تفكيك إمبريالية العقوبات الاقتصادية

  • مراجعة لكتاب «الإمبراطورية السرية: كيف حوَّلت أميركا الاقتصاد العالمي إلى سلاح» لهنري فاريل وأبراهام نيومان، وهو دراسة عن كيفية قيام الولايات المتّحدة بتحويل البنية التحتية الرقمية، التي تبدو عادية، إلى أسلحة قوية تستخدمها لتأديب الحلفاء ومعاقبة الأعداء. 

إن المفتاح إلى تفوُّق أميركا العالمي في القرن الحادي والعشرين ليس القنابل أو الكتائب العسكرية، وإنما الأشياء التي لا نستطيع رؤيتها: كابلات الألياف الضوئية، ورقائق أشباه الموصِّلات، ونظام «مقاصَّة» الدولار. وكتاب «الإمبراطورية السرّية» لهنري فاريل وأبراهام نيومان عبارة عن دراسة حول كيفية قيام الولايات المتحدة بتحويل البنية التحتية الرقمية، التي تبدو عادية، إلى أسلحة قوية تستخدمها لتأديب الحلفاء ومعاقبة الأعداء.

تهدف الحرب الاقتصادية التي تخوضها واشنطن إلى حماية الهيمنة الأميركية من التهديدات المتزايدة في عصر يتّسم بالانحدار النسبي، ومع ذلك، على المدى الطويل، قد يؤدّي الأمر إلى إحداث تغييرات تؤدي بدورها إلى تقويض الهيمنة الأميركية

من خلال استهداف «نقاط الاختناق» في الاقتصاد العالمي، تستطيع الولايات المّتحدة أن تمنع منافسيها - وأهمّهم الصين - من الوصول إلى التكنولوجيات والموارد التي يعتمدون عليها. وعلى الرغم من أن استخدام القوة الاقتصادية الأميركية كسلاح ناجح إلى حد كبير حتى الآن، فإن الأمر يعمل على خلق حوافز قوية للدول الأخرى لحملها على خلق طرقٍ للعمل داخل الاقتصاد العالمي تتلافَى الولايات المتحدة.

تهدف الحرب الاقتصادية التي تخوضها واشنطن إلى حماية الهيمنة الأميركية من التهديدات المتزايدة في عصر يتّسم بالانحدار النسبي. ومع ذلك، على المدى الطويل، قد يؤدي الأمر إلى إحداث تغييرات تؤدي بدورها إلى تقويض الهيمنة الأميركية.

بدايات

لم تنشأ الإمبراطورية السرّية عن قصد، وإنما تطوّرت بشكل طبيعي، استجابة - قبل كل شيء - للحاجة إلى أسرع اتصال ممكن عبر الإنترنت، وأسرع تمويل، وأسرع سلسلة توريد بين الولايات المتّحدة وبقية العالم. وقد شُيِّدت البنية التحتية للعولمة المعاصرة في العصر النيوليبرالي، وبالتالي فهي مملوكة للقطاع الخاص. لكن الشركات الأميركية هي التي تمتلكها بأغلبية ساحقة، ويقع معظمها على الأراضي الأميركية.

تعتبر كابلات الألياف الضوئية التي تمتدُّ على طول قيعان البحار وتحت الأرض ضرورية للاتصالات شبه اللحظية على مستوى العالم. وبحلول العام 2002، كان أكثر من 99% من الكابلات التي تمرّ بين أي قارتين تجد طريقها عبر الولايات المتحدة.

شُيِّدت البنية التحتية للعولمة المعاصرة في العصر النيوليبرالي، وبالتالي فهي مملوكة للقطاع الخاص. لكن الشركات الأميركية هي التي تمتلكها بأغلبية ساحقة، ويقع معظمها على الأراضي الأميركية

ويسمح نظام الدفع الدولي «سويفت» للمصارف في جميع أنحاء العالم التداول بالدولار، العملة الاحتياطية العالمية. وعلى الرغم من أن مقر «سويفت» في بلجيكا، فإن مركز بياناته يقع في شمال فيرجينيا ومجلس إدارته مليء بالمصارف الأميركية.

