Preview رأس المال يتحرّك

رأس المال يتحرّك

رأس المال يتحرّك. إنها عبارة بديهية، لدرجة أن ما من جدوى من كتابتها أو عنونة مقال بها. وبالتالي إن التأويل البديهي لعبارة «رأس المال يتحرّك» تعني أنّ رأس المال يغادر مكانه وينتقل إلى مكانٍ آخر. يجري تصدير رأس المال البريطاني من أجل استثماره في أفريقيا، ورأس المال الياباني يغادر اليابان ويتدفّق إلى الولايات المتّحدة. يُعرف رأس المال بوصفه ثابتاً، لكنّه قادر أيضاً على الحركة. ورأس المال مرتبط، لكنّه قادر على حلّ روابطه. وبالتالي، تمتلك شركة فولكس فاغن مصنعاً للسيّارات في بويبلا بالمسكيك، لكنّنا نعلم أنها قادرة على إغلاق مصنعها ونقل رأس مالها إلى مكانٍ آخر. رأس المال قادر على التحرّك، لكنّه مُحدّد أولاً بارتباطاته: ارتباطه بشركة (مثل فولكس فاغن)، وارتباطه بفرع من الصناعة (صناعة السيارات)، وارتباطه بمكان (بويبلا أو ألمانيا). وهكذا إذا اتبعنا المنطق نفسه، فعادة ما يشار إلى رأس المال المُستثمر في صناعة النسيج بوصفه رأس مال النسيج»، ورأس المال في القطاع المصرفي بوصفه «رأس المال البنكي»، ورأس المال المملوك لمكسيكيين «رأس مال مكسيكي»، والمملوك لأميركيين «رأس مال أميركي».. إلخ. وعلى الرغم من أن قدرة رأس المال على الحركة أو فكّ ارتباطه عن مالك مُعيّن أو فرع ما من النشاط الاقتصادي ليست موضع تساؤل، تصبح حركة رأس المال ثانوية بالنسبة إلى تعريفها بالثبات أو الارتباط. 

في كلّ تلك الأمثلة، يُعامل رأس المال بوصفه شيئاً. شيءٌ يمكن امتلاكه، شيءٌ عادة ما يرتبط بمكان أو شركة أو فرع من النشاط الاقتصادي، شيءٌ يمكن تحريكه من مكان لآخر، أو من شركة لأخرى، أو من نشاط اقتصادي لنشاط آخر.

قضى ماركس غالبيّة حياته لإثبات أن رأس المال ليس شيئاً، بل علاقة اجتماعية على شكل مُصنّم لشيءكلّ ذلك بديهي، لكن بمجرّد أنّ نحاول ان ننزع عن رأس المال شيئيّته، يصبح الأمر أقل بديهية. لماذا يجب علينا محاولة أن ننزع عن رأس المال شيئيّته؟ لماذا لا يُعدّ التحليل الواضح لحركة رأس المال كافياً؟ تعتمد الإجابة بالتأكيد على ما نريد أنّ نفهمه. إذا كنا نريد أن نفهم التطوّر الرأسمالي كاقتصاديين، أو إذا كنا نريد فهم الطريقة التي يسيطر بها رأس المال على المجتمع، إذن ربّما ما من سبب لوضع شيئيّة رأس المال موضع تساؤل. لكن إذا أردنا أن نفهم هشاشة رأس المال وتصدّعه، لا سيطرته أو إعادة إنتاجه، أو بعبارة أخرى، إذا أردنا أن نفهم كيف يمكن أن ندمّر الرأسمالية، وليس طريقة عملها، إذن نحن بحاجة إلى فتح شيئيّة رأس المال، إلى كسر وقائعيتها، إلى كسر وهم/حقيقة أن «رأس المال وتحرّكه وحكمه هي الطريقة التي تسير بها الأمور». لهذا السبب قضى ماركس غالبيّة حياته لإثبات أن رأس المال ليس شيئاً، بل علاقة اجتماعية على شكل مُصنّم لشيء.

إذا فهمنا أن رأس المال علاقة اجتماعية وليس شيئاً، فما الذي يعنيه قول «رأس المال يتحرّك»؟ الإجابة الآن هي أقل بديهية. كيف يمكن لعلاقة اجتماعية أن تتحرّك؟ لا يمكن أن يشير تحرّك رأس المال إلّا إلى حركة، أو بتعبير أفضل، إلى تدفّق أو سيولة العلاقات الاجتماعية للرأسمالية وعلاقات السلطة في ظل الرأسمالية.

