Preview رمز للسحابة الرقمية في سيليكون فالي

رمز للسحابة الرقمية في سيليكون فالي

سياسة الذكاء الاصطناعي

  • سوف تهتزّ مجتمعاتنا مع إدخال الذكاء الاصطناعي في القرن الواحد والعشرين. لذلك، لا بدّ من البحث في طبيعة هذه التكنولوجيا الوليدة وتبعاتها المرتقبة لوضع مصلحة المجتمع في مقدّمة عمليّة تطويرها.
  • ما هي برامج الذكاء الاصطناعي التي نريد أن نوظّف كل هذه الموارد لبنائها؟ هل هي برامج تغنينا عن كبسة زرّ تشغيل أغنيتنا المفضّلة أو تتنبأ متى سنحتاج إلى شراء مناديل ورقيّة؟ أم هي برامج تُغنينا عن القيام بأعمال شاقة وتكراريّة وخطرة، وتحسّن جودة خدمات الرعاية الصحيّة والتعليم والوصول إليها؟

دخل أخيراً الذكاء الاصطناعي الحيِّز العام مع صدور النموذج اللغوي ChatGPT، على الرغم من المسار الطويل الذي سبق إطلاقه، حيث غاب، ولا يزال غائباً، النقاش السياسي حول شروط تطوير هذه تكنولوجيا وتبعاتها، التي سوف تستهل «ثورة» اقتصاديّة جديدة. فمثلما اهتزّت مجتمعات واقتصادات أوروبا في القرن الثامن عشر مع قدوم المكننة وكلّ ما فرضته من تغيّرات على نمط الإنتاج وطبيعة العمل والحياة الفرديّة والأنظمة السياسية، هكذا سوف تهتزّ مجتمعاتنا مع إدخال الذكاء الاصطناعي في القرن الواحد والعشرين. لذلك، لا بدّ من البحث في طبيعة هذه التكنولوجيا الوليدة وتبعاتها المرتقبة لوضع مصلحة المجتمع في مقدّمة عمليّة تطويرها.

الذكاء الاصطناعي ليس ذكيّاً ولا حتّى اصطناعياً

يبدأ النقاش القطبي حول الذكاء الاصطناعي في تعريفه. فالبعض يضفي عليه صفة الكيان الخارق الذي يمتلك معرفة وقدرات تتعدّى المقياس البشري، بينما البعض الآخر يراه كنذير نهاية البشرية وبداية عصر الآلة. لا شك أن الإنتاج الثقافي والترفيهي في القرن الماضي ساهم في تعظيم هذين التصوّرين المتضاربين. لكن لا بد من النظر في المصطلحات الأكاديمية مثل «نموذج الصندوق الأسود» أو «نموذج الشبكة العصبيّة» أو «التعلّم الآلي غير الخاضع للإشراف»، التي ساهمت في تعظيم القطبية عبر تصوير المجال المهني كعلم مُعقّد يصعب حتّى على المحترفين فهمه. هكذا تم تحييد الحيّز العام من البحث الجدّي في مسائل الذكاء الاصطناعي عبر توظيف مزيج من الترهيب والوعود المفرطة والمفردات الإقصائيّة.

تم تحييد الحيّز العام من البحث الجدّي في مسائل الذكاء الاصطناعي عبر توظيف مزيج من الترهيب والوعود المفرطة والمفردات الإقصائيّةفما هو الذكاء الاصطناعي فعلًا؟ ببساطة، إنه نموذج إحصائي يجمع ويفرّق ويبحث عن علاقات بين كميّات كبيرة من البيانات وفق شروط وأهداف يحدّدها المُبرمج. نظريّة الذكاء الاصطناعي ليست بجديدة، بل تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث تم تصوّر هذه التكنولوجيا للمرّة الأولى في ورشة عمل في دارتموث. ولكن بقي البحث في الذكاء الاصطناعي شبه نظري إلى أن توفّر مكوّنه الأساسي في قرننا هذا، وهو البيانات الكبيرة الذي أنتجها الانترنت.

لا يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى كمّ كبير من المعلومات فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى برمجة معقّدة ودقيقة لكل ما نعتبره بديهي. فالخوارزمية لا تعرف من تلقاء نفسها أن الجاذبيّة موجودة مثلاً، ومن هذا المنطلق ليس مسلّماً لها أن الأشياء تقع تلقائياً على الأرض بدل أن تصعد إلى السماء. والبرهان على ذلك ما سُمي «هلوسات» ChatGPT وهو الشعار التسويقي للأخطاء غير المنطقية التي يرتكبها البرنامج.

