
عالم جديد شجاع: انقسام صناعي ثالث؟
تمثل النقاط التحوّلية الماكرو-سوسيولوجية لحظات انفتاح سياسي واجتماعي، تحدّد فيها الصراعات بين العمّال والشركات، وبين الشركات نفسها، وبين المجموعات الاجتماعية المختلفة كل ما هو مهم: من استئناف النمو أو عدمه، مروراً بشكل توزيع الدخل، وصولاً إلى مَن سيمتلك النفوذ والمكانة.
يُفترض أن يؤدّي تدهور موجة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والجيل الأول من التقانة الحيوية إلى تحفيز موجة نمو جديدة. والأساس المادي لهذه الموجة الجديدة قد اتضح بالفعل. فقد أصبحت الطاقة الشمسية والرياح أرخص من الوقود الأحفوري وبدأت تحل محلّه. كما بدأت التقنيات المعزّزة بالذكاء الاصطناعي بطرح تقنيات جديدة متعددة الأغراض.
قبل أربعين عاماً، في العام 1984، أصدر مايكل بيور وتشارلز سابل كتاباً حاز جائزة ماك آرثر، وحمل عنوان «الانقسام الصناعي الثاني: إمكانات الازدهار». ولعقود لم يكف الكتاب عن إثارة الجدل بشأن مستقبل الأسواق والنظم الاجتماعية القائمة عليها1. وصف بيور وسابل السبعينيات وأوائل الثمانينيات بنقطة تحول حاسمة ثانية في تاريخ الرأسمالية. كانت النقطة الأولى الانتقال من الحِرف اليدوية إلى الإنتاج الضخم في أوائل القرن العشرين. اقترن الإنتاج الضخم باستثمارات ثابتة كبيرة في معدّات إنتاج متخصّصة، مع عمّال شبه مهرة يسعون لتحقيق استقرار طويل الأمد في وظائفهم. جادل الكاتبان بأن هذه الاستثمارات خلقت بنية إنتاجية جامدة بإفراط، جعلتها هشّة أمام أي صدمة تقريباً. وقد شهدت السبعينيات وأوائل الثمانينيات سلسلة من الصدمات، بين اضطرابات وتقلبات أسعار النفط، وارتفاع معدلات التضخم، وتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من زاوية التهديدات النووية والحروب بالوكالة، وبداية الخصخصة وإلغاء القيود التنظيمية، وتحديات صحية عالمية جديدة من قبيل وباء الإيدز. فتحت النضالات السياسية لإعادة تنظيم المجتمع الباب أمام تحوّل جذري في العلاقات الاقتصادية، ومنها أخذ الكتاب عنوانه «انقسام صناعي ثانٍ». رأى المؤلفان أنّ المؤسّسات سوف تتجه بتسارع نحو ما أطلقا عليه «التخصّص المرن»، أي شركات أصغر ومتقاربة في الحجم، تستخدم معدات جديدة متعدّدة الأغراض، وتديرها قوة عاملة أكثر مساواة، في سوق أكثر تنافسية، لأنّ هذا الشكل قد أثبت قدرته على الصمود أكثر أمام الصدمات. كانت قواعد اللعبة على وشك التغير في كل مكان، وأكسبتهما رؤيتهما المستقبلية الطموحة مكانة بارزة في التاريخ الفكري.
يثير التنافس الإمبريالي على أرض دول أخرى والحروب الانفصالية وتصاعد التوترات التجارية مخاوف من صراع قوى كبرى في عصرنا
كانت الأسئلة الكبيرة بشأن تلك القواعد تتعلق، بطبيعة الحال، بمن المسؤول عنها، وآلية التنفيذ، وما النتائج المترتبة عليها؟ بعد أربعين عاماً، نعلم الآن أن بيور وسابل كانا مخطئين بشأن مآل الانقسام الصناعي الثاني ومسيرته. لكن كانا على حق بشأن وجود انقسام تاريخي في التفاعل بين علاقات العمل وجانب العرض من الاقتصاد، والرهانات الكبيرة المرتبطة بالتحوّل الجذري الناتج عنه في تنظيم الإنتاج والاستهلاك والابتكار. واليوم، نواجه نقطة تحوّل مشابهة: انقساماً صناعياً ثالثاً.
تمثل النقاط التحوّلية الماكرو-سوسيولوجية لحظات انفتاح سياسي واجتماعي، تحدّد فيها الصراعات بين العمّال والشركات، وبين الشركات نفسها، وبين المجموعات الاجتماعية المختلفة كل ما هو مهم: من استئناف النمو أو عدمه، مروراً بشكل توزيع الدخل، وصولاً إلى مَن سيمتلك النفوذ والمكانة. وفي تكرار لما حدث في السبعينيات والثمانينيات، يثير التنافس الإمبريالي على أرض دول أخرى والحروب الانفصالية وتصاعد التوترات التجارية، مخاوفَ من صراع قوى كبرى في عصرنا. ترزح الديمقراطية تحت الحصار، وتواجه الجهات المدينة تهديدات مصدرها الركود المزمن وما يصاحبه من انكماش، وفي الوقت نفسه لم تعد الأوبئة العالمية مجرد حبكات لقصص الخيال العلمي 2. وكما في حقبة الإنتاج الضخم التي حلّلها بيور وسابل، تسبّبت عمليات التدهور الذاتية المتأصلة في موجة النمو الاقتصادي بسلسلة من الأزمات المتداخلة تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي والمجتمعات القائمة عليه. هذه الموجة العائدة إلى الثمانينيات، والمدفوعة باستثمارات في قطاعات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقانة الحيوية المعتمدة على الحمض النووي المؤتلف من الجيل الأول 3، تشهد الآن تراجعاً. وهذا التدهور، وإنْ كان ظاهرة تقنية في جانب منه، فهو في جوهره تدهور للأساس الاجتماعي والسياسي الذي دعم تلك الموجة. لماذا يحدث هذا التدهور؟ وما الذي قد تحمله العقود القليلة المقبلة؟
والصراعات الناتجة عن عملية التدهور الذاتي في كل من اقتصادات الإنتاج الضخم واقتصادات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سوف تحدّد ملامح هذا الانقسام الصناعي الثالث. وتساعدنا العودة إلى تحليل بيور وسابل على فهم هذه العمليات، ولا يقتصر السبب هنا على أن كتابهما كان ذا تأثير كبير ويصف تدهور موجة نمو سابقة والتنبؤ بواحدة جديدة، بل زد على ذلك أنّنا لا نستطيع فهم الصورة الكاملة للموجة الحالية إلا بأثر رجعي، كما قال هيغل «بومة مينرفا لا تحلق إلّا عند الغسق» 4. أما ما كشف عنه التاريخ من عيوب في توقعاتهما فيساعدنا على فهم الأخطاء التي قد نقع فيها عند تحليل المسارات المحتملة للخروج مما أراه أفول عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والجيل الأول من التقانة الحيوية.
