Preview أزمة الرأسمالية

نحو مفهوم موسّع للرأسمالية

  • نعيش أزمة رأسمالية شديدة الحدّة من دون نظرية نقدية قادرة على توضيحها بشكل كافٍ. وبالتأكيد، أزمة اليوم لا تناسب النماذج الجاهزة التي ورثناها، فهي متعدّدة الأبعاد ولا تتضمّن الاقتصاد الرسمي فقط، وإنما أيضاً الظواهر «غير الاقتصادية» مثل الاحترار العالمي و«أوجه العجز في خدمات الرعاية» وتفريغ السلطة العامّة من مضمونها على كل المستويات.
  • فور أن ننظر إلى ما وراء القصّة الأمامية باتجاه القصّة الخلفية، تصبح كلّ الشروط الخلفية الضرورية لاستغلال العمّال بؤراً للصراع والنضال في المجتمع الرأسمالي. ليس الصراعات بين العمّال ورأس المال عند نقطة الإنتاج فقط، وإنما أيضاً الصراعات الحدودية الخاصّة بالهيمنة على أساس النوع والنظام البيئي والإمبريالية والديمقراطية.

عادت الرأسمالية! فبعد عقود لم يوجد خلالها هذا المصطلح خارج كتابات المفكّرين الماركسيين إلّا نادراً، أصبح معلّقون من توجّهات متنوّعة يبدون قلقهم صراحة بشأن استدامة الرأسمالية، مع سعي الباحثين الأكاديميين من مدارس مختلفة إلى تقديم انتقادات مُمنهجة لها، واحتشاد النشطاء في مختلف أنحاء العالم ضدّ ممارساتها.

إنّ عودة الحديث عن «الرأسمالية» تطور محمود بكلّ تأكيد، وعلامة جليّة على عمق الأزمة الحالية، وانتشار الحاجة الملحّة لتناول ممنهج لها (وكأننا كنا بحاجة لأي علامات!). يكشف كلّ هذا الحديث الدال عن الرأسمالية عن ميلٍ متنامي للاقتناع بأن المساوئ المتنوّعة التي تحيط بنا – المالية والاقتصادية والبيئية والسياسية والاجتماعية – يمكن عزوها إلى جذر مشترك، وأن الإصلاحات التي لا تشتبك مع الأسس البنيوية العميقة لهذه المساوىء محكوم عليها بالفشل. وبالمِثل، تشير عودة المصطلح إلى رغبة منتشرة في أوساط كثيرة للاطلاع على تحليل قادر على توضيح العلاقات بين النضالات الاجتماعية المتباينة في عصرنا، تحليل من شأنه تعزيز التعاون الوثيق – إن لم يكن الاتحاد الكامل – بين تيّاراتها الأكثر تقدّمية وتطوراً في إطار جبهة مقاومة متكتلة ضدّ ذلك الكُل الرأسمالي. والشعور بأنّ الرأسمالية يمكن أن تشكّل المفهوم المركزي في مثل هذا التحليل شعور سليم.

لكن الرواج الحالي للحديث عن الرأسمالية ما زال إنشائياً إلى حدّ كبير، حيث يبدو كاستعراض للرغبة في إيجاد نقد مُمنهج أكثر من كونه مساهمة موضوعية في صنع هذا النقد. فبعد عقود من فقدان الذاكرة الاجتماعية، صارت أجيال من النشطاء الشباب والدارسين ممارسين لتحليل الخطاب بشكل مركّب، بينما يجهلون تماماً تقاليد نقد رأس المال. فقد بدأوا يسألون الآن فقط عن كيفية ممارسته بهدف استجلاء الوضع الحالي. أمّا الأكبر سناً منهم - المحاربون القدامى في الحقب السابقة من النضال ضدّ الرأسمالية الذين ربّما قدّموا لهم بعض التوجيه والإرشاد - فمثقلون بأمور خاصّة بهم تغشي أعينهم. وقد فشلوا إلى حدّ كبير - على الرغم من نواياهم الطيبة بكل تأكيد - في إدماج أفكار التوجّهات النسوية وتوجّهات ما بعد الاستعمار والفكر الإيكولوجي بشكل مُمنهج في طرق فهمهم للرأسمالية.

الرواج الحالي للحديث عن الرأسمالية ما زال إنشائياً إلى حدّ كبير، حيث يبدو كاستعراض للرغبة في إيجاد نقد مُمنهج أكثر من كونه مساهمة موضوعية في صنع هذا النقدالمحصلة هي أننا نعيش أزمة رأسمالية شديدة الحدّة من دون نظرية نقدية قادرة على توضيحها بشكل كافٍ. وبالتأكيد، لا تناسب أزمة اليوم النماذج الجاهزة التي ورثناها، فهي متعدّدة الأبعاد ولا تتضمّن فقط الاقتصاد الرسمي (بما في ذلك المالية) وإنما أيضاً الظواهر «غير الاقتصادية» مثل الاحترار العالمي، و«أوجه العجز في خدمات الرعاية»، وتفريغ السلطة العامّة من مضمونها على كلّ المستويات. لكن نماذج الأزمات التي وصلتنا تميل إلى التركيز بشكل حصري على الجوانب الاقتصادية التي يتمّ فصلها واعتبارها أكثر تميزاً عن العوامل الأخرى. الأمر الهام بالقدر نفسه هو أن أزمة اليوم تنتج ترتيبات سياسية جديدة وقواعد جديدة للصراع الاجتماعي. وتعتبر الصراعات حول الطبيعة وإعادة الإنتاج الاجتماعي والسلطة العامة مركزية في هذه التركيبة، التي تتضمّن محاور عدّة للامساواة، ومنها الجنسية/العرق-الإثنية والدين والجنسانية والطبقة. لكن في هذا الصدد أيضاً فالنماذج النظرية التي وصلتنا قد خذلتنا، فهي مازالت تنحاز للنضالات المتعلّقة بالعمل عند نقطة الإنتاج أكثر من التركيز على النضالات الأخرى.

نفتقر إذن بشكل عامّ إلى تصوّرات للرأسمالية والأزمة الرأسمالية مناسبة لعصرنا. وأهدف من هذا المقال لاقتراح مسار يمكنه معالجة هذه الفجوة. هذا المسار يأخذنا عبر فكر كارل ماركس الذي أسعى لإعادة النظر في فهمه للرأسمالية. يمتلك فكر ماركس الكثير ليقدّمه من حيث الموارد المفاهيمية العامة، وهو من حيث المبدأ مفتوح على هذه الشواغل الأوسع نطاقاً، لكنّه قاصر في التعامل بشكل ممنهج مع النوع الاجتماعي (مسألة الجندر) والنظام البيئي والسلطة السياسية كمبادئ بنيوية ومحاور للامساواة في المجتمعات الرأسمالية – ناهيك عن التعامل معها كرهانات ومرتكزات للنضال الاجتماعي. ومن ثمّ، من الضروري الاستفادة من هذه المناظير في إعادة تفكيك وبناء فكر ماركس بما في ذلك أفضل أطروحاته. ولهذا تتمثّل استراتيجيتي في هذا المقال في النظر أولا لماركس ثمّ لما وراءه، أملاً في إلقاء ضوء جديد على بعض الأسئلة القديمة: ما هي الرأسمالية بالضبط؟ كيف يمكن فهمها بأفضل شكل؟ هل يجب أن نفكّر فيها باعتبارها نظاماً اقتصادياً أم شكلاً من الحياة الأخلاقية أم نظاماً اجتماعياً مؤسّسياً؟ كيف يجب أن نصف «نزعات الأزمة» التي تسمها؟ وأين يجب أن نحدّد مواقع تلك الأزمات؟

