الفترة التي سيحتفظ فيها بالرهن العقاري أيضاً، ولخطر انعدام إمكانية بيع الرهن العقاري في حالات الطوارئ. أو ألا يُباع إلا بسعر منخفض بشكل غير متوقع. وكما تظهر أمثلة حديثة من العالم الواقعي، مثل بنك وادي السليكون، فإن هذه المخاطرات الأخيرة قد تكون من الناحية العملية أكثر خطورة بكثير من مخاطر التخلف عن السداد. والتكلفة التي يتحملها البنك الذي يقدم القرض هي أن ميزانيته العمومية تصبح أكثر هشاشة.
أو كما قال كينز في مقال نشره في العام 1937: «سعر الفائدة يمكن النظر إليه على أنه يتحدد من خلال التفاعل بين الشروط التي ترغب عامة البشر بموجبها أن تصبح أكثر أو أقل سيولة، وتلك التي يكون النظام المصرفي بموجبها مستعداً لأن يصبح أكثر أو أقل انكماشاً».
بالطبع، في العالم الواقعي تغدو الأمور أكثر تعقيداً. فلا يحتاج البنك إلى الانتظار حتى سداد أقساط الرهن العقاري في الوقت المحدد. ويمكنه تحويل الرهن العقاري إلى طرف ثالث، مقايضاً بعض الدخل الذي توقَّعَه بوضعٍ أكثر سيولة. وقد يكون المشتري مؤسسة مالية أخرى تبحث عن وضعٍ أقرب إلى الجانب المتعلق بالدخل من المقايضة بين الدخل والسيولة، وربما مع مستويات متعددة من الميزانيات العمومية بينهما. أو قد يكون المشتري مزوّدي السيولة الاحترافيين في البنك المركزي.
وبالمناسبة، هذه إجابة عن سؤال لا يطرحه البشر بالقدر الكافي: كيف يتمكن البنك المركزي من تحديد سعر الفائدة بأية حال؟ لا يؤدي البنك المركزي أي دور في سوق الأموال القابلة للإقراض.
لكن البنوك المركزية منخرطة أيما انخراط في مجال السيولة. فالأمر سياسة نقدية، في نهاية المطاف، وليس سياسة ادخار.
أحد الأمور التي يشير إليها ذلك هو أنه لا فرقَ جوهرياً بين السياسة النقدية الإجرائية والدور الذي يؤديه البنك المركزي باعتباره الجهة التنظيمية ومُقرض الملاذ الأخير؛ فهذه الأنشطة جميعها تدور حول إدارة مستوى السيولة ضمن النظام المالي. ما مدى سهولة الوفاء بالتزاماتك؟ إذا كان الأمر صعباً للغاية، فإن شبكة الالتزامات تنكسر. وإذا كان سهلاً للغاية، تفقد شبكة الالتزامات النقدية قدرتها على تشكيل نشاطنا، ولن تكون بمثابة أداة تنسيق فعالة.
باعتباره ثمنَ النقد – ثمن المرونة في سداد المدفوعات بدلاً من الالتزامات الثابتة – فإن سعر الفائدة هو متغيّر رئيسي في أي اقتصاد نقدي. وتعكس الاستعارة المتعلقة بالشروط «الصارمة» أو «الميسرة» لأسعار الفائدة المرتفعة أو المنخفضة حقيقةً مهمة بشأن العلاقة بين الفائدة ومرونة النظام المالي أو جموده. وتتوافق أسعار الفائدة المرتفعة مع وضعٍ تصبح فيه وعودٌ بالدفع مستقبلاً أقل قيمة من حيث إمكانية إدارة الموارد اليوم. وحين يصعب تولّي زمام الموارد الواقعية من خلال وعود بدفعٍ مستقبلي، يغدو نسق مدفوعاتِ اليوم أشدّ ارتباطاً بدخل الأمس. بالمقابل، تعني أسعار الفائدة المنخفضة أن وعداً بمدفوعات مستقبلية يقطع شوطاً طويلاً في تأمين الموارد اليوم. ولذلك تعتمد المطالبات بالموارد الواقعية بشكل أقل على الدخل في الماضي، وأكثر على معتقداتٍ حول المستقبل. ولأن تغيرات أسعار الفائدة تأتي دائماً في بيئة من الالتزامات النقدية الموجودة مسبقاً، فإن الفائدة تعمل أيضا كمتغير قياس، حيث تعيد ترجيح مطالبات الدائنين إزاء دخل المَدينين.
ثمة انعدام توافق أساسي بين نظرية سعر الفائدة باعتباره ثمن الادخار أو الوقت وسعر الفائدة النقدية الذي نلاحظه في العالم الواقعي. وبمجرد أن نتعامل بجدية مع فكرة الفائدة بوصفها ثمن السيولة، نرى لماذا لا يمكن أن يكون النقد محايداً؛ ولماذا تؤثر الظروف المالية دائماً على مكوّنات الإنفاق وكذلك على مستواه.