وفي حين نُقِلَت سلسلة توريد أشباه الموصلات إلى الخارج منذ عقود من الزمن، فإن الروابط الرئيسة في السلسلة لا تزال مملوكة للولايات المتحدة، والكثير الباقي منها في أيدي حلفائها. وعلى الرغم من أن الصين أصبحت قلب الإنتاج الرأسمالي العالمي، فإن شرايين العولمة النيوليبرالية لا تزال تنزف بالأحمر والأبيض والأزرق.

حتى العام 2001، لم يكن لدى الولايات المتّحدة أي سبب لتحويل هذه الإمبراطورية السرّية إلى سلاح. لقد كانت المستفيد الرئيس من النظام العالمي الجديد، ووقعت في مركزه، وأعرب أولئك الذين يعيشون على أطراف العالم عن تقديرهم لها في كل مرّة تاجروا فيها بالدولار الأميركي أو اشتروا التكنولوجيا الأميركية. كان من المناسب لواشنطن عدم تسييس هيمنتها الاقتصادية، كما لو أن الأمر حالة طبيعية يتساوى نجاحها بالنسبة إلى أوغندا وأوروغواي مع نجاحها بالنسبة إلى الولايات المتّحدة. وإذا لم تكن هناك مشاكل، فلن يكون هناك شيء للتنافس عليه.

تغيَّر ذلك عندما اصطدمت طائرتان بالبرجين التوأمين. كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بمثابة صدمة للنظام جعلت الجميع في واشنطن يجلسون ويفكّرون في «مَوَاسِير وسباكة» السلطة الأميركية، على حد تعبير فاريل ونيومان.

استطاعت «القاعدة» استخدام الاتصالات الأميركية والدولار الأميركي لتمويل وتنظيم هجماتها. والآن، أرادت حكومة الولايات المتّحدة الوصول إلى هذه البنية التحتية حتى تتمكّن «وكالة الأمن القومي» من الاستماع إلى المكالمات الهاتفية وتتمكّن وزارة الخزانة الأميركية من قطع التمويل الدولي عن أي شخص، في أي مكان في العالم. وسُرعان ما أدركت الدولة الأميركية أن كل هذا لم يكن ممكناً فحسب، بل كان سهلاً.

وكما كتب فاريل ونيومان:

«اعتمد الاقتصاد العالمي على نظام أعيد بناؤه من الأنفاق والقنوات التي يمكن للولايات المتّحدة الانتقال إليها والتكيُّف معها بسهولة، كما لو كانت مصمَّمة خصيصاً على يد مهندس عسكري لهذا الغرض».

وما بدأ كتدابير مخصّصة بُرِّرت على أساس أنها تتعامل مع تهديدات أمنية طارئة سُرعان ما تحوّل إلى «أدوات سياسية شائعة». فـ««وكالة الأمن القومي» أبقت على شبكة تجسُّس عالمية ووسَّعتها»، على الرغم مما كشف عنه إدوارد سنودن في العام 2013، في حين أن «جمع المعلومات الاستخبارية والإكراه الاقتصادي أصبحا الآن جزءاً من المهمة الأساسية لوزارة الخزانة الأميركية».

في البداية، كانت الأهداف هي العناصر الناشزة، مثل «القاعدة» وكوريا الشمالية. لكن مع تعرّض موقف أميركا المهيمن لتحدّيات أكبر من أي وقت مضى، وفي وقت أصبحت فيها السياسة الأميركية أكثر تقلّباً من أي وقت مضى، وجّهت واشنطن أسلحة الحرب الاقتصادية القوية هذه نحو قلب الاقتصاد العالمي.

أحادية الدولار

كانت إيران هي الاختبار الحقيقي لمعرفة ما إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك القدرة على إخراج الدول من الاقتصاد العالمي. فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إيران على مدار أعوام، لكن الدولة الواقعة في غرب آسيا استمرّت في تداول السلع المختلفة - وأهمها النفط - بالدولار باستخدام المصارف الأوروبية.

تغيّر هذا في العام 2006 عندما فصلت الولايات المتحدة مصرفاً إيرانياً عن نظام مقاصّة الدولار، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق المصارف الأميركية. حتى ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة تعتقد أن تسييس مقاصة الدولار أمر خطير للغاية في حالة استجابة المصارف الأجنبية من خلال محاولة إيجاد بدائل للدولار.

