معاينة IMF

عين على الصندوق
ثقل صندوق النقد الدولي الذي لا يحتمل

منذ الانهيار المالي والاقتصادي الذي شهده لبنان، تتكرّر تعليقات من وزراء ونواب واقتصاديين وأحزاب، وحتى ناشطين، عن أهمية توصل لبنان إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لإرساء برنامج اقتصادي إنقاذي للبلاد. وأتت آخر هذه التعليقات مع تشكيل الحكومة الجديدة، وسفر بعض وزرائها إلى واشنطن لحضور اجتماعات الربيع وعقد اللقاءات مع مسؤولي الصندوق. وفي هذا السياق، تتكرّر عبارات منها التشديد على ضرورة تنفيذ شروط الصندوق المسبقة ليتمكّن لبنان من الحصول على برنامج، وأن الصندوق يوصي بأمور علمية وتكنوقراطية منبثقة عن اقتصادييه الموضوعيين، وإلى ما هنالك من دعاية تريد إقناع الجميع بأمرين، يكادا يكونان أبعد ما يكون عن الواقع: أولاً، قد يفرض برنامج الصندوق تضحيات لكنها قصيرة الأمد وتمهّد لمستقبل واعد. وثانياً، مشروطية الصندوق ضرورية لأنها تجبر الحكومة على اتخاذ إجراءات ضرورية اقتصادياً وموضوعياً لن تنفّذها بظروف عادية بسبب غياب الإرادة السياسية، وبالتالي سيجلب تنفيذ المشروطيات الخلاص لأنها سياسات صحيحة مترفعة عن الاعتبارات السياسية الضيقة. ولكن ما دقة هذه المزاعم؟

يبيّن تقرير حديث لمكتب التقييم المستقل لصندوق النقد الدولي أنه بين عامي 2002 و2023، خضع نصف البلدان التي لجأت إلى الصندوق إلى برامج متكررة

أكثر الحجج استخداماً لتسويق التقشف يكمن في أنه ألم وتضحية ضروريين على المدى القصير من أجل تحقيق ازدهار ورخاء اقتصاديين لاحقاً. وفي هذا المجال، من أحب الأمور الى قلوب موظفي الصندوق هو تشبيه أنفسهم بالأطباء والبلد الذي يلجأ إليهم هو المريض بالسرطان. يختصر هذا التشبيه، بشكل كبير، المزاعم التي يسوّقها الصندوق وداعميه. فلنشرحها قليلاً: الصندوق طبيب، أي أن ما يقوله لا يحتمل الرأي، إنه حقيقة موضوعية وعلمية. حين يشخّص الطبيب السرطان لا يعتمد على أيديولوجيا معينة أو رأي يقبل النقاش بل على تشخيص موضوعي نتج عن فحوصات عدة. البلد هو المريض بالسرطان، ومن دون علاج سريع سيموت المريض عاجلاً أم لاحقاً بناءً على مدى تفشّي المرض. وهنا يكون المرض عجز مستفحل في ميزان المدفوعات سببه، وفق الصندوق، الإنفاق العام المفرط. وفي معظم الأحوال، يكون علاج السرطان عبر العلاج الكيميائي المؤلم جداً. لا يوجد أي إنسان يريد الخضوع إلى جلسات علاج كيميائي لكنه يقبل على مضض لتجنّب الموت. العلاج الكيميائي مضنٍ ولكنه قصير الأمد ونتيجته في حال نجح هي حياة خالية من السرطان، أي ألم على المدى القصير وربح على المدى البعيد. وإذا عدنا إلى برامج الصندوق، يكون العلاج الكيميائي تقشف على المدى القصير متمثل بخفض الإنفاق ولاسيما الإنفاق الاجتماعي، وزيادة الضرائب غير المباشرة مثل الضريبة على القيمة المضافة وغيرها من الأمور غير الشعبية، لكن الضرورية وفق الصندوق وداعميه. سأترك ادعاء الموضوعية التكنوقراطية العلمية إلى مقال آخر، وسأركّز في هذا النص على الشقّ الثاني من تشبيه الطبيب والمريض بالسرطان: ألم على المدى القصير. 