استنفاد موجة نمو الإنتاج الضخم في السبعينيات
جاء كتاب الانقسام الصناعي الثاني استجابة إمبريقية للاستنفاد الواضح على الصعيدين العملي والفكري لحقبة الإنتاج الضخم في السبعينيات، إذ ظهر في سياق فيض من الكتب والتحليلات حاولت تفسير هذا الاستنفاد واقتراح إستراتيجيات إصلاحية. ركّزت تلك التحليلات على ثلاثة محاور أساسية، تمثّل أولها في كتابين حرّرهما الأكاديمي البريطاني جون غولدثورب5 وتقرير مكراكن المدعوم من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية6، ورأى هذا المحورُ التضخمَ تعبيراً عن الاضطراب الاجتماعي، وأوصت بسياسات نقدية أكثر تشدّداً وإضعاف قوة النقابات (نوع من سياسات الدخل الأحادية الجانب). وتمثّل ثانيها في أطروحات عميد معهد ماساتشوستس ليستر ثورو7 والاقتصادي الفرنسي ميشيل ألبرت في أوروبا8، اللذان أيدا مزيداً من تدخل الدولة ومفاوضات جماعية توافقية لدعم الانتقال من الصناعات القديمة المتدهورة إلى صناعات جديدة عبر استثمارات مستهدفة (سياسات دخل قائمة على التفاوض الرسمي). أما المحور الثالث، ومثله المؤرخ العمالي مايك ديفيس9، فقد رأى أنّ ضُعف الحركة العمّالية الأميركية وعجزها عن التفاوض الرسمي، وهو ما تردّد صداه أيضاً في اقتصادات أنغلوية أخرى وآسيا الصناعية، كانا السبب وراء انهيار الاتفاق الاجتماعي الذي كان يوازن بين العرض والطلب بعد الحرب. وأخيراً، وعلى الرغم من تجاهل بيور وسابل له، كان الاقتصادي الكينزي هايمان مينسكي10 يحذّر بالفعل من ميل الأنظمة المالية إلى توليد أزمات مالية نظامية حين تشجع فترات الاستقرار على ابتكارات شديدة المخاطرة في ميدان توليد الائتمان.
كان جمود نظام الإنتاج الضخم في الستينيات عند مواجهة صدمات كارتفاع أسعار النفط أو الإضرابات المفاجئة السبب الرئيس للأزمة والانقسام الصناعي المقبل
ربما تسببت صدمة خارجية (اصطدام كويكب) في انقراض الديناصورات في نهاية العصر الطباشيري، لكنّ تغير العصور الصناعية وموجات النمو التي تسمها، كما بيّن بيور وسابل، تشبه أكثر عمليات الانقراض بسبب ديناميات داخلية ذاتية، من قبيل الإفراط في استهلاك الموارد النباتية أو ظهور ثدييات بطيئة الحركة. اعتقد بيور وسابل أن الحجج التي طرحها «الخبراء» أعلاه بالغت في النظر إلى صدمات المواد الخام وتوسّع دولة الرفاه في الستينيات على أنّها أشبه بالكويكبات. لقد غفلا عن مدى تأثير الضرورات التكنولوجية للإنتاج الضخم في خلق اقتصاد غير مستقر. لم يكن الإنتاج الضخم في نظرهما أكفأ من أنظمة الإنتاج الأخرى ولا نتيجة حتمية للتقدّم التكنولوجي. كانت السياسة العامل الحاسم في اختيار أنظمة الإنتاج، وبالتالي في تشكيل الاقتصاد واستقراره. كان جمود نظام الإنتاج الضخم في الستينيات عند مواجهة صدمات كارتفاع أسعار النفط أو الإضرابات المفاجئة، مع عدم إغفال أهمية الصدمات ذاتها، السببَ الرئيس للأزمة والانقسام الصناعي المقبل. وجادلا بأنّ السياسة في الثمانينيات سوف تحدّد، كما حددت في السابق مخرجات الانقسام الصناعي الأول، كيفية تكيّف المجتمعات الصناعية مع إمكانياتها التكنولوجية الجديدة.
حملت تلك الإمكانيات أهمية كبيرة لفهم استنفاد موجة النمو الناتجة عن الإنتاج الضخم، أي الحقبة التي ركزت فيها الشركات على الاستثمار في عمالة شبه ماهرة ومنظمة تدير آلات متخصّصة مكلفة وطويلة العمر. كان الإنتاج الضخم عالي الإنتاجية، وبالتالي يتمتع بفرصة تحقيق أرباح كبيرة، إذا (وهذا هو الشرط الأساسي) اشتغلت تلك الآلات المتخصّصة بطاقتها الكاملة أو ما يقاربها. لكن هذه الآلات المتخصّصة والحاجة إلى التشغيل بطاقتها القصوى أوجدت جموداً شديداً. وكما أشار ثورستين ڨيبلن 11 قبل ثمانية عقود من تحليل بيور وسابل، فإنّ الحاجة إلى مدخلات مستمرة ومنتظمة لتغذية تلك الآلات المتخصّصة تتطلّب تطبيق ما أسماه «سيرورة الآلة» على جميع مناحي الاقتصاد تقريباً: من توحيد المواد والقطع وتزامن مواعيد التسليم ودقة الآلات إلى ضمان الطلب من خلال التسويق والإعلانات. وكما سخر ألدوس هكسلي 12 في روايته «عالم جديد شجاع»، يمكن أن تمتد سيرورة الآلة إلى إنتاج العمّال أنفسهم: كمجموعات متمايزة لكنها متطابقة داخلياً من بشر صُيّروا بطريقة انتقائية على صورة معينة، حتى وإنْ كانت تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية بمقايضتها زيادة الأجور وضمان الوظائف بالسيطرة الإدارية الأحادية (ما يُعرف أكاديمياً بـ«الفوردية»)، قد جعلت هؤلاء العمّال يتقاضون أجوراً جيدة.