سمات تعريفية

لتناول هذه الأسئلة، سأبدأ باستدعاء ما اعتبره ماركس السمات الأربع الجوهرية للرأسمالية. ومن ثم، ستبدو مقاربتي لأول وهلة تقليدية وملتزمة بالإرث الماركسي جداً، لكنني أنوي أن أنزع منها هذا الطابع بإظهار أن هذه السمات تفترض مسبقاً وجود سمات أخرى تشكّل في الحقيقة الشروط الخلفية التي تجعلها ممكنة. فبينما نَظَر ماركس في ما وراء مجال التبادل - أي إلى «المقر الخفي» للإنتاج - حتى يكتشف أسرار الرأسمالية، سأبحث أنا عن الشروط التي تجعل الإنتاج ممكناً في ما وراء ذلك المجال؛ أي في المساحات التي ما زالت خفية. بالنسبة لماركس، تُعد السمة التعريفية الأولى للرأسمالية هي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تستلزم وجود انقسام طبقي بين المالكين والمنتجين. وينشأ هذا الانقسام نتيجة تفكّك نظام اجتماعي سابق كان لدى معظم الناس فيه - على اختلاف مواقعهم - سبل الوصول إلى سبل الكفاف ووسائل الإنتاج، أي متاح لهم الغذاء والمأوى والملبس وكذلك الأدوات والأرض والعمل من دون الاضطرار للبحث في أسواق العمل. لكن الرأسمالية أسقطت هذه الترتيبات بشكل حاسم. فقد قامت بتسييج الأراضي المشاعية، وألغت حقوق الاستخدام العرفية الخاصّة بغالبية الناس، وحوّلت الموارد المشتركة إلى ملكية خاصة لأقلية صغيرة.

يأخذنا هذا مباشرة إلى السمة الجوهرية الثانية عند ماركس، وهي سوق العمل الحرّ. فالآخرون – أي الغالبية العظمى – عليهم الآن أن يعيشوا الكثير من الجلبة والمشقّة حتى يعملوا ويحصلوا على ما يحتاجون إليه للاستمرار في العيش وتربية أبنائهم. من الجدير بالتوكيد عليه هنا أن مؤسّسة سوق العمل الحرّ هذه شديدة الغرابة و«غير طبيعية» وشديدة الخصوصية والشذوذ من الناحية التاريخية. العمل «حر» هنا بمعنى مزدوج. يتعلّق المعنى الأول بالوضع القانوني، أي ألا يكون المرء مستعبداً أو مسترقاً أو مجبراً أو مقيّداً بمكان معيّن أو سيّد معيّن، ومن ثم يكون الشخص حرّ الحركة وقادراً على الدخول في عقد عمل. لكن المعنى الثاني يتعلّق بأن يكون المرء «خالياً» أو «حراً» من القدرة على الوصول إلى سبل الكفاف ووسائل الإنتاج بما في ذلك حقوق الاستخدام العرفية للأرض والأدوات، ومن ثمّ محروماً من الموارد والاستحقاقات التي تسمح للمرء بالامتناع عن دخول سوق العمل.

على هذه الأرضية تظهر الجلبة الأخرى الغريبة بالقدر نفسه، ألا وهي التوسّع الذاتي للقيمة الذي يعتبر السمة الجوهرية الثالثة عند ماركس. فالرأسمالية تتميّز بأن لديها دفع أو توجيه ذاتي ممنهج وموضوعي، ألا وهو تراكم رأس المال. وبالتالي، من حيث المبدأ كلّ ما يفعله المالكون باعتبارهم رأسماليين يستهدف توسيع وتمديد رأس مالهم. ومِثل المنتجين، هم أيضاً واقعون تحت إكراه مُمنهج له طبيعة خاصة. وجهود الجميع لتلبية احتياجاتهم غير مباشرة وموجّهة تجاه شيء آخر له الأولوية (أمر ملحّ وطاغٍ يكرّسه نظام ولا يتأثّر بالأشخاص) ألا وهو دافع رأس المال الذاتي نحو التوسّع اللانهائي. إن ماركس بارع في هذه النقطة؛ إذ يقول إن رأس المال يصبح هو الذات في أي مجتمع رأسمالي، والبشر هم بيادقه الذين يتحوّلون إلى مجرّد كائنات كالأشياء، تسعى للنفاذ من بين الثغرات وضمان الحصول على ما تحتاجه فقط عن طريق تغذية هذا الوحش.

السمة الرابعة تحدّد الدور المتميّز للأسواق في المجتمع الرأسمالي. كانت الأسواق دوماً موجودة على مدار التاريخ البشري بما في ذلك في المجتمعات غير الرأسمالية. لكن عملها في ظل الرأسمالية يتميّز بصفتين إضافيتين؛ الأولى هي أن الأسواق تعمل في المجتمع الرأسمالي على تخصيص المدخلات الرئيسية لإنتاج السلع. تلك المدخلات كانت تُعرَف بأنها الأرض والعمّال ورأس المال ويعتبرهم الاقتصاد السياسي البرجوازي «عناصر الإنتاج». تستخدم الرأسمالية الأسواق لتخصيص العمالة كما تستخدمها لتخصيص العقارات والسلع الرأسمالية والمواد الخام والائتمان. وتتحوّل تلك المدخلات المنتجِة إلى سلع بقدر ما توزّعها الرأسمالية عن طريق آليّات السوق. وباستخدام عبارة بييرو سرافا (Piero Sraffa) المبهرة: الرأسمالية نظام يهدف إلى «إنتاج السلع عن طريق السلع». لكنه يعتمد أيضاً – كما سنرى – على أشياء غير السلع موجودة في الخلفية.

رأس المال ينصِّب نفسه كذات للتاريخ من خلال عملية توسّع ذاتي، ويحل محل البشر الذين صنعوه ويحوّلهم إلى خدم عندهلكن هناك وظيفة أخرى تضطلع بها الأسواق في أي مجتمع رأسمالي، وهي أنها تُحدِّد كيف سيتم استثمار الفائض الذي يحقّقه المجتمع. كان ماركس يعني بـ«الفائض» الموارد الجمعية من الطاقات الاجتماعية التي تتجاوز تلك المطلوبة لإعادة إنتاج شكل معيّن من الحياة وتجديد ما تمّ استهلاكه في خضم عيش هذه الحياة. كيفية استخدام أي مجتمع لطاقاته الفائضة أمر مركزي تماماً؛ فهي تطرح أسئلة جوهرية بخصوص كيف يريد الناس أن يعيشوا؟ أين يختارون استثمار طاقاتهم الجمعية؟ كيف يوازنون بين «العمل المنتِج» من ناحية والحياة الأسرية وتمضية وقت الفراغ وغيرها من الأنشطة من ناحية أخرى؟ وكذلك، كيف يطمحون إلى الارتباط بالطبيعة غير البشرية؟ وما يسعون إلى تركه للأجيال القادمة؟ تنزع المجتمعات الرأسمالية إلى ترك هذه القرارات «لقوى السوق». ولعل هذه أكثر صفة منحرفة وخطيرة فيها، وأعنى بهذه السمة تسليم أهم الأمور إلى ماكينة معنية فقط بالتفكير في القيمة النقدية للأشياء. وهذا مرتبط بشكل وثيق بالسمة الجوهرية الثالثة التي نتناولها، وهي توجه رأس المال الأصيل - على الرغم من عماه – إلى التوسّع الذاتي. فرأس المال ينصِّب نفسه كذات للتاريخ من خلال عملية توسّع ذاتي، ويحل محل البشر الذين صنعوه ويحوّلهم إلى خدم عنده.

