معاينة banks lebanon

السرّية المصرفية: المعركة لم تُحسم بعد

هل ينبغي إعلان النصر غداة تعديل جديد وأساسي لقانون السرية المصرفية؟ 

تعكس صعوبة الإجابة الواضحة على هذا السؤال الغموض الذي اكتنف ما جرى في الساحة السياسية اللبنانية. فتوقيت إقرار قانون التعديلات لا يترك مجالاً للشكّ في شأن دافعه الحقيقي: الضغوط الخارجية. فقد تم التصويت على آخر تعديل للقانون التأسيسي الصادر عام 1956 من البرلمان، وجرى توقيعه ونشره في الجريدة الرسمية في اليوم نفسه من قبل رئيس الجمهورية، وذلك في الوقت المناسب حتى تتمكّن البعثة الوزارية اللبنانية المشاركة في اجتماعات الربيع للبنك وصندوق النقد الدوليين في واشنطن من الحضور بموقف «مشرّف». هذا كان الهدف الحقيقي: محاولة إقناع المانحين بأن لبنان بات أخيراً مستعداً للامتثال لشروطهم.

لكن، هل نحن فعلاً أمام إرادة سياسية لإلغاء السرّية المصرفية، التي كانت لها وظيفة محورية في تاريخ لبنان؟ الجواب الواضح هو لا، إذ كان يمكن تحقيق ذلك ببساطة من خلال قانون من سطر واحد يلغى قانون العام 1956. وبما أن ذلك لم يحصل، فإن ما تكشفه تعقيدات التعديلات المتعددة، والنسخ المتتالية من مشاريع التعديلات الكثيرة، أو التعديلات التي تم التصويت عليها - بما في ذلك الأخيرة - هو المعركة الضارية التي يخوضها أولئك الذين استفادوا من هذه التشريعات الاستثنائية. هؤلاء لا يزالون يقاتلون بشراسة، بنداً بنداً، ضدّ رياح التغيير. 

وظيفة السرّية المصرفية تتطوّر في تاريخ لبنان

لا حاجة للعودة إلى الدور الذي أدّته السرّية المصرفية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فهي منقوشة في الأسطورة المرتبطة بمفهوم «سويسرا الشرق الأوسط». فقد مكّنت هذه السرّية المصرفية لبنان، آنذاك، من جذب الرساميل الهاربة من الأنظمة الاشتراكية العربية، بالإضافة إلى الفوائض المالية الناتجة عن الطفرة النفطية التي عمّت المنطقة. غير أن حرب 1975–1990 أجبرت، حتى أكثر المتمسّكين بهذه الأسطورة، على الإقرار بأنها ليست ناصعة: فقد وفّرت السرّية المصرفية غطاءً لأنشطة مشبوهة مثل تجارة السلاح والمخدّرات. وبعد توقيع اتفاق الطائف، أصبحت قدسية هذه السرّية أحد ركائز المشروع الذي هدف إلى إعادة بيروت إلى دورها كمركز إقليمي للوساطة التجارية والمالية. لكن التحوّلات الجيوسياسية والاقتصادية غيّرت عملياً مصدر تدفّق الرساميل، وأصبح المغتربون اللبنانيون هم المودعين الرئيسيين في المصارف المحلية مدفوعين بإغراء العوائد المرتفعة. كما سمحت السرّية المصرفية أيضاً بانتشار واسع لعمليات التهرّب الضريبي، وجذبت أموالاً غير مشروعة لم تأتِ هذه المرة من رساميل هاربة من أنظمة مجاورة، بل من ثروات تلك الأنظمة نفسها، وأكثر من ذلك.

لم تخدم السرّية المصرفية لا التنمية الاقتصادية ولا بناء الدولة، بل كانت الأداة الرئيسة للتهرب الضريبي والإفلات من المحاسبة

