Preview إعلام «الأوليغارشية» المسعور

نظرية «كلاب الحراسة»:
إعلام «الأوليغارشية» المسعور

إن نعت وسائل الإعلام بأنها «كلاب» لا يحمل المعنى نفسه للشتيمة التي قد يوجِّهها أحدٌ ما للحطِّ من قدر الآخر بإنزاله من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الحيوان. الأمر ببساطة، أن بعض نظريات «وسائل الإعلام» تقارن بينها وبين أنواع الكلاب تبعاً لطباعها ووظائفها والحاجة إليها: كلاب حراسة، كلاب صيد، كلاب رعي، كلاب مرافقة، كلاب الحضن المُدلّلة… إلخ. 

تنطلق نظريات «الكلاب الإعلامية»، كما نظريات «السلطة الرابعة» وغيرها، من أن «الإعلام» له دور رقابي، إلّا أن «وسائل الإعلام (والإعلاميين) تدعم (غالباً) المؤسّسات السياسية المُهيمنة والمجموعات الاقتصادية الكبرى وقيمها ومصالحها ومآربها»، وهي مُخلصة لأصحابها، على غرار الكلاب المُدجّنة، مطيعة، وتؤدّي الوظائف التي جرى تدريبها عليها أو اقتنائها من أجلها. ولذلك، تتنوّع وظائفها على غرار تنوّع الكلاب من الكلاب البوليسية الشرسة الى الكلاب الصغيرة المسلّية التي ترتمي في حضن من يطعمها أو يأويها أو يدلِّلها، فضلاً عن الكلاب الشاردة المنبوذة والمعروضة للتبنّي والتدجين… إلخ.

تقدِّم قناة «الجديد» في قضية «وسيم منصور» مثالاً عن نموذج «الإعلام المسعور». وهذا المثال لا يقتصر على هذه القناة التلفزيونية وإنّما يطبع «الإعلام اللبناني»، ويحدِّد أي أنواع من «الكلاب» تفضّله «الأوليغارشية» اللبنانية وتحتاج إليه

تضمّ الساحة الإعلامية اللبنانية شتّى أنواع «الكلاب»، بما فيها الكلاب الإعلامية المسعورة، أي المُصَابة بِدَاءِ السُّعارِ أو داء الكَلَب، وهو مرض فيروسي يصيب الجهاز العصبي المركزي، وينتقل أحياناً عبر العضّ أو الخدش، وتظهر عوارضه الشديدة على شكل اضطرابات حركية شديدة وهياج، وحتى خوف غير مُبرّر. فوسائل الإعلام اللبنانية الرئيسة، أو الشائعة، ولا سيّما التلفزيونات والصحف، تجسِّد هذا النموذج بصورة فاقعة، مهما كانت زاوية النظر إلى الأدوار التي تؤدّيها هذه الوسائل الفاعلة.

تقدِّم قناة «الجديد» في قضية «وسيم منصور» مثالاً عن نموذج «الإعلام المسعور». وهذا المثال لا يقتصر على هذه القناة التلفزيونية الرئيسة وإنّما يطبع «الإعلام اللبناني» بطابعه، ويحدِّد أي أنواع من «الكلاب» تفضّله «الأوليغارشية» اللبنانية وتحتاج إليه في مواجهة الأزمة المتعدِّدة الرؤوس التي تسبّبت بها. وهذا المثال الذي نتناوله هنا لا ينحصر في هذه «القضية» بالذات، ويمكن تطبيقه على قضايا كثيرة ومن وجهات نظر مختلفة: ففي الوقت الذي تزعم وسائل الإعلام الرئيسة فيه أنها مستقلّة أو موضوعية أو مهنية أو غير تابعة لحزب أو شركة… وأنها تفضح الفساد وتدعم الصلاح… وأنها تدافع عن الحق والعدل… أو أنها واقعية… تقوم بنشر «الفيروس»، حيث يوجد دائماً جريمة من دون مجرمين، انهيارات من دون أسباب، وحيث المسؤولية تقع على الذين يخرجون من «النظام» وعليه، والانتقادات توجّه إلى الخصوم فقط… جميع وسائل الإعلام الرئيسة في لبنان معارضة بشكل أو بآخر، لا يوجد تلفزيون واحد أو صحيفة واحدة تقدّم نفسها أنها «موالية» أو ناطقة بلسان «السلطة»، ولكنها بعيدة من كونها «كلاب حراسة» المجتمع أو الحقيقة أو المصالح العليا، فكلّ منها يمثّل مجموعة من المصالح الخاصّة التي تسيطر على السلطة السياسية والاقتصادية (يمكن إمعان النظر بالخطاب الإعلامي الشائع عن الانهيار المصرفي كمثال إضافي أو عن الحرب في قطاع غزّة وجنوب لبنان أو السعار الطائفي الذي تبثّه عند كلّ حادث أو منعطف)، ولكننا هنا نستخدم مثالاً أكثر بساطة وأقل تعقيداً، سوف نسمِّيه «قضية وسيم منصور» في قناة «الجديد».

