معاينة من سيدفع الضرائب في لبنان

من سيدفع الضرائب في لبنان هذا العام؟

تتوقّع الحكومة اللبنانية في موازنتها لعام 2025 أن تجبي إيرادات عامّة بقيمة نحو 410 تريليونات و129 مليار ليرة، أو ما يعادل 4.5 مليارات دولار على سعر الصرف الحالي البالغ 89 ألف و500 ليرة للدولار. فمن أين ستأتي هذه الإيرادات؟ ومن سيدفعها؟

يُعتبر النظام الضريبي في لبنان غير عادل اجتماعياً وغير كفوء اقتصادياً، يعفي الأثرياء ويُثقل كاهل الفقراء، ويركّز معظم العبء على المستهلكين، من دون أي تمييز على أساس طبقي أو حسب مستوى الدخل والثروة. وقد ساهم النظام الضريبي على مدى العقود الماضية بمكافأة الريع العقاري والأرباح المالية والتجارية ومعاقبة الإنتاج والعمل، وساهم أيضاً بزيادة العجز المالي والمديونية وسياسات التقشّف ما أدّى إلى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة.

إقدام حكومة الرئيس نوّاف سلام على نشر أول موازنة عامّة في عهد رئيس الجمهورية جوزف عون بمرسوم، من دون إدخال أي تعديلات على المشروع الذي أرسلته حكومة الرئيس السابق نجيب ميقاتي إلى مجلس النواب، أثار شكوكاً عميقة بوجود التزام بـ«الإصلاح»، وفي مقدمته إصلاح النظام الضريبي، الذي يؤدّي دوراً رئيساً، ليس على صعيد تمويل الدولة فحسب، بل على صعيد إعادة توزيع الثروة والدخل وتمويل الاستثمار العام وشبكات الحماية الاجتماعية، التي يحتاجها سكان لبنان بإلحاح للتخفيف من تداعيات الحرب والتضخّم والانهيار النقدي والمصرفي المستمر منذ العام 2019.

الخلل الأول الذي يحتاج إلى اصلاح هو ضآلة قيمة الإيرادات، مما يمكن تصنيفه كضرائب مباشرة على الدخل والثروة، أي الضرائب التي تجبيها الدولة من أجور المقيمين والمقيمات في لبنان وأرباحهم وريوعهم وملكياتهم والإرث المنتقل إليهم. فمن أصل كل 100 دولار ستجبيها الدولة من السكان في هذا العام، لن تجبي سوى 13.7 دولار من الدخل والثروة. في حين أنها ستجبي 83.8 دولار من المستهلكين، أي الأسر، من دون أي تمييز بينهم بحسب دخلهم وثروتهم، سيدفع الغني مثل الفقير، وصاحب العمل مثل العامل والعاطل عن العمل. وستجبي 2.5 دولار فقط من كلّ 100 دولار من أملاك الدولة والمؤسّسات العامّة وسلطة الترخيص والتنظيم.

لإظهار هذا الخلل، يعمد هذا التقرير إلى إعادة ترتيب مصادر الايرادات، وفق ما هو وارد في الموازنة العامة، وتوزيعها على 5 مصادر رئيسة، وتحديد الفئات الاجتماعية المستهدفة بها.

من سيدفع الضرائب

1- أصحاب رأس المال والمشاريع والمهن الحرة

لن يسدِّد هؤلاء إلا 8.4 دولارات من كلّ 100 دولار ستجبيها الدولة، وهي تمثّل مجمل الضرائب المفروضة على الأرباح والفوائد ورؤوس الأموال المنقولة (توزيع الأرباح على المساهمين). هذه الحصّة الهزيلة جداً لأهم مصدر ضريبي تعني قبل أي أمر آخر أن هناك مساحة واسعة لزيادة الإيرادات عبر هذا النوع من الضرائب، ولكن هناك حاجة لإصلاح هذه الضرائب لتصبح تصاعدية، وتصيب الأرباح والثروات الفاحشة بمعدلات عالية.