في نهاية المطاف، لم تخدم السرّية المصرفية لا التنمية الاقتصادية ولا بناء الدولة، بل كانت الأداة الرئيسة للتهرب الضريبي والإفلات من المحاسبة. أعلنت أزمة 2019 نهاية النموذج الذي أُرسِي قبل 30 عاماً، لكن ظلّ هذا القانون مفيداً جداً لمن رَوّج له: فقد ساهم في ترسيخ نظام حكم يقوم على الغموض والفساد والزبائنية واختلاس الأموال العامة والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي والتداول بناءً على معلومات داخلية واحتكار الصفقات العامة، بالإضافة إلى مختلف أشكال التهريب والاختلاسات… لذلك، بدلاً من أن تكون الأزمة فرصة لاستخلاص العبر وتغيير النهج، لم تُفضِ القطيعة إلى انتقال سياسي فعلي، وأصبحت معركة الحفاظ على السرّية المصرفية تجسّد المعركة التي يخوضها أصحاب السلطة من أجل الحفاظ على مصالحهم، مقدمين إياها على انهيار مجتمع بأسره. فهل يشكّل قانون نيسان/أبريل 2025، بعد قانون تشرين الأول/أكتوبر 2022، نقطة تحوّل؟ إذا كانت الدفعة التي أطلقها الثنائي الجديد، رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، قد بدأت تعطي ثمارها، طوعاً أو كرهاً، إلا أنه من المبكر الجزم بذلك.

ضغوط خارجية بدأت بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر

منذ بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، تسير الدينامية وفق النمط نفسه: يتمّ التنازل عن بعض الثغرات في جدار السرّية المصرفية المطلقة، بشكل متدرّج، عندما تصبح الضغوط الخارجية لا تُحتمل، ويتم بذل كلّ ما يلزم لضمان استمرار هذه السرّية في حماية مصالح الكليبتوقراطية الطائفية الحاكمة في لبنان. 

تعود بداية الضغوط الخارجية إلى هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، التي شكّلت نقطة تحوّل في الأنظمة المالية الغربية، التي بدأت تفرض قواعدها على العالم بأسره. وقد أصبح لبنان مضطراً لإجراء تعديلات قانونية متى ما أصبح التباين بين قوانينه والتوجّهات العالمية فاضحاً بشكل يصعب تجاهله. وتتبع هذه التعديلات مسارين متوازيين ومتكاملين: الأول يتعلّق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والجرائم المالية. أما الثاني، فيخصّ مكافحة التهرّب الضريبي، الذي يُعتبر أحد أشكال غسل الأموال لكن بتداعيات مختلفة.

في هذا السياق، أنشأ لبنان في العام 2001 «هيئة التحقيق الخاصة» التابعة لمصرف لبنان، بموجب القانون رقم 318/2001 المتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، وذلك استجابة للإطار الجديد الذي أقرّنه مجموعة العمل (FATF) المالي الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب والتدفقات المالية غير المشروعة.

أتت الموجة الثانية من الضغوط الخارجية بعد عقد من الزمن، في أعقاب الأزمة الكبرى للرهن العقاري عالي المخاطر في العام 2008، التي أجبرت الدول الغربية على تعبئة موارد ضريبية ضخمة لإنقاذ النظام المالي العالمي. وقد دفع هذا الإنقاذ الضخم هذه الدول إلى تشديد الخناق بشكل صارم على مسألة التهرّب الضريبي. كانت الولايات المتحدة أول من تحرّك من خلال إقرار قانون الامتثال الضريبي على الحسابات الأجنبية (FATCA)، في العام 2010، الذي يُلزم المؤسسات المالية الأجنبية بالإبلاغ للسلطات الضريبية الأميركية عن الحسابات التي يمتلكها دافعو الضرائب الأميركيون. ومنذ ذلك الحين، امتثل لهذا القانون كل من يُعرّف بـ«شخصيات أميركية» حسب القانون الأميركي - بمن فيهم المغتربين اللبنانيين في الولايات المتّحدة أو كل من يتعامل مع هذا البلد. وتجنّباً للمخاطر الكبيرة، أصبح الكثير من عملاء المصارف اللبنانية يرفعون طوعاً السرّية عن حساباتهم وفقاً لما ينصّ عليه قانون العام 1956.

ثم جاء دور المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الضريبية التابع لمنظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، الذي أُنشئ في العام 2000 وأُعيد تفعيله بقوة في العام 2009، فتحوّل إلى هيئة حكومية دولية كاملة الصلاحيات، وبدأ بتطبيق معايير مُلزمة لتبادل المعلومات الضريبية. بدأ هذا التبادل عبر الطلب، ثم أصبح تلقائياً مع اعتماد المعيار المشترك للإبلاغ في العام 2014. ومع تفجّر فضيحة «أوراق بنما» واحتلال هذه القضايا موقعاً متقدّماً على جدول الأعمال العالمي، اضطر لبنان إلى تعديل تشريعاته من خلال إصدار القانون رقم 55 لعام 2016، الذي أتاح له الانضمام إلى اتفاقية المساعدة الإدارية المتبادلة في المجال الضريبي (MAC)، والاتفاق المتعدّد الأطراف لتبادل المعلومات تلقائياً بشأن الحسابات المالية (MCAA). ومنذ ذلك الحين، لم يعد المواطنون الأجانب غير المقيمين ضريبياً في لبنان يستفيدون من السرّية المصرفية فيه.