الفائدة والتوقعات
إلى جانب التعاملات الائتمانية، فإن الوضع الآخر الذي تظهر فيه الفائدة في العالم الواقعي هو في سعر الأصول الموجودة. ويصبح وعدٌ بمدفوعات نقدية في المستقبل شيئاً قائماً بذاته، يختلف عن تلك المدفوعات نفسها. لقد بدأت بالقول إن جميع أنواع الأشياء القابلة للقياس لها نظير «ظليل» في عالم النقد. لكن تدفق مدفوعاتٍ مالية يمكن أن يكتسب أيضاً نظيراً «طيفيّاً». إذ يخلق وعدٌ بالدفع المستقبلي حقَّ ملكية جديد، له مالك وسعر سوقي.
حين نركز على تلك الحقيقة، نرى دوراً مهماً للعُرف في تحديد الفائدة. وإلى حد مهم ما، فإن أسعار السندات - وبالتالي أسعار الفائدة - هي ما هي عليه الآن لأن هذا هو ما يتوقعه المشاركون في السوق.
يَعِدُ سند دين صادر عن شركة بمجموعة من المدفوعات المستقبلية. ومن السهل، في عالم نظري يتسم باليقين، الحديثُ كما لو أن السند هو تلك المدفوعات المستقبلية وحسب. ولكن الأمر ليس كذلك. وهذا ليس لأن السند قد يتأخر عن الدفع فحسب، وهو أمر يسهل إدراجه في النموذج. وليس لأن أي سند واقعي قد صدر ضمن اختصاص قضائي معين فحسب، وينطوي على حقوق والتزامات تتجاوز دفع الفائدة؛ على الرغم من أن تلك السمات الأخرى موجودة دائماً ويمكن أن تكون مهمة في بعض الأحيان. بل السبب هو أن السند يمكن مبادلته وله سعر يمكن أن يتغيّر بشكل مستقل عن تدفق المدفوعات المستقبلية.
إذا انخفضت أسعار الفائدة، سوف يرتفع سعر سندك؛ وذلك الاحتمال نفسه يمثّل عاملاً في سعر السند. ويساعد هذا في تفسير شذوذ معترف به على نطاق واسع في الأسواق المالية. تقول فرضية التوقع إن سعر الفائدة على سندٍ أطول أمداً ينبغي أن يكون مطابقاً لمتوسط أسعار الفائدة الأقصر أمداً خلال الفترة نفسها، أو على الأقل يجب أن يكونا مرتبطين بعلاوة زمنية مستقرة. يبدو هذا وكأنه مراجحة واضحة، لكنه يفشل تماماً، حتى في شكله الأضعف.
تشكّل الإجابة عن هذا اللغز جزءاً مهماً من رؤية كينز في النظرية العامة. لا يهتم المشاركون في السوق بتدفقي المدفوعات وحسب. بل هم مهتمون بسعر السند طويل الأمد نفسه.
تذكر أن سعر أصلٍ ما يتحرك دائماً بشكل عكسي مع عائده. وحين ترتفع أسعار الفائدة على نوع معين من الأدوات الائتمانية، ينخفض سعر تلك الأداة. الآن، لنفترض أنه من المعتقد على نحو واسع أن سنداً لعشر سنوات من غير المرجح أن تجري مبادلته بأقل من 2% لفترة طويلة جداً. ومن ثم سيكون من الحماقة أن تشتريه بعائد أقل بكثير من 2%، لأنك ستواجه خسارةً في رأس المال حين تعود العائدات إلى مستواها الاعتيادي. وإذا كان معظم البشر يعتقدون ذلك، فإن العائد لن ينخفض أبداً عن 2%، بغض النظر عما يحدث لأسعار الفائدة قصيرة الأمد.
في عالم واقعي حيث المستقبل غير مؤكد والالتزامات النقدية لها وجودها المستقل، ثمة إحساس مهم بأن أسعار الفائدة، وخصوصاً تلك الأطول أمداً منها، هي ما هي عليه الآن لأن هذا هو ما يتوقعه الناس منها.
ثمة انعدام توافق أساسي بين نظرية سعر الفائدة باعتباره ثمن الادخار أو الوقت وسعر الفائدة النقدية الذي نلاحظه في العالم الواقعي. وبمجرد أن نتعامل بجدية مع فكرة الفائدة بوصفها ثمن السيولة، نرى لماذا لا يمكن أن يكون النقد محايداً
أحد الآثار المهمة المترتبة على ذلك هو أننا لا نستطيع أن نفكر في أسعار الفائدة المتنوعة في السوق باعتبارها «الـ»سعر للفائدة مضافاً إليه علاوة مخاطرة ببساطة. إذ يمكن لأسعار فائدة مختلفة أن تتحرك بشكل مستقل لأسباب لا علاقة لها بمخاطر الائتمان.
سعر الفائدة «الطبيعي»
من جهة، لدينا مجموعة من النظريات المبنية على فكرة سعر الفائدة باعتباره مقايضة بين الاستهلاك الحالي والمستقبلي. ومن جهة أخرى، لدينا أسعار فائدة فعلية، تُحدّد في النظام المالي بطرائق مختلفة تماماً.
