معاينة cairo

نظرة في تأثيرات الثورة المضادة في التخطيط العمراني
القاهرة السجينة

في العام 2015، أعلنت الحكومة المصرية سلسلة من خطط التطوير العمراني تضمنت مشروعاً لخلق مدينة خالية من العشوائيات. وفي إطار هذه الخطة، شرعت الدولة في تنفيذ سياسة تهدف إلى إعادة توطين سكان المناطق غير الآمنة، بحسب تصنيف الحكومة، في أحياء جديدة، وإعادة تطوير الأحياء القائمة بتمويل مشترك من استثمارات حكومية ورأس مال خاص. وتصنيف هذه المناطق بغير الآمنة جاء في العام 2008 من صندوق تطوير المناطق العشوائية.

كانت هذه السياسة واحدة من سياسات عدة تهدف إلى تقنين التدمير العمراني تحت مسمى التطوير، بل والأمن أيضاً. شملت السياسات الأخرى تشكيل لجنة في العام 2016 لاسترداد أراضي الدولة، مثل جزيرة الوراق، وتدمير الوحدات السكنية غير المرخصة. ومؤخراً، صدر قانون التصالح في مخالفات البناء، وبموجبه يجب على ملايين السكان دفع غرامات لتقنين وحداتهم السكنية والحفاظ على ممتلكاتهم.

كان حي مثلث ماسبيرو الذي يقطنه 5000 نسمة أول حي تطاله موجة التغييرات، لكنّه كان استثناءً من ناحية تعويض السكان. شملت التعويضات بدائل عينية، فكان بإمكان السكان على سبيل المثال الحصول على سكن اجتماعي أو اختيار العودة إلى الحي نفسه بعد إعادة تطويره على أن يسددوا رهناً لمدة 20 عاماً لامتلاك الشقة. وإذا لم يرتضوا البدائل العينية كان بإمكانهم الحصول على تعويض مالي، وهو الخيار الذي لجأت إليه الكثير من العائلات.

أي شخص يُجري تغييرات مكانية من دون تصريح بات الآن يخضع للعقوبات القانونية والمحاكمة العسكرية

في أحياء أخرى، لم تحصل آلاف العائلات على أي تعويض مقابل إخلائها. ففي حي المدابغ بالقاهرة القديمة، لم يحصل سوى ثلث العائلات على شقق في مشروع الإسكان الاجتماعي. أما الباقي فلم يحصلوا على إعادة توطين ولا تعويض. وتشير التقديرات إلى إخلاء زهاء 2.8 مليون نسمة بين العامين 2018 و2022، في حين لم توفر الدولة سوى 30,000 شقة من الإسكان الاجتماعي، تكفي لإيواء نحو 150,000 نسمة. ومَن اعترض على الإخلاء أو تدمير منزله تعرض للسجن لأسابيع عدّة.

تأتي هذه الإخلاءات ضمن جهد أوسع لتأمين الجغرافيا الحضرية للقاهرة. ففي ظل رئاسة عبد الفتاح السيسي، أصبح السجن وسيلة للحكم، إذ زُجَّ بمئات الآلاف في المعتقلات بلا تهمة واضحة أو محاكمات عادلة. بل إن المكان نفسه قد بات أشبه بالسجن منذ أعقاب ثورة 2011 وانقلاب 2013.

معاينة figure 01

حي مثلث ماسبيرو قبل التدمير وبعده. المصدر: غوغل إيرث

جاءت انتفاضة 2011 حاملةً معها شعوراً جديداً بالانتماء إلى المدينة. تشكّلت لجان شعبية في الأحياء للتصدي للتحديات المحلية، من قبيل نقص خدمات تصريف المياه وتدهور المباني. ولكن بعد شهر من الانقلاب على محمد مرسي، وبالتحديد في 14 آب/أغسطس 2013، وقعت مجزرة استمرت أربع ساعات ضد جماعة الإخوان المسلمين راح ضحيتها 800 شخص. كانت مجزرة رابعة بداية لما يمكن وصفه بسَجْن المكان، إذ أصبحت مراقبة الأماكن سمة طبيعية للحياة الحضرية. أُغلِق ميدان التحرير، وتمركزت فيه الدبّابات العسكرية والجنود بحالة تأهب مستمرة. كما خضعت معظم الميادين الأصغر في وسط القاهرة، بما فيها ميدان طلعت حرب وميدان مصطفى كامل، لحراسة مشدّدة.

امتدّت المراقبة من ميدان التحرير ووسط المدينة إلى أحياء أخرى في أنحاء القاهرة. فُرِض حظر تجوال من آب/أغسطس 2013 حتى كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته. وإلى جانب الانتشار اليومي للدبابات العسكرية في الشوارع، أقامت قوات الأمن مئات الحواجز الأمنية. رُفِضت بطاقات الهوية الوطنية المنتهية الصلاحية، ولم يُسمح بمرور مجموعات تزيد عن خمسة أشخاص.