هكذا ومع ترابط كل شيء بعضه إلى بعض، كانت أي صدمة داخلية أو خارجية كفيلة بدفع اقتصاد الإنتاج الضخم إلى دوامة انكماشية، كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، أو تضخّمية، كما حدث في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وهي دوّامة سرعان ما تنتشر من الاقتصادات الوطنية إلى الاقتصاد العالمي. وعليه، رأى بيوَر وسابل أنّ أزمة السبعينيات فتحت مجالاً، أو إمكانية حدوث انقسام صناعي ثانٍ، تعود معه الأعمال التجارية إلى التخصّص المرن بوصفه شكلاً من أشكال الإنتاج أكثر استقراراً ومرونة وإنسانية، وتعود جذوره إلى تقاليد الحرف اليدوية القديمة. أصبحت الشركات العملاقة المتكاملة رأسياً على النمط الفوردي بطيئة وغير قادرة على المنافسة أمام شركات أصغر وأكثر رشاقة تعتمد على الحرفة المتخصّصة. واستشهد بيوَر وسابل بنموذج شبكات الشركات الأصغر والمتخفّفة من الهرمية في المنطقة الصناعية في إقليم إميليا-رومانيا الإيطالي كنموذج مثالي لمستقبل أفضل. ففي تلك المناطق، تنقلت الشركات بين دور المتعاقد الرئيس والفرعي بكل سلاسة، وكذا العمّال بين الشركات لاكتساب مهارات جديدة، وكانت الشركات تموّل نفسها بنفسها. وباستخدام آلات متعدّدة الأغراض، استطاعت الشركات المتخصّصة في بولونيا ومن سار على نهجها التكيّف مع أي متطلّبات يفرضها السوق.
سعى بيوَر وسابل إلى إدخال أفكار جديدة في النقاشات السياسية المتعلقة بالتضخّم والنقابات ودور الدولة في الاقتصاد. ورأيا وجود مسارين لا ثالث لهما للخروج من المشكلات التي أشعلت هذا الجدل. كان الأول إجراء توسيع غير وارد لنموذج الإنتاج الضخم، وبالتالي تطبيق السياسات الكينزية القائمة على إدارة الطلب على المستوى العالمي. أما الثاني فكان إجراء تحوّل في القاعدة الصناعية نحو التخصّص المرن، وهو تحول اعتقدا أنّه سوف يسهم في إعادة بناء التعاون بين رأس المال والعمل بما يتيح تشكيل سياسة أكثر جماعية قادرة على كبح التضخّم. وعلى الرغم من حذرهما من تقديم توقعات قاطعة في التزامٍ بنصيحة يوغي بيرا الشهيرة بشأن التنبؤ 13، فقد كان واضحاً تفضيلهما لنموذج اقتصادي يتمحور حول شبكات صناعية مرنة. وتبع ذلك موجة من المنشورات الأكاديمية والتجارية أشادت بالمناطق الصناعية في اليابان وألمانيا بوصفها نماذج مشابهة لشبكات الشركات المرنة. بدت تلك المناطق الصناعية، نظرياً وعملياً، الطريق الأمثل للمسير قدماً. 14
واقع موجة نمو تقنيات الاتصالات والمعلومات والتقانة الحيوية وقصور نماذج النمو
للأسف، لم توافق العقود الأربعة التالية النتيجة التي فضّلها بيوَر وسابل. عند الكتابة في أوائل الثمانينيات، كانا متشائمين نوعاً ما بشأن احتمال ظهور موجة نمو جديدة، ولم يتخيلا السرعة التي سوف تحدث بها التغيرات التكنولوجية المتلاحقة. بالكاد وردت الحواسيب في تحليلهما، ولم ترد التقانة الحيوية على الإطلاق. وعلى الرغم من استمرار أهمية المناطق الصناعية وفق رؤيتهما، لم تشكّل إلا جزءاً ضئيلاً من الناتج الصناعي. تحوّلت دلتا نهر اللؤلؤ، القريبة من هونغ كونغ، إلى أكبر وأهم منطقة صناعية في العالم. وفي أماكن أخرى، ازداد تحوّل اقتصادات الدول الغنية نحو تقديم الخدمات بدلاً من التصنيع الذي بات يعتمد بالأساس على عمالة منخفضة الأجر ومستغَلّة بشدّة. بل إنّ المنطقة النموذجية للتخصص المرن، إميليا-رومانيا، ازداد اعتمادها على العمالة المهاجرة الرخيصة للحفاظ على قدرتها التنافسية. أما الاقتصاد الإيطالي ككل، فلم يشهد أي زيادة في دخل الفرد منذ العام 2000. 15
يوجد صراعين رئيسين للتوزيع في الرأسمالية: الأول بين رأس المال والعمّال حول نصيب كل منهما من الأرباح والأجور، والثاني بين الشركات نفسها حول الحصص من إجمالي الأرباح
لقد شهدت السبعينيات والثمانينيات غير المستقرّة تحوّلاً نحو «الاعتدال الكبير» في تسعينيات القرن الماضي، لكن في الوقت نفسه تباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي في أكبر الاقتصادات مع كل عقد بعد العام 1992. اعتمدت الموجة الجديدة من النمو، التي بدأت في الفترة التي كتب فيها بيوَر وسابل، على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والجيل الأول من التقانة الحيوية، واستمرت على الأرجح حتى أزمة 2008–2010 المالية. ومع وصول هذه الموجة إلى حدودها المالية والمادية والاجتماعية، عانت اقتصادات الدول الغنية في العقد السابق على جائحة كوفيد-19 من تباطؤ النمو، وهو ما أطلق عليه المحلّلون المعاصرون «الركود المزمن». 16بلغت مبيعات الهواتف الذكية العالمية ذروتها في العام 2017؛ وأصبحت مخاوف الخصوصية والمخاوف الجيوسياسية والنفسية تحدّ من نمو وسائل التواصل الاجتماعي؛ ووصلت تقنيات تصنيع رقائق أشباه الموصلات إلى حدودها المادية فيما يتعلّق بتصغير حجم الترانزستورات ولكن الأهم الارتفاع السريع في كلفتها الرأسمالية؛ وأصبحت الأدوية الحيوية البديلة باهظة الثمن على المستهلكين والجهات الصحّية العامة؛ وتسبّب التغير المناخي بالتشكيك في الأنظمة المعتمدة على الوقود الأحفوري والبتروكيماويات التي تشغّل قطاع الطاقة والزراعة والتغليف.