يحاول البشر أحياناً تربيع الدائرة بفكرة سعر فائدة طبيعي. يقولون: نعم، نحن نعلم بالسيولة وعلاوة الاستثمار طويل الأمد وأهمية الأنواع المختلفة من الوسطاء الماليين والتنظيم، لكننا ما زلنا نريد استخدام النموذج الزمني الذي تعلمناه في كلية الدراسات العليا. ونحن نتصالح مع هذا من خلال التعامل مع النموذج باعتباره تحليلاً لما ينبغي أن يكون عليه سعر الفائدة. صحيح أن البنوك تحدد أسعار الفائدة بشتى أنواع الطرائق، ولكن ثمة سعر فائدة واحد فقط يتوافق مع الأسعار المستقرة، وعلى نطاق أوسع، مع الاستخدام المناسب لموارد المجتمع. نسمي هذا السعر الطبيعي.
صاغ هذه الفكرة لأول مرة في مطلع القرن العشرين الاقتصادي السويدي نوت ويكسل. لكن التصريح الحديث ذا التأثير الأكبر يأتي من ميلتون فريدمان. يقدّم فريدمان سعر الفائدة الطبيعي، إلى جانب نسيبه القريب، السعر الطبيعي للبطالة، في خطابه الرئاسي في العام 1968 أمام جمعية الاقتصاد الأميركية والذي وُصف بأنه الورقة الأكثر تأثيراً في الاقتصاد منذ الحرب العالمية الثانية. تتوافق الأسعار الطبيعية هناك مع تلك التي يمكن أن «تُشتق من النظام الوُلرساسي لمعادلات التوازن العام، شريطة أن تتضمن السمات البنيوية الفعلية لأسواق العمل والسلع، بما في ذلك عيوب السوق، والتقلب العشوائي في الطلب والعرض وتكلفة جمع المعلومات…الخ».
جاذبية هذا المفهوم واضحة: فهو يوفر جسراً بين العالم غير النقدي للتبادل متداخل الفترات والذي يوجد في النظرية الاقتصادية، والعالم النقدي للعقود الائتمانية الذي نعيش فيه بالفعل. وبذلك، فهو يحوّل القصة الزمنية من قصة وصفية إلى قصة توجيهية؛ من شرح للكيفية التي تُحدّد بها أسعار الفائدة، إلى قصة عن الكيفية التي ينبغي على البنوك المركزية أن تدير بها السياسة النقدية.
لاحظ الخلط هنا بين المصطلحات «اعتيادي» و«طبيعي» و«مرغوب فيه»، ثلاث كلمات تحمل معاني مختلفة تماماً. يبدو من المفترض أن (R*) يمثل متوسط سعر الفائدة طويل الأمد، وسعر الفائدة الذي قد نراه في عالم لا تحكمه إلا الأساسيات، وسعر الفائدة الذي يحقق أفضل نتائج من حيث السياسات.
هذا الخلط هو سمة شائعة وأساسية في مناقشات السعر الطبيعي. ومثل الانزلاق المتحكم فيه بين قرصي القابض في السيارة، فهو يسمح بربط الأنظمة التي تتحرك بطرائق مختلفة تماماً من دون أن يتصدّع أي من الجانبين بفعل الضغط. إن الغموض بين هذه المعاني المختلفة هو ذاته أمر اعتيادي وطبيعي ومرغوب فيه.
ولعل البنك المركزي الأوروبي (ECB) يقدم بياناً أحسن: «في مستواه الأبسط، سعر الفائدة هو «ثمن الوقت»؛ التعويض عن تأجيل الإنفاق إلى المستقبل». ويتوافق (R*) مع هذا. وهو سعر فائدة تحدده عوامل غير نقدية بحتة، ولا ينبغي أن يتأثر بالتطورات في النظام المالي. للأسف، قد يحيد سعر الفائدة الفعلي عن هذا. وفي تلك الحالة، يقول البنك المركزي الأوروبي إن السعر الطبيعي، «على الرغم من أنه غير قابل للملاحظة... يوفر نقطة إرشادية مفيدة للسياسة النقدية». إذ إن فكرة وجود نقطة غير قابلة للملاحظة تبرز تماماً التناقض المتجسّد في فكرة (R*).
وكوصف لماهية سعر الفائدة، فإن نموذج الأموال القابلة للإقراض هو ببساطة نموذج خاطئ. ولكن حين يُحوَّل إلى نموذج للسعر الطبيعي، لا يغدو خاطئاً فحسب، بل وفارغ المحتوى تماماً. لا توجد طريقة لربط أي من المصطلحات الموجودة في النموذج بأي حقيقة يمكن ملاحظتها في العالم.
ارجع إلى صياغة فريدمان، وسترى المشكلة: نحن لا نملك نموذجاً يتضمن جميع «السمات البنيوية الفعلية» للاقتصاد. وبالنسبة إلى اقتصاد تتطور بناه عبر الزمن التاريخي، يغدو من غير المنطقي أن نتخيل شيئاً كهذا.
