الحصّ وسابا وقرم
فرسان الاقتصاد الثلاثة
عندما توفي جورج قرم الشهر الماضي، تبادر إلى ذهني العنوان التالي: «جورج قرم: الشهابي الأخير». لكنني استدركت أن سليم الحصّ ما زال على قيد الحياة. شاء القدر أن يرحل الحصّ في أقل من شهر من رحيل قرم. وإذا ما أضفنا وفاة الياس سابا في العام 2023، يكون لبنان قد خسر، في أقل من سنتين، ثلاثة اقتصاديين لبنانيين شكّلوا علامات فارقة في تاريخ لبنان الحديث.
مراجعة سريعة لما كُتِب في وداع كلّ منهم، تعكس التشابه بين صورتهم عند من عرفهم مباشرة أو خبرهم في الحياة العامّة على حدّ سواء. على صعيد انتماءاتهم السياسية، جميعهم من طينة وطنية. فهُم - ولو بدرجات مختلفة - عروبيون من دون مغالاة، وشاميون من دون محاباة، ومؤيّدون للمقاومة المسلّحة في وجه العدو الصهيوني من دون مواربة. وعلى صعيد الممارسة السياسية للحكم، الثلاثة مشهود لهم بنظافة الكفّ والمناقبية والكفاءة في إدارة الشأن العام. وعلى صعيد السمات الشخصية، هم خبراء متواضعون وأساتذة ملهِمون.
رحيل أفراد أم أفول نهج؟
على أهمّية هذه الخصال الحميدة، لا تجد بين ما كُتب ما يتناول بشكل جدّي الجانب الاقتصادي لحياة الحصّ وسابا وقرم، على الرغم من مركزية الاقتصاد في سيرتهم. لا نقاش موثّق وموضوعي مثلاً عن المدرسة الفكرية الاقتصادية التي انتموا إليها، وموقعها من الأيديولوجية الاقتصادية المُهيمنة في لبنان - أي عقيدة الاقتصاد الحرّ والمتوحّش بنسختيها الشيحاوية بعد الاستقلال (1943) والحريرية بعد الحرب الأهلية (1990). ولا تعريف برؤيتهم الإصلاحية أبعد من الكلام العام عن محاربتهم الفساد وسياسات الإعمار والاستزلام في دوائر الدولة. ولا تقويم لممارستهم الإدارية أثناء توليهم مناصب حكومية خارج إطار التفاني والنزاهة وبناء الدولة وغيرها من المصطلحات العمومية التي لا تخبرنا شيئاً عن موقفهم من ملفات مُحدّدة مثل تثبيت سعر الصرف، أو عجز الموازنة، أو تراكم الدَّيْن، أو السرِّية المصرفية، أو التنمية الاقتصادية، أو الإصلاح الضريبي. وتكاد كلمة الشهابية تغيب تماماً عن تلك المقالات، ناهيك عن العزوف عن أي مقارنة أو ربط بين سِيرهم ومشاريعهم السياسية وما آلت إليه.
عدم الغوص - بعين نقدية - في مضمون ما قالوه ومارسوه، والاكتفاء بالعناوين العريضة، هو دليل على المستوى المتدنّي للنقاش العام بشأن قضايا الاقتصاد، والذي يُحسب إنجازاً إضافياً لقوى المال والسلطة في معركة كيّ الوعي
هكذا، يصبح رحيل كلّ منهم على حدة خسارة فردية. وهي مناسبة للتحسّر على الماضي ورثاء الحاضر والتوجّس من المستقبل، قبل طيّ الصفحة والعودة إلى الواقع المرير. فيخرج القارئ بخلاصة واحدة: كانوا أوادم بين زعران. حاولوا التغيير وفشلوا. ضمائر بلد لا ضمير له. هم أفراد من الصعب أن يتكرّروا، وليسوا نتاج تجربة تاريخية مُحدّدة اسمها الشهابية تركت بصماتها في الاقتصاد السياسي للبنان من دون أن يُكتب لها النجاح على المدى البعيد. إن عزْلهم عن سياق تلك التجربة هو إخراجهم من التاريخ ولو عن غير قصد، وهو تكريس للنهج الاقتصادي المعادي لهم، الذي لا يعترف إلّا بمبادرة الفرد كي يحجب البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أنتجته. وعدم الغوص - بعين نقدية - في مضمون ما قالوه ومارسوه، والاكتفاء بالعناوين العريضة، هو دليل على المستوى المتدنّي للنقاش العام بشأن قضايا الاقتصاد، والذي يُحسب إنجازاً إضافياً لقوى المال والسلطة في معركة كيّ الوعي.
