Preview اقتصاد الحرب في روسيا

وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو في جولة على مصنع ذخيرة.
المصدر: وزارة الدفاع الروسية.

اقتصاد الحرب في روسيا

عقد البنك المركزي الروسي الأسبوع الماضي اجتماعاً استثنائياً لمناقشة مستوى سعر الفائدة الرئيسي بعد هبوط الروبل الروسي إلى أضعف نقطة له منذ نحو 17 شهراً. وتقرّر في الاجتماع رفع سعر الفائدة على الاقتراض إلى 12% (ارتفاعاً من 8.5%) من أجل دعم الروبل.

كانت العملة تفقد قيمتها بشكلٍ مُطرد منذ بداية العام وانخفضت الآن لتتجاوز 100 روبل للدولار. وهذا انخفاض بنسبة 26%. ويعود السبب الرئيسي إلى تراجع عائدات تصدير النفط وارتفاع تكلفة الإنفاق العسكري لمواصلة الحرب ضدّ أوكرانيا.

اقتصاد الحرب في روسيا

عندما بدأ الغزو الروسي في شباط/فبراير 2022، انخفضت قيمة الروبل الروسي إلى مستوى قياسي بلغ 150 روبل للدولار الواحد، وسحب الأثرياء الروس نحو 170 مليار دولار من أموالهم، وحوّلوا معظمها إمّا لشراء ممتلكات أو إلى مصارف في أوروبا.

اقتصاد الحرب في روسيا

بعد أسابيع من غزو روسيا لأوكرانيا، توقّع مسؤول أميركي أن تؤدّي العقوبات إلى خفض الناتج المحلّي الإجمالي الروسي إلى النصف. ولكن تبيّن لاحقاً أنه كلام بلا أي معنى. فقد انخفض الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 2.5% لا أكثر، لأن البنك المركزي فرض ضوابط على رأس المال حدَّت من خروج أموال الأثرياء الروس من البلاد. ومع ارتفاع أسعار الطاقة على مدى العام التالي، ازدادت قوّة الروبل ووصل إلى أعلى مستوياته منذ سبع سنوات. ارتفعت عائدات التصدير، في حين أدّت العقوبات وتراجع الطلب المحلّي إلى انخفاض الواردات، بحيث ارتفع الميزان التجاري والحساب الجاري لروسيا بشكلٍ حاد، وهو ما عزَّز قيمة الروبل. يعود ثلثا الفائض التجاري في روسيا إلى ارتفاع عائدات التصدير والثلث الآخر إلى انخفاض الواردات.

اقتصاد الحرب في روسيا

ويبدو أن العقوبات المفروضة على المصارف والشركات الروسية وحظر استخدام الطاقة الروسية أخفقت في تركيع الاقتصاد الروسي. تمكّنت روسيا من إعادة توجيه صادراتها من الطاقة نحو آسيا (ولو بسعرٍ أقل) ووجدت سفن «ظِلّ» لشحنها.

ولكن أسعار الطاقة تراجعت مرّة أخرى في الأشهر الستة الماضية، وشكّل سقف الأسعار الذي فرضه حلفاء الناتو على النفط الروسي سبباً في خفض عائدات التصدير، في حين ارتفعت تكاليف الحرب. ومن المخطّط أن تصل ميزانية الدفاع لعام 2023 إلى 100 مليار دولار، وهذا ما يشكّل ثلث إجمالي الإنفاق العام.

اقتصاد الحرب في روسيا

ارتفع الناتج القومي الروسي بنسبة 4.9% في الربع الثاني من العام 2023 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2022. قد يبدو الأمر جيداً، إلا أن الجزء الأكبر من هذا الارتفاع أتى مدفوعاً بإنتاج المعدّات والخدمات العسكرية. فقد ارتفع إنتاج «السلع المعدنية الجاهزة»، أي الأسلحة والذخائر، بنسبة 30% في النصف الأول من العام مقارنة بالنصف الأخير. كما ارتفع إنتاج أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الإلكترونية والبصرية بنسبة 30%، في حين قفز إنتاج الملابس الخاصة بنسبة 76%. في المقابل، انخفض إنتاج السيارات بنسبة تتجاوز 10% على أساس سنوي. لقد تحوّلت روسيا الآن إلى اقتصاد حربٍ، وتمكّنت من استيراد العديد من السلع التي حظرها الغرب ـ من أجهزة الآيفون إلى السيّارات إلى رقائق الكمبيوتر ـ عبر بلدان ثالثة، وهي طريقة ملتوية تؤدّي إلى زيادة الأسعار.