ومن الناحية العملية، يُعرّف سعر الفائدة الطبيعي قصير الأمد على أنه السعر الذي يؤدّي إلى بلوغ التضخّم؛ أي سعر فائدة يفضله البنك المركزي. ويُعرَّف السعر الطبيعي طويل الأمد عادةً على أنه سعر الفائدة الواقعي حيث «تكون جميع الأسواق في حالة توازن، وبالتالي لا ضغطَ لإعادة توزيع أي موارد أو تغيير معدلات النمو لأي متغيرات». وفي هذه الحالة الافتراضية المستقرة، يعتمد سعر الفائدة فقط على السمات البنيوية نفسها التي من المفترض أن تحددّ النمو طويل الأمد؛ معدل التقدم التقني، والنمو السكاني، واستعداد الأسر لإرجاء الاستهلاك.
ولكن لا توجد طريقة للانتقال من الأمد القصير إلى الأمد الطويل. فالعالم الواقعي لا يكون أبداً في وضع حيث جميع الأسواق في حالة توازن. نعم، يمكننا في بعض الأحيان تحديد اتّجاهات طويلة الأمد. ولكن لا سببَ للاعتقاد بأن المتغيرات الوحيدة التي تهم تلك الاتجاهات هي تلك التي اخترنا التركيز عليها في فئة معينة من النماذج. إذ تظل تلك «السمات البنيوية الفعلية» جميعها موجودة في الأمد الطويل.
كلّ ما يمكننا قوله هو ما يلي: طالما أن هنالك علاقة متسقة بشكل معقول بين سعر الفائدة الرسمي الذي يحدده البنك المركزي والتضخم، أو أياً كان هدفه، فسوف يكون هنالك مستوى ما لسعر الفائدة الذي تحدده السياسة النقدية ويبلغ بك الهدف. ولكن لا توجد طريقة لتحديد ذلك من خلال «سعر الفائدة» لنموذج نظري. ويعتمد المستوى الحالي للإنفاق الكلي في الاقتصاد على مختلف أنواع العوامل المؤسسية والعارضة؛ على العاطفة، وعلى الاختيارات التي اتّخذت في الماضي، وعلى النطاق الكامل للسياسات الحكومية. إذا سألتَ، ما هو سعر الفائدة الذي تحدده السياسة النقدية ذو الاحتمال الأكبر في دفع التضخم نحو 2%، فهذه الأمور جميعها لا تقل أهمية عن الأساسيات المفترضة.
أفضل ما يمكنك فعله هو أن تحدّدَ سعر الفائدة وفقاً لأي قاعدة عامة أو عملية تفضلها، ثم تقولَ بعد ذلك إنه يجب أن يكون ثمة نموذج ما حيث يكون هذا هو الخيار الأمثل.
في مستواه الأبسط، سعر الفائدة هو «ثمن الوقت»؛ التعويض عن تأجيل الإنفاق إلى المستقبل
الاستنتاجات
ما تبعات هذا؟ أولاً، في ما يتعلق بالسياسة النقدية، فلنعترف بأنها تنطوي على اختيارات سياسية تُتَّخذ لتحقيق مجموعة متنوعة من الأهداف الاجتماعية المتضاربة في كثير من الأحيان. ثانياً، من المهم أن ندرك أن الفائدة هي سعر السيولة الذي يُحدد في الأسواق المالية، وهذا له تأثير على كيفية تفكيرنا في الدَّين السيادي. النقطة الكبرى الثالثة، وربما الأهم، هي أن النقد ليس محايداً أبداً.
هنالك قصة شائعة حول الأزمات المالية تسير على النحو التالي: يحدِّد التوازن المالي للحكومة (الفائض أو العجز) بمرور الوقت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لديها. فإذا كانت لدى دولة نسبة دين إلى ناتج محلي إجمالي مرتفعة، فإن ذلك نتيجة الإفراط في الإنفاق بالنسبة إلى العائدات الضريبية. وتحدد نسبة الدّين ثقة السوق: فالمستثمرون الخاصون لا يرغبون في شراء ديون دولة قد أصدرت بالفعل الكثير. ثم تحدّد حالة ثقة السوق سعرَ الفائدة الذي تواجهه الحكومة، أو ما إذا كانت تستطيع الاقتراض على الإطلاق. وثمة خط واضح يؤدي عنده ارتفاع الديون وأسعار الفائدة المرتفعة إلى جعل الديون غير مستدامة. ويغدو التقشف هو الشرط الحتمي بمجرد تجاوز ذلك الخط. وأخيراً، حين يستعيد التقشف استدامة الدين، فذلك من شأنه أن يساهم في النمو الاقتصادي.
إذا قبلتَ هذه المنطلقات، تتلو الاستنتاجات منطقياً. بل أفضل من ذلك، فهي تقدم المشهدَ المُرضيَ حيث تواجه غطرسة القطاع العام مصيرَها المحتوم. ولكن حين ننظر إلى الدين باعتباره ظاهرة نقدية، نرى أن دينامياته لا تسير على مثل هذه السكك السلسة.