لم تتطابق الرؤى الاقتصادية لكل من الحصّ وسابا وقرم - على تباين أبعاد منها - عن طريق الصدفة. لقد تشكّل الوعي الفكري والسيرة المهنية للثلاثي الراحل في منتصف القرن العشرين تحت تأثير ظاهرتين رئيستين ومتداخلتين في تكوين الاقتصاد السياسي للبنان؛ الأولى مُغيّبة والثانية مُهمّشة. تتمثّل الظاهرة الأولى في نشوء مدرسة فكرية اقتصادية يمكن تسميتها بـ«المؤسسية التنموية» ومركزها الجامعة الأميركية في بيروت، أمّا الظاهرة الثانية فهي الشهابية وتجسّدت في الرئيس الراحل فؤاد شهاب ومشروعه السياسي الإصلاحي.
المؤسّسية التنموية والتكنوقراطية الإصلاحية
ينتمي الحصّ وسابا وقرم إلى الجيل الثالث من المؤسّسيين التنمويين. تعود جذور هذه المدرسة الفكرية إلى فلسفة المؤسّساتية الاقتصادية، التي ظهرت في أوائل القرن العشرين في الولايات المتّحدة. حاربت المؤسّساتية، بنسختها الأميركية، التنظير والتجريد في علم الاقتصاد الليبرالي، واعتمدت مقاربة تجريبية، فاستعارت تقنيات الإحصاء من العلوم الطبيعية كالفيزياء، وطوّرتها لبناء النماذج الاقتصادية. واعتبرت أن النظم الاقتصادية هي تشكيلات مؤسّساتية يبنيها الإنسان، وليست قوانين طبيعية يتعيّن اكتشافها. وعليه، فإن المشكلات الاقتصادية مثل البطالة أو التضخّم أو فائض الإنتاج هي نتيجة إخفاقات السوق. وبالتالي، يشكّل الإصلاح المؤسّسي، من خلال القطاعين العام والخاص، على حدّ سواء، بوّابة الإصلاح الاقتصادي.
تبنّى الجيل الأول من المؤسّسين اللبنانيين بريادة أستاذ إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية سعيد حمادة، الذي وصفه جورج قرم فيما بعد بـ«عميد العلوم الاقتصادية في لبنان»، المقاربة المؤسّسية لرسم تصوّر إحصائي لاقتصاد سوريا تحت الانتداب. بعد الحرب العالمية الثانية، امتزجت المقاربة المؤسّسية مع الفكر الكينزي عند أبناء الجيل الثاني من اقتصاديي الجامعة الأميركية مثل يوسف صايغ وألبير بدر، فصحّ وصفها بالمؤسّسية التنموية.