يمكن رؤية ما تعنيه حركة العلاقات الاجتماعية الرأسمالية بصورةٍ أفضل من خلال مقارنة الرأسمالية والإقطاعية. كانت علاقات السيطرة/الاستغلال في ظل الإقطاعية مباشرة وشخصية، لأنّ القن كان مُقيّداً بسيّدٍ نبيل معيّن، والسيّد النبيل كان محدوداً باستغلال قنّ ورثه أو استطاع إخضاعه بطريقة ما. إنّ كلا الجانبين من الانقسام الطبقي مرتبطان: القن مقيّد بسيّدٍ مُعيّن، والسيّد مُقيّد بمجموعة معيّنة من الأقنان. إذا كان النبيل قاسياً، لم يكن بمقدور القنّ أن يقرّر الذهاب إلى سيّد آخر والعمل لديه. وإذا كان الأقنان كسالى أو غير مهرة أو متمرّدين، يمكن للسيّد فرض الانضباط عليهم، لكن لا يمكنه طردهم. العلاقة بين القنّ والنبيل كانت ذات طبيعة ثابتة. من جانبٍ، عبّرت ثورات الأقنان عن السخط الناجم عن تلك العلاقة، ومن جانب آخر، سعى السادة النبلاء إلى التوسّع في السلطة والثروة. أثبتت العلاقة الشخصية الثابتة للقيد الإقطاعي أنها غير ملائمة كشكلٍ من احتواء قوّة العمّال واستغلالهم. لقد هرب الأقنان إلى المدن، وقَبِل السادة الإقطاعيون تنقيد علاقة السيطرة.

وبذلك كان الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية حركة تحرّر على كلا جانبي الانقسام الطبقي. لقد هرب كلا الجانبين من بعضهما البعض؛ هرب الأقنان من السادة النبلاء (مثلما تُشدّد النظرية الليبرالية)، كما هرب السادة النبلاء من الأقنان عن طريق تحريك ثرواتهم المنقّدة. هرب كلا الجانبين من علاقة سيطرة أثبتت عدم فعاليتها (كشكل من أشكال السيطرة). هرب كلا الجانبين نحو الحرّية.

يهرب رأس المال بطبيعته من العمل المتمرّد سعياً لتراكم الثروة، لكن لا يستطيع أبداً الهرب من اعتماده على خضوع العملوبالتالي يمثل الهروب نحو الحرّية أمراً مركزياً في الانتقال من اﻹقطاعية إلى الرأسمالية، لكن ثمّة بالطبع فهمين مختلفين ومتعارضين للحرّية هنا (ازدواجية كامنة في التناقض المركزي للنظرية الليبرالية). كان هرب اﻷقنان هرباً من الخضوع للنبيل، أي هرب الذين لسببٍ أو ﻵخر لم يعودوا يقبلون الخضوع القديم، إنه هرب المتمرّدين. أما هروب النبلاء فكان نقيضاً لذلك؛ عندما حوّلوا ثرواتهم إلى نقود، شكّل ذلك هرباً من عدم ملائمة الخضوع القديم، هرباً من التمرّد. على جانبٍ، نجد هروب المتمرّدين، وعلى الجانب الآخر، نجد هروباً من المتمرّدين. وإذا نظرت إليهما من أي جانبٍ، تجد أن تمّرد العمّال شكّل القوّة الدافعة للانتقال الجديد من العلاقة الطبقية، وهو الهروب المُتبادل للقنّ والسيّد من بعضهما.