لعل المحاولة الأشمل لدراسة هذا التراجع جاءت من أدبيات نماذج النمو. سعت تلك الأدبيات إلى الابتعاد عن تحليلات التوازن للهياكل الصناعية الوطنية وعن التحليلات المغرقة في التركيز على جانب العرض والعودة إلى تركيز نيو كينزي على مصادر الطلب، وإنْ كان على المستوى المحلي 17. تربط هذه الأدبيات، في تحليلاتها ذات الطابع السياسي الصريح، بين نشوء هياكل الإنتاج والتفاهمات الأساسية بين الفاعلين الأقوياء. لكن، على الرغم من ذلك، أغفلت هذه الأدبيات ميزتين أساسيتين في تحليل بيور وسابل: أولاً، ركّز الأخيران على الابتكار والتغيّر التنظيمي بروح شومبيترية واضحة، وفي المقابل انصبّ اهتمام أدبيات نماذج النمو على تفكيك المجاميع الاقتصادية لتحديد مصادر الطلب، متجاهلة الابتكار والتغيّر التنظيمي للشركات. ثانياً، يغلب على تلك الأدبيات الطابع الوطني في منهجيتها، مع تركيزها على الأنماط الداخلية بمعزل عن الاقتصاد العالمي الأوسع 18، لتعاني بالتبعية في تفسير التغيّر أو ظهور نقاط التحوّل الكبرى.
إذاً، أيّ شيء نتعلمه من تحليل بيور وسابل بشأن نقطة التحول الحالية في الاقتصاد؟ على غرار موجة الإنتاج الضخم، وُلِد تدهور هذه الموجة داخلياً من العمليات نفسها التي دفعتها للنمو في البداية، ومن النجاح ذاته لتقنيات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كظاهرة اقتصادية واجتماعية.
خمس أخطاء فادحة في توقّع موجة نمو تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقانة الحيوية
غيّبت خمسة أخطاء فادحة في تحليل بيور وسابل قدرتهما على التنبؤ بدقة. يتمثّل الخطأ الأول في فهمهما للصراعات التوزيعية داخل الرأسمالية. توضح أنثروبولوجيا الشركات عند ڨيبلن هذا الأمر، إذ يوجد صراعين رئيسين للتوزيع في الرأسمالية: الأول بين رأس المال والعمّال، أي بين الشركات وعمّالها، حول نصيب كل منهما من الأرباح والأجور من إجمالي الناتج؛ أما الصراع الثاني، وهو لا يقل أهمية، فبين الشركات نفسها حول الحصص من إجمالي الأرباح. ركّز بيور وسابل اهتمامهما على الصراع الأول، فربطا تحليل هياكل الإنتاج (جانب العرض في الاقتصاد) بتحليل «علاقات العمل»، أي توزيع الدخل، وبالتالي جانب الطلب في الاقتصاد. لكنهما تجاهلا إلى حد كبير الصراع الثاني.
الشركات موجودة لتحقيق الأرباح لكنّها تحتاج إلى الائتمان لتشغيل أعمالها، بالإضافة إلى خلق أصول مالية متنوعة لتوظيف أرباحها النقدية
تسعى الشركات جاهدةً لتحقيق أرباح احتكارية كما ذكر ڨيبلن وشومبيتر. لكنّ الأدلة المتعلقة بالأرباح والعوائد على الأسهم العامة تُظهر أنّ قلة منها تنجح في ذلك فعلاً 19. ركزت الشركات المهيمنة في عصر الإنتاج الضخم على تحقيق أرباح احتكارية وشبه احتكارية عبر السيطرة على كميات كبيرة من رأس المال المادي والتكامل الرأسي، ما ساعد على ردع دخول المنافسين المحتملين والتحكم المباشر في سلسلة القيمة بأكملها. ولكن بعد التحول الصناعي، أصبحت الشركات تسعى لتحقيق الأرباح الاحتكارية من خلال امتلاك أصول غير مادية محمية بحقوق الملكية الفكرية (على شاكلة براءات الاختراع وحقوق الطبع والعلامات التجارية)، وهي استراتيجية مكّنتها من التخلص من الأصول المادية والعمالة. تمنح حقوق الملكية الفكرية احتكارات قانونية من دون تحميل صاحب العمل المخاطر والالتزامات المعتادة، ومن دون مخاطر رأس المال المادي غير المستغل بالكامل. لم يتوقع بيور وسابل هذا التحوّل في طريقة سعي الشركات لتحقيق الأرباح الاحتكارية.
