
رفع الحدّ الأدنى للأجور في مصر: إنجاز أم سراب؟
بعد موجة من الإضرابات العمّالية، أعلنت الحكومة المصرية عن حزمة اجتماعية جديدة بهدف التخفيف عن محدودي الدخل، من دون تغيير في السياسات الاقتصادية، أو في تعاطيها «الخشن» مع النقابات المستقلة. والحصيلة: المزيد من قمع الاحتجاجات والإفقار.
وفي سياق هذه الحزمة، أعلن المجلس القومي للأجور عن زيادة الحدّ الأدنى للعاملين في القطاع الخاص، ويبلغ عددهم نحو 8 ملايين عامل، الى 7 آلاف جنيه، (أو ما يعادل 139.4 دولاراً أميركياً) بدءاً من أول آذار/مارس المقبل، الذي يصادف بداية شهر رمضان أيضاً. وللمرّة الأولى، وضع القرار حدّاً أدنى لساعة «للعمل المؤقت» لا تقل عن 28 جنيهاً (حوالي نصف دولار)، بالإضافة إلى إقرار علاوة دورية للعاملين في القطاع الخاص لا تقل عن 3% من أجر الاشتراك التأميني، كما لا تقل عن 250 جنيهاً سنوياً. ومن المقرّر أن تصدر الحكومة قراراً برفع رواتب العاملين بالدولة، وعددهم نحو 5 ملايين عامل.
وأكّدت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي رانيا المشاط، في بيان، أن «رفع الحدّ الأدنى للأجور يأتي في إطار الحرص على الاستجابة للمستجدّات الاقتصادية الراهنة، ما يُعزّز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مضيفة أن ذلك يتسق مع المعايير الدولية، إذ تؤكّد منظّمة العمل الدولية على ضرورة مراجعة الحد الأدنى للأجور على أساس دوري، لحماية القوة الشرائية للأسر، واستيعاب التغيرات الاقتصادية التدريجية».
حبر على ورق
يُعتبر الحد الأدنى للأجور أداة مُعترف بها عالمياً لحماية أجور العمّال ذوي الدخل المنخفض. ووفقاً لتقرير الأجور العالمي 2020-2021 الصادر عن منظّمة العمل الدولية، فإن 90% من الدول الأعضاء في المنظمة تعتمد حداً أدنى للأجور.
في مصر، تطوّر الحد الأدنى للأجور للعاملين في القطاع الخاص في خلال العامين الماضيين، إذ وصل للمرة الأولى في كانون ثان/يناير 2022 إلى 2,400 جنيه، ثمّ رفع إلى 2,700 جنيه في كانون الثاني/يناير 2023، ورفِع مرة أخرى في تموز/يوليو 2023 ليصل إلى 3,000 جنيه، ثم إلى 3,500 جنيه في كانون الثاني/يناير الماضي، وأخيراً إلى 6,000 جنيه في شباط/أبريل 2024.
قطاعات واسعة من العاملين بأجر ما زالت تناضل من أجل تطبيق قرار الحد الأدنى السابق الذي صدر في العام الماضي
والمفارقة أن قطاعات واسعة من العاملين بأجر ما زالت تناضل من أجل تطبيق قرار الحد الأدنى السابق، الذي صدر في العام الماضي وقضى برفع قيمته إلى 6 آلاف جنيه شهرياً. كما أن هناك قطاعات واسعة من العمال وعلى رأسهم العمالة غير المنتظمة، التي تقدّر بنحو 7 ملايين عامل، لم تستفد من الحد الأدنى للأجور، ولا تزال بلا عقود ولا تأمينات، ما يعني أنها تتعرض لأبشع أنواع الاستغلال، خصوصاً في ظل الارتفاع الرهيب في الأسعار.
صدر قرار تطبيق الحد الأدنى للأجور بالضوابط نفسها التي صدرت في العام الماضي. فقد سمح القرار السابق، الذي طبق في آيار/مايو الماضي، لأصحاب العمل بتقديم طلبات للحصول على استثناءات تفيد تعثرها، كما التزم بما سار عليه سابقوه باعتبار كل عناصر الأجر بما فيها من عمولات ومنح وبدلات ونصيب العاملين من الأرباح والمزايا العينية ضمن الحد الأدنى للأجر، وذلك بخلاف سريان القرار فقط على المنشآت التي تضم أكثر من 10 عاملين، ما يعني عملياً استبعاد 98.9% من المنشآت الاقتصادية.