إنّ هروب المتمرّدين على العمل والهروب من التمرّد على العمل، والتنافر بين الطبقتين، لا يذيب العلاقة الطبقية بالطبع، ﻷنّه بالنسبة إلى كلٍّ من القنّ والسيد، ما يعترض الهروب إلى الحرّية هو إعادة فرض قيد الاعتمادية المُتبادلة، حيث يجد الأقنان المُحرَرين أنهم ليسوا أحراراً في التوقّف عن العمل لأنهم لا يتحكّمون في وسائل اﻹنتاج، ولأنهم مجبرون على العمل لدى سيّد آخر، وهو شخص يتحكّم بوسائل اﻹنتاج. ولكي يبقى على قيد الحياة، عليه أن يُخضِع نفسه مُجدّداً. ولكن هذا لا يعني العودة إلى العلاقة القديمة: فهم لم يعودوا مقيّدين إلى سيّد بعيّنه، بل أحراراً إذا أرادوا التحرّك وترك السيّد والعمل لدى آخر. ينطوي الانتقال من اﻹقطاعية إلى الرأسمالية على نزع شخصنة علاقة السيطرة أو تفسّخها أو إسالتها. لم تلغَ علاقة الاستغلال بإذابة روابط الاستعباد الشخصي، بل جرى تغيير أساسي في شكلها. ذاب القيد المُحدّد الذي ربط القنّ بسيّد واحد مُعيّن، واستُبدِل بعلاقة سائلة متنقّلة مُتفسّخة من الخضوع إلى الطبقة الرأسمالية. لقد دخل هرب المتمرّد في تعريف العلاقة الطبقية الجديدة ذاتها. 

على الجانب اﻵخر من المجتمع، وجد السادة السابقين (النبلاء) الذين حوّلوا ثرواتهم إلى نقود أنّ الحرّية ليست كما تمنّوها تماماً،1 ﻷنهم ما زالوا معتمدين على الاستغلال، ومن ثمّ على خضوع المُستَغلِّين، أي العمّال الذين كانوا أقنانهم السابقين. لم يكن هرب المتمرّدين حلاً بالنسبة إلى النبلاء الذين تحوّلوا إلى رأسماليين، ﻷنّ تمدّد ثرواتهم اعتمد على خضوع العمّال. لقد كانوا أحراراً في التخلّي عن استغلال أي مجموعة مُحدّدة من العمال (أياً كانت اﻷسباب: الكسل والمهارات غير الملائمة.. إلخ)، أو تأسيس روابط مباشرة لاستغلال مجموعة أخرى من العمّال، أو أنهم شاركوا في الاستغلال العالمي للعمّال ببساطة من خلال استثمار غير مُنتج. أياً كان الشكل الذي أخذته علاقتهم الخاصّة باستغلال العمّال، فلا يمكن لتمدّد ثرواتهم بعد اﻵن إلّا أن تكون جزءاً من التمدّد الكامل للثروة التي ينتجها العمّال. أياً كان شكل السيطرة الطبقية، يبقى العمل السلطة التأسيسية الحديثة. ومثلما كان الحال عند أقنانهم السابقين، اتضح أنّ الهروب إلى الحرّية هو هروب إلى نوع جديد من الاعتمادية. ومثلما تحوّل هروب اﻷقنان من الخضوع إلى نوع جديد من الخضوع، يعود هروب السادة من التمرّد عليهم إلى الحاجة مجدّداً إلى مواجهة ذلك التمرّد. لكن العلاقة تغيّرت على أي حال، ﻷنّ هروب رأس المال من التمرّد أساسي في صراعه لفرض الخضوع (كما على سبيل المثال، في التهديد القائم ﻹغلاق مصنع أو اﻹفلاس). لقد أصبح الهروب من التمرّد خاصية مُعرِّفة للعلاقة الطبقية الجديدة. 

وبالتالي، يمثِّل تمرّد العمّال المحور الذي يتأسّس عليه رأس المال كلّما ظهر. لا شيء سوى التنافر الطردي المتبادل بين الطبقتين، أي هروب الخضوع والهروب منه، يميّز الرأسمالية عن المجتمعات الطبقية السابقة، والذي يقدّم شكلاً مميّزاً لاستغلال العمل الذي تقوم عليه الرأسمالية مثل أي مجتمع طبقي آخر. يندرج عدم استقرار التمرّد في العلاقة الطبقية بوصفه حركة للعمّال ورأس المال معاً. 