أهدف من التركيز على هذين الدورين للأسواق إلى مواجهة وجهة النظر المنتشرة والقائلة إن الرأسمالية تدفع نحو التسليع المتزايد باستمرار للحياة في ذاتها. أعتقد أن وجهة النظر تلك تأخذنا إلى طريق مسدود... إلى تصوّرات ديستوبية لعالم مُتسلّع بالكامل. هذه التصوّرات لا تتجاهل فقط الجوانب التحرّرية للأسواق، وإنما تتجاهل أيضاً حقيقة يؤكّدها إيمانويل والرستين وهي أن الرأسمالية عملت في معظم الأحوال استناداً إلى الأسر «شبه المبلترة» (أي شبه المتحوّلة إلى صفوف البروليتاريا). ففي ظل هذه الترتيبات التي تسمح للملّاك بدفع أجور أقل للعمّال، تستمد الكثير من الأسر جزءاً هاماً من معاشها من مصادر غير الأجور النقدية ومنها الإمداد الذاتي (زراعة حديقة منزلية أو خياطة الملابس) والتبادل غير الرسمي (مساعدات متبادلة وتبادلات عينية) والمدفوعات الحكومية (إعانات اجتماعية وخدمات اجتماعية وسلع عامة). تترك هذه الترتيبات قسماً كبيراً من الأنشطة والسلع خارج اختصاص السوق، وهي ليست مجرد بقايا متبقية من الأزمنة السابقة على الرأسمالية ولا هي في طريقها للزوال. فقد كانت جوهرية في نهج الصناعة الفوردية التي تمكّنت من ترويج النزعة الاستهلاكية بين الطبقة العاملة في بلاد المركز فقط عن طريق الأسر شبه المبلترة التي جمعت بين شغل الرجال مع رعاية النساء للمنزل، وكذلك عن طريق كبح تطوّر استهلاك السلع في الهامش. وتكون حالة شبه البلترة أكثر وضوحاً في النيوليبرالية التي بنت استراتيجية تراكم كاملة عن طريق طرد مليارات الناس من الاقتصاد الرسمي إلى المساحات الرمادية غير الرسمية التي يعتصر رأس المال القيمة منها. وكما سنرى، هذا النوع من «التراكم البدائي» عبارة عن عملية مستمرة يتربّح منها رأس المال ويعتمد عليها.

المسألة إذن هي أن الجوانب التي تم إخضاعها للسوق في المجتمعات الرأسمالية تتعايش جنباً إلى جنب مع الجوانب التي لم يتم إخضاعها للسوق. وهذه المسألة ليست مجرد صدفة أو حالة طارئة، وإنما تكمن في صميم الحمض النووي للرأسمالية. في الواقع، «التعايش» مصطلح أضعف من أن يعبّر جيداً عن العلاقة بين الجوانب الخاضعة للسوق وتلك غير الخاضعة للسوق في المجتمع الرأسمالي. قد يكون «التداخل الوظيفي» مصطلحاً أفضل أو حتى «الاعتمادية المتبادلة» التي هي مصطلح أقوى وأكثر بساطة. تعتمد الأسواق في وجودها نفسه على العلاقات الاجتماعية غير الخاضعة للسوق، فهي العلاقات التي تمدّها بالشروط الخلفية لوجودها، وكأنها كواليس لمسرحها.

الشروط الخلفية أو «الكواليس»

حتى الآن تناولت تعريفاً تقليدياً إلى حدّ ما للرأسمالية يستند إلى أربع سمات رئيسية تبدو «اقتصادية». واقتفيت فعلياً أثر ماركس في النظر إلى ما وراء منظور التفكير العادي المنصبّ على التبادل السوقي متجهة نحو «المقرّ الخفي» للإنتاج. لكنني الآن أريد أن أنظر غلى ما وراء ذلك المقرّ الخفي لأرى ما هو أكثر اختباءً. وأدّعي أن تناول ماركس للإنتاج الرأسمالي لا يستقيم إلّا حين نبدأ في إضافة الشروط الخلفية لوجوده، كواليس مسرح الإنتاج الرأسمالي. ومن ثم، سيكون السؤال التالي: ماذا يجب أن يوجد وراء هذه السمات الجوهرية حتى تصبح ممكنة؟ يطرح ماركس نفسه سؤالاً من هذا القبيل قرب نهاية المجلّد الأول من رأس المال في الفصل الخاص بما يسمّى التراكم «البدائي» أو الأصلي. فيتسائل: من أين أتى رأس المال؟ كيف ظهرت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى الوجود؟ وكيف أصبح المنتجون منفصلين عنها؟ كان ماركس قد عرّى في الفصول السابقة منطق رأس المال بشكل مجرّد عن شروط وجوده الخلفية التي اعتبرها ببساطة من المعطيات. لكن اتضح أن هناك قصّة كاملة في الخلفية تحكي من أين أتى رأس المال نفسه، وهي بالأحرى قصّة عنيفة عن السلب ومصادرة الممتلكات. علاوة على ذلك، هذه القصّة الخلفية لا تقع في الماضي عند «جذور» الرأسمالية فقط كما أكد ديفيد هارفي. فالمصادرة آلية مستمرّة للتراكم - لكنها غير رسمية – تسير جنباً إلى جنب مع آلية الاستغلال الرسمية (التي يمكن أن نسميها قصة ماركس «الأمامية»، أو المسرح نفسه، إن جاز التعبير).

هذه النقلة - من قصة الاستغلال الأمامية إلى قصة المصادرة الخلفية في الكواليس - تشكّل تحوّلاً معرفياً أساسياً يلقي ضوءاً مختلفاً على كل شيء تم قبله. فهي شبيهة بالنقلة التي قام بها ماركس قبل ذلك بالقرب من بداية المجلّد الأول من رأس المال حين كان يدعونا لأن نترك وراءنا مجال التبادل السوقي ومنظور التفكير العادي البرجوازي المرتبط به وأن نتحرّك نحو مقرّ الإنتاج الخفي الذي يقدّم منظوراً أكثر نقدية. ونتيجةً للنقلة الأولى، نكتشف سراً قذراً: التراكم يستمر من خلال الاستغلال. بعبارة أخرى، لا يتوسّع رأس المال ويتمدّد ويزيد من خلال تبادل الأشياء المتكافئة القيمة كما يوحي منظور السوق، وإنما من خلال العكس بالضبط، وأعني من خلال الامتناع عن تعويض وتقديم الأجر المكافئ لجزء من وقت العمل الذي يقدّمه العمّال. وبالمثل، بالقرب من نهاية المجلّد ننتقل من الاستغلال إلى المصادرة، ونكتشف سراً أكثر قذارة: خلف الإكراه المهذّب للعمل المأجور يكمن عنف صريح وسرقة فاضحة. بعبارات أخرى، الشرح الطويل للمنطق الاقتصادي للرأسمالية الذي يشكّل معظم المجلّد الأول ليس الكلمة الأخيرة بل تتبعه نقلة نحو منظور آخر ألا وهو منظور السلب. هذه النقلة لما خلف «المقرّ الخفي» تعتبر أيضاً نقلة للتاريخ، ولما كنت أسميه «شروط وجود» الاستغلال الخلفية.

لكن يمكن القول إن هناك تحوّلات معرفية أخرى هامة بالقدر نفسه متضمنة في تناول ماركس للرأسمالية لكنه لم يطوّرها. هذه النقلات إلي مقار أكثر خفاء ما زالت بحاجة للتفكير فيها ووضع تصوّرات لها، وبحاجة لأن تُكتَب في مجلّدات جديدة لرأس المال، إن كنا نريد أن نطوّر فهماً صالحاً لرأسمالية القرن الواحد والعشرين. إحدى هذه النقلات هي التحوّل المعرفي من الإنتاج إلى إعادة الإنتاج الاجتماعي وتعني أشكال الإمداد والرعاية والتفاعل التي تنتج الروابط الاجتماعية وتحافظ عليها. يُطلق على هذا النشاط  مسميات مختلفة مثل «الرعاية» أو «العمل العاطفي» أو «التذويت»، ويشكّل الذوات البشرية في الرأسمالية ويحافظ عليهم ككائنات طبيعية متجسّدة، وفي الوقت نفسه يشكلهم أيضاً ككائنات اجتماعية حيث يُكون سمتهم والمحتوى الاجتماعي الأخلاقي الخاص بهم أو (الحياة الأخلاقية)، التي يتحرّكون فيها. من الأمور المركزية هنا العمل المعني بالتنشئة الاجتماعية للصغار وبناء المجتمعات وإنتاج وإعادة إنتاج المعاني المشتركة والميول العاطفية وآفاق القيمة التي يرتكز عليها التعاون الاجتماعي. في المجتمعات الرأسمالية، يستمرّ جزء كبير من هذا النشاط - لكن ليس كله – خارج السوق في البيوت والأحياء السكنية والعديد من المؤسّسات العامّة ومنها المدارس ورياض الأطفال. وجزء كبير منه - لكن ليس كله - لا يأخذ شكل العمل المأجور. لكن نشاط إعادة الإنتاج الاجتماعي ضروري بالقطع لوجود العمل المأجور وتراكم فائض القيمة وعمل الرأسمالية بحدّ ذاتها. فالعمل المأجور لا يمكن أن يوجد في غياب العمل المنزلي وتربية الأطفال والتعليم المدرسي والرعاية العاطفية ومجموعة من الأنشطة الأخرى التي تساعد على إنتاج أجيال جديدة من العمّال، وتجدّد طاقات العمّال الموجودين، وتحافظ أيضاً على الروابط الاجتماعية والتفاهمات المشتركة. وبالتالي، تعتبر إعادة الإنتاج الاجتماعي من الشروط الخلفية التي لا غنى عنها لوجود الإنتاج الرأسمالي وهي في ذلك مثل «التراكم الأصلي» إلى حدّ كبير.