ينتقد أمين عمال حزب الكرامة، جمال عثمان، القرار الجديد، مشيراً إلى أن هناك «حاجة لزيادات حقيقية لا للدعايات والإعلانات، أي نريد أجراً صافياً بقيمة 6 آلاف جنيه، ولن نرضى بالحصول على 7 آلاف جنيه مع حسومات تخفض الأجر إلى 5 آلاف جنيه». ويتساءل عثمان: «لماذا لم يتم أخذ رأي العمال ونقاباتهم قبل الاستقرار على 7 آلاف جنيه، وما هي الآلية التي تضمن تطبيق القرار، فيما هناك عمال يعملون بنحو 3 و4 آلاف جنيه». ويتابع: «تزيد صعوبات التطبيق عندما يتعلّق الأمر بمتابعة تنفيذ قرار وضع حد أدنى للعمل المؤقت لا يقل عن 28 جنيهاً في الساعة».
ويشير الى أن هذا القرار، يعد الأول، الذي يخاطب العمالة المؤقتة، وهي قطاع يتنامى في ظل قانون العمل، الذي يعتبر العمل المؤقت هو الأصل، وبالتالي، من الممكن أن يكون بمثابة قرار مؤسس، ويتم البناء عليه لتفعيله في المستقبل.
إلى ذلك، يطالب اتحاد المعاشات برفع الحد الأدنى للأجور إلى 7000 جنيه، على اعتبار أن أموال المعاشات التي تبلغ 2 تريليون و400 مليون جنيه هي أموال خاصة بنص الدستور وأن مساواة أصحاب المعاشات، وعددهم 11.5 مليون عامل، مع العاملين في الحد الأدنى حق أصيل لهم وليس منحة من أحد.
وبحسب تقرير صادر عن «دار الخدمات النقابية والعمالية»، حين أُقر الحد الأدنى للأجور في العام 2022 بقيمة 2,400 جنيه، تم الإعلان عن استثناء 3,090 شركة في 30 قطاعاً، وخصوصاً قطاعات الملابس الجاهزة والمنسوجات التي يتم تصديرها إلى الخارج، فضلاً عن قطاعات السياحة، وصناعة الورق، وصناعات التجزئة، وبعض المدارس الخاصة وشركات الأوراق المالية، وبعض محلات التجزئة.
وأشار التقرير إلى أن تلك الاستثناءات، التي استمرت مع كل رفع للحدّ الأدنى للأجور، أدت إلى «هشاشة علاقات العمل في ظل انحسار الدور النقابي ومحاولات القضاء عليه».
حرب طبقية في دوّامة الحدّ الأدنى للأجور
تلفت الباحثة الرئيسة لتقرير دار الخدمات النقابية «عمّال في دوامة الأزمة» الانتباه إلى أن الحكومة تتمسك بمجموعة سياسات مثل التقشف وتحرير سعر الصرف على الرغم من فشل تلك السياسات، وتدهور أوضاع الناس، واعتبارها سبباً في الأزمة لا حلاً لها.
لم يمنع فشل تلك السياسات متخذي القرار من تكرارها بحسب زيدان، ولكن الأخطر كان تكثيف تلك الإجراءات في خلال السنوات الـ12 الأخيرة، وهو ما انعكس على الأحوال المعيشية للعمال، نتيجة الزيادة المفرطة والمضطردة في الأسعار. وفي مواجهة هذه السياسات، تقول زيدان، «يجب على العمّال المطالبة بحد أدنى كافِ من الأجر أي يعوض مستوى التضخم والانهيار الاقتصادي»، وهو ما لم تتحه سياسات القمع في مواجهة أي تحرك للعمال.السياسات الاقتصادية الحالية هي امتداد لسنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك وإنما بشكل أكثر كثافة وعنفاً
إلى ذلك اعتبر الكاتب والباحث وائل جمال، أن السياسات الاقتصادية الحالية هي «امتداد لسنوات حكم الرئيس السابق حسني مبارك، وإنما بشكل أكثر كثافة وعنفاً، إذ تتسم بزيادة الضغوط على الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع، وتستمر في تعزيز التفاوت الطبقي بشكل أكبر، ممّا يعمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء». ويستند جمال إلى انخفاض نصيب العمال من الدخل القومي والناتج المحلي في الإحصاءات الرسمية، ففي حين «لم تتغيّر معدلات النمو بشكل كبير، انخفضت الأجور من الناتج المحلي بطريقة ملحوظة، وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن نصيب الأجور من الناتج المحلي كان يوازي 40% في التسعينيات، أما حالياً فلا يتجاوز 25%، وفي الدخل القومي تراجع نصيب العامل من 46% إلى 31%».