لا تعني عبارة رأس المال يتحرّك أنه ثابت في العادة، والآن يتحرّك، بل إن رأس المال بطبيعته مُتحرّكمنذ البداية، تعتبر العلاقة الطبقية الجديدة، وهي العلاقة بين الرأسماليين والعمّال (أو بعبارة أدقّ، بين رأس المال والعمل، حيث أنها علاقة نُزِعت عنها الصفة الشخصية)، علاقة هروب مُتبادل واعتماد متبادل، بمعنى أنها هروب المتمرّدين وهرباً من المتمرّدين واعتماداً على إعادة الخضوع. يهرب رأس المال بطبيعته من العمل المتمرّد سعياً لتراكم الثروة، لكن لا يستطيع أبداً الهرب من اعتماده على خضوع العمل. ومنذ البداية، يهرب العمل من رأس المال سعياً للاستقلال والراحة واﻹنسانية، لكن لا يستطيع أن يهرب من اعتماده على رأس المال وخضوعه له إلّا عن طريق تدميره، أي تدمير الاستيلاء الخاص على منتجات العمل. وبذلك تتمثّل العلاقة بين رأس المال والعمل في هروب مُتبادل واعتماد مُتبادل، لكن ذلك التبادل غير متماثل، ﻷن العمل يمكنه الهرب، لكن رأس المال لا يمكنه ذلك. رأس المال معتمد على العمل بطريقة تجعل العمل غير معتمد على رأس المال. من دون عمل يزول رأس المال من الوجود، لكن العمل من دون رأس المال يصبح إبداعاً عملياً، وممارسة مبدعة، وإنسانية.

يبقى القن (الذي أصبح عاملاً اﻵن) والسيد النبيل (الذي أصبح رأسمالياً اﻵن) قطبين مُتضادين في علاقة من السيطرة والصراع، لكن لم تعد تلك العلاقة كما كانت عليه، فقد دخل تمرّد العمل في العلاقة في حالة مضطربة، وانتقال وسيولة وتدفّق وانسياب وهروب مستمرّ.2 أصبحت العلاقة الطبقية متغيرة باستمرار، علاقة متحركة بطبيعتها، حيث يشارك كلّ الرأسماليون في استغلال كلّ العمّال، وكلّ العمّال يشاركون في إعادة إنتاج رأس المال، وحيث تتغيّر أنماط الاستغلال وتتلوّن باستمرار. 

مع الانتقال إلى الرأسمالية، حازت جدلية تمرّد العمّال وخضوعهم التي تمثّل جوهر أي علاقة طبقية شكلاً مميزاً - الحركة المضادة للهروب من المتمرّدين على العمل وهروب المتمرّدين ذاتهم إلى خضوعهم المُتجدّد. يجري التعبير عن هذا الشكل التاريخي الفريد في المقولات المألوفة للاقتصاد السياسي: في وجود قوّة العمل ومنتجاته في صورة سلع، وفي وجود القيمة والنقود ورأس المال. تعبّر كلّ هذه المقولات عن الطبيعة غير المباشرة أو المُفكّكة للسيطرة الرأسمالية. وتعبّر كلّها عن حقيقة خضوع العمّال في الرأسمالية من خلال «الحرية»؛ «حرية العامل» و«حرية الرأسمالي»، أو بعبارة أخرى، الهروب من العمّال وهروب العمّال أنفسهم. وبالتالي تمثّل تلك المقولات، التي تجسّد طبيعة التطوّر الرأسمالي، في الحقيقة تعبيرات عن الوجود المميّز لتمرّد العمّال داخل علاقة الخضوع الرأسمالية، أي عن الفوضى في قلب السيطرة الرأسمالية. 

يبدو هذا انقلاباً، فنحن لسنا معتادين على التفكير في القيمة بتلك المصطلحات، بل نحن معتادين على التفكير في القيمة كنظام مستقرّ («قانون القيمة») وبوصفها القيد الاجتماعي في مجتمع من المنتجين المستقلّين. هذا صحيح، لكن فقط إذا كان غرضه التأكيد على نقد النظرية الليبرالية. ففي الواقع، تقول فكرة «قانون القيمة»، «على الرغم من المظاهر، فإن الحقيقة تقول أن ثمّة رابط اجتماعي يقيّد المنتجين المُستقلّين ظاهرياً معاً ويعمل من وراءهم، وهو قانون القيمة». إذا لم نبدأ من مظهر الفردية المتشظّي على الجانب اﻵخر، وبدأنا من الاشتعال التاريخي لتمرّد العمل في قلب مصطلح الخضوع، ستعبّر القيمة عن التشظّي الذي أشاعه هذا الاشتعال في السيطرة اﻹقطاعية اﻷكثر تجانساً. يعبّر قانون القيمة عن خروج القيمة عن القانون في الوقت نفسه. وما القيمة إلّا التعبير الاقتصادي السياسي لحضور هروب المتمرّدين والهرب منهم في الخضوع ذاته، مثلما الحرّية هي التعبير القاطع في النظرية السياسية الليبرالية.