المصادرة آلية مستمرّة للتراكم - لكنها غير رسمية – تسير جنباً إلى جنب مع آلية الاستغلال الرسميةعلاوة على ذلك، الفصل بين إعادة الإنتاج الاجتماعي وإنتاج السلع أمر مركزي وبنيوي في الرأسمالية. بل هو حقاً صنيعتها. وكما أكّدت مجموعات من المنظّرات النسويات، الفرق مُحدّد على أساس النوع الاجتماعي بشكل عميق حيث ترتبط إعادة الإنتاج بالنساء ويرتبط الإنتاج بالرجال. وتاريخياً كان الفصل بين العمل المأجور المعني بـ«الإنتاج» والعمل غير المأجور المعني بـ«إعادة الإنتاج» يشكّل أساس الأشكال الرأسمالية الحديثة لإخضاع النساء. ومِثل الانقسام القائم بين الملّاك والعمّال، يستند هذا الانقسام أيضاً إلى تفكّك عالم سابق. فما انتهى في هذه الحالة هو العالم الذي كان عمل النساء فيه مرئياً ومعترفاً به اعترافاً عاماً وجزءاً لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعية على الرغم من التمييز بينه وبين عمل الرجال. وبالعكس، مع الرأسمالية ينفصل العمل المُتعلّق بإعادة الإنتاج ويُحال إلى مجال منزلي «خاص» تشوّش فيه أهميته الاجتماعية. وفي هذا العالم الجديد، حيث المال وسيلة أساسية للسلطة، كون هذا العمل غير مدفوع الأجر ينهي الأمر برمّته. فمن يؤدونه يصبحون خاضعين بشكل بنيوي لمن يكسبون أجوراً نقدية، مهما كان عملهم يزود العمل المأجور بالشروط الضرورية لوجوده.

إذن، الانقسام بين الإنتاج وإعادة الإنتاج نشأ تاريخياً مع الرأسمالية. فلم يكن قائماً في كل العصور والأزمنة. ولم يكن من المعطيات ببساطة على مدار الزمن. فبالعكس، تحوّر شكل الانقسام تاريخياً واتخذ أشكالاً مختلفة في المراحل المختلفة من التطوّر الرأسمالي. أثناء القرن العشرين، تحوّلت بعض جوانب إعادة الإنتاج الاجتماعي إلى خدمات عامة وسلع عامة غير مخصخصة لكنها لم تتعرّض للتسليع. واليوم، يتحور الانقسام مرة أخرى مع قيام الليبرالية الجديدة بإعادة خصخصة وتسليع بعض هذه الخدمات بينما يتم تسليع جوانب أخرى من إعادة الإنتاج الاجتماعي للمرّة الأولى. علاوة على ذلك، يعيد الانقسام تخطيط الحدود المؤسسية التي كانت تفصل سابقاً إنتاج السلع عن إعادة الإنتاج الاجتماعي، ومن ثم يعيد ترتيب النظام المتعلق بالنوع الاجتماعي في خضم هذه العملية، وذلك عن طريق الدعوة لتقليص الإعانات العامة، وفي الوقت نفسه جلب النساء إلى العمل الخدمي منخفض الأجر على نطاق واسع. ومن الأمور الهامة بالقدر نفسه أنه يحوّل هذا الشرط الخلفي الضروري للتراكم الرأسمالي إلى نقطة خطيرة وأساسية في الأزمة الرأسمالية عن طريق شنّ هجوم كبير على إعادة الإنتاج الاجتماعي.

الطبيعة والسلطة

لكن يجب أن نفكّر أيضاً في تحوّلين على القدر نفسه من الأهمّية من المنظور المعرفي ويوجهنا نحو مقار أخرى مخفية. التحوّل الأول متجسّد بأفضل شكل في عمل المفكرين الاشتراكيين البيئيين الذين يكتبون الآن قصة خلفية أخرى عن استفادة الرأسمالية مجاناً بالطبيعة. وهذه القصة تتعلّق بضمّ رأس المال للطبيعة (الاستيلاء على الأراضي) باعتبارها مصدر لـ«مدخلات» الإنتاج و«حوض» لامتصاص فائض رأس المال. تتحوّل الطبيعة هنا إلى مورد لرأس المال، إلى مورد قيمته مفترضة مسبقاً ويتم إنكارها في الوقت نفسه. فيتم التعامل مع الطبيعة في حسابات رأس المال كأنها بلا تكلفة، فتُنهَب من دون تعويض أو تجديد ويُفترَض ضمنياً أنها لا نهائية. وهكذا، تشكل قدرة الطبيعة على دعم الحياة وتجديد نفسها شرطاً خلفياً إضافياً لإنتاج السلع وتراكم رأس المال.

تفترض الرأسمالية بنيوياً (بل فعليا تدشن) وجود انقسام حادّ بين مجال طبيعي يُفهَم باعتباره يقدّم إمداداً لا ينتجه أحد من «المواد الخام» المتاحة للاستيلاء عليها من ناحية، ومجال اقتصادي يُفهَم باعتباره حيّزاً للقيمة ينتجه البشر ويُنتَج من أجلهم من ناحية أخرى. وبالتوازي مع هذا يسير التمييز القائم بالفعل لكنه يزداد قوة بين الطبيعة البشرية (التي يُنظَر لها باعتبارها روحانية واجتماعية ثقافية وتاريخية) من ناحية، والطبيعة غير البشرية التي ينظر إليها باعتبارها مادية ولا تاريخية وتعامل على أنها من المعطيات الموضوعية من ناحية أخرى. كذلك يستند تزايد هذا التمييز حدّة على انفصال عالم سابق كانت تتكيّف فيه إيقاعات الحياة الاجتماعية في جوانب كثيرة مع إيقاعات الطبيعة غير البشرية. لقد فصلت الرأسمالية بشكل قاس البشر عن الإيقاعات الطبيعية الموسمية وجنّدتهم في التصنيع المُعتمد على الطاقة المنتجة من الوقود الأحفوري والزراعة الموجّهة للأرباح التي تزيد الأسمدة الكيماوية من إنتاجها. استحدثت الرأسمالية ما أسماه ماركس «صدعاً أيضياً» (metabolic rift)، فقد دشّنت ما صار يطلق عليه الآن «الأنثروبوسين» وهي حقبة جيولوجية جديدة كلّياً للنشاط الإنساني فيها تأثير حاسم على الأنظمة الحيوية للأرض والغلاف الجوي.

