معاينة الصين بين التبعية والقيادة

يد خفية
الصين بين التبعية والقيادة

لطالما كانت نظرية التبعية مثار جدل منذ صعودها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كأداة لتحليل إخفاق الكثير من بلدان الجنوب في تحقيق التنمية المرجوة على الرغم من استقلالها الرسمي، وقد رُفضت هذه النظرية من البعض على اعتبار أن الزمن تجاوزها، خصوصاً مع بدء انتشار التصنيع في بلدان الجنوب ثم صعود الصين كقوة اقتصادية كبرى على مستوى العالم. 

عادة تتم المجادلة بأن النظرية تتجاهل الصراع الطبقي على حساب الأبعاد الجغرافية والمساحية، وأن التوابع السياسية لذلك ستؤدي بالضرورة إلى تحالف الطبقة العاملة الجنوبية مع البرجوازيات في دولها الوطنية على حساب الطبقة العاملة الأممية، بما إن محاولتها لتفسير الفجوة الكبيرة في التنمية بين البلدان الأغنى والأفقر، خصوصاً في مرحلة بعد الاستقلال وانتهاء عصر النهب الصريح للموارد، أفضى إلى لوم الإندماج من موقع تابع في النظام الرأسمالي العالمي. 

في هذا السياق، تكون البرجوازية الوطنية في الجنوب مجرد وكيلة ووسيطة لمصالح الرأسمالية في الشمال، ويعني هنا موقع التابع – وفقاً للنظرية – تصدير الموارد الحيوية إلى الدولة، سواء معادن أو مواد زراعية أو عمل بشري، بقيم منخفضة جداً، في مقابل استيراد سلع مصنعة وتكنولوجيا مرتفعة التكلفة، فيما يتم الاستيلاء على غالبية القيمة المنتجة في الجنوب من الشمال من خلال التبادل التجاري اللامتكافئ وسلاسل القيمة العالمية. 

تشكّل الصناعة الآن نحو 21% من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، في حين لا يتعدى نصيبها من ناتج البلدان المرتفعة الدخل 13%

تم إعلان وفاة نظرية التبعية من البعض بحلول العام 1973 بالفعل، فنجد المفكر الماركسي البريطاني بيل وارين يكتب: «من اللافت، إن لم يكن من غير المسبوق، أن يُولي الباحثون الاشتراكيون اهتماماً بالغاً بظاهرة التبعية في الوقت الذي تعاني فيه هذه الظاهرة ذاتها من تراجع لا رجعة فيه [...] ففي عالم يتغير بسرعة وبطريقة معقدة للغاية، هناك احتمال أن يتأخر التحليل الماركسي — الذي تعتمد عليه في نهاية المطاف قدرة الماركسية على تغيير المجتمع — عن الواقع بشكل خطير، وأن لا يتم ملاحظة العناصر الجديدة في الوضع، ما يؤدي إلى تشويه في الفهم يضعف بشكل حاسم من الاستراتيجية الثورية».

لكن الواقع المعاصر يؤكد أن خصائص النظام العالمي التي بنت عليها نظرية التبعية حججها لم تندثر، بل أعادت إنتاج نفسها بشكل أعمق وبأدوات جديدة وأساليب أكثر تعقيداً، على الرغم من انتقال المركز الرأسمالي من الإنتاج الصناعي إلى الخدمات والأرباح الريعية والأنشطة التمويلية. 

مستجدات ظاهرية لكن الجوهر واحد

المستجد الرئيسي الذي يجعل كثيرون يشككون في قدرة النظرية على التعامل مع واقعنا المعاصر هو صعود الصناعة في الجنوب العالمي وأفولها في الشمال. تشكّل الصناعة الآن نحو 21% من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، في حين لا يتعدى نصيبها من ناتج البلدان المرتفعة الدخل 13%، ما يجعل البلدان الأقل دخلاً، في الواقع، هي البلدان الصناعية على عكس المقولة الشائعة. ولعل أهم مؤشرين على أن العالم التي بنت عليه التبعية نظريتها مازال حاضراً في جوهره على الرغم من تبدل تفاصيله الظاهرية هو دينامية ما يسمى بـ «منحنى الابتسامة المتنامية» وبيانات التبادل البيئي اللامتكافئ.

