مسألة الأجور: اللامساواة المسكوت عنها
تأخذ اللامساواة أشكالاً عدة، هناك اللامساواة بين الفئات الاقتصادية المختلفة مثل أصحاب الأعمال وأصحاب الأجور أو العاطلات والعاطلين عن العمل، وبين أصحاب الأجور ذاتهم، وبينهم وبين أصحاب الريع من ملاك الأصول. تتقاطع هذه الأنساق الاقتصادية مع أنساق اجتماعية مثل النوع الاجتماعي والعرق والديانة، فنجد مثلاً أن الذكور يحصلون في المتوسّط على أجور أعلى من النساء. وعادة ما يكون لأنظمة اللامساواة أيضاً بعد جغرافي، مثل الريف في مقابل الحضر، أو الشمال في مقابل الجنوب.
وعلى المستوى الأكاديمي، زاد الحديث حتّى عن أنماط غير اعتيادية من اللامساواة مثل اللامساواة الابستيمية أو المعرفية (epistemic inequality)، التي تعرّفها شوشانا زوبوف بـ«عدم المساواة في الوصول إلى التعلّم الذي تفرضه آليّات خفيّة لالتقاط المعلومات وإنتاجها وتحليلها والتحكّم فيها»، واللامساواة البيئية المعنية بالتفاوت في الحصول على هواء ومياه نظيفين وبيئة خالية من الضوضاء، فضلاً عن التعرّض غير المتساوي لتأثيرات التغيّر المناخي.
لمواجهة كل أنماط اللامساواة الماثلة، نشط المجتمع المدني في الحديث عن تفاقم اللامساواة وكيفية مواجهته (على الرغم من غياب أي نتائج ملحوظة)، ووصل هذا الخطاب إلى مؤسّسات التمويل الدولية أيضاً، على الرغم من دورها الرئيس في تفاقم جميع أنواع اللامساواة في العقود الأربعة الأخيرة. تمحور الحديث بشكل كبير عن دور سياسات المالية العامّة الوطنية في الحدّ من حدّة اللامساواة عبر تطبيق ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة، وزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية والتعليم والصحّة، وغيرها. وتطرّق الحديث أيضاً إلى دور التشريعات في سدّ التفاوت الجندري عن طريق تمرير قوانين تمكّن النساء في سوق العمل، واقتصادياً بشكل عام، فضلاً عن غيرها من الإجراءات التي تستهدف اللامساواة البيئية والتغيّر المناخي.
وعلى الرغم من زيادة الحديث في هذه القضايا بشكل كبير، ظلت أحد أهم أشكال اللامساواة وأكثرها وضوحاً في عالمنا الحالي مسكوت عنها كلّياً وهي التفاوت الرهيب في قيمة العمل، أي الأجور، بين شمال العالم وجنوبه
وعلى الرغم من زيادة الحديث في هذه القضايا بشكل كبير، ظلت أحد أهم أشكال اللامساواة وأكثرها وضوحاً في عالمنا الحالي مسكوت عنها كلّياً - حتى من قِبل المعلِّقين الملتزمين بقضايا التفاوتات المسكوت عنها - وهي التفاوت الرهيب في قيمة العمل، أي الأجور، بين شمال العالم وجنوبه. ولا يخفى على أحد الاختلاف الكبير في الأجور بين بلدان منطقتنا وأوروبا، على سبيل المثال.
لن استغرق في محاولة إثبات تفاوت الأجور بين مناطق العالم لأنها من أكثر الحقائق رسوخاً، ولكني سأمر سريعاً على المبرِّرات التي تقدّم عادة لتبرير هذا التفاوت. كما جادل المؤرِّخ الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابه «رأس المال والأيديولوجيا»، فإن كل أنظمة اللامساواة وأنماطها عبر التاريخ تحتاج لأيديولوجيا لتبريرها. عادة ما تذهب التبريرات الأيديولوجية للتفاوت العالمي في قيمة العمل إلى الجدارة والثقافة والعمل الجادّ والشاقّ، وحتى «علمياً» تبرز تبريرات كثيرة وعلى رأسها مسألة الإنتاجية والقيمة المضافة والعرض والطلب.