شعرت واشنطن بالسعادة عندما أدركت أن رد المصارف الأوروبية على العقوبات الجديدة على إيران هو الامتثال الكامل، إذ خشيت هذه المصارف أن تستبعدها وزارة الخزانة الأميركية من نظام مقاصّة الدولار إذا تمرّدت

شعرت واشنطن بالسعادة عندما أدركت أن رد المصارف الأوروبية على العقوبات الجديدة على إيران هو الامتثال الكامل. خشيت هذه المصارف أن تستبعدها وزارة الخزانة الأميركية من نظام مقاصّة الدولار إذا تمرّدت: إذْ كان الوصول إلى الدولار أمراً لا غنى عنه بالنسبة إليها، في حين كان تسهيل التجارة الإيرانية أمراً جيداً ولكن اختياري. وبحلول العام 2015، كانت إيران معزولة تماماً عن التعامل بالدولار.

كان هذا بمثابة تغيير في قواعد اللعبة، ليس فقط فيما يتعلّق بكيفية عمل النظام المالي الدولي، بل وأيضاً فيما يتعلّق بكيفية ممارسة الولايات المتّحدة للدبلوماسية. وفي رحلاتهم إلى الخارج، أصبح مسؤولو وزارة الخزانة أقل اهتماماً بلقاء الوزراء من اهتمامهم بالذهاب مباشرة إلى البنوك، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى إذن من دول أخرى لفصل - أو التهديد بفصل - مصارفهم عن الدولار. لقد بدأ عصر «أُحادية الدولار».

كانت هناك مقاومة لأُحادية الدولار. لقد تفاوض «الاتحاد الأوروبي» والأعضاء الخمسة الدائمون في «مجلس الأمن» التابع «للأمم المتحدة» على الاتفاق النووي الإيراني في العام 2013 وكانوا مُلزمين قانوناً بالالتزام به. وعندما سحب دونالد ترامب الولايات المتحدة من الاتفاق في العام 2018 وأعاد تفعيل مجموعة العقوبات بأكملها ضد إيران، بما في ذلك «العقوبات الثانوية»، قال الاتحاد الأوروبي إنه لا يزال ملتزماً بالاتفاق، وكذلك الدول الأخرى التي وقَّعت عليه.

حتى إن ألمانيا وفرنسا والمملكة المتّحدة - وهم ليسوا أعداء لواشنطن - قاموا ببناء حل بديل لنظام «سويفت» يُسمَّى «إنستكس» لتسهيل التجارة مع إيران. ومع ذلك، فشل الأمر فشلاً ذريعاً.

ولم يتمكّن الموقّعون على الاتفاق الإيراني من تنفيذه لأن الشركات الأوروبية كانت مرعوبة من التهديد الوجودي الذي تفرضه العقوبات الأميركية الثانوية. وأثبت انهيار الاتفاق الإيراني مدى محدودية السيادة الأوروبية في الاقتصاد العالمي الذي يُهيمن الدولار عليه.

وأصبحت حقيقة التبعية الأوروبية أكثر وضوحاً عندما قرر «الاتحاد الأوروبي» فرض عقوبات كبرى من جانب واحد في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022. سُرعان ما أدرك «الاتحاد الأوروبي» أنه لا يملك الأسلحة اللازمة «لتولي مسؤولية قِصَّته». وكما لاحظ فاريل ونيومان:

«كلما سعى «الاتحاد الأوروبي» إلى بناء مصادر قوته وسلطته، كلما أدرك أنه يحتاج إلى ما تمتلكه الولايات المتحدة: المعلومات، والمؤسسات، والخبرة الفنية، والسلطة على الأسواق العالمية».