ففي الوقت الذي تشهد فيه بعض دول الجنوب صعوداً في معدلات التصنيع، تنخفض قيمة التصنيع ذاته بشكل دائم. يظهر هذا بوضوح في «منحنى الابتسامة الآخذة في الكبر» (Growing Smile Curve)، الذي يوضح كيف أن مراحل التصميم والتطوير والبحث والتسويق — والتي يقع أغلبها في المركز الرأسمالي — تحصل على حصة متزايدة من القيمة المضافة والأرباح، بينما ينقص بشكل متزايد فائض القيمة المنتزع من خلال مرحلة التصنيع التي انتقلت إلى الأطراف، ما يتخذ شكل ابتسامة متنامية (أنظر.ي الشكل أدناه). لم يكن انتقال التصنيع نفياً للتبعية، بل تعميقاً لها، إذ باتت الصناعات الطرفية تخدم البنى الاقتصادية الخدمية في المركز، مثل شركات التكنولوجيا والبرمجيات والتمويل.

الصين بين التبعية والقيادة

تتجسد هذه الدينامية في حالة شركة آبل، فهي شركة خدمية في جوهرها على الرغم من بيعها لأجهزة مادية. لا تأتي القيمة الأساسية التي تُحصّلها آبل من الإنتاج المادي للهاتف في الصين أو الهند، بل من التصميم وتطوير البرمجيات في كاليفورنيا، وإدارة العلامة التجارية واحتكار براءات الاختراع والتوزيع. في المقابل، يتم تنفيذ الجزء الصناعي في مصانع فوكسكون في الهند والصين، التي تعتمد على عمل منخفض الأجر وقيمة مضافة محدودة، وتبقى خاضعة لشروط احتكارية تفرضها الشركات في المركز.

ثانياً، أضافت المرحلة المعاصرة من الرأسمالية شكلاً جديداً من التبادل اللامتكافئ، وهو التبادل البيئي اللامتكافئ، حيث تمتص دول الشمال فوائض الموارد والطاقة والعمل من الجنوب من خلال التبادل التجاري. تشير بيانات التبادل البيئي المدمج في التجارة الدولية إلى أن الولايات المتحدة تحقق صافي تدفّق سنوياً لكل فرد يبلغ حوالي 6.5 أطنان من المواد الخام، و23 غيغاجول من الطاقة، و70 يوم عمل بشري، ما يجعلها من أكثر الدول استفادة من التبادل البيئي غير المتكافئ. 

يعني هذا أن المواطن الأميركي العادي يستهلك أكثر بكثير من متوسط نصيب الفرد من الموارد العالمية، مستفيداً من استخراجها وإنتاجها في دول أخرى. في المقابل، يُظهر الفرد الصيني نمطاً معاكساً، إذ يصدر في المتوسط بشكل صافي طناً واحداً من المواد الخام، و8 غيغاجول من الطاقة، و20 يوم عمل بشري سنوياً، ما يعكس دوره في تزويد النظام الاقتصادي العالمي بالفوائض المادية والعمالية. 

أضافت المرحلة المعاصرة من الرأسمالية شكلاً جديداً من التبادل اللامتكافئ، وهو التبادل البيئي اللامتكافئ، حيث تمتص دول الشمال فوائض الموارد والطاقة والعمل من الجنوب من خلال التبادل التجاري

وعلى مستوى القيمة المضافة لكل وحدة من الموارد الطبيعية، تُحقّق الولايات المتحدة 113 دولار من القيمة المضافة لكل تيراجول من الطاقة المستهلكة، و131 دولار لكل ساعة عمل بشرية، و0.57 دولار لكل طن من المواد الخام المستخدمة. أما الصين، فتُحقق 68 دولار لكل تيراجول طاقة، و15 دولار فقط لكل ساعة عمل بشرية، و0.29 دولار لكل طن من المواد الخام، ما يبرز الفجوة الحادة في العائد الاقتصادي لكل وحدة من المدخلات الإنتاجية. بالمجمل، تستورد الولايات المتحدة صافياً يعادل 2.06 مليار طن من المواد الخام، و7.59 مليار غيغاجول من الطاقة، و299,429 سنة عمل بشرية سنوياً، في حين تصدر الصين هذه الموارد بقيمة صافية تبلغ 1.37 مليار طن، و11.31 مليار غيغاجول، و74.6 مليون سنة عمل سنوياً. 1

بالإضافة إلى كل ذلك، مازال أجر العامل الشمالي يشكل أضعاف أجر العامل في الصين. في منتصف السبعينات أثار منظّر التبعية الشهير ومطوّر نظرية التبادل اللامتكافئ، أرغيري إيمانويل، الجدل في أوساط الماركسيين المؤمنين بأممية الطبقة العاملة ووحدة مصالحهم بشأن تحليله القائل بأن العمال في شمال العالم هم مستخلصون صافيون لفائض القيمة الناتج من استغلال العمال في الجنوب. 