نشأ هذا الانقسام مع الرأسمالية، وتحور أيضاً في سياق التطوّر الرأسمالي. وقد دشّنت المرحلة النيوليبرالية الحالية جولة جديدة من عمليات ضمّ الموارد المشاعية - تسليع المياه على سبيل المثال – التي تجلب «المزيد من الطبيعة» إلى الملعب الاقتصادي (إن كان لنا أن نتحدّث بهذه الطريقة). في الوقت نفسه، تعد النيوليبرالية بطمس الحدّ بين الطبيعة والبشر. فنشهد مثلاً تقنيات جديدة في مجال التكاثر أو إعادة الإنتاج و«السايبورج» الذي تكلمت عنه دونا هاراواي. لكن هذه التطوّرات تكثّف من تسليع الرأسمالية للطبيعة وإلحاقها بها ولا تقدّم أي شيء للتصالح معها. فعلى العكس من عمليات تسييج وضمّ الأراضي التي كتب عنها ماركس وبولاني، والتي عملت على إخضاع ظواهر طبيعية قائمة بالفعل للسوق «فقط»، تخترق عمليات الضمّ الجديدة الطبيعة «الداخلية» العميقة بشكل يحدث تغيرات حقيقية في قواعدها الداخلية. وأخيراً، تُخضِع النيوليبرالية التوجّهات البيئية للسوق، فنشهد انتعاشاً تجارياً في مبادلات وأذون الكربون وفي «المشتقات البيئية» التي تبعد رأس المال عن الاستثمار طويل المدى كبير الحجم اللازم لتغيير الأشكال غير المستدامة من الحياة المعتمدة على الوقود الأحفوري. وفي سياق الاحترار العالمي يؤدّي هذا الهجوم على ما تبقى من المشاعات الإيكولوجية إلى تحويل الشرط الطبيعي لتراكم رأس المال إلى نقطة مركزية أخرى في الأزمة الرأسمالية.

أخيراً، دعونا نتناول تحوّلاً معرفياً كبيراً إضافياً يوضح الشروط السياسية لوجود الرأسمالية، ألا وهو اعتمادها على السلطات العامة لتأسيس وتعزيز معاييرها التأسيسية. ففي كلّ الأحوال، لا يمكن تصوّر الرأسمالية في غياب إطار قانوني يشكّل أساس المشروعات الخاصة والتبادل السوقي. تعتمد القصة الأمامية للرأسمالية بشكل جوهري على السلطات العامة لضمان حقوق الملكية وإنفاذ العقود والفصل في النزاعات وقمع التمردات المناهضة للرأسمالية والحفاظ على «احترام القوانين» - باستخدام تعبيرات دستور الولايات المتّحدة الأميركية - الخاصة بضخّ الأموال والتي تشكّل شريان حياة رأس المال. تاريخياً كانت السلطات العامة محل النقاش مستقرّة في معظم الأحوال في أيدي الدول الإقليمية بما في ذلك الدول الاستعمارية سابقاً. والأنظمة القانونية لتلك الدول هي التي أسّست تخوم المساحات التي تبدو لا سياسية والتي يمكن فيها للفاعلين من غير الدولة السعي وراء مصالحهم «الاقتصادية» المتحرّرة من التدخل «السياسي» الصريح من ناحية ومن الالتزامات الزبونية المستمدّة من علاقات القربى من ناحية أخرى. وبالمثل، الدول الإقليمية هي التي حشدت «القوة الشرعية» لإخماد أي مقاومة لعمليات المصادرة التي نشأت من خلالها علاقات الملكية الرأسمالية واستمرّت. أخيراً، تلك الدول هي التي أمّمت المال واعتبرته شديد الأهمية والمركزية. ويمكننا أن نقول إن الدول «شكّلت» الاقتصاد الرأسمالي بالمعنى التاريخي.

تاريخياً كان الفصل بين العمل المأجور المعني بـ«الإنتاج» والعمل غير المأجور المعني بـ«إعادة الإنتاج» يشكّل أساس الأشكال الرأسمالية الحديثة لإخضاع النساءنواجه هنا انقساماً بنيوياً آخر يعتبر تأسيسياً للمجتمع الرأسمالي، ألا وهو الانقسام بين السياسة والاقتصاد. مع هذا الانقسام يأتي التمايز المؤسّسي للسلطة العامة عن الخاصة وللقهر السياسي عن الاقتصادي. ومثل الانقسامات الجوهرية الأخرى التي ناقشناها، ينشأ هذا الانقسام أيضاً كنتيجة لانفصال عالم سابق. لكن في هذه الحالة، ما تمّ تفكيكه كان عالماً اجتماعياً فيه السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية مندمجتان بشكل فعال كما في المجتمع الإقطاعي على سبيل المثال حيث تكون السيطرة على العمال والأرض والقوة العسكرية ممنوحة لمؤسسة وحيدة تحكم علاقة السادة بالتابعين. أما في المجتمع الرأسمالي - كما أوضحت إلين وود بشكل أنيق - تكون السلطتان الاقتصادية والسياسية منفصلتين وكل منهما يُخصَص لها المجال والوسيط الخاص بها وكذلك نمط عملها. لكن القصة الأمامية للرأسمالية لها أيضاً شروط سياسية للوجود على المستوى الجيوسياسي. الأمر محل النقاش هنا هو تنظيم المساحة الأوسع التي تكون الدول الإقليمية راسخة فيها. فهذه مساحة يتحرك فيها رأس المال بسهولة تامة بالنظر لاندفاعه التوسّعي. لكن قدرته على العمل عبر الحدود تعتمد على القانون الدولي والترتيبات التي جرى التفاوض عليها وترتيبها بين القوى الكبرى والأنظمة فوق القومية التي تقوم بالتهدئة الجزئية (بطريقة صديقة لرأس المال) لمجال غالباً ما يتم تصوره على أنه حالة طبيعية. فعلى مدار تاريخ الرأسمالية، كانت قصتها الأمامية معتمدة على القدرات التنظيمية والعسكرية لمجموعة متعاقبة من القوى المهيمنة العالمية التي سعت - كما طرح جوفاني أريجي – لتعزيز التراكم على نطاق متوسع بشكل متزايد في إطار نظام متعدد الدول.

هنا نجد المزيد من الانقسامات البنيوية التي تشكل المجتمع الرأسمالي: الانقسام «الويستفالي» بين «المحلي» و«الدولي» من ناحية، والانقسام الإمبريالي بين المركز والهامش من ناحية أخرى. كلا الانقسامين مستند إلى الانقسام الأكثر جوهرية بين اقتصاد رأسمالي عالمي بشكل متزايد ومُنظم كـ«نظام عالمي» من ناحية، وعالم سياسي منظم كنظام دولي مكون من دول إقليمية من ناحية أخرى. تتحور تلك الانقسامات هي الأخرى حالياً؛ حيث تقوم النيوليبرالية بتفريغ القدرات السياسية من محتواها... تلك القدرات التي اعتمد عليها رأس المال تاريخياً على مستوى الدولة والمستوى الجيوسياسي. ونتيجةً لعملية التفريغ هذه، تُعتبر الشروط السياسية لوجود الرأسمالية الآن موقعاً أساسياً للأزمة الرأسمالية ونقطة خطيرة فيها. يمكن قول المزيد عن كل من هذه النقاط، لكن التوجه العام لما أطرحه يجدر أن يكون قد اتضح الآن. فعند كتابة تناولي الأولي للرأسمالية، أوضحتُ أن سماتها الأمامية «الاقتصادية» تعتمد على شروط خلفية «غير اقتصادية» في الكواليس. فالنظام الاقتصادي، الذي يتحدّد عن طريق الملكية الخاصة وتراكم القيمة المتوسّعة ذاتياً والأسواق في العمالة الحرة وفي المدخلات الأخرى لإنتاج السلع، وعن طريق تخصيص السوق للفائض الاجتماعي، لا يصبح ممكناً إلا بفعل ثلاثة شروط خلفية جوهرية متعلقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي والنظام البيئي لكوكب الأرض والسلطة السياسية على الترتيب. ومن ثم، لكي نفهم الرأسمالية يجب أن نربط قصتها الأمامية بهذه القصص الخلفية الثلاث. يجب أن نربط المنظور الماركسي بالمنظور النسوي ومنظور النظام البيئي والمنظور السياسي، وهي مناظير متعلقة بنظرية الدولة وبالاستعمار وما بعد الاستعمار والظواهر العابرة للحدود الوطنية.