نستنتج بذلك أن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك صفة الذكاء التي نضفيها على البشر، كما أنه ليس أبداً اصطناعياً بما أنه يتطلّب كمّاً هائلاً من البيانات التي ينتجها البشر، وكمّاً هائلاً من ساعات العمل لبرمجة التعامل مع كل البيانات بشكلٍ مفيد للمستخدم البشري.

وصفة بناء ذكاء اصطناعي

يظن غالبيّة المستخدمين أن الذكاء الاصطناعي يكمن في «سَحابة الانترنت» أو في وحدة التحكّم (حاسوب، تابلت، هاتف…) التي من خلالها يُدخل المستخدم المعلومات أو التعليمات اللازمة للوصول إلى النتيجة المطلوبة. في الواقع، برنامج الذكاء الاصطناعي هو قمّة جبل جليدي من الموارد المعدنيّة والبنى التحتيّة والطاقة ورأس المال والعمل والموروثات التاريخيّة وموازين القوى والخيارات السياسيّة.

تبدأ رحلة بناء الذكاء الاصطناعي في مناجم المعادن النادرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. أحصت اليونيسيف ومنظّمة العفو الدولية أن 40% من المئة ألف عامل حِرفي في مناجم الكوبالت هم من القاصرين، تصل أعمارهم إلى 7 سنوات، ويعملون لمدة تصل إلى 12 ساعة يومياً مقابل أجر لا يتجاوز دولارين يومياً.

برنامج الذكاء الاصطناعي هو قمّة جبل جليدي من الموارد المعدنيّة والبنى التحتيّة والطاقة ورأس المال والعمل والموروثات التاريخيّة وموازين القوى والخيارات السياسيّةقد يبدو استخراج المعادن أشبه بعمليّة تحويل التربة إلى ثروة، لكنّه ينطوي على عمليات استخراج فيزيائية وكيميائية ملوّثة للغاية. هذه العمليات تنتج طنّاً من المواد المشعّة و75 ألف ليتر من المياه الحمضيّة لكل طنّ من المعادن النادرة. مع العلم أن كثافة هذه المعادن لا تتجاوز 0.2% من التربة التي يتم استخراجها منها.

بعد تهجير المقيمين على الأراضي الغنيّة بالمعادن النادرة وإتمام عمليّة الاستخراج وطمر المواد الملوّثة، تبدأ رحلة هذه المعادن حول العالم عبر البُنى التحتيّة الضخمة التي تربط المناجم بمصانع الأجهزة التكنولوجية. أجرت شركة «إنتل» المُصنّعة للأدوات التكنولوجية تدقيقاً في سلسلة توريد المعادن الخاصة بها في العام 2009. استغرق التدقيق سنتين لإتمامه وتبيّن أن الشركة تستورد المعادن من 16 ألف مصدر موزّعين على 100 دولة.

اتخذ عمالقة قطاع التكنولوجيا المعروفين بالغافام (غوغل، أمازون، فيسبوك، أبل، مايكروسوفت) منطقة سيليكون فالي مقرّاً لهم. تَجري هناك عمليّة استخراجيّة عالميّة أُخرى لبيانات الملايين من المستخدمين. هنا أيضاً يروّج لمنطق تحويل التربة إلى ثروة، بحيث تَعتبر الغافام أن هذه البيانات مواداً خاماً لا قيمة لها، تستخرجها وتحوّلها إلى بيانات مفيدة لتدريب برامجها عليها. تمحي هذه السرديّة ساعات «العمل» التي يقضيها المستخدمون على آلاتهم لإنتاج هذه البيانات ذات القيمة الفعلية، كونها تُجمَع في قواعد بيانات وتُباع وتُشترى في الأسواق، بُغية التّهرب من الضوابط والرقابة وضرورة تعويض المستخدمين مقابل استخراج بياناتهم. كما أن هذا الحصاد الممنهج للبيانات هو استيلاء على مشاع لم نلحظه من قبل: كل صورة ونصّ ومكان عام أو خاص، كل حركة بشريّة كالمصافحة أو الابتسامة يتم مصادرتها وإدراجها في قاعدة بيانات. 

