معاينة mining cobalt

يد خفيّة
أموال حرّة وأجساد مقيّدة: الفاشية كنتيجة لتقييد الهجرة

مررت إدارة ترامب في خلال الأسابيع الماضية مقترحاً بحظر الهجرة والسفر لمواطني 43 دولة من الجنوب العالمي، ويأتي هذا المقترح تتويجاً لصعود السياسات المعادية للهجرة على جانبي الأطلسي في الولايات المتحدة وأوروبا. تجادل هذه المقالة أن الهجرة – منذ صعود الرأسمالية ووسائل الترحال الحديثة - لم تكن إلا مقيدة تقييداً شديداً، وأن هذا التقييد هو الذي يسمح بالتراكم الرأسمالي الحاد بل وصعود الفاشية ذاتها، على عكس الاعتقاد السائد بأن التساهل مع الهجرة هو الذي أدّى إلى صعود سياسات اليمين المتطرف.

مرّ الجنوب العالمي في العقود الأخيرة بعملية حادة جداً من خفض قيمة العمل وقيمة منتجاته من خلال خفض قيمة عملاته أو ما يطلق عليه التعويم، وهو الشرط الذي كان موجوداً في أغلب برامج الإصلاح الهيكلي وفي شروط قروض صندوق النقد الدولي التي اجتاحت كل الجنوب العالمي تقريباً منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتي وقتنا هذا. في مقال سابق نشر العام الماضي، جادلت أن هذه التخفيضات المتتالية لقيمة العملة كانت تطبق على عملات قيمها منخفضة بالفعل لتزيد من حدة التبادل اللامتكافئ للموارد الحيوية والطبيعية (ومنها العمل) في التجارة الدولية. نشر بعدها الاقتصادي الأنثروبولوجي جايسون هيكيل مع فريقه دراسة في مجلة «Nature» الشهيرة، تظهر أن الجنوب العالمي يساهم بأكثر من 90% من العمل المبذول عالمياً، ولا يحصل عماله إلا على 21% من الدخل العالمي. وزادت هذه النسبة من 85% في العام 1995، وفقاً للدراسة نفسها. 

الجنوب العالمي يساهم بأكثر من 90% من العمل المبذول عالمياً، ولا يحصل عماله إلا على 21% من الدخل العالمي

يحدث هذا الاختلال الكبير والمتزايد بين قيم العمل في الجنوب والشمال بسبب القيود الشديدة جداً على الهجرة، والتي كلما ازدادت حدّتها كلما زاد إغراء رأس المال لنقل الوظائف إلى الجنوب العالمي مثلما حدث في عمليات نزع التصنيع عن الجنوب العالمي. وفّر نزع التصنيع بيئة خصبة لظهور جماعات اليمين المتطرف التي تطالب بالمزيد من تشديد للهجرة وبالتالي المزيد من هروب الوظائف. على عكس الشائع، معدلات الهجرة الحالية - نظراً للتفاوت الكبير جداً في معدلات الدخل والثروة بين البلدان - تعتبر شديدة التواضع وظلت مستقرة في آخر 60 عاماً، حيث مَثِّل المهاجرون 3% فقط من إجمالي سكان العالم في خلال تلك الفترة، ويسكن نصفهم خارج الولايات المتحدة وأوروبا.

تقول دراسة هيكيل عن العلاقة بين برامج التكيف الهيكلي وخفض قيمة منتجات الجنوب إن «نتائج السلاسل الزمنية تُظهر أن موقع الجنوب العالمي تدهور في خلال الفترة بين 1995 و2005، حيث ارتفعت نسبة تبادل عدد ساعات العمل المدمج (embodied labour) بين الجنوب والشمال من 17:1 في 1995-1997 إلى 21:1 في 2003-2005. وتزامنت هذه الفترة مع تطبيق سياسات التكيف الهيكلي القاسية في خلال الثمانينيات والتسعينيات، ما أجبر اقتصادات الجنوب على زيادة صادراتها من العمل المدمج في السلع embodied labour بنسبة 24% فقط للحفاظ على كمية الواردات نفسها من الشمال. تحسّن وضع الجنوب في خلال العقد التالي (2005-2015)، حيث تم تخفيف سياسات التكيف الهيكلي وبدأ أسعار السلع الأولية في الصعود، ما أدّى إلى انخفاض نسبة التبادل إلى 10:1. وقد كان هذا التحسن مدفوعاً بشكل أساسي بتحسن موقع الصين. ومع ذلك، توقفت هذه التحسينات منذ العام 2015، بل وشهدت بعض التراجع».