أولاً وقبل كل شيء، بالنظر إلى الأمر كشأنٍ تاريخي، لا تقل الفروقات في النمو والتضخم وأسعار الفائدة أهمية عن الوضع المالي في تحديد تطور نسبة الدين بمرور الوقت. وحيثما يكون الدين مرتفعاً بالفعل، يمكن بسهولة أن يؤدي النمو الأبطأ باعتدال، أو ارتفاع أسعار الفائدة، إلى رفع نسبة الدين بسرعة أكبر مما يمكن للفوائض الكبيرة للغاية أن تخفّضها؛ كما اكتشف الكثير من البلدان الخاضعة للتقشف. وعلى العكس من ذلك، يمكن أن يؤدي النمو الاقتصادي السريع وأسعار الفائدة المنخفضة إلى تخفيضات كبيرة للغاية في نسبة الدّين من دون أن تحقق الحكومة فوائض على الإطلاق، كما حدث في الولايات المتحدة وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الآونة الأخيرة، خفضت أيرلندا نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لديها بمقدار عشرين نقطة في خمس سنوات فقط في منتصف تسعينيات القرن العشرين، في حين واصلت تحمّل عجز كبير، وذلك بفضل النمو السريع للغاية خلال فترة «النمر السلتي».
وفي الخطوة الثانية، من الواضح أن الطلب السوقي على الديون الحكومية لا يشكل تقييماً «موضوعياً» للوضع المالي، بل يعكس ظروف السيولة الأوسع والتوقعات التقليدية ذاتية التحقق للأسواق القائمة على المضاربة. ويصطدم الادعاء بأن أسعار الفائدة تعكس مدى صحة الموازنات العامة أو عدم صحتها بمشكلة بيّنة: فالأسواق المالية التي تتراجع عن سندات أي بلد ذات يوم، كانت عادةً تشتريها بفارغ الصبر في اليوم السابق. والأسواق نفسها التي أحالت أسعار الفائدة على السندات الإسبانية والبرتغالية واليونانية إلى ارتفاعٍ حاد في العام 2010 هي الأسواق نفسها التي اقتنصت ديونها العامة والخاصة بأسعار فائدة متدنية للغاية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهي الأسواق نفسها التي عادت إلى شراء ديون تلك البلدان اليوم بمستويات لم يسبق تاريخياً أن كانت بهذا الانخفاض، حتى مع أن نسب ديونها، في كثير من الحالات، ظلت مرتفعة للغاية.
يريد أشخاص مثل ألبرتو أليسينا أن يصروا على أن أسعار الفائدة في مرحلة ما بعد الأزمة عكست تقييماً موضوعياً لحالة المالية العامة، وأن أسعار الفائدة المنخفضة قبل الأزمة كانت نتيجة لفقاعة مضاربية. ولكن لا يمكنك التمسك بالرأيين على السواء في آن واحد.
هذا لا يعني أن الأسواق المالية لا تمثّل أبداً قيداً على الميزانيات الحكومية. بالنسبة إلى غالبية دول العالم التي لا تتمتع بدعم بنك الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي الأوروبي، فإن الأسواق المالية تمثل قيداً كبيراً بالفعل. ولكن لا ينبغي لنا أن نتصور أبداً أن الظروف المالية تشكل انعكاساً موضوعياً للوضع المالي لأي بلد، أو لتوازن المدخرات والاستثمار.
الطلب السوقي على الديون الحكومية لا يشكل تقييماً «موضوعياً» للوضع المالي، بل يعكس ظروف السيولة الأوسع والتوقعات التقليدية ذاتية التحقق للأسواق القائمة على المضاربة
إذا كان سعر الفائدة هو ثمن، فإن ما يعبّر عنه ليس «الادخار» أو الاستعداد للانتظار. وليس «مكافأة مقابل إرجاء الإنفاق»، كما وصفها البنك المركزي الأوروبي. بل هو القدرة على تقديم الوعود وقبولها. وتكون هذه القدرة مهمّة حقاً حين يُستخدم التمويل ليس لإعادة ترتيب المطالبات على الأصول والموارد الموجودة فحسب، بل ولتنظيم إنشاء أصول وموارد جديدة أيضاً. فلا يمكن تحقيق المزايا التقنية لوسائل الإنتاج طويلة الأمد والمنظمات المتخصصة إلا إذا كان البشر في وضع يسمح لهم بتقديم التزامات طويلة الأجل. ويعتمد ذلك بدوره، في عالم يُنظَّم فيه الإنتاج بشكل رئيسي من خلال المدفوعات المالية، على درجة السيولة.
يوجد، في أية لحظة، عدد لا نهائي من الطرائق التي يمكن من خلالها إعادة تنظيم جزء من موارد المجتمع لتوليد دخول أكبر، وقِيَمَ استخدام إن أَمِلْنَا خيراً. يمكنك أن تفتح مطعماً، أو تبنيَ منزلاً، أو أن تحصل على درجة علمية، أو تكتب برنامجاً حاسوبياً، أو تقدّمَ عرضاً مسرحياً. الموارد المادية اللازمة لهذه الأنشطة ليست نادرة؛ فالقيمة الحالية للدخل الذي يمكن أن تولّده تتجاوز تكاليفها عند أي معدل خصم معقول. ما هو نادر حقًا هو الثقة. وعند بدء مشروع ما، يجب أن تمارسَ أنت المطالبة بجزء من موارد المجتمع الآن؛ ويجب على المجتمع أن يقبل وعدَك بتحقيق المنافع في وقت لاحق. إذ تتيح هرمية المال للمشاركين في المشاريع الجمعية المختلفة أن يستبدلوا بالثقة في طرف ثالث الثقة في بعضهم البعض. ومع ذلك، تظل الثقة هي المورد النادر.