نظام اجتماعي مؤسسي

وفقاً لهذا التناول، أي نوع من الحيوانات هي الرأسمالية؟ الصورة التي رسمتها هنا تختلف بشكل كبير عن الفكرة المألوفة بأن الرأسمالية هي نظام اقتصادي. صحيح أن السمات الجوهرية التي حددناها تبدو عند النظرة الأولى «اقتصادية». لكن ذلك المظهر كان مضللاً. إحدى خصائص الرأسمالية هي أنها تعامل علاقاتها الاجتماعية وكأنها «اقتصادية». لكننا في الواقع اكتشفنا بسرعة أنه من الضروري الحديث عن الشروط الأساسية «غير الاقتصادية» التي مكّنت مثل هذا «النظام الاقتصادي» من الوجود. هذه ليست سمات للاقتصاد الرأسمالي لكنها سمات للمجتمع الرأسمالي. وقد توصّلنا في النهاية إلى ضرورة استبقاء تلك الشروط الخلفية في الصورة والتفكير فيها ووضع تصورات مفاهيمية ونظرية لها كجزء من فهمنا للرأسمالية. إذن، الرأسمالية شيء أكبر من اقتصاد.

كذلك، الصورة التي رسمتُها تختلف عن النظرة للرأسمالية باعتبارها شكل متشيئ من الحياة الأخلاقية متسم بسيادة التسليع وتحويل الأشياء إلى أموال. في تلك النظرة، كما عبر عنها لوكاتش في مقاله المحتفى به عن «التشيؤ ووعي البروليتاريا»، يحتلّ الشكل السلعي كل جوانب الحياة فيترك آثاره على ظواهر متنوعة كالقانون والعلم والأخلاق والفن والثقافة. في وجهة نظري، التسليع ليس شاملاً لكل شيء في المجتمع الرأسمالي. بالعكس، أينما يوجد يعتمد في وجوده نفسه على مساحات عدم التسليع. المساحات الاجتماعية والسياسية والمساحات المتعلّقة بالنظام البيئي ليست مسلعة، وهذه المساحات لا تعكس ببساطة منطق السلع، لكنها تجسّد قواعد قيمية ووجودية متميزة خاصة بها. الممارسات الاجتماعية الموجّهة لإعادة الإنتاج (في مقابل الإنتاج) على سبيل المثال تميل لإضفاء طابع متعلق بالنوع الاجتماعي على مُثل الرعاية والمسؤولية المتبادلة والتضامن مهما كانت تراتبية وضيقة الأفق. وبالمثل، تشير الممارسات الموجهة للمجال السياسي في مقابل تلك الموجهة للاقتصاد، في معظم الأحوال، إلى مبادئ الديمقراطية والاستقلالية العامة وتقرير المصير الجمعي حتى لو كانت مقيَدة أو انتقائية. وأخيراً، تميل الممارسات المرتبطة بالشروط الخلفية للرأسمالية في الطبيعة غير البشرية لتعزيز قيم مثل المسؤولية تجاه النظام البيئي وعدم السيطرة على الطبيعة والعدالة بين الأجيال مهما كانت هذه الأمور رومانسية وانفصالية. لا أهدف إلى إضفاء طابع مثالي على هذه القيم المعيارية «غير الاقتصادية» بالطبع، وإنما إلى تسجيل انحرافها عن القيم المرتبطة بالجزء الأمامي من الرأسمالية ألا وهو النمو والكفاءة والتبادل المتكافئ والخيار الفردي والحرية السلبية والترقي على أساس الجدارة قبل أي شيء آخر.

هذا الانحراف شديد الأهمية في الكيفية التي نتصور بها الرأسمالية. فالمجتمع الرأسمالي بعيد كل البعد عن إنتاج منطق واحد شامل لكل جوانب التشيؤ، بل هو متمايز من الناحية القيمية ويتضمن تنوعاً قوياً من المنطلقات الوجودية الاجتماعية التي تكون متمايزة لكن بينها ترابط وتداخل. سنرى لاحقاً ماذا يحدث حين تصطدم هذه الأشياء. لكن الهيكل الذي يشكل أساسها واضح بالفعل، فالتضاريس القيمية المميزة للرأسمالية تنشأ من العلاقات التي بين الجوانب الأمامية والجوانب الخلفية التي حددناها سابقاً. لو كنا نهدف إلى تطوير نظرية نقدية للرأسمالية، علينا أن نحل رؤية أكثر بنيوية وتمايزاً للرأسمالية محل الرؤية التي تنظر إليها على أنها مجرد شكل متشيئ من الحياة الأخلاقية.

إن لم تكن الرأسمالية نظاماً اقتصادياً أو شكلاً متشيئاً من الحياة الأخلاقية، فما هي إذن؟ إجابتي أن أفضل طريقة لفهمها هي اعتبارها ترتيباً اجتماعياً قائماً على مؤسسات وهي في ذلك تتساوى مع النظام الإقطاعي على سبيل المثال. فهم الرأسمالية بهذه الطريقة يؤكد على أهمية انقساماتها البنيوية، خاصة أوجه الانفصال المؤسسية التي حددتُها أعلاه. وكما رأينا، لعب الانفصال المؤسسي بين «الإنتاج الاقتصادي» و«إعادة الإنتاج الاجتماعي» دوراً تأسيسياً في الرأسمالية، وهو انفصال محدد على أساس النوع الاجتماعي يرسخ بشكل خاص الأشكال الرأسمالية من الهيمنة الذكورية حتى وهو يجعل الاستغلال الرأسمالي لقوة العمل - ومن خلاله النمط الرأسمالي المعترف به رسميا للتراكم - ممكناً. من الأمور المُعرِفة للرأسمالية أيضاً الفصل المؤسسي بين «الاقتصاد» و«السياسة»، وهو فصل يطرد الأمور التي تعتبر «اقتصادية» من الأجندة السياسية للدول بينما يحرر رأس المال ليتجول في الأراضي التي لا يسيطر عليها أحد العابرة للحدود الوطنية حيث يجني ثمار ترتيبات الهيمنة ويتهرب في نفس الوقت من السيطرة السياسية. وأخيراً، من الأمور الجوهرية بنفس القدر في الرأسمالية الانقسام الوجودي بين خلفيتها «الطبيعية» (غير البشرية) ومقدمتها «البشرية» (التي تبدو لا علاقة لها بالطبيعة)، وهو انقسام كان قائماً من قبل لكنه تكثف بشدة. ومن ثم، الحديث عن الرأسمالية باعتبارها نظاماً اجتماعياً مؤسسياً يستند إلى أوجه الانفصال هذه يشير إلى تداخلها العضوي البنيوي وغير العرضي مع القهر على أساس النوع الاجتماعي والهيمنة السياسية (سواء الوطنية أو العابرة للحدود الوطنية، والاستعمارية أو ما بعد الاستعمارية) ومع تدهور النظام البيئي. وهذا كله مرتبط بالطبع بآليتها الأمامية المتمثلة في استغلال العمال والتي هي بنيوية وغير عرضية بالقدر نفسه.