«قضية وسيم منصور»

خصَّصت قناة «الجديد» الجزء الأكبر من مقدِّمة نشرة أخبار ليلة 13 آذار/مارس الماضي للتهجّم على المدير العام السابق لشركة «تاتش» وسيم منصور. لم يُفهَم من المقدِّمة السبب وراء هذا الهجوم أو ما الذي اقترفه منصور بالفعل كي يجري التشهير به وتأليب المشاهدين عليه. هكذا، رمى مُحرِّرو المقدِّمة بعدد من «الطلاسم» الإنشائية، التي لا معنى مُحدّداً لها سوى الإيحاء أن «المدعو وسيم منصور»، الذي لا يعرفه معظم المتلقِّين، وربّما سمعوا به للمرّة الأولى، هو شخص لعين، ارتكب خطأ، وتسبّب بضرر، ولا يجب الإنصات لما يزعمه… ولم تجد مقدِّمة الأخبار أي حاجة إلى تقديم أي سرد واضح أو وقائع أو أدلّة، سوى أنه «متّهم» بملكية «سهم واحد» في شركة «تاتش»، والتهمة أنه لم يشتريه وإنّما جرى تملّكه «مجّاناً» لأغراض ضمِّه إلى مجلس الإدارة ويجب أن يعيده إلى «الدولة». وتستند هذه الطريقة في «التشهير»، الرائجة على الساحة الإعلامية اللبنانية، إلى حالة عدم الثقة والشكوك الواسعة بالفساد واليأس من المساءلة.

اسم وسيم منصور ليس معروفاً كثيراً، ولم يرد في أي من ملفات الفساد كمتورِّط أو مشتبه فيه. بل بالعكس، برز هذا الاسم إعلامياً في مسألتين، وكلتيهما مُتعلّقتين بكشف الفساد والدفاع عن المصلحة العامّة والمال العام؛ الأولى عندما دُفِع إلى الاستقالة من منصب مدير عام شركة «تاتش» في العام 2015 بسبب تصدّيه لمحاولات «جهاز أمني» وضع يده على داتا المشتركين وأمن المعلومات في الشركة، حرصاً على تطبيق القوانين المرعية الإجراء وحماية خصوصية المشتركين. والثانية هي الدعوى القضائية التي تقدّم بها في تشرين الأول/أكتوبر 2020، في فضيحة إيجار مبنى «تاتش» وشرائه في صيف العام 2019، والتي كلّفت الخزينة العامّة ما لا يقل عن 110 ملايين دولار، ذهبت إلى عددٍ قليل من المنتفعين قبل أشهر من الانهيار الكبير في خريف 2019.

اسم وسيم منصور ليس معروفاً كثيراً، ولم يرد في أي من ملفات الفساد كمتورِّط أو مشتبه فيه. بل بالعكس، برز هذا الاسم إعلامياً في مسألتين، وكلتاهما مُتعلّقتين بكشف الفساد والدفاع عن المصلحة العامّة والمال العام؛