ارتفع الناتج القومي الروسي بنسبة 4.9% في الربع الثاني من العام 2023 مقارنة بالفترة نفسها من العام 2022. لكن الجزء الأكبر من هذا الارتفاع أتى مدفوعاً بإنتاج المعدّات والخدمات العسكريةمباشرة بعد بدء الغزو، انخفضت الأجور الحقيقية للمواطن الروسي العادي بشكل حادّ مع تراجع الاقتصاد المحلي. لكن جاءت عائدات الطاقة، وأدّى انخفاض الطلب المحّلي إلى إبقاء تضخّم الأسعار منخفضاً. وارتفعت الأجور مع تزايد توظيف العمّال الروس في إنتاج الأسلحة أو في الجيش. وفي أيار/مايو 2023، ارتفعت الأجور الحقيقية بنسبة 13.3% على أساس سنوي. ولا شك أن هذا التحسّن يدعم نظام بوتين.

في الأشهر الأخيرة تراجعت طفرة عائدات الطاقة. ومن المتوقّع أن تنخفض عائدات تصدير الطاقة من 340 مليار دولار في العام 2022 إلى 200 مليار دولار هذا العام والعام التالي. وانكمش فائض الحساب الجاري الروسي إلى 25.2 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من العام، أي بانخفاض بنسبة 85% مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.

اقتصاد الحرب في روسيا

في بداية الحرب، كان لدى روسيا مخزون كبير من الأصول المالية «لوقت الحاجة». وها هو الوقت قد حان الآن. كان لدى صندوق الثروة الوطنية الروسي مدّخرات وأصول تساوي 10.2% من الناتج المحلي الإجمالي في بداية الغزو. ولكنها تقلَّصت الآن إلى 7.2% مع خسارة الروبل لقيمته وإرتفاع نفقات الحرب.

يعاني الإنتاج والاقتصاد المدني المحلي. وتحظر العقوبات واردات التكنولوجيا وغيرها من أجزاء التصنيع الرئيسة. وتعتمد نحو 65% من المؤسّسات الصناعية في روسيا على المعدّات المستوردة.

تحوّلت روسيا الآن إلى اقتصاد حربٍ، وتمكّنت من استيراد العديد من السلع التي حظرها الغرب عبر بلدان ثالثة، وهي طريقة ملتوية تؤدّي إلى زيادة الأسعارولكن تأثيرات العقوبات تظهر ببطء. قد تؤدّي إلى إضعاف الإنتاجية الروسية والإنتاج المحلّي على الأمد البعيد، ولكنها لن تُوقف آلة الحرب الروسية الآن، ولن تمنع عائدات الطاقة من تمويلها. لن يحدث ذلك إلّا إذا رفضت آسيا السريعة النمو، بقيادة الصين والهند، شراء النفط والغاز الروسيين، ولكن ما يحدث هو العكس، فهما تشتريان المزيد بأسعار رخيصة.

سوف تستمرّ آلة الحرب الروسية، ولكن تسارع هجرة العمّال المهرة ورأس المال الذي يمتلكه الأثرياء الروس، من شأنه أن يضعف العملة ويقلّص العمالة الماهرة المتاحة في الإنتاج.

اقتصاد الحرب في روسيا

انخفض التضخّم في العام الماضي بسبب انهيار الطلب المحلّي والسلع المستوردة. ولكن إذا استمرّ تراجع العملة، فسوف يبدأ التضخّم في الارتفاع، مما سيزيد الضغوط على البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة من أجل دعم العملة ومحاولة لجم التضخّم. إن ارتفاع قيمة الروبل وأسعار الفائدة يعني انخفاض عائدات العملات الأجنبية وضعف الاقتصاد المحلّي. وهذا ما سيلحق الضرر بالأُسر الروسية بشدّة.

وكما هي الحال الآن، فإن متوسّط النمو المحتمل لن يزيد ربما عن 1.5% سنوياً، لأن النمو في روسيا مقيّد بشيخوخة السكان وتراجع عددهم، مع انخفاض معدّلات الاستثمار والإنتاجية. كانت ربحية رأس المال المنتج الروسي منخفضة للغاية حتى قبل الحرب.

النمو في روسيا مقيّد بشيخوخة السكان وتراجع عددهم، مع انخفاض معدّلات الاستثمار والإنتاجيةويشير الاقتصاد إلى أن بوتين قادر على مواصلة حربه ضدّ أوكرانيا لسنوات عدّة مقبلة، حتى مع انهيار العملة وارتفاع معدّلات التضخّم وأسعار الفائدة. وبالطبع، لا يأخذ ذلك التطوّرات السياسية في الاعتبار، مثل تمرّد فاغنر أو المكاسب التي حقّقها الجيش الأوكراني بدعم من حلف شمال الأطلسي. قد يهدّد ذلك حكم بوتين. سوف تعقد انتخابات رئاسية في روسيا في آذار/مارس المقبل، وكذلك في أوكرانيا. ويتعيّن على كلّ من بوتين وزيلينسكي أن يواجها الناخبين، نظرياً، على الأقل.

ولكن الرسالة الأساسية هي أن ضعف الاستثمار والإنتاجية وربحية رأس المال الروسي، حتّى مع استبعاد العقوبات، يعني أن روسيا سوف تظل ضعيفة من الناحية الاقتصادية لبقيةِ هذا العقد.


نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من الكاتب.