ويضيف أن «هذا التراجع في نصيب العامل يذهب لصالح أرباح الشركات التي وصلت إلى 50%، وإلى الفوائد المصرفية التي يستفيد منها أصحاب المصارف وأصحاب المدخرات الكبيرة من رجال الأعمال الأكثر ثراءً، ليصبح من يملك الثروة والملكية هو الأكثر قدرة على توليد الدخل ممن يعمل».
وفي ظل الأوضاع الاقتصادية القاسية، نبّه جمال، إلى «وجود تباين صارخ في معدلات الأجور، حيث تسيطر فئة قليلة من الناس على الحصة الأكبر منها، بينما يحصل الغالبية العظمى على فتات الأجر». وأوضح أن هذا الفارق يعمّق اللامساواة حتى بين العاملين بأجر»، مشيراً إلى أن «نصف العاملين في مصر شهدوا انخفاضاً في أجورهم من 17.5 جنيهاً في الساعة إلى 16 جنيهاً، في حين أن الأجر المناسب للساعة وفقاً للحد الأدنى المقرر والذي يعادل 6 آلاف جنيه يجب أن يكون 27 جنيهاً. وهذا يعني أن نصف العاملين في مصر يتقاضون أجوراً تقل عن نصف قيمة الحد الأدنى المقرّر.
ما يزيد الوضع سوءاً، في اعتقاد جمال، هو ما أورده تقرير «دار الخدمات» الأخير، من «تراجع مستوى الحماية الاجتماعية والدعم، ما أثر على مستوى معيشة الناس، وحتى اختياراتهم الغذائية، إذ طال الجوع نحو 8.5% أي ما يوازي 9 ملايين مواطن مصري، وهم مواطنون غير قادرون على الإنفاق على الطعام والشراب». ووفقاً لجمال «تعد قوة العمل في مصر 43% من إجمالي عدد السكان في سن العمل، وهي لا تحصل على فرص ملائمة ومتوازنة، بل تتركز في قطاعي الخدمات، والجملة والتجزئة، حيث الأجور ضعيفة، وعلاقات العمل غير متوازنة، وتفرض في أغلب الأحيان شروط عمل سيئة للغاية، لا تتيح فرص تطوير أو حتى تحسين الدخل».
إن الخلل في العلاقة بين العمال وأصحاب العمل جلي، وهو ما أعتبره جمال سياسة متعمدة تعبر عن مصالح معينة، واصفاً ما يحدث بـ«حرب طبقية» يخسرها العمال وغالبية الناس.
المطلوب تعديل تشريعي وحراك سياسي
يدلّل وزير العمل الأسبق أحمد البرعي في كلمة ألقاها في ندوة لمناقشة التقرير السنوي لـ«دار الخدمات»، على عدم تطبيق قرار الحد الأدنى السابق بإضراب عمال «وبريات سمنود» الذين حاولوا الحصول على الحد الأدنى للأجر وهو 6 آلاف جنيه، وهو أجر لا يوازي الحد المعيشي، أو الكافي، كما لا يوازي حجم التضخم الحالي، ومع ذلك فشلوا في الحصول عليه.
وأقر البرعي بأن ترك مسألة وضع الحد الأدنى للأجور للمجلس الأعلى للأجور، بحسب قانون العمل رقم 12، يعد من الأخطاء التي ارتكبها واضعو القانون، إذ كان يجب وضع قواعد له في القانون، وهو ما يجب تعديله في مشروع قانون العمل الجديد، منتقداً تحميل العمّال حصة صاحب العمل من التأمين. وأرجع البرعي التعقيدات في كثير من علاقات العمل إلى غياب المفاوضة الجماعية الحقيقية بين أصحاب العمل والعمال، موضحاً أن الطرفين أصحاب مصلحة مباشرة في المحافظة على المشروع الاقتصادي.