يتعلق الإغفال الثاني - للمفارقة - بكيفية تأثير الصراع التوزيعي بين الشركات في تفكك الهيكل الرأسي الذي توقعه وأيده بيور وسابل، لكنه بدلاً من أن يحقق المساواة من خلال التنافس الأفقي، أوجد تفاوتات رأسية في السلطة والدخل. فكما أوضح ألفريد تشاندلر 20، يتحدّد الهيكل التنظيمي باستراتيجية تحقيق الأرباح. تنبأ بيور وسابل بأنّ الشركات قد تلجأ إلى تقليص حجمها عبر الاستعانة بمصادر خارجية والانفصال لتقليل الجمود المرتبط بالإنتاج الضخم. لكن استراتيجية الأرباح القائمة على الملكية الفكرية دفعت الشركات الكبرى إلى نقل أعباء الجمود والمخاطر إلى متعاقديها الفرعيين، والحد من استقلالية الشركات التابعة في سلاسل القيمة والمناطق الصناعية. بل إنّ شركات صناعة السيارات الأيقونية في الحقبة الفوردية أسندت إنتاج القطع إلى شركات مستقلة وبدأت التعاقد مع جهات خارجية لبعض عمليات التجميع. من الناحية القانونية، خلق هذا التفكك الرأسي نوعاً من المنتجين المتخصصين المفضّل عند بيور وسابل. لكن الاستقلالية القانونية للشركات الخاضعة أخفت استمرار سيطرة الشركات الكبرى عليها بحكم الأمر الواقع. وبدلاً من الهياكل المرنة التي تخيلها بيور وسابل، حيث تتبادل الشركات الكبرى والمتعاقد الفرعي الأدوار حسب الحاجة، أنشأت الأولى، سواء القديمة منها من الحقبة الفوردية أو الجديدة في قطاع التكنولوجيا، شبكات من المتعاقدين التابعين تتنافس بعضها ضد بعض. وفي الوقت ذاته، مكّنت حقوق الملكية الفكرية التي تولد الاحتكار الشركات الكبرى من الاستحواذ على النصيب الأكبر من الأرباح الناتجة عن هذه التركيبة الجديدة.21
يتعلق الإغفال الثالث بمصادر الابتكار. ركزت الشركات الشبكية الإيطالية التي تحدث عنها بيور وسابل على الابتكار ضمن نطاق منتجاتها الحالية، فكانت تنتج تصاميم جديدة للأحذية والبلاط والملابس. لكن كما قال شومبيتر: «أضف ما شئت من عربات البريد، لن تحصل على سكة حديدية» 22. وبالمثل، يمكن القول: اربط ما شئت من الشركات المرنة، لن تستطيع تصميم طائرة أو مصنع أشباه موصلات أو خادم اتصالات. أفرط بيور وسابل في التركيز على نوع من الابتكار يسميه دارسو شومبيتر «مارك 1»: الابتكار البطولي (والخرافي في معظم معانيه) من جانب روّاد أعمال يعملون في مرائب (آباء أثرياء بمنازل كبيرة) ويطوّرون شيئاً جديداً كلّياً. لكنهما تجاهلا الابتكار المنهجي من النوع «مارك 2» الذي يجري داخل هيكل إداري هرمي قادر على الحفاظ على الكم الهائل من المعرفة البشرية والعملية (سواء الأساسية أو التطبيقية) الضرورية لتطوير وإنتاج المنتجات المعقدة 23. وعلى الرغم من غلبة الشركات من نوع «مارك 1» في بعض قطاعات البرمجيات، وعدم إحراز الكثير من الشركات الكبيرة من نوع «مارك 2» سوى تحسينات تدريجية، فإنّ معظم الابتكارات التي رسمت ملامح القطاعات التكنولوجية الجديدة جاءت من ابتكار منهجي من النوع «مارك 2» قامت به الشركات الكبرى، أو استحوذت عليه من شركات متعاقِدة أصغر. إنّ العلاقات التي رأى بيور وسابل أنّها تتلاشى في الانقسام الصناعي الثاني هي التي تَسِم سلاسل التوريد الحديثة التي هي في الغالب شبكات من الشركات الخاضعة تهيمن عليها – وتستغلها – شركات كبرى تمتلك حقوق الملكية الفكرية.
رابعاً، أغفل بيور وسابل الجانب المالي الجوهري في الاقتصادات الرأسمالية. الشركات موجودة لتحقيق الأرباح، لكنّها تحتاج إلى الائتمان لتشغيل أعمالها، بالإضافة إلى خلق أصول مالية متنوعة لتوظيف أرباحها النقدية. وكما تشير كارلوتا بيريز، فالتنمية التحتية الهائلة التي تدعم موجات النمو الشومبيتري تتطلب استثمارات مالية ضخمة بالمثل 24. لكنّ بيور وسابل لم يكن لديهما أدوات لفهم كيف يمكن لـ«الابتكار» المالي (إقرأ.ي، الاستغلال والنزعة قصيرة الأمد في «نموذج قيمة المساهمين») أن يعيد تشكيل التنظيم المؤسسي ويؤثر في الصراعات التوزيعية المركزية في الرأسمالية. فقد عزّزت الضغوط المالية المتجسدة في نموذج قيمة المساهمين التحول نحو بنية تنظيمية تُظهر تفكّكاً رأسياً من الناحية القانونية، لكنّها لا تزال بحكم الأمر الواقع مترابطة، تركِّز الأرباح في يد حفنة من الشركات من خلال أسواق الموردين الخاضعة لسيطرتها.
أخيراً، أغفل بيوري وسابل دور المنافسة والصراعات الجيوسياسية التي حفّزت معظم الابتكارات الجذرية التي أنجزتها شركات من النوع «مارك 2». تاريخياً، كانت دوافع الأمن القومي السبب وراء دفع الدول إلى تعزيز الابتكارات الجذرية، والأهم من ذلك، توسيع البنية التحتية الجديدة. فدور وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) في تمويل ما يُعرَف اليوم بالإنترنت في الولايات المتحدة معروف جيداً، ولا يختلف عن توسع أنظمة السكك الحديدية في القرن التاسع عشر وبرامج الكهرباء في النصف الأول إلى منتصف القرن العشرين، وتوحيد المنتجات 25، وشبكات الاتصالات في النصف الثاني من القرن العشرين. وبالمثل، قادت اعتبارات الأمن القومي وضرورات الحروب الكثير من الأبحاث في مجالات كالصناعات الدوائية والإلكترونيات والمواد الجديدة (القديمة الآن) 26. باختصار، كانت الحرب ولا تزال أمّ كل ما يتعلق بالأبحاث الأساسية والمراحل الأولى من الابتكار الجذري، وإنْ صارت تطبيقات تلك التكنولوجيا في النهاية مدنية. لقد فات بيور وسابل استيعاب حجم الدعم الذي قدمته الحكومة الأميركية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أواخر السبعينيات والثمانينيات، وهو الدعم الذي مكّن الشركات الخاصة من تطوير الهياكل التنظيمية الجديدة «الفرنشايز» المميزة لموجة النمو القائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقانة الحيوية 27.