تعد القيمة، في شكل النقود، السيولة الجديدة للعلاقة الطبقية، فحقيقة أن النقود تتوسّط العلاقات الاجتماعية هي التي تجعل تبديل العامل السيّد بسيّد آخر ممكناً في كلّ مرة يبيع قوّة عمله من أجل مقدار مُحدّد من النقود، وحقيقة أن النبلاء الذين أصبحوا رأسماليين باستطاعتهم تحويل ثروتهم إلى نقود هي التي تجعلهم يهجرون مجموعة من العمّال، وينتقلون إلى مجموعة أخرى ويساهمون في الاستغلال العالمي للعمّال.

ليست الماركسية نظرية عن سلطة رأس المال، بل هي نظرية عن قوّة العمّال المتمرّدينلا تذيب النقود العلاقة الطبقية فحسب، بل إنّها تحوّلها أو تصنّمها كذلك، فهي تصبغ العلاقة الطبقية بلونها، جاعلة علاقة الخضوع والتمرّد تبدو كعلاقة بين غني وفقير، وعلاقة انعدام مساواة بين أصحاب النقود ومن لا يملكونها، بدلاً من أن تبدو علاقة تضاد. إنّها تحوّل العلاقة المُضادة للخضوع والتمرّد إلى علاقة نقود، وتحوّل الهروب من الخضوع وهروبه، التي تميّز علاقة رأس المال بالعمّال، إلى حركة النقود وحركة رأس المال (فتفهم بوصفها ظاهرة اقتصادية).

إن العبارة العادية التي افتتحنا بها المقال، «رأس المال يتحرّك»، اكتسبت الآن معنى جديداً، لأنها أصبحت عبارة طاطولجية، «لا تعني عبارة رأس المال يتحرّك أنه ثابت في العادة، والآن يتحرّك، بل إن رأس المال بطبيعته مُتحرّك».

إذاً رأس المال هو علاقة اجتماعية، لكنّها ليست مجرّد علاقة اجتماعية من الاستغلال/الخضوع/السيطرة، بل إنّها علاقة اجتماعية من الخضوع حيث يتبدّى التمرّد في حركة قلقة متواصلة. هذه الحركة وظيفية (مثلما يجرى انمساخ رأس المال من إنتاج إلى سلعة إلى نقود إلى رأس مال جديد ثمّ يكرّر دورته) ومساحية (مثلما يهرب رأس المال ويتدفّق في العالم بحثاً عن وسائل للتمدّد الذاتي). يجري التعبير عن الوحدة الغريبة بين الخضوع والتمرّد التي تميّز رأس المال تحديداً في وحدة الإنتاج وتدويره، أو في الوحدة بين الأشكال الوظيفية المختلفة لدورة رأس المال (كما ناقشها ماركس في المجلد الثاني من رأس المال)، أو في وحدة العالم بوصفه بؤرة الصراع الطبقي (العلاقة بين التمرّد والخضوع). وفي مقابل ذلك، لا يمكن فهم اضطراب الإنتاج وتدويره أو الأشكال الوظيفية المختلفة لدورة رأس المال أو الهروب المساحي لرأس المال وسريانه إلّا بوصفه تفكّكاً داخل وحدة التمرّد والخضوع، وانعدام القدرة المستمرّ على احتواء العمّال، والاجتياح المستمرّ للتمرّد إنطلاقاً من الخضوع، ووقوف العمّال ضدّ رأس المال وداخله (وليس مجرّد داخله وضده).