في الواقع القائم، تفرض الدولة معدّلاً مقطوعاً متدنياً (17%) للضريبة التي تقتطعها من أرباح شركات الأموال، ولا سيما الشركات المساهمة اللبنانية (ش.م.ل.) والشركات المحدودة المسؤولية (ش.م.م.) التي تنتمي إليها الشركات المصرفية والمالية وأكثر الشركات التجارية والصناعية والعقارية الكبيرة، أي الشركات التي تجني أعلى الأرباح وبعضها يمارس الاحتكار أو يحظى بالامتيازات. علماً أن المتوسط العالمي للضريبة على أرباح الشركات بلغ 23.5% في العام 2024.

وهناك ضريبة تصاعدية تترواح بين 4 و25% تفرضها الدولة على أرباح المهن الصناعية والتجارية وغير التجارية، أي أرباح الشركات الصغيرة والأفراد الذين يعملون لحسابهم في مجالات التجارة والصناعة والمهن الحرّة والعقود والاستشارات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

وتوجد ضريبة بمعدل مقطوع (7%) على ربح الفوائد. لا شك أن انهيار الجهاز المصرفي وانكشاف إفلاسه أضعف كثيراً هذا المصدر الضريبي، ولا سيما أن معدّلات الفوائد في المصارف حالياً باتت دفترية وقريبة من الصفر، إلا أن التجربة قبل الانهيار المصرفي في العام 2019، أظهرت الدور السلبي الذي أدّاه المعدّل المنخفض لهذه الضريبة في توجيه الرساميل إلى الاستثمار في الودائع والديون وجني أرباح طائلة، معظمها من المال العام، وتسديد ضريبة على هذه الأرباح أدنى بكثير من الضريبة التي تسدّدها الشركات على أنواعها وأنواع نشاطها. علماً أن معدّلات الضريبة على ربح الفوائد تتجاوز 50% في الكثير من دول الاتحاد الأوروبي.

وتوجد أيضاً ضريبة مقطوعة غير تصاعدية بنسبة 10% على أرباح المساهمين في الشركات عند توزيعها عليهم.

2- الملّاك وورثتهم

لا توجد ضرائب فعلية على الثروة والملكية في لبنان، بل بالعكس يقوم النظام الضريبي في لبنان على مبدأ إعفاء الملكية الخاصة من أي تكليف ضريبي. لذلك، لن تجبي الدولة من الملّاك وورثتهم سوى 2.3 دولار من كل 100 دولار من إيرادات الموازنة لعام 2025.

لا يتضمّن هذا الحساب رسوم التسجيل العقاري، كونها ليست ضرائب متكرّرة على الملكية وإنّما رسوم غير مباشرة تقع بالدرجة الأولى على الأسر التي لم تترك لها سياسات الدولة أي خيارات سوى تملّك مساكنها. كذلك، يتهرّب المضاربون وتجّار العقارات والملّاك الكبار من تسديد رسوم التسجيل عند شراء وبيع عقاراتهم، وذلك عبر إنشاء شركات وهمية مخصّصة فقط لتملّك العقار، وهكذا تنتقل ملكية العقار من شخص إلى آخر عبر شراء وبيع أسهم هذه الشركات، فتظهر العملية كما لو أنها عملية بيع وشراء شركة وليس عقار. فضلاً عن أن هذه الرسوم تقع على عاتق المشتري، أي المستهلك، لا عاتق البائع، أي التاجر. وتجعل هذه الأسباب رسوم التسجيل العقاري أقرب إلى الرسوم على الاستهلاك (مسكن العائلة) منه إلى الضرائب على الملكية أو الثروة.

إن استبعاد رسوم تسجيل المساكن والعقارات في الضرائب على الأملاك، يجعلها هزيلة جدّاً، ولا سيما أن 1.6 دولار من الضرائب على الأملاك البالغة 2.3 دولار ستأتي من رسم الانتقال، أي الرسم التصاعدي الذي يُفرض على جميع الحقوق والأموال التي تؤول إلى الغير عن طريق الإرث أو الوصية أو الهبة أو الوقف. في حين لا تساهم الضرائب المتكرّرة على الأملاك المبنية سوى بنحو 64 سنتاً من كلّ 100 دولار ستجبيها الدولة، وهي ضريبة يفرضها القانون اللبناني على مجموع الإيرادات السنوية الصافية للأبنية، مهما كان نوع هذه الأبنية أو مادة بنائها وأياً كان محل وجودها.