يتم التعامل مع الطبيعة في حسابات رأس المال كأنها بلا تكلفة، فتُنهَب من دون تعويض أو تجديد ويُفترَض ضمنياً أنها لا نهائيةلكن هذا لا يعني أن الانقسامات المؤسسية في الرأسمالية تكون ببساطة من المعطيات الثابتة مرة واحدة وللأبد. فالعكس هو الصحيح، حيث كما رأينا تتنوع المجتمعات الرأسمالية تاريخياً بشأن أين وكيف تضع بدقة الخط الفاصل بين الإنتاج وإعادة الإنتاج وبين الاقتصاد والسياسة وبين الطبيعة البشرية وغير البشرية وفقاً لنظام التراكم. وفي الواقع، يمكننا أن نتصور وجود رأسمالية تنافسية قائمة على مبدأ دعه يعمل ورأسمالية احتكارية مدارة من قبل الدولة ورأسمالية نيوليبرالية معولمة وفقاً لهذه الخطوط بالظبط: باعتبارها ثلاث طرق محددة تاريخياً لرسم الخطوط الفاصلة بين الاقتصاد والسياسة وبين الإنتاج وإعادة الإنتاج وبين الطبيعة البشرية وغير البشرية.

الصراعات على الخطوط الفاصلة

من الأمور التي على القدر نفسه من الأهمية أن التصور الدقيق للنظام الرأسمالي في أي مكان وزمان يعتمد على السياسة، أي على توازن السلطة الاجتماعية وعلى نتائج النضالات الاجتماعية. لا تعتبر الانقسامات المؤسسية في الرأسمالية مجرد معطيات، بل تصبح في معظم الأحوال بؤراً للصراع حيث يقوم الفاعلون بالتعبئة والحشد لتحدي الخطوط الراسخة التي تفصل الاقتصاد عن السياسة، والإنتاج عن إعادة الإنتاج، والطبيعة البشرية عن الطبيعة غير البشرية أو الدفاع عنها. فبقدر ما تقوم الذوات في الرأسمالية بإعادة توزيع العمليات محل الخلاف على الخريطة المؤسسية للرأسمالية، فهم يستندون إلى المناظير القيمية المرتبطة بالمساحات المتنوعة التي حددناها. يمكننا أن نرى هذا يحدث اليوم. على سبيل المثال، بعض أعداء النيوليبرالية يستندون إلى مُثُل الرعاية والتضامن والمسؤولية المتبادلة المرتبطة بإعادة الإنتاج لمعارضة المساعي الرامية لتسليع التعليم. ثمة آخرون يستدعون مفاهيم المسؤولية عن الطبيعة والعدالة بين الأجيال المرتبطة بالنزعة البيئية لتحفيز النضال من أجل حدوث انتقال نحو الطاقة المتجددة. ولا يزال هناك آخرون يستدعون مُثل الاستقلالية العامة المرتبطة بالسياسة للدعوة للسيطرة على رأس المال الدولي ولتوسيع نطاق المساءلة الديمقراطية فيما بعد الدولة. هذه المطالبات - بالإضافة إلى المطالبات المضادة التي تستحثها بالطبع - هي بالضبط موضوع الصراع الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية، وهي جوهرية مثل الصراعات الطبقية التي تدور حول إنتاج السلع وتوزيع فائض القيمة التي انحاز لها ماركس. هذه الصراعات على ترسيم الخطوط الفاصلة - كما سأسميها – حاسمة في تشكيل بنية المجتمعات الرأسمالية. فهي تلعب دوراً تأسيسياً في رؤية الرأسمالية كنظام اجتماعي مؤسسي.

يجدر بالتركيز على النضالات المتعلقة بالخطوط الفاصلة المذكورة أن يمنع أي انطباع خاطيء بأن الرؤية التي رسمت معالمها رؤية وظائفية. لقد بدأتُ بوصف إعادة الإنتاج والنظام البيئي والسلطة السياسية باعتبارها شروط خلفية ضرورية للقصة الأمامية الاقتصادية للرأسمالية مؤكدةً على أهميتها الوظيفية في إنتاج السلع واستغلال العمالة وتراكم رأس المال. لكن هذه اللحظة البنيوية لا توضح القصة الكاملة للعلاقات بين الشروط الخلفية والأمامية للرأسمالية. فهي تتعايش جنباً إلى جنب مع «لحظة» أخرى - مشار إليها بالفعل وتعتبر مركزية بنفس القدر - وهي الناشئة من توصيف ما هو اجتماعي وسياسي وبيئي باعتبارهم مخازن للقيمة «غير الاقتصادية». يعني هذا أن هذه الترتيبات «غير الاقتصادية» تجعل إنتاج السلع ممكناً، ورغم ذلك لا يجب اختزالها في تلك الوظيفة التمكينية فقط. فهذه المقار الخفية بعيدة كل البعد عن أن يتم استهلاكها بالكامل من قبل آليات التراكم وبعيدة كل البعد عن أن تكون خاضعة تماماً لها. كل واحد من هذه المقار الخفية يأوي أبعاداً وجودية مختلفة من الممارسة الاجتماعية والمُثل القيمية.

علاوة على ذلك، هذه المُثل «غير الاقتصادية» حبلى بإمكانات سياسية نقدية. ويمكنها أن تنقلب ضد الممارسات الاقتصادية الأساسية المرتبطة بالتراكم الرأسمالي في أوقات الأزمة بشكل خاص. في مثل هذه الأوقات، تميل الانقسامات البنيوية التي تؤدي عادةً إلى فصل الجوانب القيمية المتنوعة داخل المساحات المؤسسية للضعف. وحين تنهار عمليات الانفصال، تمر الذوات الرأسمالية – التي تعيش رغم كل شيء في أكثر من مساحة واحدة – بخبرات الصراع القيمي. وهذه الذوات تستند إلى قيمية الرأسمالية المركبة نفسها لكي تنتقدها ولا تجلب أفكاراً من «خارجها»، فتقوم بالحشد والتعبئة ضد التوجهات السائدة من الأفكار المتنوعة التي تتعايش – بصعوبة أحياناً – في ترتيب اجتماعي مؤسسي مستند إلى الانقسام بين الشروط الخلفية والشروط الأمامية. ومن ثم، تساعدنا رؤية الرأسمالية باعتبارها ترتيب اجتماعي مؤسسي على فهم كيف يكون نقد الرأسمالية ممكناً من داخلها.

لكن هذه الرؤية تبين أيضاً أنه من الخطأ تصور المجتمع والسياسة والطبيعة بشكل رومانسي وكأنهم «خارج» الرأسمالية ومضادين لها بشكل فطري. تلك الرؤية الرومانسية يتبناها اليوم عدد ليس بقليل من المفكرين المناهضين للرأسمالية والنشطاء اليساريين بما في ذلك النسويات الثقافيات وأصحاب النزعة البيئية العميقة واللاسلطويين الجدد، بالإضافة إلى الكثيرين من أنصار الاقتصاد «الجماعي» و«التضامني» و«الشعبي» واقتصاد «ما بعد النمو». كثيراً ما تتعامل هذه التيارات مع «الرعاية» أو «الطبيعة» أو «الحراك المباشر» أو «المشاعية» باعتبارها مناهضة للرأسمالية بشكل فطري. ونتيجةً لهذا تغفل هذه التيارات حقيقة أن ممارساتهم المفضلة ليست مجرد مصادر لنقد النظام الرأسمالي وإنما أجزاء لا تتجزأ من النظام نفسه. وعلى العكس من هذا، يتمثل الطرح هنا في أن المجتمع والسياسة والطبيعة نشأوا بالتزامن مع الاقتصاد وتطوروا بالتكافل معه. ويُعتبَرون فعلياً «الآخرين» بالنسبة للاقتصاد ولا يكتسبون سمتهم الخاصة إلا بالتناقض معه. ومن ثم، إعادة الإنتاج والإنتاج يشكلان ثنائياً حيث يتم تعريف كل مصطلح عن طريق المصطلح الآخر. ولا معنى لأي منهما بعيداً عن الآخر. الأمر نفسه صحيح بالنسبة للسياسة/الاقتصاد والطبيعة/البشر. المساحات «غير الاقتصادية» أجزاء لا تتجزأ من النظام الرأسمالي، ولا مساحة منها تقدم نقطة نظر خارجية بالكامل تستطيع ضمان وجود شكل نقي تماماً وراديكالي بالكامل من النقد. بالعكس، المشروعات السياسية التي تناسب ما يتخيلون أنه «خارج» الرأسمالية ينتهي بها الحال إلى إعادة تدوير التصورات الرأسمالية النمطية بالمقارنة بين الرعاية الأنثوية والعدوان الذكوري أو بين التعاون التلقائي والحسابات الاقتصادية أو بين النزعة العضوية الكلية في الطبيعة والنزعة الفردانية لدى البشر. ارتكاز النضالات على هذه المتضادات ليس تحدياً للنظام الاجتماعي المؤسس للمجتمع الرأسمالي وإنما انعكاساً له بدون قصد. 

