Preview الانفاق بالسلفات

الإنفاق بسلفات الخزينة
فنون الحكومة اللبنانية في التحايل على قوانين الموازنة العامّة

تلقت وزارة المال اللبنانية طلبات للحصول على «سلفات خزينة» بقيمة 88 تريليون و637 مليار ليرة (نحو 996 مليون دولار) بين عامي 2020 و2023. يساوي هذا المبلغ أكثر من ثلث الاعتمادات المفتوحة في الموازنات العامّة للسنوات الأربع المشمولة بهذه البيانات، وهي السنوات التي أعقبت الانهيار الكبير في الفصل الأخير من العام 2019. ففي هذه الفترة، انهارت العملة اللبنانية وخسرت أكثر من 98% من قيمتها في مقابل الدولار، وانهارت معها القدرة الشرائية لأجور أكثرية الأسر المقيمة في لبنان، بالتزامن مع انهيار المالية العامّة للدولة، وبالتالي انهيار ما كان كان قائماً على علّاته من بنى تحتية وخدمات عامّة ونظم حماية اجتماعية.

وفق بيانات وزارة المال، نفّذت الخزينة العامّة أقل من نصف طلبات السلفات (46.8%)، بقيمة 41 تريليون و532 مليار ليرة (466 مليون دولار)، معظمها في العام 2023. ولم يجرِ تسديد سوى 487 مليار ليرة منها، أي 1.1% فقط، في حين أن 99% مجهولة المصير.

الانفاق بالسلف

بلغت قيمة سلفات الخزينة المنفّذة في العام 2023 وحده نحو 31 تريليون و892 مليار ليرة، وجرى دفعها في ظل الفشل بإقرار قانون الموازنة العامة للعام المذكور، ما يعني أن الحكومة لجأت إلى سلفات الخزينة للتحايل على التفسير البسيط للإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية وفق اعتمادات آخر قانون للموازنة، التي بلغت نحو 40 تريليون و873 مليار ليرة في قانون موازنة العام 2022، أي أن قيمة سلفات الخزينة المدفوعة في هذا العام بلغت أكثر من 78% من قيمة الاعتمادات التي يجيز هذا التفسير الاستمرار بإنفاقها على الرغم من عدم صدور قانون يجيزها من مجلس النواب.

في الواقع، انهارت الموازنة العامّة للدولة اللبنانية كلّياً، فالاعتمادات الملحوظة في القانون، بمعزل عن السجال المتعلق بدستورية الإنفاق باستمرار على أساس القاعدة الاثني عشرية، باتت تساوي أقل من 500 مليون دولار، أي أن كل موازنة الدولة للإنفاق على كل شيء يجيزه آخر قانون للموازنة العامة للعام 2022 لم يعد واقعياً على الإطلاق، بل أنه ضرب من ضروب الخيال حتى في أحلام اليقظة لدعاة التقشف والتوازن المالي. ولكن، حتى مع إضافة سلفات الخزينة المدفوعة في العام 2023، فلن تصل القيمة إلا إلى 817 مليون دولار، وهو حجم متدنٍ جدّاً للإنفاق العام بكل المقاييس.

مشكلة اللجوء إلى سلفات الخزينة لتمويل نفقات عامة، قد تكون ضرورية وقد لا تكون، لا تنحصر بالمخالفة الصريحة لأحكام الدستور وقانون المحاسبة العمومية وهي مخالفة مستمرة ومتكرّرة منذ عقود، ولا بالإفلات من الرقابة البرلمانية المسبقة واللاحقة وهي رقابة شبه معدومة أصلاً نظراً للتماهي بين الحكومة ومجلس النواب… المشكلة التي يثيرها هذا الإمعان في سياسة فوضى الإنفاق العام واستنسابيته هو تكريس الوصفة التقشفية وتقليص الإنفاق العام، على الرمق الأخير، في ظل أسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخ لبنان الحديث.

هناك حاجات لا بدّ من تلبيتها بواسطة الإنفاق العام، ويجب أن تكون هناك موازنة شاملة تخبرنا بالخيارات والسياسات والإجراءات التي تتخذها الحكومة… ولكن، اللجوء إلى سلفات الخزينة، الذي يتم غالباً تحت ضغوط المصالح السياسية والاقتصادية، ليست إلا طريقة من الطرق التي تعتمدها الحكومة لشراء المزيد من الوقت قبل الاضطرار إلى مواجهة الحقيقة: تعطي سلفات لمن لا يستحقها وفق أحكام القانون، ولمن لا يستطيع أن يردّها في أي وقت من الأوقات، ولمن يستطيع أن يفرض اولوياته على أولويات الآخرين.