لم يمضِ وسيم منصور في الإدارة العامّة لشركة «تاتش» سوى سنة وشهرين تقريباً بين عامي 2014 و2015، وبالتالي لا علاقة للهجوم الذي تشنّه قناة «الجديد» عليه بأي عمل اقترفه في «الوظيفة». ويُنظر إليه، قبل هذه «الوظيفة» وبعدها، كخبير ومستشار في مجال الاتصالات، أو هكذا عرّفته قناة «الجديد» نفسها، عندما استضافته بهذه الصفة في مقابلتين على الأقل أجراهما الزميل أدم شمس الدين في 20 أيار/مايو و3 تموز/يوليو 2022. لذلك، كان لا بدّ للهجوم أن يكون ساذجاً ويفتقد إلى الذكاء والابتكار وخالياً من أي مهارة أو حبكة: هكذا، جرى تحويل قضية استخدام وسيم منصور لملكية سهم في شركة «تاتش» إلى قضية «تحرير السهم» و«استعادة الحقّ العام»، مُعتبرة أن لا فضل لهذا السهم في تحريك القضاء للنظر في قضية فساد صفقة مبنى «تاتش»، بل الفضل يعود إلى «المعركة التي خاضتها (قناة) الجديد عبر الزميلة ليال بو موسى»، وبالتالي لا يوجد سبب يشفع باحتفاظ وسيم منصور بسهمه في الشركة، وعليه أن يرمي هذا «السلاح» فوراً، ويترك الأمر لمعارك «التلفزيون» ولـ«وزارة الاتصالات» التي لم يجد وزيرها الحالي، جوني القرم، «أي أساس من الصحّة والقانونية» للشكوى من الفساد في قضية «مبنى تاتش» التي رفعها وسيم منصور إلى القضاء، والتي لم يكن سيقبل النظر فيها لولا توافر شرطيْ «الصفة والمصلحة» بالمعنى الضيِّق الذين وفرهما امتلاك وسيم منصور «السهم الواحد».

كاريكاتور «الإعلام المسعور»

قد يكون مفيداً لتوضيح معالم هذه الصورة الكاريكاتورية اللجوء إلى سرد قصّة «الإعلام المسعور» الذي يعضّ من أجل أصحابه. ففي «قضية وسيم منصور» ما يكفي من الإغراء لخوض ذلك وتفكيك التفاصيل الرمزية وإعادة وصلها بالسياق العام الحاضر. 

أولاً، نشأ تلفزيون «الجديد» مثل جميع التلفزيونات في لبنان كجزء من «نظام الحرب الأهلية»، في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، على يد الحزب الشيوعي اللبناني، وكان الهدف منه استكمال منظومة الإعلام لهذا الحزب اليساري الذي شارك في الحرب، وساهم في إطلاق المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، وتحالف مع النظام السوري، وطمح إلى تأدية دور رئيس إلى جانب قوى الحرب الأخرى. مثّل إنشاء هذا التلفزيون ذروة هذا الطموح إلى جانب إذاعة «صوت الشعب» واسعة الانتشار حينها، وجريدة «النداء» اليومية ومجلّة «الطريق»، وغير ذلك من مؤسّسات إعلامية وثقافية ودور نشر ومطابع. لكن هذا الطموح لم يكن مسنوداً إلى ظروف موضوعية أو قوى ذاتية قادرة على تحقيقه، بل تزامن إنشاء تلفزيون الجديد، وكان اسمه NTV، مع ضمور متواصل للحزب الشيوعي وصدمة انهيار الاتحاد السوفياتي، ليضطر في مطلع التسعينيات، بعد فترة قصيرة من إنشاء تلفزيونه، إلى بيعه لرجل الأعمال، تحسين خيّاط.

وتحسين خيّاط، مثله مثل أي رجل أعمال، لديه طموح سياسي ومصالح خاصّة يدافع عنها، وتلفزيون «الجديد» هو قبل أي أمر آخر جزء من مقتنياته الثمينة ووسيلة من وسائل نسج علاقاته وأداة من أدوات نفوذه. لا شكّ أن العديد من الذين عملوا في التلفزيون تمتّعوا بالكفاءة والنزاهة، وبعضهم تمتّع بالشجاعة والجرأة والصدق، ويمكن تعداد أسماء كثيرة في حياة تلفزيون «الجديد» كانت لهم مساهمات مهمّة في كشف الفساد والدفاع عن الحقوق والحرِّيات. ولكن، للأسف، وكما هو حال معظم وسائل الإعلام اللبنانية، تحوّلت هذه «المساهمات المضيئة» إلى أغطية يغطِّي فيها التلفزيون عوراته، ويمكن الملاحظة بوضوح التباين في ميادين التغطية الإخبارية وأساليبها عندما يتعلّق الأمر بمصالح تهمّ المالك، الذي يمتلك مجموعة اقتصادية تتنوّع نشاطاتها واستثماراتها في مجالات الطباعة والنشر والأدوية والطاقة والبناء والمقاولات وغيرها… وقد كشفت «وثائق باندورا» عن لائحة طويلة من الشركات التي تملكها عائلة تحسين خيّاط في جزر العذراء البريطانية. ولا يمكن لأي تحليل «موضوعي» أن يتجاهل كلّياً هذا «التضارب» بين أن يكون مالك «الإعلام» هو نفسه أحد أكبر اللاعبين في ميادين التجارة والمقاولات والطاقة، بما في ذلك الصفقات العمومية.