كيف يتم الحفاظ على العمل رخيصاً في الجنوب؟

تحوّلت البلدان منخفضة الدخل في الجنوب العالمي إلى مصنع للبلدان الغنية في الشمال. لذلك أصبحت اقتصاديات الشمال شديدة الحساسية لأي تطورات إيجابية في الجنوب من شأنها أن تحسّن أجور الطبقات العاملة هناك، فأي زيادة في قيم العملة أو الأجور أو قيمة المنتجات سيؤدي بالضرورة إلى تضخم في بلدان الشمال وضغوطات لزيادة الأجور هناك، فضلاً عن تراجع معدل انتزاع القيمة أو الربحية في سلاسل القيمة التي يسيطر عليها الشمال. سيؤدي هذا إلى ضغط لزيادة الأجور في البلدان الأغنى بطبيعة الحال، ما سيؤدي بدوره إلى الضغط على رأس المال وربحيته هناك. سيصبح هذا الضغط مضاعفاً عندما يحصل الجنوب على حصة متزايدة من أرباح سلاسل القيمة العالمية التي تتحكم فيها البلدان الأغنى وتنتزع أغلب الربحية منها. وفي هذا الصدد صرّح نائب رئيس الولايات المتحدة جي دي فانس في هجومه على العولمة أن الشمال العالمي ظن أنه يمكنه فصل التصميم مرتفع القيمة المضافة والاحتفاظ به في الشمال العالمي، عن التنفيذ منخفض القيمة ونقله إلى الجنوب العالمي، وأن هذا التصور فشل وأن الصين تنتقل من منطقة المُنَفِذ للاستحواذ على حلقات أكثر ربحية من سلسلة القيمة. تكمن مشكلة العولمة بالنسبة إلى فانس في فشلها المُتصوَّر في الاستمرار في استغلال الجنوب للأبد.

واحدة من أهم وسائل العولمة لتفادي زيادة الأجور في الجنوب هو تشديد قواعد الهجرة، فالعمل الرخيص يتطلب فوائض كبيرة من قوة العمل في أماكن تتميز بالكثافة السكانية العالية، من خلال تقييد حركة الأجساد العاملة في حيز جغرافي محدود وكثيف السكان (أنظر.ي خريطة توزيع السكان عالمياً أدناه)، بالإضافة إلى تدخلات سياسات الإصلاح الهيكلي التي دائماً ما تضغط في اتجاه خفض قيم العملات وبالتالي خفض قيمة العمل بالنسبة للخارج.

map

في هذا الإطار تظهر اختلالات ميزان المدفوعات - التي تبرر سياسات تخفيض العملة ولكنها نادراً ما تحلها - كنتيجة لخفض قيمة العمل والمنتجات من خلال تشديد سياسات الهجرة وسياسات الإصلاح الاقتصادي، وليس بسبب استيراد ما يزيد عما يتم استيراده كما هو موضح من تبادل المواد الحيوية والبيئية المذكورة أعلاه. وتظهر أيضاً اختلالات ميزان المدفوعات كنتيجة للفجوة الكبيرة بين بيانات الميزان التجاري وميزان الدخل الأولي والثانوي اللذان يكوِّنا معاً الحساب الجاري. وفي هذا الصدد، يظهر الاقتصادي السنغالي ندونغو سامبا سيلا أنه على الرغم من حصول الكثير من البلدان الأفريقية على فوائض في الميزان التجاري إلا أنها تواجه عجزاً في الميزان الجاري بسبب عجوزات في بنود الحساب الجاري الأخرى (ميزان الدخل)، بسبب تهريب الأموال وتحويل الأرباح إلى الخارج من خلال الشركات متعددة الجنسيات ومدفوعات الفوائد على الديون. باختصار، يعني هذا أن عجوزات الجنوب بعيدة من كونها نتيجة لعدم كفاية الإنتاج أو التصدير لكنها نتيجة مباشرة لسياسات خفض الأجور وتدفقات الأموال من الجنوب للشمال، ما يظهر أيضاً في الفارق الرهيب في كمية العمل المدمج في التبادل التجاري.

مفارقة عمل أنصار توازن السوق على استمرار حالة عدم التوازن

كل هذه الديناميات - وعلى رأسها تقييد الهجرة - أدت إلى عمليات متسارعة ليس من نزع التصنيع في بلدان الشمال فقط، لكن ايضاً من انتقال الكثير من الوظائف الخدمية كخدمات العملاء والبرمجة إلى الجنوب. بالطبع انتقال الأعمال إلى الجنوب يفترض مع الوقت أن يخلق حالة من التوازن من خلال توافر قوة عمل في الشمال وتناقص المتاح في الجنوب، وهو التوازن والتصحيح الذاتي التي عادة ما يبشّر به الرأسماليون لكنهم أيضاً يعملون في الوقت نفسه على تفادي حدوثه.

