Preview العقدة البلوشية

العقدة البلوشية

ليس علينا أن نستغرب من مستوى الجهل في التغطية الغربية للاشتباكات الحدودية بين إيران وباكستان، ولا من إعلان وزارة الخارجية الأميركية بأن الردّ الباكستاني كان «متناسباً» بإجراء مقارنات مقزّزة مع المذبحة الجماعية المستمرة على يد كيان آخر مموّل ومسلّح من الولايات المتّحدة وليس ببعيد. استهدفت إيران قاعدة لمجموعة «جيش العدل» الانفصالية المسلّحة في مقاطعة بلوشستان الباكستانية يوم الثلاثاء، لتشن باكستان بعد يومين هجوماً بطائرة مسيّرة على «أوكار الإرهابيين» البلوش على الجانب الإيراني من الحدود. إذا شئنا الحصول على صورة واضحة عن الضربات الأخيرة، فإن علينا التخلّص من شبكة أكاذيبهما وتلفيقاتهما.

بلوشستان منطقة جبلية تقسمها الحدود الباكستانية الإيرانية، مثلما تنقسم أراضي البشتون بين أفغانستان وباكستان. ولطالما استاء القوميون البلوش من السيطرة الوحشية للحكومتين الإيرانية والباكستانية. وتاريخياً، كان زعماء البلوش في إيران محافظين سياسياً، بينما كان كبار زعماء القبائل البلوشية في باكستان تقدّميين، وفي بعض الحالات قريبين من التيّارات الشيوعية التقليدية في شبه القارة الهندية. قبل الثورة الدينية الإيرانية في العام 1979، دار حديث عن توحيد المقاطعتين في جمهورية واحدة تتمتع بالحكم الذاتي.

سحق الجيوبوليتيك كل الرؤى الطوباوية الصادرة من بلوشستان. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي انهارت الجماعات اليسارية البلوشية في باكستان. وبسط ملالي إيران سلطتهم على جانبهم من الحدود

شاركت شخصياً في العديد من المناقشات مع زعماء القبائل البلوشية ومع الناشطين الراديكاليين آنذاك. ظهر في حينها تيّار ماركسي مستقل انضوت تحته القبائل بقيادة المثقّفين البلوش اليساريين وحلفائهم من غير البلوش من مقاطعتي البنجاب والسند. ونشرت مجلّتهم «الجبل» بعضاً من أكثر المناقشات اللافتة بشأن المسألة القومية، وحفلت بإشارات إلى نصوص لينين عن تقرير المصير القومي. وحظي المثال الإثيوبي–الإريتري بمناقشة مستمرة. وجادل مراد خان، وهو من الشخصيات البارزة، بأنّ الظروف الموضوعية للنضال الإرتري تغيّرت مع الإطاحة بنظام هيلا سيلاسي الموالي للإمبريالية في العام 1974 في أديس أبابا، وبات من الممكن تطوير الوضع الاجتماعي والاقتصادي في كلا المنطقتين نحو وحدة طبقية تتجاوز القومية الصرفة. وقد أراد معظم البلوش شكلاً من أشكال الحكم الذاتي السياسي، أو الاستقلال حال لم يتحقّق الأول.

تعرّضت باكستان لضغطٍ شديد من شاه إيران من أجل سحق تمرّد البلوش. فقد خشيت طهران احتمال تسلّل التيّارات الراديكالية عبر حدودها. ورضخ بوتو، رئيس الوزراء آنذاك، وقام الجيش الباكستاني بسحق المتمّردين. منذ العام 1977، أدارت باكستان دكتاتوريةٌ عسكرية فاسدة تدعمها الولايات المتّحدة، كما الحال الآن، فيما يتعلّق ببلوشستان في ظل الحكومة «الانتقالية» الحالية. وفي العام 1979، أعدم الجيشُ بوتو، أول زعيم باكستاني مُنتخب ديمقراطياً، ما أصاب الثقافة السياسية الوطنية في مقتل. وفي الوقت نفسه، بعثت الجمهورية الإسلامية الجديدة في إيران آمالاً شعبية، واضطرت القومية البلوشية، لسنوات عدّة، إلى الجلوس في المقعد الخلفي.