تفسير التدهور
تشير أخطاء الإغفال الخمسة إلى الديناميات الداخلية التي أضعفت في النهاية موجة النمو تلك، وتسببت بالفترة الحالية من التدهور التي نشهدها. فبدلاً من تحقيق استقرار جديد قائم على المنافسة الأفقية، أسفر التحوّل نحو السوق عن هيمنة رأسية تعتمد على مطالبات تتعلق بالملكية الفكرية المرتبطة بالعلامات التجارية وسلاسل التوريد الخاضعة لشركات تلك العلامات. ففي كل قطاع تقريباً، استحوذت مجموعة صغيرة من الشركات على الجزء الأكبر من الأرباح. في القطاع الواسع للحواسيب (الرمز NACE 26)، بلغ مؤشر جيني لعدم المساواة في الأرباح التراكمية قبل الضرائب بين عامي 2010 و2019 مستوى مرتفعاً جداً، وصل إلى 0.907، وهو أعلى بكثير من مؤشر جيني لدخل الأسر في الولايات المتحدة (0.48)، أو حتى السويد (0.29)، فقد استحوذت أكبر 20 شركة من أصل 6511 على أكثر من نصف الأرباح. وبالمثل، في قطاع الأدوية (الرمز NACE 21، ويشمل 2677 شركة)، بلغ المؤشر 0.895 واستحوذت الشركات الكبرى على 63% من الأرباح. أما قطاع السيارات الواسع (الرمز NACE 29، 1190 شركة)، فسجل مؤشر جيني 0.921، مع استحواذ عدد محدود من الشركات على 67% من الأرباح.28
كانت الحرب ولا تزال أمّ كل ما يتعلق بالأبحاث الأساسية والمراحل الأولى من الابتكار الجذري، وإنْ صارت تطبيقات تلك التكنولوجيا في النهاية مدنيةدفعت تقنيتان متعدّدتا الأغراض موجة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كانت الأولى انخفاض كلفة الحوسبة، وبسببها انفتحت آفاق واسعة لنشر البرمجيات في الإنتاج والاتصالات، وهو ما ساهم في تقليل بعض جمود أكلاف العمالة والمخزون في الإنتاج الضخم. ومع المزيد من الأتمتة المرنة وتحسين فهم رغبات المستهلك للشركات تسنى التحول من إنتاج مخزون قد يكون غير قابل للبيع إلى نموذج يشبه «الصنع عند الطلب»، توجّه بموجبه الشركات الكبرى المتعاقدين لصنع المنتجات بعد التزام العميل بالدفع. أما الرقمنة، فقد خفضت أكلاف النقل والمعاملات للكثير من الخدمات (لم يعد من حاجة لزيارة البنك أو وكيل السفر، على سبيل المثال). وفي حين كان لتقنيات التقانة الحيوية تأثير اقتصادي أقل نسبياً، فقد سمحت تقنيات الحمض النووي المؤتلف لشركات الأدوية الانتقال من العمليات التقليدية المنهكة لاكتشاف الأدوية وأدوية الجزيئات الصغيرة إلى تشخيصات أدق وأدوية بيولوجية بحزيئات أكبر، والأهم من ذلك تصنيع الأنسولين البشري. كما مكّنتنا التقانة الحيوية من هندسة منتجات زراعية ذات ميزات غذائية أفضل ومقاومة للآفات وعالية الإنتاجية، على الرغم من إثارتها مقاومة اجتماعية ضد ما عُرف بـ«الأطعمة المعدلة وراثياً».
دفعت هاتان التقنيتان موجة استثمار ونمو في خلال تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الثالثة، غير أنّهما أطلقتا أيضاً ديناميات تدهور مرتبطة بالاستراتيجيات والهياكل التنظيمية والابتكار والجوانب الجيوسياسية والمالية المذكورة آنفاً. وتوجد بكل تأكيد حدود تقنية أو مادية لموجة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتقانة الحيوية. بحلول العام 2014، بلغت تقنيات إنتاج أشباه الموصلات حداً يبدو نهائياً، فقد صارت عناصر الرقائق («البوابات» أو «العقد») صغيرة جداً لدرجة أنّ التأثيرات دون الذرية قد تعيق عملها. جاءت الجهود للتغلب على هذا التحدي بالانتقال من بنية ثنائية الأبعاد إلى بنية ثلاثية الأبعاد، فأبطأت وتيرة تضاعف كثافة الترانزستورات كل عامين (قانون مور). لكن التحول إلى البوابات ثلاثية الأبعاد قلَبَ الاتجاه التاريخي المتمثل في انخفاض كلفة البوابة الواحدة. ومنذ العام 2012، بدأت كلفة إنتاج بوابة الترانزستور بالارتفاع، ليعكس قفزة في كلفة إنشاء منشأة تصنيع أشباه الموصلات المتطورة من نحو 5 مليارات دولار في أوائل العقد الأول من الألفية إلى 20 مليار دولار بحلول العام 2020. 29. ومع استحواذ الهواتف الذكية على نحو ثلث الإنتاج العالمي من أشباه الموصلات، ونسبة أكبر من الإنتاج المتقدم، قد يكون بلوغ مبيعات الهواتف الذكية ذروتها قبل ست سنوات عامل كبح محتمل للطلب على أشباه الموصلات.