تتراوح مدَة برامج الصندوق التي تعنى بتحقيق إصلاحات هيكلية بين 3 و5 سنوات. إذاً لا بأس، يمكننا شدّ الأحزمة لثلاث أو خمس سنوات من أجل الوصول إلى الازدهار بعدها. ولكن حين ندقّق في التاريخ الحديث لبرامج الصندوق يتبين لنا واقعاً مختلفاً. يبيّن تقرير حديث لمكتب التقييم المستقل لصندوق النقد الدولي أنه بين عامي 2002 و2023، خضع نصف البلدان التي لجأت إلى الصندوق إلى برامج متكررة، أي أن هذه البلدان حصلت على الأقل على برنامجي قروض وإصلاحات هيكلية من الصندوق. إذاً، الألم القصير الذي يعد به الصندوق ليس فعلاً قصيراً. ويمكن إعطاء أمثلة كثيرة عن السنوات الأخيرة: يخضع الأردن لبرامج الصندوق من دون توقف منذ العام 2012، كما وقّع برنامجاً جديداً في العام 2024؛ مصر ترزح تحت سياسات الصندوق من دون توقّف منذ العام 2016؛ فيما دخلت الأرجنتين برنامجها الثالث في نيسان/أبريل الماضي في سياق مستمرّ منذ العام 2018، وكذلك تدخل كينيا برنامجها الثاني في سياق مستمرّ منذ العام 2021، والأمر ينسحب على باكستان أيضاً. وخضعت بعض هذه البلدان لبرامج الصندوق لعقود عديدة، ومثال على ذلك باكستان التي خضعت لـ 24 برنامج في تاريخها، والأرجنتين التي خضعت لنحو 23 برنامجاً، بالإضافة إلى مصر التي حصلت على 7 برامج والأردن حوالي 8 برامج. إذاً، التضحية المطلوبة يمكن أن تستمر لعقد وأكثر من الزمن وليس لبضع سنوات فقط، والأخطر أن ثمار التضحية ليست أكيدة. 

إن توالي البرامج القصيرة الأمد على مدى سنوات يعني تنفيذ سياسات مالية ونقدية ذات نظرة قصيرة الأمد من دون الأخذ بالاعتبار حاجات البلد التنموية

أحد الأهداف المحورية لبرامج الصندوق هو تحقيق استدامة الدين، وإحدى علامات تحقيق ذلك تخفيض حجم الدين نسبة إلى الناتج المحلي، لذلك يعتبر الصندوق أنه يجب وضع مالية الدولة على السكة «الصحيحة» عبر التقشّف المؤلم ولكن الضروري. هل حدث ذلك؟ تظهر أرقام الصندوق تطوراً سلبياً في هذا المجال. حين أبرمت مصر الاتفاق مع الصندوق في العام 2016 كان الدين نسبة إلى الناتج المحلي يشكّل 81%، لكنه وصل إلى 86% في العام 2024. أما في الأردن، فقد بلغ الدين نسبة إلى الناتج المحلي 69% في العام 2012 وارتفع إلى 95% في العام 2024. أما في باكستان، فقد ارتفع الدين العام نسبة إى الناتج المحلي من 66% في العام 2018 إلى 73% في العام 2025. الأرجنتين هي البلد الوحيد الذي شهد تحسناً منذ أبرم أول الاتفاقات المتسلسلة مع الصندوق في العام 2018، إذ انخفض الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي من 85% إلى 73% في العام 2025، مدفوعاً بشكل أساسي بعمليات استبدال دين مكلف بآخر أقل كلفة بفضل التمويل الهائل الذي وفّره الصندوق للأرجنتين لكي تدفع مستحقاتها المكلفة (بلغت قيمة القروض منذ العام 2018 نحو 100 مليار دولار)، وصاحب ذلك سياسات تقشفية قاسية جدّاً كما بينت في مقال سابق. لكن الأهم هو أن الأرجنتين لم تخفّض نسبة دينها من الناتج المحلي بفعل تغيّر بنيوي في الاقتصاد نقلها إلى أسس سليمة ومستدامة بل بفعل عمليات مالية ومحاسبية بشكل أساسي.