هكذا، سحق الجيوبوليتيك كل الرؤى الطوباوية الصادرة من بلوشستان. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي انهارت الجماعات اليسارية البلوشية في باكستان. وبسط ملالي إيران سلطتهم على جانبهم من الحدود. كان القمع في بلوشستان الباكستانية وحشياً ومتواصلاً. ومع إعدام بوتو انفتح الباب على الاضطرابات في جميع أنحاء البلاد، وسرعان ما هربت قبيلة المري البلوشية بأكملها، وهي قبيلة يقودها سردار خير بكش المري صاحب ميول شبه ماوية، عابرةً الحدود نحو أفغانستان حيث أقامت معسكراً وحصلت على المأوى والطعام والأسلحة من حكومة الحزب الديمقراطي الشعبي الموالية للسوفيات. وظهرت تقارير تفيد بأنّ المري ومساعديه سافروا جواً إلى هافانا عبر موسكو للحصول على المشورة من فيدل كاسترو، على الرغم من عدم تأكيد أي من الجانبين لهذا الأمر. انتهت هذه المرحلة بظهور حكومة مدنية في باكستان، لكن ظلت مقاليد حكم الإقليم بيد الجيش الباكستاني فعلياً.

من الواضح أنّ المخابرات العسكرية الباكستانية كانت لديها أوامر بمنع أي ظهور للمعارضة البلوشية في باكستان. فاستفزاز إيران في هذا الوقت لن يتسبّب إلّا بمزيد من الصداع لواشنطن. وفي الوقت نفسه، من شأنه زيادة انقسام العالم الإسلامي

كان قمع الشعب البلوشي مروعاً على مدى العقود الماضية. لم تدم الانفراجة المؤقّتة في ظل بعض الحكومات المدنية طويلاً، ومؤخراً اكتسبت الحملة القمعية زخماً. قبل بضعة أسابيع طُلب مني التوقيع على نداء آخر للتضامن البلوشي، بعدما فرّقت الشرطة تجمّعاً سلمياً وصغيراً نسبياً للمعارضين البلوش ومؤيّديهم من البشتون والبنجاب في إسلام أباد، واعتقلت قادته واعتدت بالضرب على بعضهم. كان ردّ فعلي الأول «لماذا الآن؟» إذ لم تكن هذه الوحشية التعسّفية منطقية في حينها. أمّا الآن فقد باتت مفهومة. فمن الواضح أنّ المخابرات العسكرية الباكستانية كانت لديها أوامر بمنع أي ظهور للمعارضة البلوشية في باكستان. فاستفزاز إيران في هذا الوقت لن يتسبّب إلّا بمزيد من الصداع لواشنطن. وفي الوقت نفسه، من شأنه زيادة انقسام العالم الإسلامي في وقت يقدِّم فيه اليمن – لا مصر أو المملكة العربية السعودية أو حكَّام دول الخليج العملاء – شكلاً فعالاً إلى حد مذهل من التضامن مع الفلسطينيين المحاصرين.

وأظن أنّ تبادل إطلاق النار بين الدولتين قد يتحوّل إلى حرب شاملة، وسوف تزداد معاناة باكستان التي أصبحت بالفعل دولة يتيمة لصندوق النقد الدولي. ناشدت الصين البلدين الشروع في وقفٍ فوري لإطلاق النار، فهي تحظى ببعض النفوذ، ولديها قاعدة عسكرية اقتصادية كبيرة في جوادر على ساحل بلوش في باكستان، وتتمتع بعلاقات اقتصادية وثيقة مع إيران. ستعمل بكين بجدٍ من خلف الكواليس، لكن العواقب السياسية المترتبة على هذا التصعيد جديرة بالملاحظة.

مجموعة «جيش العدل» التي استهدفتها طهران، هي أحد فروع تنظيم القاعدة، وتعمل من بلوشستان الباكستانية منذ أكثر من عقدٍ، وللمجموعة علاقات وثيقة مع «أنصار الفرقان»، نظيرتها السُنّية في إيران. فمَن يمول مثل هذه المنظّمات؟ ولماذا لا تتعامل أجهزة المخابرات الباكستانية المنشغلة بإخفاء القوميين البلوش العزل، مع هؤلاء المتعصّبين المجهزين جيداً؟ فهؤلاء مَن استهدفوا وقتلوا قوّات الأمن الإيرانية، وهاجموا في كانون الأول/ديسمبر الماضي مقرّ الشرطة في بلدة راسك الإيرانية الحدودية. وقد ناشدت إيران في مناسبات عدة باكستان لوقف هذه الانتهاكات، ولم تتلقَ رداً سوى الكلام المعسول. هل مِن أحدٍ آخر يموِّل هذه الجماعة الإرهابية؟ إسرائيل؟ السعوديين؟ جهة أخرى؟ لا أعلم، لكن لا مكان للمفاجآت هذه الأيام، إذ إنّ المعايير الغربية المزدوجة بشأن «حقوق الإنسان» و«القانون الدولي» لا تؤخذ على محمل الجد إلّا من المتعيشين منها.

نُشِر هذا المقال في New Left Review في 19 كانون الثاني/يناير 2024.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.