شركة «مايكروسوفت» تنبّهت أيضاً لسلطة الدولة الأميركية. كانت الشركة داعمة بالكامل «للسوق الحرة»، حيث روَّجت لنفسها عالمياً باعتبارها «سويسرا رقمية» خالية من التدخل الجيوسياسي من جانب واشنطن أو أي دولة أخرى. لكن بحلول وقت الحرب الأوكرانية، كانت الشركة قد غيَّرت موقفها تماماً. وهي تتباهى الآن بنفوذها في صدِّ الهجمات الإلكترونية الروسية وتسهيل الهجمات الأوكرانية، وهو دور قورِنَ بدور شركة «فورد موتورز» في بناء الدبابات الأميركية في الحرب العالمية الثانية. وسواء كان الأمر يتعلق بـ«المفوضية الأوروبية» أو «مايكروسوفت»، فإن تقوى السوق الحرة مهَّدت الطريق أمام السياسة الواقعية الوحشية للإمبراطورية السرية.

حظر «هواوي»

تجاوزت العقوبات المفروضة على روسيا أي شيء تُخُيِّل من قبل. وكان الأمر الأكثر دراماتيكية على الإطلاق هو الاستيلاء على 260 مليار دولار من احتياطيات روسيا من العملات الأجنبية، وهي خطوة غير مسبوقة أطلقت أجراس الإنذار في العواصم الأجنبية في جميع أنحاء العالم بشأن هشاشتها أمام الدولار - والأهم من ذلك كلّه في بكين. وعلى حد تعبير مستشار سابق للمصرف المركزي الصيني: «إذا توقّفت الولايات المتحدة عن اللعب وفقاً للقواعد، فماذا تستطيع الصين أن تفعل لضمان سلامة أصولها الأجنبية؟ ليس لدينا إجابة حتى الآن».

ذهب بحث الصين عن الإجابات إلى ما هو أبعد من احتياطيات العملات الأجنبية. نجحت حرب الولايات المتحدة على واحدة من أهم الشركات الصينية، شركة الاتصالات العملاقة «هواوي»، بشكل عام. قرّرت واشنطن وضع حد لهدف «هواوي» الواقعي المتمثل في السيطرة على البنية التحتية العالمية لشبكات الجيل الخامس، وهو الطموح الذي يهدّد بشكل مباشر سيطرة الولايات المتحدة على الاتصالات العالمية وبالتالي يعرض الإمبراطورية السرية للخطر.

أدّت العقوبات إلى عزل شركة «هواوي» عن العديد من مورديها الرئيسين، وأهمهم شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية «تي إس إم سي». وبحلول العام 2021، انخفضت حصة «هواوي» العالمية في سوق الهواتف الذكية من 20% إلى 4% فقط

أدّت العقوبات إلى عزل شركة «هواوي» عن العديد من مورديها الرئيسين، وأهمهم شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية «تي إس إم سي». وبحلول العام 2021، انخفضت حصة «هواوي» العالمية في سوق الهواتف الذكية من 20% إلى 4% فقط. وقد تخلّى حلفاء أميركا الرئيسيون، مثل المملكة المتحدة وأستراليا، عن خططهم لبناء شبكات الجيل الخامس الخاصة بهم. لقد أظهرت الولايات المتحدة للصين أن لديها القدرة على منعها من أن تصبح قوة عظمى تكنولوجية.

ولم تكن الولايات المتحدة راضية عن مجرد عرقلة طريق التنين. فقد ألقى مستشار الأمن القومي لجو بايدن، جيك سوليفان، خطاباً في أيلول/سبتمبر 2022 ذكر فيه أن هدف الحفاظ على «التفوق النسبي» على الصين من الناحية التكنولوجية لم يعد كافياً. فالولايات المتحدة تريد الآن «أكبر قدر ممكن من التفوق».

وبعد ذلك بوقت قصير، أعلن بايدن عن أكبر مجموعة من العقوبات المتعلقة بأشباه الموصلات حتى الآن، حيث منعَ أي شركة أميركية من توفير الإمدادات لأي شركة صينية مُصنِّعة للرقائق، وضغطَ على حلفاء الولايات المتحدة للقيام بالمثل. وبما أن الرقائق مطلوبة الآن لإنتاج أي شيء تقريباً، فإن هذه العقوبات تُشكِّل تهديداً كبيراً للتنمية الاقتصادية في الصين.