إنّ الحضور الثقيل للصندوق لسنوات عديدة في البلدان له تبعات أخرى مضرّة، غير المعاناة الاجتماعية وتعمّق اللامساواة نتيجة التقشف. في المبدأ، تكمن مهمة الصندوق في التدخلات القصيرة الأمد عبر سياسات حاسمة تمكّن البلد المعني من معالجة أزمة ميزان المدفوعات واستدامة الدين أو على الأقل وضعه على خطى صحيحة لمعالجة الأزمة. الصندوق هو مقرض الملاذ الأخير، والأهم من ذلك أنه ليس مؤسّسة دولية تعنى بالتنمية كالبنك الدولي. لذلك لا تركّز تدخلاته وسياساته على بناء الأسس التنموية أو الأسس الصناعية لبلد معيّن، وإنما التدخل لمعالجة الاختلال في ميزان المدفوعات ونمط الدين العام عبر السياسات التقشفية على المستويين المالي والنقدي. إن توالي البرامج القصيرة الأمد على مدى سنوات يعني تنفيذ سياسات مالية ونقدية ذات نظرة قصيرة الأمد من دون الأخذ بالاعتبار حاجات البلد التنموية من الناحية الاجتماعية والبنى الاقتصادية بشكل عام. أي أن تكرر البرامج هو بحد ذاته معاكس للتنمية المرجوة لا بفعل السياسات التي صمّمت لمعالجة المشاكل بشكل فوري فحسب، بل أيضاً عبر أسر البلدان في حلقات تقشفية تستمر لسنوات عديدة. ويعني الانخفاض المطرد للإنفاق العام أنه لا يمكن القيام بمشاريع عامة استثمارية، أو إنفاق عام لتحقيق الانتقال المناخي، أو بناء البنى التحتية الاجتماعية من صحة وتعليم وحماية اجتماعية، فضلاً عن عطب القدرة على بلورة وتنفيذ خطط صناعية وسياسات التحوّل الاقتصادي البنيوي، الذي يضع البلد على مسار إرساء اقتصاد منتج ومستدام. إن تكرّر البرامج بهذا الشكل هو دليل على فشل سياسات الصندوق وبرامجه.

في حال وصلت المحادثات بين لبنان والصندوق إلى خواتميها بتوقيع اتفاق على برنامج، على الأرجح لن يكون البرنامج يتيماً، بل على اللبنانيين أن يدركوا أن مسار لبنان مع برامج الصندوق التقشفية قد يكون طويلاً ومضنياً

ممّا سبق، يمكن الاستنتاج أنه في حال وصلت المحادثات بين لبنان والصندوق إلى خواتميها بتوقيع اتفاق على برنامج، على الأرجح لن يكون البرنامج يتيماً، بل على اللبنانيين أن يدركوا أن مسار لبنان مع برامج الصندوق التقشفية قد يكون طويلاً ومضنياً. سيكون الألم طويلاً من دون ضمانات منظورة بالخلاص، على الرغم من وصفة الطبيب العلاجية. فالكثير من البلدان التي تلجأ إلى الصندوق تبقى تحت الماء لوقت طويل. الرسالة المستخلصة من تجارب هذه البلدان مع الصندوق يمكن استخراجها من أغنية عبد الحليم حافظ، «رسالة تحت الماء»، التي يقول في مقدمتها: «لو كنت طبيبي فساعدني كي أشفى منك».