الخلل في العلاقة بين العمال وأصحاب العمل جلي، وهو سياسة متعمدة تعبر عن مصالح معينة، ما يحدث هو «حرب طبقية» يخسرها العمال وغالبية الناس
كما نبه البرعي إلى اختلاف المشاكل التي أصبح على النقابات مواجهتها والتي لم تعد قضية الأجر أهمها، بل امتدت إلى الأمان الوظيفي، وخلق فرص عمل جديدة، في ظل ارتفاع معدل البطالة. ومن جهة أخرى، انتقد مواجهة الإضرابات العمالية بالقمع، والسجن، مشيراً إلى أن سوء الوضع، وتأخره، عن فترات سابقة كان مسموح فيه للعمّال بالإضراب والاحتجاج والمطالبة بحقوقهم.
إلى ذلك، يرى نائب رئيس اتحاد تضامن للنقابات المستقلة ورئيس نقابة نادي قناة السويس، كرم عبد الحليم، أن قرار رفع الحد الأدنى للأجور إلى 7 آلاف جنيه هو «قرار شكلي»، مضيفاً أن «الحل ليس مربوطاً بإصدار قرارات فحسب، بل في تقوية النقابات لكي يكون هناك مفاوضة جماعية حقيقية تلزم أصحاب العمل بتطبيق الزيادات بشكل عادل، وإلا سنبقى في الدوامة نفسها».
ويلفت عبد الحليم الانتباه الى أن الحركة العمالية تدفع، أيضاً، ثمن تخاذل القوى السياسية. ويوضح، «كان يجب على القوى السياسية أن ترهن مشاركتها في الحوار الوطني في العام الماضي، على رفع العراقيل الإدارية التي تفرضها وزارة العمل على النقابات المستقلة، لكي تشلّها وتقضي عليها، وهو ما يتم على سبيل المثال، مع نقابة أندية هيئة قناة السويس التي أترأسها».
ويشدد عبد الحليم على أنه يجب في حالة عودة الحوار الوطني، كما يتردّد مؤخراً، أن تكون مطالب الحركة العمالية، في حق التنظيم والحرية النقابية وربط الأجر بالأسعار في مقدّمة مطالب القوى السياسية، مشيراً إلى أن تماسك الجبهة الداخلية يعد أحد الشروط الأساسية للاصطفاف الوطني، الذي يدعو النظام له.
الليبرالية المتوحشة ورفع مستوى المواجهة
عبر تصريحات مسؤوليها، تصرّ الحكومة على أنها ترفع قيمة مخصصات الحماية الاجتماعية في الموازنة السنوية. إلا أن منظمات حقوقية مهتمة بالشأن الاقتصادي تصف هذه التصريحات بأنها بروباندا سياسية، ويشير تقرير «للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية»، بعنوان «موازنة فائدة الديون.. التقشف لنا والأرباح للدائنين»، إلى أنه على الرغم من ارتفاع قيمة الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية في المشروع الجديد لموازنة 2024-2025 بنسبة 20% على أساس سنوي، إلا أن القيمة الحقيقة للدعم انخفضت بنسبة 11% بسبب تأثيرات التضخم.
وفي كل الأحوال، إن تحسين أوضاع العمّال ومدّ مظلة الحماية الاجتماعية لهم أمر ضروري ومهم، ولكن لا بد للمعركة أن تتحرك صوب مواجهة سياسات النيوليبرالية. تخلق سياسات طبقات شعبية يمكن وصفها بـ«ذوي الأوضاع غير المستقرة»، وتتألف من الأجراء ذوي الأوضاع الضعيفة نظراً لقدرتهم التفاوضية المحدودة، أو من غير الأجراء، والعاطلين عن العمل، أو العاملين في القطاع غير الرسمي الفقير. ولا توجد صفة تعبر عن الاتجاه العام طويل المدى لهذه السياسات، أكثر من تعبير «الإفقار»، الذي سبق أن استخدمها الاقتصادي سمير أمين.