يذهب علم الاقتصاد الشائع إلى أن التفاوت في الأجور سببه الرئيس هو الإنتاجية، التي بدورها تؤثّر على القيمة المُضافة التي تضيفها عاملة ما إلى المنتج، فالعاملات ذات الإنتاجية العالية يستحقنَّ التعويض الكبير بسبب إضافتهن قيمة مضافة عالية. إذا أخذنا مثلاً عاملة تعمل في تغليف الفواكه بأجر زهيد، فهي من وجهة نظر الإنتاجية تستحق هذا الأجر الزهيد لأن عملها يضيف قيمة مضافة بسيطة جداً على المنتج، وعلى اعتبار أن سعر الفواكه المغلّفة لا يختلف كثيراً عن سعر الفواكه غير المغلّفة. على الجانب الآخر، تستطيع عاملة في البحث والتطوير الدوائي على توليد قيمة مضافة عالية جدّاً عبر تحويل بعض المواد الكيميائية ذات القيمة المنخفضة إلى علاج ذو قيمة عالية لمرض مستعصٍ.
لكن الواقع يختلف كثيراً عن هذا المثال المتطرّف.
في الاقتصاد الشائع، يتم قياس إنتاجية العمّال بالقيم النقدية، حيث يتم قسمة القيمة المُضافة للنشاط الاقتصادي على ساعات العمل المبذولة في هذا النشاط. وبالتالي، يعتقد الاقتصاد الشائع أنه من المُمكن مقارنة إنتاجية أي نشاط يدرُّ قيمة نقدية، على سبيل المثال، بين فنّانة تشكيلية ونادل في مقهى. يعتبر الباحث الاقتصادي الإيطالي أندريا ريتشي أن قياس مستويات الإنتاجية ليس مهمّة سهلة، ويقول إن الذي يجب مقارنته هو الإنتاجية الفعلية المادية وليس الإنتاجية المعبَّر عنها نقدياً، لأن الأخيرة تُحسب بأسعار السوق المستندة إلى أجور مشوّهة بالفعل، ولهذا تحتوي على منطق دائري ما، إذ ينتج العمّال ذو الأجور العالية منتجات غالية نتيجة ارتفاع أجورهم، وبالتالي يتم اعتبارهم منتجين لقيمة مضافة عالية.
مثلاً، لو قام عامل في مصنع لإنتاج كراسي في اقتصاد جنوبي، أجره اليومي 10 دولارات، بإنتاج 5 كراسي يومياً، قيمة كل كرسي 10 دولارات وقيمة مدخلات الإنتاج 5 دولارات، سوف يعتبر الاقتصاد الشائع أن إنتاجيته 25 دولار في اليوم، وحصل على 10 دولارات منها، وحصل صاحب العمل على 15 دولار. في الاقتصاد الجنوبي، لا يمكن بيع الكرسي بأكثر من 10 دولارات بسبب انخفاض دخول المستهلكين أيضاً. أما في اقتصاد شمالي، إذا افترضنا أن أجر العامل اليومي 100 دولار، وينتج أيضاً 5 كراسي متطابقة، هنا لن يستطيع صاحب العمل بيع الكرسي بـ10 دولارات، ولكن الاقتصاد مرتفع الأجور سيسمح له ببيع الكرسي بـ40 دولاراً. على الرغم من تطابق الإنتاجية المادية، سوف يحتسب الاقتصاد الشائع الإنتاجية النقدية للعامل الجنوبي بنحو 25 دولاراً وإنتاجية العامل الشمالي بنحو 175 دولار كما هو موضح في الجدول أدناه. هنا نرى كيف يمكن لإنتاجية مادية مُتطابقة أن تختلف كثيراً محاسبياً.
لا يمكن مقارنة الإنتاجية الحقيقية، التي تُقاس بوحدات الكمّية الفعلية، سوى ضمن صناعة معيّنة تنتج سلعاً من النوع نفسه والجودة نفسها، بينما لا يمكن مقارنتها بين صناعات مختلفة لعدم وجود وحدة قياس مُشتركة. على سبيل المثال، لا يمكن مقارنة إنتاجية عامل في مصنع كراسي ومبرمج، لأن ذلك يلقي تحدّيات كبيرة أمام التحقّق من فرضية الفروق في الإنتاجية كمبرّر للتفاوت في الأجور على مستوى عالمي.
في محاولته للتغلّب على هذا التحدي، حاول سمير أمين في كتابه «التنمية اللامتكافئة» (ص. 143) قياس الإنتاجية بين عمّال الجنوب والشمال (يسميهم أمين الطرف والمركز) من خلال منهجين؛ المنهج الأول هو مقارنة القطاعات الرأسمالية الحديثة في الاقتصادات الطرفية مع القطاعات نفسها في الاقتصاديات المركزية، والمنهج الثاني هو محاولة حساب تكلفة السلع في القطاعات «التقليدية» في الاقتصادات الطرفية إذا افترضنا استخدامها لتقنيات أوروبية حديثة. يجد أمين أنه من إجمالي الصادرات من الدول «النامية» في العام 1966، والتي بلغت في ذلك الوقت نحو 35 مليار دولار، مثّل القطاع الرأسمالي الحديث (مثل النفط والتعدين وتصنيع المعادن والمزارع الحديثة) ما لا يقل عن ثلثي قيمة الصادرات، أي 26 مليار دولار. يقول أمين إنه إذا تم توفير هذه المنتجات من قبل البلدان المتقدّمة بالتقنيات نفسها وبالتالي بالإنتاجية نفسها، فإن قيمتها ستكون على الأقل 34 مليار دولار. لذلك، وفقاً لحسابات أمين، فإن تحويل القيمة من العالم الجنوبي إلى العالم الشمالي في هذه الفئة وحده، يصل إلى 8 مليارات دولار في العام 1966.