في الاقتصاد، هنالك أنشطة تتطلب مستوى أعلى من الثقة أو تعاني من قيود أكبر في السيولة مقارنة بغيرها:
تصبح مشكلة السيولة أكثر تعقيداً حين يكون هناك انفصال أكبر بين النفقات والمكافآت، وحين تكون المكافآت أكثر عرضة للشك.
تشكل السيولة جزءاً أكبر من المشكلة حين يكون حجم النفقات المطلوبة أكبر.
تصبح السيولة والثقة أكثر أهمية حين تكون القرارات غير قابلة للتراجع.
تحظى الثقة بأهمية أكبر حين يكون هنالك شيء جديد قيد الإنجاز.
تكون الثقة أكثر ندرة حين يتعلق الأمر بالتنسيق بين أشخاص لا تربطهم علاقة مسبقة.
هذه هي المشاكل التي يساعد النقد والائتمان في حلها. ولا تدفع وفرة الأموال البشرَ إلى دفع المزيد مقابل السلع نفسها فحسب. بل توجّه إنفاقهم نحو أشياء تتطلّب دفعات مقدّمة أكبر والتزامات أطول أمداً، وأكثر خطورة
في الأوضاع حيث توجد علاقات جارية، يكون النقد أقل أهمية بوصفه آلية تنسيق. فالأسواق مخصصة للتعاملات بين الغرباء.
تؤكد نسخة مينسكي من القصة على أننا يجب أن نفكر في النقد من حيث سعرين، الإنتاج الحالي والأصول طويلة الأمد. ويجب تمويل الأصول طويلة الأمد؛ ويتطلب الحصول على أحدها عادة الالتزام بسلسلة من الدفعات المستقبلية. لذا فإن أسعارها حساسة لتوافر النقد. ولا تؤدي زيادة في عرض النقود – على عكس هيوم، وعلى عكس ماير– إلى رفع جميع الأسعار في انسجام. بل هي ترفع بشكل غير متناسب أسعار الأصول طويلة الأمد، وتشجع إنتاجها. الأصول طويلة الأمد هي أساس الإنتاج الصناعي الحديث.
تعتمد القيمة النسبية للسلع الرأسمالية، والاختيار بين تقنيات إنتاج ذات كثافة رأسمالية أكثر أو أقل، على سعر الفائدة. السلع الرأسمالية - والشركات وغيرها من الكيانات طويلة العمر التي تستفيد منها - هي بطبيعتها غير سائلة. ولذلك تعتمد رغبة أصحاب الثروات في استثمار ثرواتهم في هذه الأشكال على توافر السيولة. لا يمكننا تحليل ظروف الإنتاج من الناحية غير النقدية أولاً ثم بعد ذلك إدراج النقد والفائدة في القصة. إذ إن ظروف الإنتاج نفسها تعتمد بشكل أساسي على شبكة المدفوعات المالية والالتزامات التي تنظمها، وعلى مدى مرونة تلك الشبكة.
التعامل مع النقد بجدية يتطلب منا إعادة صياغة مفهوم الاقتصاد الواقعي.
تفترض فكرة سعر الفائدة كثمن للادخار، كما ذكرت من قبل، أن الناتج موجود بالفعل لكي يُستهلك أو يُدّخر. وعلى نحو مماثل، تعني فكرة الفائدة باعتبارها ثمناً متداخل الفترات - ثمن الوقت كما يقول البنك المركزي الأوروبي - ضمناً أن الناتج المستقبلي محدّد بالفعل، على الأقل احتمالياً. ولا يمكننا مقايضة الاستهلاك الحالي مقابل الاستهلاك المستقبلي ما لم يكن الاستهلاك المستقبلي موجوداً بالفعل لكي نبادل به.
استوعب ويكسل الذي بذل قصارى جهده لإنشاء إطار السعر الطبيعي للبنوك المركزية اليوم هذا الجانب منها بشكل مثالي حين قارن النمو الاقتصادي ببراميل النبيذ التي تتقادم في القبو. النبيذ موجود بالفعل. تكمن المشكلة في تحديد الوقت المناسب لفتح البراميل، فأنت ترغب في تناول بعض النبيذ الآن، لكنك تعلم أن النبيذ سيصبح أفضل إذا انتظرت.
وفي سياق السياسات، يتوافق هذا مع فكرة مستوى الناتج المحتمل (أو العمالة الكاملة) الذي يُعطى من جانب العرض. القدرة الإنتاجية للاقتصاد موجودة بالفعل؛ وأقصى ما يمكن أن يحققه النقد، أو الطلب، هو إدارة الإنفاق الإجمالي بحيث يظل الإنتاج قريباً من تلك القدرة.
وهذا هو المنظور الذي يقول من خلاله شخص مثل لورانس ماير، أو بول كروغمان، إن السياسة النقدية من غير الممكن أن تؤثر على الأسعار إلا على المدى الطويل. فهما يفترضان أن الناتج المحتمل قد أُعطي بالفعل.