ويستند إيمانويل في ذلك إلى عملية حسابية بسيطة، إذ ضرب متوسط أجر العامل الأميركي في عدد عمال العالم، ووجد أن النتيجة تشكل أضعاف الدخل القومي العالمي، ما يعني أن العمال الشماليين يستفيدون بشكل صافي من القيمة التي تُنتزع من العمال في الأطراف. على الرغم من ماركسية إيمانويل، شككت هذه الفكرة في الفرضية الماركسية بشأن وحدة مصالح عمال العالم وواجهت بطبيعة الحال انتقادات كثيرة في هذا الصدد، لإبرازها كيف أن العمال في الدول المتقدمة يشكلون «أرستقراطية عمالية»، ما يدعم استمرار السياسات الإمبريالية بدعم أول على الأقل وبصمت من الطبقة العاملة الشمالية. ما زال هذا التفاوت قائماً حتى اليوم ويبلغ متوسط الأجور في أوروبا حالياً نحو 40 ألف يورو سنوياً بينما يبلغ متوسط دخل الفرد عالمياً نحو 13 ألف دولار.

الكتلة في مقابل المعدل

من الأمثلة الأخرى التي يُستشهد بها عادة كدليل على تجاوز نظرية التبعية، هو صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية وقرب تجاوزها للولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم. كيف يكون الاقتصاد الأكبر في العالم اقتصاداً طرفياً؟ الصين على الرغم من قوتها الاقتصادية الهائلة لم تغيّر بنية التقسيم الدولي للعمل بعد، ولم تعكس اتجاه تدفق فائض القيمة والموارد من المركز إلى الأطراف.

يؤدي الحجم الهائل للاقتصاد الصيني إلى تشويش يُخفي موقعه الطرفي ضمن الاقتصاد العالمي. يوحي الإنتاج الضخم وحجم الصادرات الهائل بمكانة مركزية، لكن لا تنعكس هذه الكتلة الاقتصادية بالضرورة في مستويات موازية من القيمة المضافة أو إنتاجية الفرد. فحين ننظر إلى المؤشرات الإجمالية، يبدو أن الصين تُمثل قوة اقتصادية مركزية، لكن عند تحليل البيانات على مستوى الفرد أو مقارنة معدلات الربحية، يظهر أن مركز الصين لا يزال في أغلب الجوانب أقرب إلى الهامش منه إلى المركز، مع العلم أن نظرية التبعية وما تلاها من تطويرات أضافت مجموعة من الدول تصفها كنصف كطرفية للتعامل مع نمط البلدان مثل الصين.

يلفت الجغرافي والاقتصادي ديفيد هارفي النظر إلى التوتر الذي يحدث عادة بسبب حسابات الكتلة في مقابل المعدل. يجادل هارفي في أهمية الكتلة في مقابل المعدل الذي يستحوذ على كل اهتمام الاقتصاديين، ويضرب مثالاً بالتغير المناخي وعلاقة الطلب الكلي بالنمو، إلا أن المسألة بالنسبة إلى الصين تكاد تكون معكوسة حيث يولي المتابعون الاهتمام بكتلة الاقتصاد الصيني على حساب معدلاته. 

يبلغ متوسط الأجور في أوروبا حالياً نحو 40 ألف يورو سنوياً بينما يبلغ متوسط دخل الفرد عالمياً نحو 13 ألف دولار

وعلى الرغم من الكتلة الهائلة للاقتصاد الصيني، إلا أن معدلات القيمة المضافة والإنتاجية تكشف أن الصين ما زالت تحتل موقعاً طرفياً – أو على الأقل نصف طرفياً – في الاقتصاد العالمي، وإن كان طرفاً عملاقاً وفعّالاً، فإنتاجية العامل الصيني تضعها في المركز 90 على مستوى العالم (بعد مناطق مثل شمال أفريقيا وأميركا اللاتينية ووسط وشرق آسيا)، وتحتل الصين المركز 63 عالمياً بالنسبة إلى القيمة المضافة للعامل.