ثانياً، لم تشنّ قناة «الجديد» هجومها على وسيم منصور كقضية قائمة بذاتها، تهمّ المصلحة العامّة، وتستحق «التشهير» و«الفضح»، بل شنّتها على خلفية دفاعها عن صفقة «تعدِّها وزارة الاتصالات، على غرار شركات عملاقة، لتقديم خدمات الـ OTT»، وفق تعبير مقدِّمة النشرة الإخبارية المذكورة، زاعمة أن هذه الصفقة «سوف تحفظ حقّ الدولة بإيرادات تخسرها الخزينة لمصلحة أصحاب الكابلات من بيعهم محتوى من دون تسجيل حقوق ملكيّته». ولكن هناك عائق وحيد مُفترض أمام هذا المشروع، الذي تحاول وزارة الاتصالات إدخاله، بتأخير لا يقلّ عن 15 عاماً بالمقارنة مع الدول الأخرى، وهو أن هناك وسيم منصور يُحتمل أن يكون متدخلاً لعرقلتها، عبر «نشر معلومات ... ووضعها أمام نوّابٍ من قوى التغيير» للاعتراض عليها وعرقلة تمريرها. لذلك، تتوعّد قناة «الجديد» بالتصدّي لذلك عبر خلق قضية ضدّ «وسيم منصور» في مقابل قضية وسيم منصور ضدّ الصفقة الجديدة. 

تحسين خيّاط، مثله مثل أي رجل أعمال، لديه طموح سياسي ومصالح خاصّة يدافع عنها، وتلفزيون «الجديد» هو قبل أي أمر آخر جزء من مقتنياته الثمينة ووسيلة من وسائل نسج علاقاته وأداة من أدوات نفوذه

يبدو واضحاً حتى الآن أن الهدف من الصفقة الجديدة هو منح شركة خاصة واحدة امتياز الاستفادة من قاعدة مستخدمي الشبكة الأرضية العامة كوسيلة لتحقيق الأرباح. فما عُرِف عن هذه الشركة هو أنها شركة وهمية تأسّست لهذا الغرض تحديداً، ويملكها شخص واحد، ولا توظّف عاملاً واحداً حتّى. إلا أن قناة «الجديد»، التي تزعم الحرص على المصلحة العامّة، ارتأت استباق أي محاولة، ولو مُفترضة، قد تعرقل الصفقة العتيدة، وقرّرت استهداف وسيم منصور بوصفه المحرّض، انطلاقاً من معرفتها بأدواره العديدة في ملاحقة ملفات كثيرة في مجال الاتصالات تدور حولها الشبهات.

امتنعت قناة «الجديد» عن نشر الردّ الذي أرسله وسيم منصور على مقدِّمة نشرتها، وحاولت حرمانه من ممارسة حقِّه القانوني، ولم ترضخ إلا بعد شهر و5 أيام، وبناءً على قرار مُلزم صادر عن قضاء العجلة الذي لجأ إليه منصور لتحصيل حقِّه. وفي حين تجاهلت «الجديد» كلّ المزاعم التي كالتها لمنصور عن تقاضيه تعويضات من «تاتش» والتي كذّبها في ردِّه، أعادت تكرار سرديّة وزارة الاتصالات فيما يتعلّق بعدم شرعية ملكيّته للسهم بعد انتهاء ولايته في مجلس إدارة «تاتش»، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال مع ظاهر الأمور ومع قرارات قضائية صدرت عن مجلس شورى الدولة والقضاء المُستعجل وهيئة القضايا في وزارة العدل والهيئة الاتهامية في بيروت والنيابة العامّة المالية، وجميعها أخذت بصفة منصور كمالك للسهم في الشركة ومصلحة الخزينة العامّة في ملاحقة شبهات الفساد في صفقة شراء مبنى «تاتش».