لكي تصبح هذه البيانات «الخام» مُفيدة وقابلة للاستخدام في مسار بناء الذكاء الاصطناعي، يجب تشفيرها. كما ذُكِر سابقاً، لا يتمتّع الذكاء الاصطناعي بأي فطنة. على سبيل المثال، إذا أردنا تدريبه على التعرّف إلى صورة كلب علينا إدخال الملايين من الصّور التي تم تصنيفها مسبقاً من قبل أشخاص على أنها صُور كلاب. قد يبدو هذا المسار سليماً وبديهياً، وإن كان شاقًا، لكن هنا يكمن صلب المسألة السياسية المُبطّنة في صناعة الذكاء الاصطناعي. عمليّة التصنيف هي عمل سياسي بحت، ينبع من قناعاتٍ شخصيّة وموروثات ثقافية وتاريخيّة وعوامل بيئيّة وطبقيّة وسيكولوجية. أهم من ذلك، التصنيف هو عملٌ سُلطوي. تتّضح مسامات هذه السلطة في أشهر قاعدة البيانات الصوريّة «إيمج نت» (ImageNet). انطلق المشروع كعمل بحثي في جامعة برينستون. جُمعت الملايين من الصّور وتم تحميلها على موقع وطُلب من أي مستخدم على الإنترنت أن يصنّف هذه الصّور. انشهر المشروع وشارك آلاف الناس في عمليّة التصنيف واتضح لاحقاً أن هذه التصنيفات، وعلى وجه الأخص تصنيفات صور البشر، كانت مليئة بالتحيّزات والعنصرية وكره النساء ورهاب المثليّة. اتضح بعد التدقيق أن حوالي 56% من تصنيفات صور البشر كانت إشكالية، ومن بين هذه التصنيفات: عاهرة، مدمن، مفصوم، متوحّش، إرهابي، مقيت، عبد… وغيرها من الافتراءات. لا تنحصر الإشكالية في التصنيفات المهينة إنما أيضاً بالتصنيفات مثل «لاعب كرة سلّة» أو «عاملة منزل» أو «رجل أعمال» التي بدورها أيضاً تحاكي تحيّزات مبطّنة. تبتعد عمليّة بناء قواعد البيانات الحالية كل البعد عن العدالة، من جمع البيانات وغياب تنوّعها وتمثيلها، إلى عمليّة تصنيفها التي هي جوهريّاً تُسطّح مفاهيم عميقة في فئات كلاميّة. 

بعد بناء قواعد البيانات، تجمعها الغافام، وتوظّف مجتمعةً مئات الآلاف من المهندسين والمهندسات للعمل على ترميز خوارزميات برامج الذكاء الاصطناعي، الذي يتم تشغيله في حواسيب ذات قدرة معالجة كبيرة مبنية من كم هائل من المعدّات التكنولوجية. يتطلّب هذا المستوى الضخم من الإنتاج رأس مالٍ كبيرٍ أيضاً، لذلك يبقى إنتاج الذكاء الاصطناعي مُحتكراً حُكماً من قبل هذه الشركات، التي قُدّرت قيمتها السوقية مجتمعةً في العام 2022 بنحو 7 تريليون دولار.

الحصاد الممنهج للبيانات هو استيلاء على مشاع لم نلحظه من قبل: كل صورة ونصّ ومكان عام أو خاص، كل حركة بشريّة كالمصافحة أو الابتسامة يتم مصادرتها وإدراجها في قاعدة بياناتبعد إتمام صياغة الخوارزميات، يبدأ تمرين البرامج على قواعد البيانات لتحسين نتائجها. هذا التمرين ينظّم على شكل دورات، في كلّ دورة يتم إدخال الملايين من البيانات ثم يُدقق في النتائج ويُعدّل البرنامج تبعاً لها للوصول إلى نتائج تتضمن حدّاً أدنى من الأخطاء. تُعاد هذه الدورات مئات المرات لإنتاج ذكاء اصطناعي قابل للاستخدام. تتطلّب كل دورة كمّاً هائلاً من الطاقة، ويُقدّر أن كل دورة تدريب برنامج ChatGPT أنتجت 85 ألف طن من ثاني أوكسيد الكربون، أي ما يوازي قيادة سيارة أوروبية قياسيّة من الأرض إلى القمر والعودة إلى الأرض.

أخيراً، جَهز الذكاء الاصطناعي وحان وقت إطلاقه، لكن وصفة البناء لم تنته بعد ومن المرجّح ألّا تنتهي أبداً، فذكاء البرنامج يسعى إلى الكمال من دون الوصول إليه. هنا يبدأ مسار اختبار الخوارزمية بالاستناد إلى طلبات المستخدمين. تُجمع البيانات من جديد، وتُصنع قواعد جديدة ودورات جديدة، وهكذا دواليك. يتحوّل بذلك المُستهلك إلى عامل يدفع البرنامج إلى أقصى حدوده لاختباره وإلى سلعة بيانات تُعلّب وتباع في آنٍ معاً. أمّا العمّال الأُجراء، أي جيش المهندسين المُستترين وراء أليكسا وسيري وكورتانا فهم يعملون أضعافاً أكثر لتصحيح كل خطأ في اللحظة ذاتها لإعطاء المُستخدم وهم الذكاء الذي لا يزال أقل من بدائي اليوم، هذا ما أسمته مخرجة الأفلام الوثائقية إسترا تايلور بالأتمتة الزائفة (fauxtomation). 