يجدر التنويه إلى أن مؤشرات الإنتاجية كما تُحسب عادة عبر قسمة الناتج المحلي الإجمالي النقدي على عدد العمال لا تعكس بدقة حجم أو أهمية الإنتاج الفعلي أو الحيوي في الاقتصاد. فالصين، على الرغم من كونها «مصنع العالم» وتنتج نسبة ضخمة من السلع الاستهلاكية والصناعية عالمياً، تُظهر مستويات إنتاجية منخفضة لأن الحسابات تعتمد على تشوه منظومة الأسعار العالمية، التي تُحدّد غالباً من الأسواق في الشمال العالمي، وتُقلل من القيمة التبادلية للسلع كثيفة العمل والموارد. 

بذلك، تظهر الاقتصادات الصناعية في الجنوب كاقتصادات منخفضة الإنتاجية، على الرغم من أنها تتحمل عبء الإنتاج المادي العالمي، وهو ما يكشف عن البعد الأيديولوجي في مفهوم الإنتاجية. المؤشر أيضاً اعتباطي إلى حد كبير، ويعظم من الممارسات الاحتكارية، فمثلاً لو كانت عاملة تعمل في شركة أدوية احتكارية تنتج الدواء غالياً ثم تنتهي براءة الاحتكار وتنهار أسعار الدواء، ستنهار أيضاً إنتاجية العاملة على الرغم من عدم تغير أي شيء في إنتاجها. كذلك لو زادت أسعار السلع الأولية بسبب صدمات عرض، ستزيد إنتاجية العاملين في هذا القطاع على الرغم من عدم زيادة إنتاجهم.

بالإضافة إلى ذلك، يبلغ معامل التحويل لليوان الصيني في مقابل الدولار 3.64، ما يعني أن الدولار يمكنه شراء في الصين ما قيمته 3.64 دولار في الولايات المتحدة، وهو دليل على انخفاض القيمة الشديد في الصين وهو من أهم خصائص الاقتصادات الطرفية. كما يشكل نصيب الفرد الصيني من الناتج المحلي الإجمالي ربع نظيره في بلدان الدخل الأعلى، ومعدل الربح والتراكم الرأسمالي في الصين لا يتجاوز نصف نظيره الأميركي.

من بين السمات البنيوية التي تؤكد على موقع الصين الطرفي داخل النظام الرأسمالي العالمي هو اللجوء إلى «التوسع العقاري الطائش» كوسيلة لتحفيز النمو وتخفيف صدمات الاقتصاد العالمي خصوصاً بعد أزمة 2008، الذي كاد أن يعصف بالاقتصاد الصيني ككل في العام  2020 وقت أزمة إفلاس شركة إيفرغراند ومازالت الأزمة مستمرة حتى الآن. فكما هو الحال في الكثير من بلدان الجنوب، لم يكن خيار الصين بالتوسع العمراني الكثيف تعبيراً عن رؤية تنموية بقدر ما كان محاولة للالتفاف على حدود التقسيم الدولي للعمل التي تمنع الأطراف من التقدم في سلاسل القيمة العالمية، فالعقار كسلعة غير قابلة للتداول يتيح استخدام أدوات محلية لتحفيز الاقتصاد من دون الاصطدام المباشر بحواجز الدورات الرأسمالية والتجارة والملكية الفكرية والتكنولوجيا. 

الصناعة كامتداد للاستخراج

لا يفقد تحليل علاقات التبعية صلاحيته أمام انتشار التصنيع. فالتصنيع كثيف الموارد منخفض القيمة لا يختلف في جوهره الآن عن تصدير المواد الأولية منخفضة القيمة من بلدان الجنوب للشمال، والتي بنت عليها التبعية نظريتها وتحليلاتها في ستينيات القرن الماضي. كل ما جرى هو أن تم استبدال التصنيع بالزراعة والاستخراج في الجنوب، والخدمات بالتصنيع في الشمال. سمح انتشار التكنولوجيا الصناعية – بشكل جعل الصناعة مجالاً تنافسياً مفتوحاً وبالتالي منخفض الربحية – بهذا الانتقال، فتنازُل الشمال عن التصنيع كان طوعياً بسبب أنه بات تنافسياً ومنخفض القيمة.

من بين السمات البنيوية التي تؤكد على موقع الصين الطرفي داخل النظام الرأسمالي العالمي هو اللجوء إلى «التوسع العقاري الطائش» كوسيلة لتحفيز النمو وتخفيف صدمات الاقتصاد العالمي 

لا يمكن التعبير عن هذا التنازل بشكل أبلغ من تعليق منظّر الأعمال الأميركي مايكل بورتر، حين قال: «كنا نعتقد أن الخدمات تقتصر على تقليب البرغر، أما اليوم فعلينا أن نفكر فيها كعلم صواريخ. تكمن القيمة العالية اليوم في الخدمات، لا في التصنيع. فصناعة الأشياء بحد ذاتها تُعد منخفضة القيمة نسبياً، ولهذا يتم تنفيذها في الصين أو تايلاند».