آمنوا بدور ريادي للقطاع الخاص في هذه المهمّة، واعتبروا أن الإصلاح من فوق ضمانة لتفادي الثورة من تحت. وعليه، لم يكن لهم موقف أيديولوجي مبدئي من سياسة عدم التدخّل التي اتبعتها الدولة اللبنانية في عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون
شغلت قضية التنمية في دول العالم الثالث هؤلاء، فعارضوا سياسة عدم التدخّل المتطرّفة في لبنان لكنهم لم يكونوا قط من دعاة الاشتراكية. على العكس من ذلك، آمنوا بدور ريادي للقطاع الخاص في هذه المهمّة، واعتبروا أن الإصلاح من فوق ضمانة لتفادي الثورة من تحت. وعليه، لم يكن لهم موقف أيديولوجي مبدئي من سياسة عدم التدخّل التي اتبعتها الدولة اللبنانية في عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون. فقد اعتبروا، كما أشار بدر في محاضرة له على منبر الندوة اللبنانية، أن علم الاقتصاد هو وسيلة وليس غاية، وعليه فإن السياسات الاقتصادية، ومن ضمنها تدخّل الدولة من عدمه، يجب أن تتغيّر مع تغيّر الظروف. اعتبر بدر أن سياسة عدم التدخّل جلبت للبنان «مكاسب كبيرة» في حقبة الاستقلال، ولو أنّ هذا الازدهار كان مرهوناً بمجموعة ظروف سياسية واقتصادية آنية مثل تدفّق البترودولار وموجة التأميم في البلاد العربية التي أدّت إلى هروب رؤوس أموال لبنان. لكن بنية الاقتصاد اللبناني غير المتوازنة لصالح قطاع الخدمات على حسابي قطاع الزراعة والصناعة جعلته هشّاً في وجه الصدمات الخارجية. وبالتالي، أصبح النجاح في المستقبل فيما إذا تغيّرت الظروف يعتمد على تدخّل الدولة لعقلنة هذه البنية.
بعد قرابة نصف قرن على كلام بدر، اعتمد جورج قرم المنطق نفسه. حاول إقناع الطبقة الحاكمة أن نموذج دبي الذي حاول الحريري استنساخه في لبنان عن طريق استعادة أمجاد الجمهورية التجارية التي عاصرها بدر غير قابل للتطبيق، وأن دور لبنان كوسيط لم يعد مُمكناً فقامت الدنيا في وجهه ولم تقعد. هل كانت حظوظ بدر في إقناع معاصريه من النخبة الحاكمة في مرحلة الشهابية أفضل؟
الشهابية: إصلاحيون ولكن
تقاطعت المقاربة المؤسّسية التنموية عند الجيلين الثاني والثالث مع مشروع الشهابية الإصلاحي الذي سعى إلى تخطيط الاقتصاد الليبرالي بشكل تدرّجي ومن دون تقويض دعائمه. تبنّت الشهابية مذهب الاقتصاد الإنسانوي الذي دعى إليه الأب لوي-جوزف لوبريه، رئيس بعثة إيرفد إلى لبنان في العام 1959، التي أجرت مسحاً شاملاً لمشكلات لبنان التنموية. جمعت فلسفة لوبريه بين مبادئ الاقتصاد الحرّ والعدالة الاجتماعية كبديل عن الاشتراكية، لكن خصوم شهاب في لبنان وصفوها بـ«اشتراكية الفاتيكان»، وهو دليل على مدى تجذّر الفكر الرأسمالي المتطرّف عند النخب اللبنانية.
نجح شهاب في تحقيق نجاح نسبي من الاستقلال الإداري، فأنشأ بموجب صلاحيات حكومية استثنائية الكثير من مؤسّسات القطاع العام، لعل أهمّها مجلس الخدمة المدنية وجهاز التفتيش المركزي. وحاول تشجيع سياسة الإنماء المتوازن خارج بيروت، وزاد من الإنفاق الحكومي، ليسجّل في عهده العجز الأول في الموازنة. لكنه، في المقابل لم يغيّر من نسبة الإنفاق على التعليم أو الدفاع مقارنة بأسلافه، واستهدف الأشغال العامّة أكثر من التصنيع، وتمسّك بقطاع الخدمات على اعتباره «الدجاجة التي تبيض ذهباً». وقد انتفضت هذه الدجاجة بتجّارها ورجال أعمالها في وجه الياس سابا، عندما أصدر مرسوماً لرفع التعرفة الجمركية أثناء توليه وزارة المال في عهد سليمان فرنجية.