يبدو أن الولايات المتحدة مقتنعة بأن هذه العقوبات ناجحة. وذكرت شبكة «سي إن بي سي» يوم 17 كانون الثاني/يناير أن واردات الصين من الرقائق انخفضت بنسبة 15.4% في العام 2023، مع اتخاذ الولايات المتحدة مزيداً من الإجراءات لسد «الثغرات» في نظام العقوبات.

ومع ذلك، أعلنت «هواوي» في أيول/سبتمبر أن هاتفها الذكي الجديد يحتوي على شريحة بحجم 2 نانومتر، والتي تقع خلف أشباه الموصلات الأكثر تقدماً في العالم. لم يكن من المفترض أن يكون هذا ممكناً، وصدمت الأخبار واشنطن.

لا يزال من غير الواضح بالضبط كيف تمكَّنت «هواوي» من الحصول على شرائح بحجم 2 نانومتر وما إذا كانت الصين قادرة على إنتاجها على نطاق واسع. لكن هذا الصدع في الإمبراطورية السرية يفتح الباب أمام أسئلة أوسع حول القيود والمزالق المحتملة لاستخدام القوة الاقتصادية الأميركية كسلاح.

«المجمع الصناعي للعقوبات»

كما أكد كتاب نيكولاس مولدر الحديث عن تاريخ العقوبات، «السلاح الاقتصادي»، فإن العقوبات تميل إلى الفشل أكثر من النجاح، وهي تؤدي في أغلب الأحيان إلى عواقب غير مقصودة. والخطر الأكثر وضوحاً هو أنه من خلال وضع جزء كبير من الاقتصاد العالمي تحت العقوبات - حوالي ثلثه في هذه المرحلة - ربما توفِّر الولايات المتحدة الحافز الذي تحتاجه هذه البلدان لبناء بنية تحتية مالية وتكنولوجية بديلة. قد يكون هذا صعباً، ومكلفاً، وغير فعّال مقارنةً بالاعتماد على النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، لكنه على الأقل يحمل وعد الاستقلال.

ردّت إيران على العقوبات الأميركية باستخدام «وكلاء ومخارِج» السوق السوداء والدفع النقدي، وفقاً لفاريل ونيومان - وهي الخطوة التي ولدت 80 مليار دولار من التجارة السنوية. وتتخذ الصين نهجاً أكثر تطوراً، حيث تعمل على تطوير عملة رقمية لمصرفها المركزي تتمتع بالقوة المحتملة لتسهيل التجارة الثنائية الفورية، ما يؤدي إلى الاستغناء عن الدولار بالكامل.

هناك الآن «مجمعاً صناعياً للعقوبات» في الولايات المتحدة، حيث تستثمر الأجهزة الحكومية في إيجاد أسباب جديدة لفرض المزيد من العقوبات، خصوصاً عندما لا تكون العقوبات السابقة فعّالة بالقدر المأمول

وتشمل المخاطر الأخرى «الانفصال الصارم» بين اقتصادات الولايات المتحدة والصين في حال خرجت العقوبات المتبادلة «عن السيطرة». وقد يؤدي مثل هذا الانهيار إلى ركود عالمي من شأن الركود الذي شهدته أزمة الجائحة في العام 2020 أن يتضاءل أمامه.

وكما يحاجج فاريل ونيومان:

«تفهم الولايات المتحدة الاقتصاد العالمي بشكل أفضل كثيراً، وتستطيع أن تتلاعب به بسهولة أكبر من حلفائها وخصومها. ومع ذلك، مع تصاعد التناقضات، يتزايد خطر الفشل الكارثي».

المشكلة الرئيسة هي أنه بمجرد المضي في طريق العقوبات، أين تتوقف؟ أخبر مات دوس، مستشار السياسة الخارجية لبيرني ساندرز، مؤلفي الكتاب أن هناك الآن «مجمعاً صناعياً للعقوبات» في الولايات المتحدة، حيث تستثمر الأجهزة الحكومية في إيجاد أسباب جديدة لفرض المزيد من العقوبات، خصوصاً عندما لا تكون العقوبات السابقة فعّالة بالقدر المأمول.