فيما يتعلّق بصادرات الدول «النامية» الأخرى، التي تم توفيرها من قِبل القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة، مثل المنتجات الزراعية التي تنتج وفقاً لممارسات الزراعة التقليدية التي لم تعد موجودة في الاقتصاديات الشمالية، يصبح الوضع أكثر تعقيداً قليلاً. يعترف أمين بأن الفجوة التكنولوجية لهذه القطاعات تعقِّد الحسابات، خصوصاً مع عدم قابلية مقارنة المنتجات المعنية. على سبيل المثال، يتم إنتاج الشاي والقهوة والقطن والكاكاو في الجنوب العالمي فقط. ومع ذلك، يقول أمين إن الأجور في الجنوب العالمي أقل بكثير من الفارق في الإنتاجية. يعطي أمين مثالاً عن مزارع أفريقي يتلقّى مقابل 100 يوم من العمل الشاق كل عام على سلع مُصنّعة ومستوردة تتطلّب عملاً بسيطاً لمدة 20 يوماً من عامل أوروبي. قام أمين بحساب أنه إذا عمل هذا المزارع باستخدام تقنيات أوروبية حديثة، سوف يعمل 300 يوم في السنة ويحصل على 6 أضعاف إنتاجيته، ما يعني أن إنتاجيته للساعة سوف تتضاعف على أفضل تقدير، في حين سيكون الفارق في الأجور 5 أضعاف لصالح العامل الأوروبي. قيمة هذه المنتجات في هذه الحالة ستكون نحو 23 مليار دولار، بدلاً من 9 مليارات دولار. وبالتالي، يصل تحويل القيمة من الجنوب إلى الشمال، وفقاً لأمين، إلى 14 مليار دولار في حالة القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة، بالإضافة إلى 8 مليارات دولار من القطاع الحديث.
بعبارة أخرى، إذا بلغت قيمة صادرات الجنوب نحو 35 مليار دولار، فإن قيمتها، إذا كانت تعويضات العمل متساوية مع ما هي عليه في الشمال وفقاً للإنتاجية نفسها، ستبلغ نحو 57 مليار دولار. وهذا يعني ببساطة أن فارق الأجور يتسبّب في خسارة الجنوب نحو 22 مليار دولار في ذلك الوقت.
على الرغم من قدم نموذج أمين، هناك أسباب قويّة للاعتقاد بأن هذا النمط من الخسائر في الدخل لاقتصادات الجنوب العالمي مستمر، لا بل تفاقم. قام زاك كوب في كتابه «ثروة (بعض) الأمم» باحتساب تحويل القيمة بناءً على تفاوت الأجور العالمي في العام 2010، وبلغت قيمتها بنحو 2,800 مليار دولار. هذا المبلغ أكبر بكثير من حساب أمين حتى عند أخذ التضخّم في الاعتبار، ما يجعل قيمة أمين تساوي 387 مليار دولار في العام 2010. قد يمكن تفسير هذا التفاوت بالنمو السكاني والاقتصادي في الجنوب العالمي، بالإضافة إلى تعميق التجارة الدولية في العقود الأخيرة حيث ارتفعت نسبتها من 25% من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي في العام 1966 عندما أجرى أمين حساباته إلى نحو 57% في العام 2010 عندما قام كوب بحساباته، مع تضاعف حجم الناتج الإجمالي نفسه مرّات عدّة.
تداعيات هذا النسق من اللامساواة
لا يمكن المبالغة في ذكر تأثير هذا التفاوت على العوامل التنموية في بلدان الجنوب بكل أبعادها. إذا أخذنا رقم 3 تريليون دولار كتقدير محافظ لخسائر بلدان الجنوب العالمي جراء هذا التفاوت، ففي حالة سدّ فجوة الأجور، سيذهب جزء كبير من هذه التريليونات – التي تمثل نحو عُشْر الناتج المحلي الإجمالي للجنوب العالمي – في شكل أجور أعلى وجزء آخر في شكل أرباح رأس المال التي يمكن أن يعاد استثمارها في مناطق تعاني من نقص رأس المال، وتحارب من أجل جذبه من الخارج في شكل «استثمارات أجنبية مباشرة»، وجزء كبير بالطبع في شكل ضرائب ينفق منها على الصحّة والتعليم والحماية الاجتماعية.