بيد أنّ الحدود التنظيمية والاجتماعية الناشئة ذاتياً كانت أعمق من الحدود التقنية. وعلى الرغم من أنّ التقانة الحيوية أفرزت مجموعة واسعة من الأدوية المتطورة والفعالة، فقد تسبّبت أسعارها الباهظة بتهديد الاستقرار المالي لأنظمة الصحة العامة، بما فيها النظام الأميركي، إذ تموّل الميزانيات العامة نحو نصف الرعاية الصحية مباشرةً، أو ما يعادل الثلثين عند احتساب الإعفاءات الضريبية. وتعكس سياسات الميزانية الحكومية اليوم هذا المأزق. من منظور أسواق الأسهم، بررت زيادةُ الأرباح، وبالتبعية زيادة العائدات على أصول مادية باتت أقل عدداً بكثير، ارتفاعَ القيمة السوقية للشركات الرائدة التي لا تمتلك مصانع. وفي الوقت نفسه، خاضت الشركات العاملة في الإنتاج الفعلي منافسة شرسة فيما بينها، إذ كانت الشركات الرائدة تهدّد بإنهاء العقود ما لم تقدم الشركات الخاضعة تخفيضات سنوية في الأسعار، أو، في حالة متاجر البقالة، أموالاً مقابل وضع المنتجات في أماكن مميزة. أما الشركات الفائزة، فقد تخلت عن الإنتاج كثيف العمالة وكثيف رأس المال المادي، لتعيد تشكيل نفسها على صورة مالك لحقوق الملكية الفكرية بلا مصانع. وأسفر نقل الإنتاج إلى الخارج وتعهيده عن الوصول إلى عمالة أرخص، بل خلق تلك العمالة. وحاولت الشركات التابعة خفض الأجور إلى أقصى حد ممكن للبقاء في دائرة الربحية، فتفاقم التفاوت في الدخل وتباطأ النمو الاقتصادي. أو هي سعت إلى اندماجات أفقية لاستعادة بعض القوة السوقية. وتفيد هذه الخيارات العقلانية على مستوى الشركات الفردية بانتصار الشركات على العمّال في الصراع التوزيعي العمودي وتقويض الازدهار العام.
فوز الشركات الرائدة في الصراع التوزيعي بين الشركات على حصص من عوائد الأرباح أطلق أيضاً عملية تدهور طالت الابتكار والاستثمار. فقد مالت الشركات الرائدة إلى تقليص استثماراتها في العمليات الإنتاجية الفعلية، بمعنى أنّ أرباحها كانت متاحة لإعادة الاستثمار. ذهب بعض هذه الأرباح إلى الأدوات الاستثمارية التقليدية (على سبيل المثال، إذا شبَّهنا آبل ومايكروسوفت بدولة، فإنّ المجموع الكلي لسنداتهما، والبالغ 112.2 مليار دولار أميركي في سندات الحكومة الأميركية و92.6 مليار دولار في سندات الشركات في العام 2023، كان سيجعلهما تحتلان المرتبة الثالثة عشرة بين أكبر حاملي السندات الأجنبية في الولايات المتحدة، متفوقتان على حاملي الديون الثابتة من كوريا أو ألمانيا أو النرويج). وعلى المنوال نفسه، تسبب منطق تعظيم الأرباح عبر استراتيجية الملكية غير الملموسة والتخفف من الأصول بما سماه كوري دوكتورو «تدهور الجودة» في اقتصاد التطبيقات بالتحديد، والإنترنت بالعموم 30. فقد أخذت المنتجات المفيدة في السابق تفقد فعاليتها بفعل استراتيجيات تحسين نتائج محركات البحث والجهود المستمرة لتعظيم الانتباه ومعدلات النقر وعمليات المطالبة بالشراء.
علامات الاستنفاد
حدث ببطء تحوّل الشركات، بصفته سيرورة اجتماعية، من الهيكل المتكامل رأسياً إلى الهيكل الجديد المنفصل قانونياً. قاومت النقابات تسريح العمال، واضطرت الإدارة للتفنن في التعاقد والبرمجيات الجديدة لإدارة الأعمال، وكان على الدول بناء البنية التحتية المادية لدعم الاستعانة بمصادر خارجية. لكن نصيب الأجور من الناتج المحلي الإجمالي تراجع، ومعه الطلب مقارنة بالعرض. جاءت الأرباح نقداً ولكن كان لا بد من وضعها في بعض الأصول الجديدة: وكان نصيب الأرباح المتزايد يوازيه تزايد في الديون الأسرية 31. لكن الديون المتزايدة لم تكن لتستمر من دون زيادة في الدخل لدعم هذا النمو. وفي غياب ذلك، كان الانهيار حتمياً، وجاء في العام 2008. مع تمسّك البنوك المركزية والساسة في الغالب بمخاوف من التضخّم، اختارت معظم حكومات الدول الغنية استجابات مالية معتدلة لذلك الانهيار، ما خلق عقداً ضائعاً من حيث النمو، ومكَّن السياسة الشعبوية في كل مكان اليوم.
بدلاً من تحقيق استقرار جديد قائم على المنافسة الأفقية، أسفر التحوّل نحو السوق عن هيمنة رأسية تعتمد على مطالبات تتعلّق بالملكية الفكرية وسلاسل التوريد
في غضون ذلك، تدفّقت غالبية الأرباح في ذروة آخر موجة نمو إلى شركات رأس المال المغامر والأسهم الخاصة التي فضّلت الاستثمارات ذات العدد المنخفض من العمّال وقليلة الأصول 32. وفي الواقع، تعد الأسهم الخاصة قمة هذا النموذج: شركات مالية بحتة تمتلك ولكنها لا تولد الملكية الفكرية أو الابتكار المادي. حصة الأسهم الخاصة من الاقتصاد الأميركي صغيرة نسبياً مقارنة بالشركات المدرجة في البورصة 33. في العام 2019، كان لدى 3640 شركة عامة 42 مليون موظف، بينما كانت شركات الأسهم الخاصة تسيطر على 7200 شركة توظف 5.4 مليون عامل. لكن تكشف تلك الأرقام أنّ الأسهم الخاصة عادةً ما تتحكم في الشركات الصغيرة التي تدفع الابتكار من النوع «مارك 1» وتنمو لتصبح الشركات الكبيرة الجديدة التي تقوم بابتكار من النوع «مارك 2». وأخيراً عانت الأسهم الخاصة، شأنها شأن جميع الاستراتيجيات المالية، من التدهور الداخلي إذ شارك المزيد من المستثمرين في تمويل عمليات الاستحواذ من نوع الأسهم الخاصة، وجمعوا الثمار السهلة. بين عامي 1984 و2015، كانت العوائد المعدلة لأسهم شركات الأسهم الخاصة أعلى بنحو 10% من تلك التي يحققها مؤشر ستاندر آند بورز 500، ولم تتفوق صناديق رأس المال المغامر إلا في التسعينيات. بحلول العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، كانت عوائد الأسهم الخاصة أقل من عوائد الاستثمار في شركات مؤشر ستاندر آند بورز 500: 13.8% مقابل 14% 34.