لا يمكن بأي شكل من الأشكال تصنيف هذه الضرائب على أنها ضرائب فعلية على الاستحواذ على الثروة وانتزاع الملكيات وأشكال المضاربة المختلفة وعمليات انتقال الثروة والملكيات من يد إلى يد. وإذا جمعنا مجمل ما ستجبيه الدولة هذا العام من الأملاك مع مجمل الضرائب التي ستجبيها من الأرباح والفوائد ورؤوس الأموال المنقولة، فهذا يعني أن الأثرياء والملّاك والرأسماليين والشركات والتجّار لن يسدّدوا سوى 10.7 دولار من أصل كلّ 100 دولار ستجبيها الدولة، على الرغم من أن التقديرات التي سبقت الانهيار في العام 2019 كانت تشير إلى أن 10% من السكان الأعلى دخلاً يستحوذون على 55% من الدخل الوطني، و1% منهم فقط يستحوذون على 25% من الدخل. وكذلك فئة الـ10% الأكثر ثراءً تستحوذ على 70% من مجمل الثروة الوطنيّة، فيما تستحوذ فئة الـ1% الأكثر ثراءً على 40% من هذه الثروة. وهذه الدرجة المرتفعة من تركّز الدخل والثروة لا شك أنها ارتفعت أكثر في ظل الانهيار المستمر منذ أكثر من 5 سنوات، والإفقار الذي تعرّضت له أكثرية الأسر المقيمة في لبنان. وبالتالي، لا معنى لأي إصلاح ما لم يكن أحد أهدافه السعي إلى إعادة توزيع الدخل والثروة بأشكال أكثر عدالة ونقل ما أمكن من موارد نحو تطوير الإنتاج والابتكار وتوفير الخدمات والبنى التحتية الضرورية.

3- العمّال والموظّفين والمتقاعدين

يخضع العمّال والموظّفين المصرّح عنهم من قبل أصحاب عملهم لدى الدوائر الضريبة لمعدّلات ضريبة تصاعدية على أجورهم بين 2% و25%، ما يجعل وزن هذه الضريبة أعلى على الأجور من وزن ضريبة الدخل على الأرباح. لقد تعرّضت الأجور الحقيقية لعملية تآكل سريعة وعميقة منذ انهيار سعر صرف الليرة في العام 2019، ولا سيما أجور العاملين في القطاع العام الذي يشكّلون نسبة مرتفعة مما يسمّى «العمالة النظامية» التي تسدّد الضرائب على الدخل. لذلك، لن تكون الدولة قادرة سوى على جباية 3 دولارات من كلّ 100 دولار من الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد وإجازات العمل.

يتعمّد هذا التقرير دمج الضريبة على الأجور مع الاقتطاعات من المعاشات التقاعدية ورسوم إجازات العمل السنوية التي يتكبّدها العمال الأجانب لرسم صورة أوضح عن العبء الضريبي الملقى على دخل العمل، وبما يعكس التردّي الحاصل في الاقتصاد، حيث الأجور منخفضة جداً ولا تولّد إيرادات ضريبية، وأكثر من 60% من العمّال في لبنان يضطرون للعمل «اللانظامي»، أي العمل الأكثر استغلالاً الذي لا يخضع إلى أي نوع من الحماية القانونية والاجتماعية ولا يتم التصريح عنه.

4- المستهلكون

تعدّ الأجور ومعاشات التقاعد مصدر الدخل الرئيس لاكثرية الأسر المقيمة في لبنان، وتشكّل هذه الأسر أكثرية المستهلكين، وبالتالي يقع عليها العبء الضريبي الأكثر ثقلاً وقسوة. ففي مقابل هزالة الضرائب على الدخل وانعدامها على الثروة، تعمد الحكومة إلى تضخيم إيراداتها من ضرائب ورسوم الاستهلاك والمعاملات الإدارية الملزمة، وهي ضرائب غير مباشرة تصيب جميع السكان بشكل متساو، بمعزل عمّا إذا كان دخله اليومي أكثر من 1,000 دولار أو كان أقل من 2.5 دولار وفق تصنيفات البنك الدولي للفقراء أو كان لا دخل لديه أصلاً.