جمعت فلسفة لوبريه بين مبادئ الاقتصاد الحرّ والعدالة الاجتماعية كبديل عن الاشتراكية، لكن خصوم شهاب في لبنان وصفوها بـ«اشتراكية الفاتيكان»، وهو دليل على مدى تجذّر الفكر الرأسمالي المتطرّف عند النخب اللبنانية
كان شهاب أكثر محافظة في مجال الإصلاح المالي. وعلى الرغم من إقرار قانون النقد والتسليف وتأسيس مصرف مركزي، اتّبع مصرف لبنان منذ تأسيسه سياسة ائتمانية تقشّفية خلافاً للمبدأ الكينزي التنموي، وتمكّنت جمعية مصارف لبنان من إضعاف قدرة القانون على تنظيم القطاع المصرفي، وتمسّكت بمبدأ السرّية المصرفية الذي يجب «أن لا يُمسّ» بحسب رئيسها آنذاك بيار إدّة.
على أثر أزمة بنك إنترا في العام 1966، أدّى الحصّ دوراً محورياً في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وذلك بصفته أول رئيس للجنة الرقابة على المصارف، وبالتعاون مع حاكم المصرف آنذاك، الياس سركيس. في العام 1975، استنجد سركيس بالحص،ّ عندما انتخب الأول رئيساً وفشل في تشكيل حكومة فعاليات، فكلّف الحصّ تشكيل حكومة بديلة. طغت شؤون الحرب الأهلية والاقتتال على حكومات الحصّ في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بعكس حكومته التي شكّلها بعد انقضاء الحرب في العام 1998، وأوكلت تبدية الإصلاح الاقتصادي بعد سنوات عدّة من سياسات الإعمار الحريرية وما نتج عنها من تضخّم في الدَّيْن العام وعجوزات متفاقمة في الموازنة. وقد استنجد الحصّ هذه المرّة بشهابي آخر من الجيل الثالث، أي جورج قرم، كوزير للمال.
الفرصة الأخيرة
يصف جورج قرم تجربته اليتيمة كوزير للمال بـ«الفرصة الضائعة». حملت سياسات قرم المالية بصمات المؤسّسية التنموية. فقد جهد قرم في ضبط العجز في الموازنة لمحاربة الدَّيْن العام، والتخفيف من الهدر مقابل إقرار نظام ضريبي أكثر عدلاً. لكنه شجّع خصخصة قطاعات مُربحة مثل الاتصالات ولو ضِمن شروط رقابية وسعى الى تحفيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص . وعندما حاول جسّ النبض بخصوص ثبات سعر الصرف، قامت قيامة المعارضة الحريرية، فسارع هو والحص إلى طمأنة الجميع أن «الثوابت» ومنها سعر الصرف لن تُمسّ. يعزو قرم هذا الموقف في كتابه إلى الخوف من تكرار تجربة عمر كرامي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حين أدّى هبوط سعر الصرف المفاجئ إلى سقوط الحكومة وتشكيل أخرى برئاسة الملياردير رفيق الحريري.
مساومة الحص وقرم مع «ثوابت» الاقتصاد اللبناني، تعكس المسار المهادن للأجيال الثلاثة من اقتصاديي الجامعة الأميركية عند التعاطي مع قوى الأمر الواقع الحاكمة للبنان وخصوصاً البرجوازية المالية المتمثّلة في جمعية مصارف لبنان، وإن كانت الشهابية قد منحت المؤسّساتيين هامشاً إصلاحياً أوسع بكثير مما كان متوفراً لدى الحصّ وقرم في عصر النيوليبرالية الحريرية. لكننا لا نستطيع أن نعزو التعايش والتكيّف مع قوى الأمر الواقع إلى ضرورات الحكم فحسب. كيف نفسّر استشارة قرم لمكرم صادر (ولو على مضض) وجهاد أزعور لرسم سياسته المالية؟ وكيف نفسِّر تزكية الحصّ لرياض سلامة كأفضل مرشّح لرئاسة الجمهورية في خلال مقابلة تلفزيونية تلت عزوف الحصّ عن ممارسة العمل السياسي؟ وكيف نفسِّر ثناء الحصّ على حاكمية سلامة في مساهمة مكتوبة له ضمن مجلّد صدر في العام 2015 للاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيس مصرف لبنان؟
مساومة الحص وقرم مع «ثوابت» الاقتصاد اللبناني، تعكس المسار المهادن للأجيال الثلاثة من اقتصاديي الجامعة الأميركية عند التعاطي مع قوى الأمر الواقع الحاكمة للبنان وخصوصاً البرجوازية المالية المتمثّلة في جمعية مصارف لبنان
يتضمّن المنشور نفسه، الصادر عن جريدة السفير، مساهمتين لقرم وسابا. بدبلوماسية مُفرطة، يتفادى قرم ذكر سلامة سلباً أو إيجاباً، ويكتفي بالثناء على قانون النقد والتسليف كإنجاز شهابي على الرغم من وجود ثغرات فيه. وحده الياس سابا ينتقد سياسة الحاكم من دون مواربة، وخصوصاً سياسة تثبيت سعر الصرف. ومن يشاهد مقابلات سابا وقرم والحصّ، يلتمس جرأة سابا في تسمية الأمور بأسمائها ولوم القوى الاقتصادية الحاكمة على تعثّر كلّ محاولات الإصلاح.