على الرغم من قدم نموذج أمين، هناك أسباب قويّة للاعتقاد بأن هذا النمط من الخسائر في الدخل لاقتصادات الجنوب العالمي مستمر، لا بل تفاقم. قام زاك كوب باحتساب تحويل القيمة بناءً على تفاوت الأجور العالمي في العام 2010، وبلغت قيمتها بنحو 2,800 مليار دولار
قد يجادل البعض بأن زيادة الأجور في الجنوب قد تضرّ بميزة الجنوب التنافسية ألا وهي العمالة الرخيصة، وبالتالي سيقل الطلب على صادراتها، لكن كما ناقشت في مقال الشهر الماضي في موقع صفر، فإن قيمة منتجات الجنوب مقوّمة بأقل من قيمتها، وفي هذا المقال البحثي، أوضح كيف أن المرونة السعرية للطلب لمنتجات دول الجنوب تميل لأن تكون منخفضة، أي أن زيادة سعرها لن يؤثر سلباً على الطلب بمقدار الزيادة في السعر، وفي المقال نفسه أوضح أن زيادة أسعار منتجات الجنوب سيكون له فوائد بيئية حميدة لبلدان الجنوب التي تتميّز بصادرات كثيفة الموارد الطبيعية، أي إنها عملياً تصدّر مواردها الحيوية مقابل أموال زهيدة ما يسمح لبلدان الشمال بالحفاظ على رأسمالها البيئي، من دون أن يكون لهذا أثر على العوائد النقدية من الصادرات. من الممكن أن يجادل البعض أيضاً بأن ارتفاع الأجور سيؤدّي إلى ارتفاع تكلفة المعيشة على المستوى الوطني، وهذا صحيح، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن الزيادة في الأجور ستغطّي هذه الزيادة في تكلفة المعيشة. أمّا بالنسبة للسكان من غير ذوي الأجور مثل العاطلين أو أرباب المنازل أو المتقاعدين، إلخ، فإن بقاء جزء أكبر من القيمة المُنتجة داخل الاقتصاد الوطني في شكل أرباح وأجور أكبرو سيؤدّي إلى زيادة الحصيلة الضريبية، ما يسمح أيضاً بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية لهذه الفئات لتغطية الزيادة في تكلفة المعيشة. هذا هو تحديداً النموذج المتبع في اقتصادات الشمال ذات مستويات الرفاه العالية، فتكلفة المعيشة هناك مرتفعة للغاية لكن ارتفاع الأجور (على الرغم من ركودها في العقود الأخيرة) وأنظمة الحماية الاجتماعية السخية نسبياً (على الرغم من الهجوم الكبير الذي تتعرّض له هناك)، تجعل جودة الحياة أكثر ارتفاعاً بما لا يقارن بالبلدان ذات تكلفة المعيشة المنخفضة.
يلقي هذا أيضاً الضوء على قصور علم الاقتصاد الشائع، بل وتواطئه في تبرير هذه التفاوتات بهدف استمرارها، فنجد توصيات المؤسّسات الدولية دائماً ما تتمحور حول ضرورة زيادة إنتاجية البلدان منخفضة الدخل كسبيل لزيادة الأجور والثروة، وبالتالي ارتفاع مستوى المعيشة، مستندة إلى المنطق الدائري المذكور أعلاه، ومتجاهلة، عن جهل أو عن عمد، أن زيادة الأجور هو ما قد ينتج عنه زيادة الإنتاجية وليس العكس. يحدث هذا على الرغم من أن غالبية إنتاج البشرية المادي حالياً يتم في بلدان الجنوب، في حين تتخصّص بلدان الشمال بشكل متزايد في الخدمات المالية والأصول غير الملموسة مثل العلامات التجارية وبراءات الاختراع. لهذا لا يمكن فصل العلم عن الأيديولوجيا فكلاهما يعمل على تكملة ودعم الآخر في تبرير التفاوتات، فسواء كانت الجدارة أو الاجتهاد أو العمل الشاق أو الإنتاجية، تنجح هذه التبريرات في مهمّتها لدرجة أن لا أحد يذكر هذا التفاوت من ضمن تفاوتات عالمنا المعاصر التي يجب الاشتباك معها.
اعتمدت في هذا المقال على البيانات الواردة في ورقتي البحثية بعنوان International Wage Disparities, Resource Depletion and Human Rights: Are They Linked.