ما هي صفقة الـ OTT؟ 

تعود المسألة إلى أيار/مايو 2023، عندما تقدّم وزير الاتصالات جوني القرم بطلب من هيئة التشريع والاستشارات للحصول على رأيها في التعاون والتشارك مع شركات من القطاع الخاص من أجل نقل المحتوى المرئي والمسموع وتقديمه عبر الإنترنت عبر تقنية الـIPTV من خلال شبكة أوجيرو على أن يتم تقاسم الإيرادات وأن تحصل الوزارة على 25% منها فقط. 

وبانتظار صدور رأي هيئة التشريع والاستشارات، ألحق القرم الطلب برسالة موجّهة من أوجيرو تتضمّن أسماء الشركات التي تطلب هذه الخدمة، بالإضافة إلى نموذج مذكّرة تفاهم عن المشروع التجريبي للخدمة. وعليه أصدرت هيئة التشريع والاستشارات رأيها في 20 تموز/يوليو 2023، بعدم جواز توقيع وزير الاتصالات لأي عقد مع شركات من القطاع الخاص لتقديم المحتوى المرئي والمسموع عبر تقنية IPTV، كون استخدامها يتطلّب الولوج إلى شبكة الاتصالات وهو حقّ حصري لوزارة الاتصالات، وبالتالي يُعدّ منح هذا الامتياز لشركات من القطاع الخاص بقرار من الوزير أو مجلس الوزراء مخالفاً للدستور والقوانين المرعية، ويشكّل تعدّياً على الملك العام. 

مع ذلك، لم يستسلم القرم، وبدلاً من التراجع عن منح هذا الامتياز إلى شركة خاصّة والعمل على تقديم خدمات نقل المحتوى المرئي والمسموع عبر الإنترنت عبر تقنية الـIPTV كمشروع تطويري يمكن أن تنفّذه وزارة الاتصالات، لجأ إلى الالتفاف، واستبدل المشروع بتقنية أخرى هي OTT، وعرض على مجلس الوزراء، في جلسة الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، طلباً جديداً قدّمته أوجيرو لـ«توفير خدمة نقل المحتوى، ولا سيما المحتوى التلفزيوني، إلى مشتركيها بالشراكة مع مرخّصي ومقدّمي هذا المحتوى عبر تقنية الـ OTT - Over the Top». وجاء في محضر الجلسة أن مجلس الوزراء أخذ علماً به، وهو ما اعتبره وزير الاتصالات موافقة ضمنية للمضي في الإجراءات العملية لتلزيم المشروع لشركة مُحدّدة بذريعة أنها الوحيدة التي تمتلك حقوقاً تمثيلية حصرية من بعض القنوات اللبنانية، ومنها قناة «الجديد».

تحاول الصفقة الجديدة أن تقيم احتكاراً لشركة خاصّة، من خلال الاستحواذ على قاعدة مشتركين كبيرة لدى «أوجيرو» يمكن الوصول إليها بسهولة، والاستفادة من البنية التحتية لوزارة الاتصالات... لنتخيّل الأرباح التي سوف تجنيها شركة واحدة خاصّة

يمكن تعريف الـ OTT بأنه إحدى الوسائل أو التقنيات المبنية على التطبيقات، إلى جانب الـIPTV، التي تتيح مشاهدة قنوات التلفزيون أو الفيديوهات عبر الإنترنت كبديل عن خدمات البث عبر الكابل والأقمار الاصطناعية. وهو منحى منتشر منذ سنين في العديد من الدول، ومن ميزاته أنه يمنح المستخدم الحرّية الكاملة لاستهلاك (مشاهدة) ما يريد على عكس التلفزيون التقليدي حيث يتحكّم المزوِّد في البرمجة. ويكمن الفارق الجوهري بين OTT وIPTV، بأن الأولى لا تحتاج إلى بنية تحتية خاصّة لإيصال منتجها، بل مجرّد اتصال المستهلك بشبكة الإنترنت المُتاحة، عدا أنها تسمح للشركات (مثل نتفلكس ويوتيوب كنموذجين معروفين) بإنشاء تطبيقاتها الخاصّة وبثّ المحتوى المنتج من خلالها عبر شبكة الإنترنت المفتوحة من دون الحاجة إلى أي ترخيص. أمّا تقنية الـIPTV فإنها تعتمد على نظام أكثر عزلة لا يتأثّر بجودة الإنترنت وسرعته، ولذلك تحتاج حكماً للمرور بشبكة الاتصالات المملوكة من الدولة عبر وزارة الاتصالات، لإيصال المحتوى إلى المشتركين مباشرة، علماً أن الـ IPTV هو النظام المعتمد من مالكي ومشغِّلي شبكات الإنترنت في العالم.