لكن أحد الدروس الكبرى التي تعلمناها من السنوات الخمس عشرة الماضية من عدم استقرار الاقتصاد الكلي هو أن الإمكانات الإنتاجية للاقتصاد أقل استقراراً ويقيناً مما اعتاد خبراء الاقتصاد على تصوره بكثير. لقد رأينا أن القوى العاملة تنمو وتتقلص استجابةً لظروف سوق العمل. ورأينا أن نمو الاستثمار والإنتاجية شديدا التأثر بالطلب. وإذا أدى نقص الإنفاق إلى انخفاض الناتج عن المستوى الممكن اليوم، فإن الإمكانات ستكون أقل غداً. وإذا انتعش الاقتصاد لفترة من الوقت، فإن الناتج المحتمل سوف يرتفع.
يمكننا أن نرى الشيء نفسه على مستوى الصناعات الفردية. كان أحد التطورات الأكثر إثارة للدهشة وتشجيعاً في السنوات الأخيرة هو الانخفاض السريع في تكاليف توليد الطاقة المتجددة. ومن الواضح أن هذا الانخفاض في التكاليف هو نتيجة، بقدر ما هو سبب، للنمو السريع في الإنفاق على هذه التكنولوجيات. وهذا بدوره يرجع إلى حد بعيد إلى السياسات الناجحة لتوجيه الائتمان إلى تلك المناطق. والمنظور الذي يرى أن النقد ظاهرة عارضة بالنسبة إلى «الاقتصاد الواقعي» للإنتاج كان ليستبعد هذا الاحتمال.
التعامل مع النقد بجدية باعتباره مجالاً اجتماعياً مستقلاً بذاته يعني الاعتراف بأن الواقع الاجتماعي والمادي ليس مثل النقد. ولا يمكننا أن نفكر في الأمر من حيث مجموعة من الأشياء الموجودة التي ستُخصَّص بين الاستخدامات أو مع مرور الوقت. الإنتاج ليس كمية من رأس المال وكمية من العمل مجتمعتين في وظيفة الإنتاج. بل نشاط إنساني منظم، ومنسق بطرائق متنوعة، يهدف إلى إحداث تحول ذي نهاية مفتوحة لعالم لا تُعرف نتائجه مسبقاً.
وعلى جانب سلبي، يعني هذا أنه يجب أن نشكّك في أي مفهوم اقتصادي يوصف بأنه «طبيعي» أو «واقعي». وهذا في كثير من الأحيان محاولة لتهريب رؤية غير نقدية تختلف جوهرياً عن اقتصادنا، أو لإخفاء ادعاء معياري في صورة ادعاء إيجابي، أو كلا الأمرين على السواء.
على سبيل المثال، ينبغي علينا أن نكون حذرين حيال أسعار الفائدة «الواقعية». هذا المصطلح موجود في كل مكان، لكنه يشير ضمناً إلى أن المعاملة الأساسية هي مبادلة سلع اليوم بسلع غداً، الأمر الذي يأخذ شكلاً نقدياً بالصدفة. ولكنها في الواقع عبارة عن مبادلة لإقراراتٍ بالدّين، مجموعة من المدفوعات المالية بمجموعة أخرى. لا يوجد سبب لدخول السعر النسبي للنقد مقابل السلع في هذا الأمر. وفي الواقع، حين ننظر تاريخياً، قبل عصر البنوك المركزية التي تستهدف التضخم، لم تكن هناك علاقة معينة بين التضخم وأسعار الفائدة.
وينبغي علينا أيضاً أن نشكّك في فكرة ناتج محلي إجمالي واقعي، أو مستوى السعر. هذا هو الموضوع الرئيسي للكتاب، لكنه هنا خارج نطاق هذه القطعة.
وعلى جانب إيجابي، أعتقد أن هذا المنظور يمثل إعداداً أساسياً لاستكشاف متى وفي أي سياقات يكون التمويل مهماً للإنتاج. ومن الواضح، في الواقع، أن غالبية الإنتاج تُنسّق بطرائق غير سوقية، سواء ضمن الشركات -التي تُعتبر اقتصادات مخطَّطة داخلياً- أو من خلال أشكال مختلفة من التخطيط على مستوى الاقتصاد بالكامل. ولكن هنالك أيضاً حالات يكون فيها توزيع المطالبات النقدية من خلال النظام المالي أمراً مهماً للغاية. يبدو فهم أي الأنشطة المحدّدة التي تعتبر مقيدة ائتمانياً، وفي أي ظروف، وكأنه مجال بحثي مهم بالنسبة إلي، وخصوصاً في سياق تغير المناخ.
اسمحوا لي أن أذكر اتجاهاً آخر في هذا الصدد، وأعتقد أن هذا المنظور يوجهنا إليه.