بالطبع يجب على التبعية أن تطور من أدواتها وفقاً للمستجدات العالمية، إذ لم يعد التبادل اللامتكافئ مقصوراً على تبادل السلع الأولية منخفضة القيمة وكثيفة العمالة بالمنتجات المصنعة عالية القيمة وكثيفة رأس المال، بل بات يشمل أيضاً أشكالاً أشد تركيباً من السيطرة الرأسمالية بسبب تمحور التبعية الجديدة حول تبادل سلع غير ملموسة مثل احتكارات الملكية الفكرية والريع المعلوماتي، والنظم التمويلية، والهندسة المعقدة لسلاسل التوريد العالمية بموارد طبيعية وبشرية.

إن «وفاة» التبعية التي أعلنها البعض لم تكن إلا نتيجة لتغير الشكل الظاهري للعلاقات الاقتصادية الدولية، من دون تفكيك البنية الجوهرية التي ما زالت تعيد إنتاج التبادل اللامتكافئ. تعمّقت اليوم العلاقات التجارية بين دول الشمال والجنوب بدرجة غير مسبوقة بحيث أصبح ثلث ما ينتج على مستوى العالم يباع خارج حدود الدولة صعوداً من نحو 10% في الستينيات. غير أن هذه العلاقات على الرغم من اتساعها لم تؤد إلى تقارب اقتصادي بين المركز الرأسمالي والاقتصادات الطرفية على مستوى المعدلات، وإن حصل بعض التقارب على مستوى الكتل بسبب الزيادة السكانية الكبيرة لبلدان الجنوب الذي جعل اقتصاداتها تحتل نسبة أكبر من الاقتصاد العالمي.

من هنا، تظل نظرية التبعية إطاراً مهماً لفهم تحولات الاقتصاد السياسي العالمي، خصوصاً إذا ما تجاوزنا القراءة القشرية التي تحصرها في نموذج تصدير المواد الخام واستيراد السلع المصنعة، وبدلاً من ذلك نتناولها كتحليل للعلاقات البنيوية والتاريخية بين المركز والطرف، مهما تغيرت طبيعة السلع المتبادلة أو أسماء القطاعات.

ويجب أخيراً التأكيد على أن موقع الصين – أو موقع أي اقتصاد أو حيز جغرافي – في النظام الاقتصادي العالمي ليس ثابتاً أو مقدراً بشكل نهائي والتبعية نفسها تقر بذلك بل تروج له للتحفيز على التحرر من قبضة نظم التجارة اللامتكافئة على سبيل المثال، يظهر سمير أمين عبر دراساته التاريخية أن التغيير في النظام العالمي لا يأتي من المركز، بل ينطلق في الأغلب من الأطراف، فقد كانت أوروبا نفسها في مراحل تاريخية سابقة على الرأسمالية الصناعية جزءاً من الهامش كما يجادل أمين. 

في هذا الإطار، يمكن النظر إلى موقع الصين في الاقتصاد السياسي العالمي من خلال جدلية السيد والعبد الشهيرة لهيغل، إذ تبدو الصين في وضعية «العبد» الذي انخرط في العمل والإنتاج المادي المكثف لصالح «السيد» الذي يحتكر رأس المال والريع المعرفي ومنظومة القواعد الاقتصادية. إلا أن هذا التراتبية تحتوي في طياتها على مفارقة بنيوية، فالسيد على الرغم من هيمنته يعتمد على العبد في تلبية حاجاته الأساسية، بينما يطوّر العبد وعيه الذاتي ومهاراته من خلال العمل والاحتكاك بالمادة ما يجعله أكثر استقلالاً. بهذا المعنى، فإن اعتماد الغرب على الصين في التصنيع وسلاسل التوريد، يقابله تزايد في قدرة الصين على الاستقلال والوعي الذاتي.

  • 1

    حسابات المؤلف استناداً لبيانات دراسة C. Dorninger, A. Hornborg, D. J. Abson, H. von Wehrden, A. Schaffartzik, S. Giljum, J.-O. Engler, R. L. Feller, K. Hubacek, and H. Wieland. 2021. “Global Patterns of Ecologically Unequal Exchange: Implications for Sustainability in the 21st Century.” Ecological Economics 179: 106824. doi:[Cross Ref].