كلّ هذا هو مجرّد إعادة صياغة وتطوير لما مثّل الفكرة المركزية لجدالات مؤتمر الاقتصاديين الاشتراكيين (CSE) في خلال العشرين عاماً الماضية وأكثر: نقد البنيوية وفصلها للبنية عن النضال. يمثّل فصل البنية عن الصراع بشكل أساسي فصلاً بين الخضوع والتمرّد. لقد أصبح شائعاً في التقليد الماركسي السائد (في المدارس الوظيفية والبنيوية إلى حدّ كبير) التفكير في الرأسمالية بوصفها نظاماً من السيطرة والخضوع يعيد إنتاج نفسه بصورة أساسية، حيث يعرقله الصراع الطبقي من آنٍ إلى آخر (التعبير الصريح عن التمرّد)، وبوصفها نظاماً يعيد إنتاج نفسه حيث يصبح فيه العمّال المُستغَلِّين ضحايا، إلّا في المناسبات النادرة التي ينخرطون فيها في صراع مفتوح. في هذا التقليد، يجري فهم نظرية قيمة العمل بوصفها الآلية التي تفسّر إعادة إنتاج الرأسمالية، لكن ثمة تجاهل لأكثر مميزات نظرية قيمة العمل وضوحاً - وهو أنها نظرية حول اعتمادية رأس المال على العمل، ومن ثم أنها نظرية للصراع الطبقي. من المهمّ في مواجهة هذا التقليد المُتبلد والمذل من الماركسية الشائعة أن نعيد التأكيد على وحدة التمرّد والخضوع، والحضور المدمّر الهدّام الفوضوي للتمرّد داخل تعريف الخضوع ذاته.

الطريقة التي يجري فيها استخدام فكرة حركة رأس المال في الكثير من النقاشات الجارية حول «عولمة»، تعدُّ رأس المال مثالاً على الفصل بين الخضوع والتمرّد والبنية والصراع. يظهر العمّال في تلك النقاشات، إذا ظهروا مطلقاً، باعتبارهم ضحايا التطوّرات الأخيرة للسيطرة الرأسمالية، حيث يحمل اللاعبون أسماء مثل رأس المال الأميركي، ورأس المال الياباني، ورأس المال الأوروبي، ورأس المال المالي. تركّز النقاشات على تمدّد سلطة «رأس المال المالي»، وعلى «الصراع الإمبريالي الداخلي بين رأس المال الأميركي ورأس المال الياباني».. إلخ. تنهض كلّ تلك المقولات على فكرة أن رأس المال شيء، وهي فكرة تستثني محاولة فهم اضطراب رأس المال انطلاقاً من قوة التمرّد. إذا جرى فهم التغيرات الحالية في الرأسمالية بوصفها صراعاً بين الرساميل الوطنية المختلفة3 ، إذاً سيبدو الصراع الطبقي، إذا ظهر مطلقاً، مجرّد ردّ فعل على شكل السيطرة المتغيّر، لا بوصفه جوهر التغيير. كل شيء ينقلب رأساً على عقب: يجري النظر إلى عولمة رأس المال (التي اعتبرها إشارة نحو التزايد الهائل في سرعة هروب/انتشار رأس المال في صورته النقدية وحجمه) بوصفها تضخّماً في سلطة رأس المال، بدلاً من أن تكون إعلاناً عن عدم قدرة رأس المال على إخضاع العمّال، لكن عنف النقود يمثّل مقياساً لهروب رأس المال من تمرّد العمّال ومن يأس حاجته إلى إعادة الإخضاع.4

ليست الماركسية نظرية عن سلطة رأس المال، بل هي نظرية عن قوّة العمّال المتمرّدين.

تُرجم هذا المقال بموافقة مسبقة من الكاتب جون هولواي. 
نُشِر هذا المقال للمرة الأولى في خريف 1995 في مجلّة «رأس المال والطبقة»، ثمّ أعاد الكاتب نشره مع مجموعة أخرى من مقالاته في كتاب بعنوان «أزمة رأس المال كامنة فينا» صدر في العام 2019.