يُرجّح أن رياض سلامة كان أكثر حرصاً على التستر على مخالفاته الشخصية من أن يكون فاعلاً في مكافحة الجرائم المالية، باستثناء الحالات التي كانت تستوجب تقديم أوراق اعتماد إلى واشنطن

بالتوازي، وتحت ضغط مجموعة العمل المالي الدولية، التي كانت قد وضعت لبنان على القائمة الرمادية، اعتمد لبنان القانون رقم 44 لعام 2015 ليحل محل قانون 2001 بشأن مكافحة تبييض الأموال، وذلك بهدف تلبية المتطلّبات الدولية في مجالي الشفافية ومكافحة التدفّقات المالية غير المشروعة.

على الرغم من هذه التطوّرات القانونية، يبقى سجل لبنان ضعيفاً في ما يخص مكافحة تبييض الأموال والتهرّب الضريبي. على صعيد تبييض الأموال، لا تزال حصيلة عمل هيئة التحقيق الخاصة التابعة لمصرف لبنان ضئيلة بعد نحو 25 عاماً على إنشائها. ويُعزى ذلك جزئياً إلى كونها خاضعة لإشراف حاكم مصرف لبنان، إذ يُرجّح أن رياض سلامة كان أكثر حرصاً على التستر على مخالفاته الشخصية من أن يكون فاعلاً في مكافحة الجرائم المالية، باستثناء الحالات التي كانت تستوجب تقديم أوراق اعتماد إلى واشنطن. ومن أبرز الإصلاحات المنتظرة اليوم، منح هذه الهيئة استقلالية فعلية. أما في ما يتعلّق بالتهرب الضريبي، فعلى الرغم من تطبيق لبنان للاتفاقيات المتعلقة بتبادل المعلومات الضريبية، لم تبذل السلطات اللبنانية أي جهد جدي في محاربة التهرّب الضريبي. ولم تُنفّذ الإجراءات اللازمة للحصول على بيانات المقيمين ضريبياً في لبنان، كما تم اعتماد تفسير واسع لمعيار الإقامة الضريبية، ما أتاح لمكلفين من دول أخرى الاستفادة من الملاذ الضريبي اللبناني. وفي الوقت نفسه، استمرّت السرّية المصرفية في عرقلة أي محاولات من القضاء أو الإدارة الضريبية للوصول إلى بيانات الحسابات المصرفية للمواطنين والمكلّفين.

أما قضية تمويل الإرهاب، فهي أكثر تعقيداً، لا سيّما أن واشنطن تصنّف حزب الله كمنظمة إرهابية، في حين أن لبنان لا يعتمد هذا التصنيف. وقد حاولت السلطات اللبنانية التوفيق بين الموقفين عبر التعاون الفوري عند ورود بلاغات مباشرة، كما حدث عند إغلاق المصرف اللبناني الكندي، في مقابل التغاضي عن تنامي المنظومات المالية البديلة التي ينظّمها حزب الله، وأصبح فيها «القرض الحسن» رمزاً. وقد تعرّضت هذه المؤسسة المخصّصة للتمويل الصغير لضربات جوّية إسرائيلية متكرّرة في خلال العدوان الأخير.

ويندرج القانون الصادر في 24 نيسان/أبريل 2025 ضمن هذا السياق المستمر: مقاومة الضغوط الخارجية قدر الإمكان، مع تقديم تنازلات عندما تصبح المطالب غير قابلة للتفاوض.

المتطلبات الخارجية الجديدة

أعادت أزمة 2019، ولا سيما حرب 2023–2024، خلط الأوراق مجدّداً في هذا الملف.