وأخيراً، استنفدت موجة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات نفسها بتغيّر جغرافيا الإنتاج ومن ثم تغيّر توازن القوى الجيوسياسية. فالتحول التنظيمي إلى سلسلة إنتاج من ثلاث طبقات (مالكي الملكية الفكرية، والشركات كثيفة رأس المال في أسواق ذات حواجز دخول مرتفعة، والشركات كثيفة العمالة في أسواق ذات حواجز دخول منخفضة) أسفر عن نقل أجزاء كبيرة من الإنتاج المادي من البلدان الغنية، لا سيما الولايات المتّحدة، إلى الاقتصادات النامية، لا سيما الصين. بحلول العام 2023، كانت الشركات في الصين تنتج 35% من الإنتاج الصناعي العالمي وتولد 29% من القيمة المضافة، مقابل 12% و16% على التوالي في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، كانت حصة الصين من الإنتاج الصناعي العالمي ضعف حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بالمقابل كانت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي نصف حصتها من الأرباح العالمية. ترتبط القيمة المضافة بالربحية، لذا يعكس انقلاب الإنتاج والقيمة المضافة هنا الهيمنة المستمرة للشركات الرائدة الأميركية مقارنة بالشركات الصينية المتعاقدة من الباطن. بيد أنّ الحروب تُكسَب بالإنتاج الفعلي وليس بالأرباح (لا يمكنك استخدام خدمة توصيل الطعام لنقل الذخائر). بحلول أوائل العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ردّت حكومات البلدان الغنية، لا سيما الولايات المتحدة، بمجموعة واسعة من السياسات الصناعية والإعانات الرامية إلى التخفيف من أو عكس الاعتماد على الصين، أسفرت عن انعكاس اتجاهات العولمة لعصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
إذاً ما التالي؟
من حيث المبدأ، يُفترض أن يؤدّي تدهور موجة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والجيل الأول من التقانة الحيوية إلى تحفيز موجة نمو جديدة. والأساس المادي لهذه الموجة الجديدة قد اتضح بالفعل. فقد أصبحت الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح، بالإضافة إلى الطاقة الحرارية الجوفية، أرخص كلفة في الغالب من الوقود الأحفوري، وبدأت تحل محلّه، ما يخفّف من العبء العالمي لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. كما أنّ تقنيات الجينوم الحيوية المعزّزة بالذكاء الاصطناعي، إلى جانب تقنية كريسبر-كاس (CRISPR-Cas) وتقنيات الجيل الثاني من التقانة الحيوية الدقيقة، بالإضافة إلى عمليات التصنيع الإضافي المعزّزة بالذكاء الاصطناعي والمواد الجديدة غير البيولوجية وغير المشتقّة من البتروكيماويات، بدأت بطرح تقنيات جديدة متعددة الأغراض. أما الذكاء الاصطناعي التوليدي فمجرد جانب عرضي في هذا السياق. وتشمل السلع الاستهلاكية الجديدة السيارات الكهربائية، وأنظمة التدفئة الكهربائية، ومواد جديدة كحرير العنكبوت المصنّع حيوياً المستخدم في صناعة المنسوجات.
لكن كل ما هو جوهري يبقى مخفياً في ضباب المستقبل وغموضه، حيث تتشكّل صراعات اجتماعية وسياسية تسهم في بلورة أشكال جديدة من الإنتاج وتنظيم الشركات وخلق الطلب
لكن كل ما هو جوهري يبقى مخفياً في ضباب المستقبل وغموضه، حيث تتشكّل صراعات اجتماعية وسياسية تسهم في بلورة أشكال جديدة من الإنتاج وتنظيم الشركات وخلق الطلب. وهنا يمكن أن نتفهم خطأ قراءة بيور وسابل لاتجاه التغيير. ففي حين باتت محرّكات التغيير المهمّة أوضح، تعتمد النتائج المحتملة على الصراعات المحلية والجيوسياسية. تلك الصراعات تدفع نحو إعادة الطابع الرأسي لبعض جوانب الإنتاج، لا سيما في قطاع السيارات الكهربائية الحيوي. وعلى الهامش، وبالتوازي مع الاحتجاجات والصراعات المحلية، دفعت المخاوف الجيوسياسية بعض الدول إلى توسيع سياساتها الاجتماعية وحماياتها، بما يعيد إلى الأذهان سياسات «الجبهة الداخلية» في حقبة الحرب الباردة الأولى. أخيراً، فإنّ الانهيار الديموغرافي البطيء، المدفوع جزئياً بضعف نمو الأجور وارتفاع الديون، أسهم في تغيير موازين سوق العمل لصالح العمّال، وأعاد إحياء الاهتمام بتأسيس النقابات العمّالية في القطاع الخاص في الولايات المتّحدة.
لكن إذا أصاب بيور وسابل في أمر واحد، فهو إدراكهما التام لعدم حتمية أي انقسام مُحدّد. وكما أوصى يوغي بيرا، نبي الحذر، قد يكون من الحكمة الانتظار بضعة عقود لمعرفة ما ستقوله بومة مينرفا. لكن في هذه الأثناء، يشير انفتاح المستقبل إلى ضرورة التنظيم لصياغة هذا المستقبل. لن يكون هذا المستقبل شبيهاً بالمثالية المتخيّلة لـ«التخصّص المرن» عند بيور وسابل، لكنه أيضاً لا يجب أن يكون استمراراً لهيمنة احتكارات عملاقة تحصد البيانات الشخصية، بينما تقدّم خدمات مشكوك في قيمتها وسلعاً تُنتَج بعمالة مستغلة في الخارج.
نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 27 كانون الأول/ديسمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموجب اتفاقية مع الجهة الناشرة.