عندما تُفرَض عقوبة ما، يصبح من الصعب سياسياً رفعها مرة أخرى من دون مواجهة الاتهام بـ«التساهل» مع خصوم أميركا. وبمجرد تحويل الاقتصاد العالمي إلى سلاح، يصبح من الصعب للغاية نزع هذا السلاح، حتى ولو كانت العواقب طويلة الأمد المترتبة على الاستمرار على هذا الطريق خطيرة بالنسبة إلى القوة الأميركية.

إمبراطورية خَيِّرة؟

إن المخاطر المرتبطة بالإمبراطورية السرّية الأميركية تثير التساؤل عمّا يجب القيام به حيال الأمر. بالنسبة إلى فاريل ونيومان، الجواب هو «نوع مختلف من السلطة المطلقة، نوع من شأنه أن يخدم المصلحة العالمية والوطنية بشكل واضح».

بالنسبة إلى كتاب منغمس في السياسة الواقعية، فإن هذه نتيجة خيالية بشكل مخيِّب للآمال. إن فكرة أن الولايات المتحدة، أو في الواقع أي دولة رأسمالية، يمكن الوثوق بها لخدمة الإنسانية ككل هي فكرة ساذجة إلى أقصى الحدود. إن أميركا تستخدم موقعها المهيمن كسلاح لأنها تتعرّض للتهديد، خصوصاً من جانب الصين الصاعدة.

فكرة أن الولايات المتحدة، أو في الواقع أي دولة رأسمالية، يمكن الوثوق بها لخدمة الإنسانية ككل هي فكرة ساذجة إلى أقصى الحدود. إن أميركا تستخدم موقعها المهيمن كسلاح لأنها تتعرّض للتهديد، خصوصاً من جانب الصين الصاعدة

ويتفاقم هذا الخطأ عندما يدعو المؤلفان إلى إنشاء وكالة أميركية جديدة تتولى الإشراف على شؤون «الأمن الاقتصادي». وفي حين يعتزم فاريل ونيومان أن تفكر مثل هذه الوكالة في المدى الطويل وتنظر في مخاطر العقوبات وغيرها من التدابير العدائية، فإن واقع الدولة الأميركية يعني أنها ستساعد حتماً في ترسيخ المجمع الصناعي للعقوبات، مما يزيد من الطابع المؤسسي للمشكلة.

وفي الواقع، فإن المؤلفين، اللذين صاغا المصطلح المستخدم الآن على نطاق واسع «الاعتماد المتبادل المُسلّح» لوصف العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، يعترفان في الكتاب بأن المسؤولين الأميركيين استخدموا أفكارهما لإلهام «نقاط اختناق» جديدة يمكن لواشنطن العثور عليها واستخدامها كسلاح، وبالتالي تكثيف المخاطر نفسها التي يحاولان التحذير منها.

والحقيقة هي أنه لن تكون هناك إمبراطورية سرية خَيِّرة، ومحاولة تمنِّي وجودها ليست أكثر من طريق مسدود. إن حقيقة قيام بايدن بتعميق العقوبات التي طُوِّرَت في ظل إدارة ترامب يجب أن تكون دليلاً كافياً على أن وضع الآمال في سياسات مؤسَّسية لترويض الإمبراطورية السرية يُعدُّ مضيعة للطاقة في أحسن الأحوال ويؤدي إلى نتائج عكسية في أسوأ الأحوال.

بدلاً من ذلك، ينبغي لنا أن ننظر إلى السياسات المناهضة للإمبريالية، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها، كبديل لاستخدام أميركا للاقتصاد العالمي كسلاح. فمن خلال بناء السيادة الاقتصادية الوطنية، وتعزيز العلاقات التجارية خارج منطقة الدولار، ورفض الامتثال للإملاءات الأميركية المفروضة من جانب واحد، والانفصال عن المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة مثل «حلف شمال الأطلسي» و«صندوق النقد الدولي»، يمكننا تسريع الانحدار الإمبراطوري للولايات المتحدة والتحرك نحو عالم مُتعدِّد الأقطاب بشكل حقيقي، حيث لا تستطيع أي دولة أن تُملي قواعد اللعبة.

 

نشر هذا المقال في Jacobin في 24 شباط/فبراير 2024.