ففي أعقاب الانتفاضة الشعبية في العام 2019، طرحت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم مشروع قانون يقضي بإلغاء قانون السرّية المصرفية الصادر في العام 1956 بشكل كامل. غير أن لا الحكومة ولا مجلس النواب سارا في هذا الاتجاه. وبدأت في المجلس النيابي مسيرة تشريعية أقرب إلى المهزلة منها إلى الإصلاح الجدّي. وكان كل من الخبير الضريبي كريم ضاهر والمفكرة القانونية ومنظمة كلنا إرادة، إلى جانب آخرين، في طليعة من فضحوا النوايا الحقيقية للذين يرفعون شعار الإصلاح بينما يعرقلونه في العمق. تعاقبت نسخ عدة من مشاريع القوانين، من بينها اقتراحين في أيار/مايو 2020 وتشرين الأول/أكتوبر 2021، ثم مشروع قانون أُحيل في آذار/مارس 2022، وأُقر للمرّة الأولى في تموز/يوليو، ثم بشكله النهائي في تشرين الأول/أكتوبر 2022، ليُعرف لاحقاً بالقانون 306. وقد تضمّن هذا الأخير بعض التقدّم الملموس، الذي تحقّق مجدداً تحت وطأة الضغط الخارجي المباشر. وتمثّلت أبرز نقطة تحوّل فيه في رفع السرّية المصرفية عن عدد من الفئات وهم الموظفون العموميون، وقادة الجمعيات السياسية، والمرشحون للمناصب العامة، ومسؤولو ومراقبو المصارف، ومسؤولو وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية. أما بالنسبة إلى باقي الأفراد، فقد خُوّلت جهات رسمية عدة طلب رفع السرّية المصرفية، تحت طائلة فرض عقوبات على المصارف التي ترفض التعاون. غير أن هذه العقوبات غير رادعة فعلياً، كما أن شرط تقديم طلب مسبق، بدلاً من اعتماد مبدأ الكشف التلقائي، يمثل عقبة تشغيلية تحدّ عملياً من تنفيذ القانون.

الرقابة الصارمة على النظام المالي اللبناني تشكل جزءاً من حرب متعددة الأوجه تهدف إلى تجفيف منابع تمويل حزب الله، من خلال محاصرة الحدود، وتشديد الرقابة على البنى التحتية الاستراتيجية

هذا الخلل الأخير هو ما دفع صندوق النقد الدولي إلى اعتبار القانون غير كافٍ وغير منسجم مع الإجراءات ذات الأولوية المدرجة في الاتفاق الأولي المبرم مع الحكومة اللبنانية في نيسان/أبريل 2022. ولهذا جاء القانون الجديد الصادر في 25 نيسان/أبريل 2025 لتصحيح هذا الخلل، إذ يمنح هيئات الرقابة (مصرف لبنان، هيئة الرقابة على المصارف، المؤسسة الوطنية لضمان الودائع) حق الوصول الدائم والمباشر إلى البيانات المصرفية بالاسم، في سياق مهامها الاعتيادية، وليس ضمن عملية إعادة هيكلة القطاع بعد الأزمة فحسب. كما أن هذا التعديل لا يقتصر على المستقبل، بل يُطبّق بأثر رجعي لمدة 10 سنوات من تاريخ اعتماد القانون.

يحمل القانون الجديد الرقم 1 رمزياً، إذ إنه أول قانون يُنشر في الجريدة الرسمية في العام 2025. فقد كان تعديل قانون السرّية المصرفية من بين الالتزامات الاقتصادية القليلة التي أعلن عنها رئيس الجمهورية صراحة في خطاب قسمه بتاريخ 9 كانون الثاني/يناير، إلى جانب أولوية سياسية كبرى ثانية تمثّلت في نزع سلاح حزب الله. وهما ملفان مترابطان يفسران وتيرة الإسراع المفاجئ في معالجة ملف السرية المصرفية عقب الهزيمة العسكرية التي مُني بها حزب الله.

ولا يحتاج المرء إلى أن يكون محلّلاً جيوسياسياً مخضرماً ليدرك أن المرحلة الجديدة من النفوذ الأميركي في لبنان، التي بدأت منذ اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تنطوي على أجندة دقيقة جداً: تقليص نفوذ الخصوم الاستراتيجيين للولايات المتحدة، وفي مقدمتهم المجموعات المرتبطة بإيران وعلى رأسها حزب الله، وكذلك المجموعات الجهادية المسلّحة. ومن هنا، فإن الرقابة الصارمة على النظام المالي اللبناني تشكل جزءاً من حرب متعددة الأوجه تهدف إلى تجفيف منابع تمويل حزب الله، من خلال محاصرة الحدود، وتشديد الرقابة على البنى التحتية الاستراتيجية كالمطار والمرفأ، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي لتقليص حجم الاقتصاد النقدي.