لن تُبث الثورة على التلفاز

كما تم العرض سابقاً، يرتكز مسار بناء الذكاء الاصطناعي على الإبعاد. إبعاد المجتمعات التي تملك الموارد المعدنية، والعمّال في المناجم والنقل وصناعة المعدّات التكنولوجية، وجيوش المهندسين ومصنّفي البيانات، والمستخدم هو  ذاته عامل عند عملاق الذكاء الاصطناعي الذي يمتدّ حول العالم.

يستعرض التناقض بين العرض المحدود والطلب الهائل على الموارد الطبيعيّة والطاقة والبيانات ورأس المال والعمل سؤالاً: ما هي برامج الذكاء الاصطناعي التي نريد أن نوظّف كل هذه الموارد لبنائها؟ هل هي برامج تغنينا عن كبسة زرّ لتشغيل أغنيتنا المفضلة أو تتنبأ متى سنحتاج إلى شراء مناديل ورقيّة؟ أم هي برامج تُغنينا عن القيام بأعمال شاقة وتكراريّة وخطرة وتحسّن الجودة والوصول إلى خدمات الرعاية الصحيّة والتعليم؟

إنه أداة ضخمة وجبّارة قادرة على تطوير حياة البشر والانتقال بهم إلى رفاهٍ لم نشهده من قبل. لكنها أيضاً قادرة على إعادتهم إلى زمن الإقطاع إذا بقي النافذين يستحوذون عليها زوراًالأهم من ذلك، من سوف يمتلك هذه التكنولوجيا العملاقة التي لا تسخّر موارد الكوكب فحسب، إنما تستحوذ على البيانات والمعلومات وقدرات الإنتاج المستقبليّة؟ هل هم أصحاب الموارد الأساسية لبناء الحواسيب أو الشركات التي وظّفت المهندسين لبرمجة الخوارزمية أو المستخدمين الذين ينتجون البيانات لتدريبها؟ لا شك أن أصحاب النفوذ، أي مالكي الغافام، يستدركون الانقلاب الكبير الآتي في أساليب الإنتاج وينكبّون على تسجيل براءات اختراع لتثبيت ملكيّاتهم. 

عصر الذكاء الاصطناعي قادم لا محالة وستتبدّل فيه طبيعة العمل مع أتمتة قطاعات بأكملها وتَقارب الإنسان والآلة أكثر من وقت مضى. إذا يتسائل البعض «ما هي الرأسمالية دون عمّال؟» جواب النافذين هو رأسماليّة الملكية الفكريّة. لكن هل تنطبق الملكيّة الفكرية على علم الطّب، أو كيفيّة بناء سيّارة، أو على سمات وجوه البشر؟ يرجّح الاقتصادي يانيس فاروفاكيس أننا مقبلون على عصر الإقطاع التكنولوجي (Technofeudalism) حيث القلّة لا تمتلك كل أدوات الإنتاج فحسب، إنما الناس أيضاً عبر تسخيرهم كمستخدِمين-عمّال واستخراجٍ ممنهج لبياناتهم.

ليس الذكاء الاصطناعي وليد اليوم، ليس إلهاً ولا نذير نهاية البشريّة. إنه أداة ضخمة وجبّارة قادرة على تطوير حياة البشر والانتقال بهم إلى رفاهٍ لم نشهده من قبل. لكنها أيضاً قادرة على إعادتهم إلى زمن الإقطاع إذا بقي النافذين يستحوذون عليها زوراً. ثورة الذكاء الاصطناعي قادمة لا محالة لكنها لن تُبث على التلفاز ولن يكمُن الحل في اتباع أساليب مدمّري الآلات في القرن التاسع عشر. لقد تم تحييد الذكاء الاصطناعي عن النقاش العام لفترة طويلة وعلينا اليوم فرض ضوابط ورقابة على تطويره لا لتحديد طبيعة العمل الذي سيقوم به الذكاء الاصطناعي في المستقبل فحسب، إنما أيضاً لضمان خدمة المصلحة العامة ومجتمعات العالم بأسره.