  • 1لاحظ المنظّر الماركسي كريستوفر جي. آرثر في تعليق مفيد على المسودة الأولى لهذه الورقة أنها «تؤكّد عملياً أن الرأسمالي ما هو إلّا نبيلاً وقد غيّر جلده، لكن هذه فرضية تاريخية تحريفية على نطاق واسع بلا أدلة مقدمة. يجب عليه الاعتراف بالقصة المعتادة القائلة بأن ثمّة نمط جديد من الإنتاج أدّى إلى انحطاط النبلاء وصعود الرأسماليين على الأقل، وحدوث صراع طبقي حادّ بين الطرفين على الأكثر، تخلّلهما أحداث عظام مثل الثورة الفرنسية». وإنه محق تماماً، لأن أطروحة هذه الورقة تفيد بأن الرأسمالي ليس إلّا نبيلاً متحوّلاً. لكن المهم ليس قضية الاستمرارية الشخصية (المقدمة في بعض الحالات، والغائبة في بعضها الآخر)، لكن فهم الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية بوصفه تغيّراً في شكل علاقة السيطرة والصراع، أو بتعبير أصح، تمرّد العمّال وخضوعهم. إذا جرى فهم الطبقة ليس بوصفها مجموعة من الناس (رأسماليين ونبلاء)، بل كقطب في علاقة تضاد من السيطرة (cf. Marx; Gunn 1987)، فسيكون من الخطأ أن نرى الصراع بين الرأسماليين والنبلاء بوصفه صراعاً بين طبقتين، بل بالأحرى صراعاً حول شكل السيطرة الطبقية، وشكل إخضاع العمّال المتمرّدين. لمعرفة المزيد حول «الفرضيات التاريخية التحريفية على نطاق كبير»، يرجى الإطلاع على عمل غيرستنبرغر (1990) الذي يدعم أطروحة مماثلة ضد أرثوذكسية المؤرّخين الماركسيين بأدلة غنية مبهرة (أنظر بالإنكليزية إلى أعمال Gerstenberger 1992; Holloway 1993; Gerstenberger 1993).
  • 2ما يتبع ذلك أن التنافر الطبقي لا يمكن فهمه من زاوية اﻹنتاج ببساطة، لكن من زاوية وحدة التداول واﻹنتاج، فرؤية اﻹنتاج بوصفه أساسياً وتدويره بوصفه ثانوياً تميل إلى الرؤية القائلة بأن الطبقة العاملة طبقة من الناس الخاضعين في اﻹنتاج، أي بروليتاريا صناعية. إذا جرى فهم رأس المال من زاوية اﻹنتاج وتدويره (أو وحدة هرب المتمرّد والهرب من التمرّد واﻹخضاع)، فسوف تظهر صورة أخرى. يعيش رأس المال عن طريق اﻹخضاع ثمّ الهرب من التمرّد الذي لا ينفصم عن الخضوع، فهو يتمصّ العمل كي يستغلّه ثم يبصقه بوصفه شيئاً كريهاً. التنافر الذي يؤسّس الطبقة العاملة ليس مقتصراً على اﻹخضاع، بل على اﻹخضاع والتمرّد، ﻷن الطبقة العاملة ليست مكوّنة من ضحايا خاضعين بل المتمرّدين الذين يهرب رأس المال منهم لكن يجب عليه إخضاعهم. إذا عاش رأس المال بالامتصاص والبصق، يمكن تصوّر الطبقة العاملة بوصفها شيئاً كريهاً يجري مصّه وبصقه على اﻷرض.
  • 3هذا هو التبرير الوحيد للفكرة القائلة بأن «رأس المال الوطني سيوضع في سياق فهم الدولة الوطنية بوصفه عائقاً أمام تحقيق التكافؤ في المعدل العالمي للربح» (كارل ماركس، رأس المال، المجلد الثالث، الفصل العاشر). لكنني لم أر أحداً قدّم تلك الحجة، وعلى أية حال يجب تقديمها بمصطلحات طبقية. وإنني لا أرى سبباً على الإطلاق لمنح صلاحية مسبقة لمثل تلك المقولات المشكوك فيها مثل بريطانيا أو الولايات المتّحدة أو المسكيك أو إيرلندا أو اليابان.. إلخ. مثل أي مقولة أخرى في النظرية الاجتماعية، يجب نقدهم جميعاً.
  • 4يبدو وكأن هذه الورقة تحلّق في الهواء لكنها ليست كذلك، فخلفها يكمن السؤال حول علاقة انتفاضة الزاباتيستا في إقليم تشياباس وخفض قيمة البيزو المكسيكي، بالإضافة إلى الاضطراب في أسواق المال العالمية (الخطر البنيوي على الرأسمالية العالمية) التي حفّزتها تلك الانتفاضة. يجعل فهم هروب رأس المال من المكسيك بوصفه ظاهرة اقتصادية بعيدة عن التمرّد في إقليم تشياباس (انفصال البنية عن النضال) من عقد الوحدة بين شكلين من السخط، في ريف تشياباس والعاصمة مكسيكو سيتي، أمراً صعباً، لكن بمجرد إشعال فتيل الصلة بينهما يمكن تغيير العالم.