أما مجموعة العمل المالي الدولية فقد أدرجت لبنان على اللائحة الرمادية، وقد تواجهه بعقوبات أشدّ إن لم يعزّز تعاونه، لا سيما في ملفات مكافحة تمويل الإرهاب، ومكافحة تبييض الأموال، وتمويل الأنشطة غير المشروعة. وفي المقابل، يضع صندوق النقد الدولي شروطاً صارمة لا يمكن من دونها المضي في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، التي تُعد شرطاً أساسياً لبرنامج الإصلاح الذي سيفتح الباب أمام مساعدات مالية دولية. ومن بين هذه الشروط: الوصول الكامل والاسمي للسلطات الرقابية ولمؤسسة ضمان الودائع إلى جميع الحسابات المصرفية.

أما واشنطن، فلا تُبدي اهتماماً يُذكر بالمجتمع اللبناني ككل، أو مثلاً بتأثير إصلاح السرّية المصرفية على المواطنين اللبنانيين خارج نطاق مصالحها المباشرة. ولهذا السبب، لا تزال هناك هوامش محلية في كيفية احترام الخطوط الحمراء الجديدة. ومن هنا، يبقى من الصعب اليوم فهم الوضع الحقيقي للسرّية المصرفية على الرغم من التعديلات الجوهرية التي طرأت عليها حتى الآن. فالمستفيدون من السرّية المصرفية يسعون من جهة إلى كسب الوقت، ومن جهة أخرى، إن أمكن، إلى انتزاع عفو عن المخالفات السابقة قبل الوصول إلى رفع شامل أو نهائي لهذه التشريعات الاستثنائية، التي لم تعد في الواقع تحمي سوى الخارجين عن القانون.

المعارك القادمة

لا تزال السرّية المصرفية القاعدة في لبنان، إذ تقتصر القوانين السارية على تعداد الحالات، التي تزداد عدداً، ويمكن فيها رفعها، والجهات المخوّلة بذلك. 

ومع أن القوانين الأخيرة فتحت الباب جزئياً، إلا أن المعركة الحقيقية لا تزال أمامنا لجعل رفع السرّية المصرفية فعّالاً وعادلاً. وتبرز في هذا السياق معارك أساسية عدة يجب خوضها ومنها:

الوصول الدائم الممنوح للسلطات الرقابية المصرفية هو شرط ضروري لكنه غير كافٍ، إذ لا يضمن وحده الاستخدام السليم للمعلومات المحصّلة خارج الأطر الحسابية البحتة. فلا بد من تدقيقات قضائية ومحاسبية مستقلة، وإرادة سياسية وقضائية للتحقق من مشروعية وشرعية العمليات المصرفية، وذلك من أجل ملاحقة الجرائم المالية عند الاقتضاء، وأيضاً للتمييز بين الحسابات المشروعة وتلك التي تستوجب المعالجة أو المصادرة.

المستفيدون من السرّية المصرفية يسعون من جهة إلى كسب الوقت، ومن جهة أخرى، إن أمكن، إلى انتزاع عفو عن المخالفات السابقة قبل الوصول إلى رفع شامل أو نهائي لهذه التشريعات الاستثنائية

على الرغم من أن قضاة الحكم بات بإمكانهم طلب رفع السرّية المصرفية أثناء المحاكمات، إلا أن هذا الحق لا يشمل قضاة التحقيق والنيابات العامة، ما يعرقل بشدة التحقيقات ويقوّض قدرة القضاء على الوصول إلى الأدلة المالية في المراحل الحاسمة من التحقيق.

باتت الإدارة الضريبية اللبنانية، نظرياً، تملك حق الوصول إلى البيانات المصرفية وفق القانون، لكن هذا الحق مشروط بصدور مرسوم تطبيقي لم يُصدر حتى اليوم، على الرغم من مرور 3 سنوات على إقرار النص، ما يُبقيه حبراً على ورق.

وأخيراً، على الرغم من أن القانون لم يعد يُغطّي بعض الفئات مثل الموظفين العموميين والمصرفيين والسياسيين، إلا أن أزواجهم وأطفالهم القُصّر وأصحاب الحق الاقتصادي والشركات الوهمية والكيانات القانونية التابعة لهم لا تزال في غالب الأحيان خارج إطار الرقابة، ما يُبقي الباب مفتوحاً أمام التحايل واستمرار الإفلات.