في محاولته الثانية للتعاون والتشارك مع الشركات لتقديم محتوى الفيديو من خلال شبكة «أوجيرو»، استند القرم في طلبه إلى رأي آخر قدّمته هيئة التشريع والاستشارات في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولم تمانع من خلاله تقديم «أوجيرو» لخدمة مفتوحة أصلاً عبر الإنترنت، إلا أنها ربطت شراكتها مع القطاع الخاص بالخضوع لقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وقانون المنافسة، وأن تندرج ضمن المهام الموكلة لـ «أوجيرو» بموجب عقدها مع وزارة الاتصالات. 

يقول الرأي التقني والعلمي في الموضوع إن تقنية OTT تمكّن أي شركة أن تقدّم المحتوى المرئي والمسموع عبر شبكة الإنترنت المفتوحة من دون حاجة لأي ترخيص، كما حال التطبيقات الكثيرة الموجودة والتي يمكن الاشتراك فيها مباشرة. لذلك تحاول الصفقة الجديدة أن تقيم احتكاراً لشركة خاصّة، من خلال الاستحواذ على قاعدة مشتركين كبيرة لدى «أوجيرو» يمكن الوصول إليها بسهولة، والاستفادة من البنية التحتية لوزارة الاتصالات، وكذلك من نظام الفوترة الخاص بأوجيرو لضمّ فواتير خدمة البث إليها، فضلاً عن توفير المحتوى بسرعة عالية من دون اضطرار المشتركين إلى شراء رزم أعلى… لنتخيّل الأرباح التي سوف تجنيها شركة واحدة خاصّة من خلال استغلال مرافق عامّة وبرامج وشبكة موزِّعين وصناديق من دون أن تضطر للقيام بالكثير للسيطرة والتحكّم.

«قضية رياض سلامة»: مثال آخر

هل تهجّم قناة «الجديد» على وسيم منصور هو لحماية صفقة «مشبوهة» من أي نقد أو اعتراض؟ 

هذا النهج تستخدمه وسائل الإعلام الرئيسة بطرق مختلفة لتأدية دور الحصن المنيع في الدفاع عن الأوليغارشية ومصالحها في قضايا عديدة، وقد شهدنا فصولاً عدّة من هذا النهج. وفي سياق الإشارة إلى قناة «الجديد» كمثال لوظيفة «الإعلام المسعور» التي تطغى على الساحة الإعلامية، يمكن استذكار الهجمات المُتكرّرة التي شنّتها ضدّ الجهات القضائية المحلّية والدولية في التحقيقات في ملف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، بدءاً من القاضيتين غادة عون وهيلانة إسكندر وصولاً إلى منظّمة يورو جوست الأوروبية والقضاء الأوروبي. ولكن يبقى المحامي العام التمييزي بالتكليف جان طنّوس من أبرز من تحاملت عليه قناة «الجديد» بسبب الملف الذي سعى إلى تكوينه في قضية تورّط الحاكم السابق لمصرف لبنان وشقيقه رجا سلامة في قضايا اختلاس وتبييض أموال عبر شركة فوري، وهو ما أكّده التدقيق الجنائي الذي أعدّته شركة «ألفاريز أند مارسال» لصالح الدولة اللبنانية، وبيّنته التحقيقات القضائية المحلّية والخارجية. 

قناة «الجديد» كمثال لوظيفة «الإعلام المسعور» التي تطغى على الساحة الإعلامية، يمكن استذكار الهجمات المُتكرّرة التي شنّتها ضدّ الجهات القضائية المحلّية والدولية في التحقيقات في ملف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة

خصّصت «الجديد» مقدّمات نشرات أخبار وتقارير عدّة للتشكيك بالتحقيقات التي يقوم بها طنّوس وتسطيحها، عدا عن استضافة إعلاميين وخبراء معروفة ارتباطاتهم بالحاكم السابق للغاية نفسها. سعت «الجديد» طوال السنوات الأربع التي تلت الانهيار إلى نشر تقارير مختلفة تشكّك بالاتهامات الموجّهة إلى سلامة. فيما يتعلّق بتورّطه بالتحويلات إلى سويسرا، واعتبرت أن الملفات المُساقة ضدّة فارغة من أي مضمون. أمّا بالنسبة للتحقيقات الفرنسية التي قامت بها القاضية أود بوروزي عن مصدر ثروة سلامة والشبهات التي تحوم حوله بشأن غسيل أموال قام بها في فرنسا وإصدارها مذكّرة توقيف بحقّه، فهي بخلاصات «الجديد» مُفبركة في بيروت من قبل التيّار الوطني الحرّ، الذي جنّد القضاء الفرنسي لصالحه ضدّ سلامة

تطول لائحة المحتوى الذي بثّته «الجديد» للدفاع عن رياض سلامة. ومن الحالات الأكثر إثارة هي حرص القناة على نفي توقيفه في مطار «لوبورجيه» في فرنسا، وهو يدخل إلى الأراضي الفرنسية حاملاً 90 ألف يورو نقداً، على الرغم من عدم نفي سلامة ذلك حتّى، ومع أن جريدة «الأخبار» نشرت الوثائق التي تثبت توقيفه.

لا يُعدّ الدفاع عن سلامة المثال الوحيد عن دور الإعلام في حراسة الأوليغارشية. ففي السنوات التي تلت الانهيار المصرفي، كان لقناة «الجديد» دور بارز في الترويج لسرديّات المصارف. بالتزامن مع توقيع الاتفاقية على مستوى الموظّفين مع صندوق النقد الدولي في نيسان/أبريل 2022، وقّعت جمعية مصارف لبنان عقود رعاية مع المحطّات اللبنانية كافة، بما فيها قناة الجديد المشتبه بتلقّيها نحو 260 ألف دولار من أجل الترويج لسرديّتها بحسب معلومات عرضها الزميل حسن عليّق في برنامجه عبر قناة «المحطّة» على يوتيوب. في حينها، أودعت جمعية المصارف لدى المحطّات التلفزيونية لائحة فيتو بأسماء شخصيات اقتصادية مؤثّرة في الرأي العام لعدم استضافتها، أو بالحدّ الأدنى لاستضافة شخصيّات أخرى حُدِّدت أسماؤها ومعروفة بولائها للمصارف من أجل الترويج لسرديّاتها. وبالفعل، في تلك الفترة، غابت عن الشاشات كافة العديد من الأسماء البارزة في نقد السياسات المصرفية والنقدية والمناهضة لحلّ المصارف الذي يدعو إلى بيع أصول الدولة من أجل التعويض للمودعين، واستعيض عن تلك الشخصيات بآخرين يردِّدون ما تزعمه جمعية المصارف.

كلاب حراسة الأوليغارشية

يمكن مواصلة إنعاش الذاكرة وتذكّر المزيد من المحطّات، ولكن ليس هذا هو الهدف الآن. ويمكن استبدال «قضية وسيم منصور» بأي قضية آخرى، ولن يتغيّر الاستنتاج بشأن وظائف الإعلام المسيطر في لبنان. ويمكن تغيير اسم «الجديد» بـ «MTV» أو «LBCI» أو «NBN» أو «OTV» أو «المنار» أو أي اسم آخر في مجالات الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وسنجد أن النخب الأوليغارشية هي المسيطرة، حيث يجري تفريغ «الفساد» من معناه، وترويج «السرديّات» بدلاً من الوقائع، والاعتداء على من يحاولون التعبير عن رغبتهم بالإصلاح أو التغيير.

إن صفة «كلاب الحراسة» تعني أن وسائل الإعلام الرئيسة «حارسة» للمصالح الخاصّة، على الرغم من أنه لا يزال هناك بعض الإعلاميات والإعلاميين ممن يحاولون استغلال «المساحات» الرمادية لتقديم تحقيقات استقصائية وكشف معلومات ومعارضة «الوضع القائم» من دون الخشية من التهديدات أو الطمع بالإغراءات. إلا أن النظر إلى وسائل الإعلام من منظور نظرية «كلاب الحراسة» له معنى واضح: حماية الوضع الراهن، ومقاومة التغيير، وصناعة القلق، والتصدّي لكلّ عمل قد يضرّ المصالح المهيمنة.