كما اقترحت، فإن فكرة سعر الفائدة باعتباره ثمناً للوقت، والرؤية الأوسع للتبادل الواقعي التي تشكل جزءاً منها، تتعامل مع تدفقات النقد وعروضه باعتبارها بدائل لاقتصاد واقعي غير نقدي هي أساسه. والواقع أن الذين يتبنون هذا الرأي لا يميلون إلى الاهتمام بشكل خاص بكيفية بناء القيم النقدية على وجه التحديد. فأي سعر فائدة في مركّب أسعار الفائدة يشكل «الـ»سعر الفائدة؟ وبأي من معدلات التضخم المحتملة المختلفة، وعلى مدى أي فترة، نقوم بعملية طرح للحصول على سعر الفائدة «الواقعي»؟ وما هي المدفوعات التي تُضمّنُ بالضبط في الناتج المحلي الإجمالي، وماذا نفعل إذا تغير ذلك، أو إذا كان مختلفاً في بلدان مختلفة؟
إذا نظرنا إلى القيم النقدية باعتبارها مجرد بدائل لقيمة «واقعية» ضمنية، فإن الإجابات على هذه الأسئلة لا تهم حقاً. ومن ناحية أخرى، إذا كنت تعتقد أن القيم النقدية هي ما هو واقعي بالفعل - أي إذا كنت لا تعتقد أنها بدائل لأي كمية مادية ضمنية - فلابد أن تكون مهتماً للغاية بالطريقة التي تُحسب بها. وإذا كان سعر الفائدة يعني حقاً المدفوعات على عقد قرض، وليس سعر صرف افتراضي بين الماضي والمستقبل، فلابد أن تكون واضحاً بشأن عقد القرض الذي تفكر فيه.
وعلى المنوال نفسه، يعامل أغلب خبراء الاقتصاد موضوعات البحث باعتبارها العلاقات السببية الضمنية في الاقتصاد، أو تلك «السمات البنيوية الأساسية» التي من المفترض أن تظل مستقرة بمرور الوقت. ولنتذكر هنا أن سعر الفائدة الطبيعي يتحدد صراحة فيما يتصل بحالة توازن في الأمد البعيد حيث تظل كل المتغيرات الاقتصادية الكلية ثابتة، أو تنمو بمعدل ثابت. وإذا كان هذا هو تصورك لما تقوم به، فإن التطورات التاريخية المحددة لا تثير الاهتمام إلا باعتبارها دراسات حالة، أو باعتبارها دوافع للعمل الواقعي الذي يتألف من نماذج رسمية باقية بمرور الزمن.
الإنتاج ليس كمية من رأس المال وكمية من العمل مجتمعتين في وظيفة الإنتاج. بل نشاط إنساني منظم، ومنسق بطرائق متنوعة، يهدف إلى إحداث تحول ذي نهاية مفتوحة لعالم لا تُعرف نتائجه مسبقاً.
ولكن إذا تعاملنا مع النقد بجدية، فلن نحتاج إلى افتراض هذا النوع من البنية العميقة الضمنية. وإذا لم نفكر في الفائدة من حيث المقايضة بين الحاضر والمستقبل، فلن نحتاج إلى التفكير في الدخل والناتج في المستقبل باعتبارهما محددين بالفعل بأي حال من الأحوال. وإذا كان النقد مهماً لنشاط الإنتاج، كتمويل للاستثمار أو كطلب على السواء، فلا يوجد سبب يجعلنا نعتقد أن التطور الفعلي للاقتصاد يمكن فهمه من حيث الاتجاه طويل الأمد الذي تحدده الأساسيات.
الهدف المنطقي الوحيد الذي ينبغي لنا أن نستقصيه في هذه الحالة هو الأحداث الخاصة التي وقعت أو قد تقع. والتعامل مع موضوعنا بهذه الطريقة يعني العمل من حيث المتغيرات التي نلاحظها ونقيسها بالفعل. وإذا درسنا الناتج المحلي الإجمالي، فسوف نتعامل مع الناتج المحلي الإجمالي كما يحدده المحاسبون الوطنيون ويقيسونه بالفعل، وليس «الناتج» في المجرد. وهذه المتغيرات نقدية عموماً.
هذا يعني التركيز على تفسيرات لتطورات تاريخية محددة، بدلاً من نمذجة سلوك «الاقتصاد» في إطار مجرد. ويعني الارتقاء بالعمل الوصفي فوق أنواع الأسئلة السببية التي يطرحها خبراء الاقتصاد عادة. وهذا يعني توسيع مجموعة أدواتنا التجريبية بعيداً من الاقتصادي القياسي.
قد تبدو هذه الاقتراحات المنهجية بعيدة كل البعد عن الحسابات البديلة لسعر الفائدة. ولكن بما أني عملت وأرجون على هذا الكتاب، أصبحنا مقتنعين بأن الاثنين مرتبطان ارتباطاً وثيقاً. التعامل مع النقد بجدية، ورفض الأفكار التقليدية للاقتصاد الواقعي، له آثار بعيدة المدى على كيفية ممارستنا للاقتصاد.
يتيح لنا إدراك حقيقة مفادها أن النقد يشكل مجالاً خاصاً به أن نرى النشاط الإنتاجي باعتباره عملية تاريخية ذات نهاية مفتوحة، وليس مشكلة ثابتة تتعلق بالتخصيص. ومن خلال التركيز على النقد، نستطيع أن نحصل على رؤية أكثر وضوحاً للعالم غير النقدي؛ ونأمل أن نكون في وضع أفضل يسمح لنا بتغييره.
نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 29 آب/أغسطس 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموجب تفاهم مع الجهة الناشرة.