تقود موجة المشروعات العمرانية العملاقة، بما فيها العاصمة الإدارية الجديدة للرئيس السيسي، إلى أشكال جديدة من التحكّم الأمني المكاني في المدينة

موجة البناء والتدمير العمراني الهائلة منذ العام 2015 ساهمت في تمديد تأثيرات هذه السلطة المضادة للثورة. فالأغلبية من السكان الذين تأثروا بموجة الإخلاءات منذ 2018 كانوا هم ذاتهم من شاركوا في ثورة 2011 والانتفاضات اللاحقة في العام 2013.

في العام 2020، أنشأت وزارة الدفاع وحدة جديدة في كل محافظة تحت مسمّى مركز رصد المتغيّرات المكانية تتبع إدارة المساحة العسكرية. تمارس هذه الوحدة رقابة محلية مشدّدة على عمليات البناء. وأي شخص يُجري تغييرات مكانية من دون تصريح (إضافة غرفة أو طابق لمبنى أو هدم جزء من منزل مثلاً) بات الآن يخضع للعقوبات القانونية والمحاكمة العسكرية. وعند شرح هذه السياسة، استند رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى الأمن القومي قائلاً: «سنوقف أي محاولات بناء مخالف سواء على الأراضي الزراعية أو غيرها تماماً، باعتبار أنّ هذا الملف أصبح قضية أمن قومي». وعلى الرغم من عدم توضيح طبيعة هذه التهديدات، استحوذت الدولة بالكامل على عملية التطوير باسم الأمن القومي، لتستبعد بذلك المجتمع المصري من المشاركة في سيرورة صناعة المكان.

خريطة الإخلاء بناءً على بيانات صندوق تطوير المناطق العشوائية

علاوةً على ذلك، تقود موجة المشروعات العمرانية العملاقة الجارية حالياً، بما فيها العاصمة الإدارية الجديدة للرئيس السيسي في المناطق الصحراوية الشرقية بين القاهرة والسويس، إلى أشكال جديدة من التحكم الأمني المكاني في المدينة. من المقرر أن تضم العاصمة الجديدة ثماني مناطق سكنية، ومنطقتين حكوميتين، ومناطق ترفيهية واستثمارية، وحيّاً دبلوماسياً، وحي الأعمال المركزي، وحياً للرئاسة، وغيرها من الأحياء. وبحسب الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء للعام 2021، انتهت الحكومة من بناء 40 ألف جسر في عام واحد على مستوى البلاد لاستيعاب المزيد من حركة المرور ورفع مستوى الطرق السريعة. إلى جانب ذلك، أنشأت قرابة 100 ألف ميل من الطرق الجديدة. تسبّبت هذه الطرق بتدمير المساحات الخضراء في أحياء القاهرة القديمة التي كانت تقطنها الطبقة الوسطى والعليا، لكن الأهم من ذلك أنّها زادت من سيطرة الأجهزة الأمنية على المدينة وقدرتها على المراقبة. ففي الذكرى السنوية لثورة 2011، يُلاحظ انتشار قوات الأمن على الجسور المرتفعة لمراقبة حركة الأفراد. رُكِّبَت كاميرات مراقبة في المواقع الجديدة المرتفعة، فضلاً عن وجود 6,000 كاميرا مراقبة في العاصمة الجديدة.

أسفرت هذه الشبكات الضخمة من الطرق والجسور المعلّقة عن تقطيع أوصال الأحياء وعزل الكثير منها، وبات التنقّل سيراً على الأقدام أصعب

لقد أسفرت هذه الشبكات الضخمة من الطرق والجسور المعلقة عن تقطيع أوصال الأحياء وعزل العديد منها، وبات التنقل سيراً على الأقدام أصعب. أصبح المشي صعباً في أحياء عدة: إذ تفتقر الطرق الجديدة إلى إشارات المشاة، ما يزيد من خطورة الشوارع المزدحمة في القاهرة، وتبدو وفيات المشاة في ازدياد.

لم يقتصر الأمر على الحد من حركة الناس فحسب، بل حتى قدرتهم على التحكم في المكان باتت مقيدة. يصف سكان القاهرة التغييرات في مساراتهم اليومية بأنّها تبعث شعوراً بعدم الانتماء إلى المكان. وفوق كل هذا يواجه هؤلاء خطر السجن إذا اعترضوا على التغيرات الجغرافية. في وقت كتابتي لهذا المقال، لا يزال سكان جزيرة الوراق، الذين يواجهون عمليات إخلاء بسبب قانون استصلاح الأراضي الصادر في العام 2016، يتظاهرون ضد عمليات الهدم. وقد تعرض الكثير منهم لجولات من الاعتقال والإفراج في خلال هذه العملية. لقد أحالت عمليات البناء والهدم جغرافيا القاهرة الحضرية (وحياتها الحضرية ذاتها) إلى سجينة.

نُشر هذا المقال في MERIP في عدد خريف 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة. 

    علاء بريك هنيدي

    مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.