من كلّ 100 دولار، ستجبي الدولة 83.8 دولاراً من الضرائب والرسوم التي تفرضها على السلع والخدمات والتجارة والاتصالات وإيرادات المرفأ والمطار ورسوم تسجيل العقارات (المساكن) والطابع المالي وإيرادات إدارية وغرامات السير. يعمد هذا التقرير إلى جمع هذه الضرائب والرسوم لأنها تقع على المستهلكين حسب استهلاكهم ومعاملاتهم مباشرة أو تدخل في احتساب أسعار السلع والخدمات ويتحمّلها المستهلك النهائي.

هذه الحصّة المرتفعة للضرائب والرسوم الملقاة على كاهل السكان ومستوى معيشتهم من دون أي مقابل على صعيد الخدمات العامة والحماية الاجتماعية والأمن تأتي بالدرجة الأولى من الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية، وهما  أكبر مصدر للإيرادات، وتشكّلان أساس النظام الضريبي اللبناني الذي يستهدف الاستهلاك بدلاً من الدخل، والذي يشكّل عبئاً كبيراً على الأسر الفقيرة، كون غالبية دخلها يذهب إلى استهلاك السلع والخدمات، بل يستدين الكثير منها ليستهلك، في مقابل العائلات الغنية التي تدّخر جزءاً كبيراً من دخلها للاستثمار في الأسواق المالية والمشاريع والاستحواذ على الملكيات.

ستجبي الدولة 59 دولار من كلّ 100 دولار من الضريبة على القيمة المضافة والرسوم على الاستيراد وحدهما. وستموّل المرافىء التجارية 1.9 دولار عبر إيرادات مرفأ بيروت ورئاسة الموانىء، ما يرفع حصّة ما تجبيه الدولة من التجارة ويتحمّله المستهلك النهائي إلى 60.9 دولار. بالإضافة الى ذلك، ستأتي  9 دولارات من الضرائب على المستهلكين من إيرادات الاتصالات، وهي بمعظمها ضرائب وأشباه الضرائب على فواتير الهاتف الخلوي والاتصالات الثابتة والانترنت. وستأتي 4.9 دولارات من رسوم التسجيل العقاري غير المتكررة التي تسدّدها الأسر عند شراء مساكنها. وكذلك، ستأتي 4.3 دولار من رسوم المطار ورسوم مغادرة المسافرين، وهم بمعظمهم لبنانيين عاملين في الخارج يزورون أهلهم في لبنان أو يزورهم أهلهم في الخارج.  وستأتي 2.9 دولار من رسوم الطابع المالي، وهي رسوم تفرض على الصكوك والكتابات الموقّعة والعقود التي تنشأ حقاً للآخرين، وهي من أكثر الرسوم إجحافاً بالفقراء على الرغم من ثمنها «الرمزي»، حيث تساوي بين من يتقاضى الحد الأدنى للأجور وأصحاب المليارات عند إجراء معاملة رسمية أو إبرام عقد لدى كاتب العدل، مع العلم أن أكثر الطوابع المالية تستخدم في عقود البيع بين التجّار التي تمرّر أيضاً إلى المستهلك النهائي عبر الأسعار، ما يجعلها أقرب إلى «ضرائب استهلاك». وستأتي 1.9 دولار من رسوم إدارية على معاملات إلزامية مثل رسوم جوازات السفر والأوراق الثبوتية ورسوم السير وغيرها.

5- أصول الدولة وسلطتها

لا تساهم إيرادات المؤسسات العامة وأملاك الدولة والرخص والاشتراكات والمبيعات والتسويات والغرامات المتفرقة التي تفرضها الدولة كصاحبة سلطة إلا بنحو 2.5 دولار من كلّ 100 دولار ستجبيها في هذا العام. ليس مطلوباً أن تزيد إيرادات الدولة من مؤسّساتها العامّة بل أن توفّر هذه المؤسسات الخدمات الضرورية بأعلى جودة وبأقل الأسعار من أجل دعم الاقتصاد والأسر. إلا أن الدولة يمكنها أن تستخدم سلطتها لرفع إيراداتها من الرخص والإجازات والامتيازات وامتلاك المزيد من الأصول وتخصيصها للمنفعة العامّة.