يتميّز سابا كذلك بمعارضته الشديدة للتبعية الاقتصادية الخارجية والمتمثلة برفضه القاطع للتعاون مع صندوق النقد الدولي. في المقابل، سعى قرم أثناء توليه الوزارة في العام 1998 إلى التعاون مع البنك الدولي، وإلى تحويل جزء من الدَّيْن الداخلي اللبناني إلى دَيْن خارجي عن طريق التعاون مع المصارف الأميركية. وفي هذا السياق، يكيل قرم المديح في كتابه «الفرصة الضائعة» على السفير الأميركي ديفيد ساترفيلد، ويسعد لاهتمام الأخير بالإصلاح الاقتصادي في لبنان، في الوقت نفسه الذي يشير فيه إلى نوايا الولايات المتّحدة في استخدام ورقة الاقتصاد لفرض التوطين، الذي رفضه قرم رفضاً قاطعاً.
يتماشى موقف قرم غير المعادي للدور الاقتصادي الأميركي مع إرث المؤسّسيين التنمويين. منذ البداية، أدّت مؤسّسة فورد دوراً محورياً في تمويل إنشاء معهد الأبحاث الاقتصادية في الجامعة الأميركية في العام 1954، الذي احتضن المؤسّساتيين التنمويين من الأجيال كافة. وكذلك موّلت مؤسّسة فورد المسح المالي الذي أشرف عليه جورج قرم من أجل إقرار ضريبة دخل في ستينيات القرن الماضي. وشغل معظم المؤسّسيين التنمويين، من سعيد حمادة إلى جورج قرم، مناصب استشارية كثيرة في المؤسّسات المالية الدولية التي تشكّل عنصراً من عناصر القوة الناعمة للإمبريالية الأميركية. وقد أدّت سياسات المؤسّسيين الإصلاحية إلى دمج الاقتصاد اللبناني في النظام الرأسمالي العالمي. لا ينفي ما تقدّم أنّ جسور التعاون تلك توقّفت عند حدود التطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني.
مهما كان من أمر التأثير الأميركي، تبقى سياسات الإصلاح التي سعى لها الراحلون الثلاثة ومناقبيتهم في الحكم أفضل ما أنتجته التجربة اللبنانية. وهم لا يتحمّلون مسؤولية فشلهم في إحداث تغيير ملموس بقدر ما تتحمّلها قوى السلطة، على اختلاف مشاربها الجيوسياسية، لأنها لم تتبنَ يوماً مشاريع الإصلاح الاقتصادي بشكل جدّي. يكفي أن تستذكر أسماء من أنجبتهم الحريرية السياسية، ومن بعدها الثنائية الشيعية، من وزراء مال كي تعي الدرك الذي وصلت إليه حاكمية المال في لبنان. لقد كان الحصّ وسابا وقرم آخر العنقود. لم يبقَ سوى الحصرم.