تناقضات

يترتب على هذا أن أي تناول سليم للعلاقات بين الجوانب الخلفية والأمامية في الرأسمالية يجب أن يجمع ثلاث أفكار مختلفة. أولاً: دور المساحات «غير الاقتصادية» في الرأسمالية هو جعل الشروط الخلفية للاقتصاد ممكنة، فالاقتصاد يعتمد في وجوده نفسه على القيم والمدخلات القادمة من تلك المساحات. لكن ثانياً: المساحات «غير الاقتصادية» للرأسمالية لها ثقل وطبيعة خاصة بها يمكن في ظل ظروف معينة أن توفر موارد للنضال المناهض للرأسمالية. ومع ذلك، وهذه هي النقطة (ثالثاً)، هذه المساحات أجزاء لا تتجزأ من المجتمع الرأسمالي تأسست تاريخياً جنبا إلى جنب مع الاقتصاد الرأسمالي واتسمت بالتكافل معه.

يجب أن نربط المنظور الماركسي بالمنظور النسوي ومنظور النظام البيئي والمنظور السياسي، وهي مناظير متعلقة بنظرية الدولة وبالاستعمار وما بعد الاستعمار والظواهر العابرة للحدود الوطنيةهناك أيضاً فكرة رابعة تعيدنا إلى مشكلة الأزمة التي بدأتُ بها. العلاقات بين الشروط الخلفية والأمامية للرأسمالية تأوي مصادر داخلية لعدم الاستقرار الاجتماعي. وكما رأينا، لا يحافظ الإنتاج الرأسمالي على نفسه بنفسه لكنه يستفيد بالمجان من إعادة الإنتاج الاجتماعي والطبيعة والسلطة السياسية، لكن توجهه للتراكم اللانهائي يهدد بزعزعة استقرار شروط وجوده هذه نفسها. بالنسبة لشروطه البيئية، العمليات الطبيعية التي تحافظ على الحياة وتوفر المواد التي تعتبر مدخلات ضرورية للإمداد الاجتماعي هي التي تكون مهددة. وبالنسبة لشروط إعادة الإنتاج الاجتماعي الخاصة به، ما يتعرض للخطر هو العمليات الاجتماعية الثقافية التي تغذي العلاقات التضامنية والميول العاطفية وآفاق القيم التي تشكل أساس التعاون الاجتماعي وفي الوقت نفسه تُعِد البشر المؤهلين بالمهارات والتنشئة المناسبة الذين يأتي منهم «العمالة». وبالنسبة لشروطه السياسية، السلطات العامة سواء الوطنية أو العابرة للحدود الوطنية التي تضمن حقوق الملكية وتنفذ العقود وتبت في النزاعات وتخمد التمردات المناهضة للرأسمالية وتحافظ على المعروض من النقود تكون هي المهدَدة.

توجد هنا - بلغة ماركس - ثلاثة «تناقضات» خاصة بالرأسمالية هي التناقض الاجتماعي والتناقض السياسي والتناقض الخاص بالنظام البيئي، وهذه التناقضات تقابل ثلاثة أصناف من «النزوع للأزمة». لكن على العكس من النزعات التي ركز عليها ماركس، هذه التناقضات لا تنبع من تناقضات داخلية في الاقتصاد الرأسمالي. وإنما هي متجذرة في التناقضات التي بين النظام الاقتصادي وشروط وجوده الخلفية... بين الاقتصاد والمجتمع وبين الاقتصاد والطبيعة وبين الاقتصاد والسياسة. وأثرها – كما ذُكر سابقاً – يتمثل في أنها تستحث مجموعة واسعة ومتنوعة من الصراعات الاجتماعية في المجتمع الرأسمالي: ليس الصراعات الطبقية عند نقطة الإنتاج فقط وإنما أيضاً الصراعات التي على الخطوط الفاصلة المتعلقة بالنظام البيئي وإعادة الإنتاج الاجتماعي والسلطة السياسية. فهذه الصراعات متوطنة في رؤيتنا الأوسع للرأسمالية كنظام اجتماعي مؤسسي وتُعتبَر استجابات للنزوع الأصيل للتأزم في المجتمع الرأسمالي.

أي نوع من النقد للرأسمالية يترتب على التصور الموضح هنا؟ رؤية الرأسمالية كنظام اجتماعي مؤسسي تستلزم شكلاً متعددَ الخيوط من التأمل النقدي يشبه إلي حد كبير ذلك الذي طوره ماركس في رأس المال. وفقا لقراءتي له، ينسج ماركس نقداً منهجياً لنزوع الرأسمالية الأصيل للأزمات (الاقتصادية)، ونقداً قيمياً لآلياتها الداخلية الخاصة بالهيمنة (الطبقية)، ونقداً سياسياً لإمكانات التحول الاجتماعي التحرري الأصيل في شكل الصراع (الطبقي) الذي يميزها. الرؤية التي عرضتها تتضمن نسجاً مشابهاً لخيوط نقدية لكن النسج هنا أكثر تعقيداً فكل خيط بدوره متعدد داخلياً. النقد المنهجي المهتم بأزمة النظام نفسه لا يتناول فقط التناقضات الاقتصادية التي ناقشها ماركس، وإنما أيضا ثلاثة تناقضات أخرى فيما بين المجالات المختلفة التي تمت مناقشتها هنا والتي تزعزع استقرار الشروط الخلفية الضرورية لتراكم رأس المال عن طريق تهديد إعادة الإنتاج الاجتماعي والنظام البيئي والسلطة السياسية. وبالمثل، النقد المتمحور حول الهيمنة لا يتضمن فقط علاقات الهيمنة الطبقية التي حللها ماركس وإنما أيضا الهيمنة على أساس النوع الاجتماعي والهيمنة السياسية والهيمنة على الطبيعة. وأخيراً، يتضمن النقد السياسي مجموعات متنوعة من الفاعلين (طبقات وأنواع اجتماعية ومجموعات مشتركة في المكانة الاجتماعية وأمم وشعوب وربما حتى أجناس بشرية) ومن عوامل الصراع التي لا تقتصر على الصراعات الطبقية وإنما تشمل أيضاً الصراعات التي تتعلق بانفصال المجتمع والسياسة والطبيعة عن الاقتصاد.

وبالتالي، ما يعتبر نضالات ضد الرأسمالية أكثر رحابة مما افترض الماركسيون تقليدياً. ففور أن ننظر لما وراء القصة الأمامية باتجاه القصة الخلفية، تصبح كل الشروط الخلفية الضرورية لاستغلال العمال بؤراً للصراع والنضال في المجتمع الرأسمالي. ليس فقط الصراعات بين العمال ورأس المال عند نقطة الإنتاج وإنما أيضاً الصراعات الحدودية الخاصة بالهيمنة على أساس النوع والنظام البيئي والإمبريالية والديمقراطية. لكن على نفس القدر من الأهمية، يتضح النوع الأخير من الصراعات والنضالات حين نلقي عليها ضوءً آخر كصراعات في الرأسمالية نفسها وحولها وفي بعض الأحيان ضدها. ولو فهمت هذه النضالات نفسها بهذه الطريقة، يمكن أن تتعاون أو تتحد بشكل معقول.

نُشِرت ترجمة هذا المقال بالشراكة مع المعهد العابر للقوميات (TNI)، وبموافقة مسبقة من New Left Review - العدد 86، آذار-نيسان 2014.