عجوزات الجنوب بعيدة من كونها نتيجة لعدم كفاية الإنتاج أو التصدير لكنها نتيجة مباشرة لسياسات خفض الأجور وتدفقات الأموال من الجنوب للشمال

يحدث هذا في حالة العمل من خلال تشديد سياسات الهجرة وخفض قيمة العملات، ومن ثم قيمة العمل في الجنوب، بالتزامن مع معدلات زيادة سكانية عالية في الجنوب ومنخفضة في الشمال. فنرى مثلاً أنه على الرغم من انتقال الكثير من الوظائف من الشمال إلى الجنوب، أصبحت معدلات التشغيل بالنسبة إلى سكان أعلى في الشمال العالمي بالتزامن مع العولمة ونزع التصنيع، بسبب قدرة الشمال على خلق فرص عمل كثيرة في القطاع الخدمي كثيف رأس المال، الذي يشغله المتعلمين تعليماً متطوراً من المهاجرين وسكان البلدان من الطبقة الوسطى التي تسكن المدن الكبرى، فضلاً عن وظائف هشة كثيرة في القطاع الخدمي كثيف العمالة الذي يشغلها المهاجرون بشكل رئيسي. 

يؤثر هذا سلباً وبشكل رئيس على المجتمعات الزراعية والمدن الصناعية الصغيرة وسكانها من البيض غير المتعلمين تعليماً عالياً الذين فقدوا وظائفهم الزراعية والصناعية جراء انتقالها إلى الجنوب، ولم يتمكّنوا في الحصول على الوظائف الخدمية عالية الأجر في المدن الكبرى ولا يرغبون في الحصول على الوظائف الهشة المرهقة (مثل خدمات التوصيل والتنظيف والبناء، إلخ) التي يحصل عليها المهاجرين، وهي الوظائف التي تجعل قدراً محدوداً من الهجرة مطلوب. لا يخفى على أحد أن المجتمعات الزراعية والمدن الصناعية الصغيرة من السكان البيض تشكّل القاعدة الاجتماعية الرئيسة لجماعات اليمين المتطرف التي نجحت في إقناع جماهيرها أنهم فقدوا وظائفهم لصالح المهاجرين، لرغبتها في تفادي خلق صراع على فوائض القيمة بين الطبقة العاملة البيضاء والطبقة الرأسمالية البيضاء، وهو ما تحب أن تتفاداه الرأسمالية من خلال إظهار أن ازمة الطبقة العاملة هو بسبب جناح آخر من الطبقة العاملة. ولو كان هذا الجناح أجنبي فهو يسهل كثيراً من المهمة

لكن ماذا لو كانت العولمة مثلما تنادي بحرية حركة رأس المال والسلع، كانت أيضاً تطالب بحركة أكثر حرية لقوى العمل. ألم يكن هذا ليؤدي إلى النتيجة نفسها، وهو فقدان العمالة مرتفعة الأجر في الشمال لوظائفها بسبب توافر بديل أرخص آتٍ من الجنوب حتى لو لم تنتقل الصناعات إلى الجنوب؟

يجدر هنا الإشارة أن عالماً به قيود أقل على الهجرة ليس بالضرورة عالماً لا يوجد بها قيود على حركة رأس المال. إن الخليط الجهنمي بين حرية حركة رأس المال والقيود على حركة العمل هو الذي يؤدي إلى هذا التشابك، لكن وفقاً لسيناريوهات كثيرة أخرى تقيد من حركة رؤوس الأموال أو السلع فممكن الاحتفاظ بالصناعات والزراعات في بلدانها حتى لو كان انتقال العمالة أكثر سهولة.

الهجرة أيضاً مكلفة جداً مادياً ومعنوياً خصوصاً بالنسبة إلى الفئات الأقل دخلاً الذين يهاجرون أقل على عكس الشائع، وأغلب الناس لا يفضلونها إن أتيحت لهم فرص بديلة للعيش المقبول في مناطق سكنهم، حتى لو كانت أقل من بلدان أخرى بعيدة. لذلك تقييد حركة رؤوس الأموال والتجارة بحيث يكون التصنيع والإنتاج موجهان بشكل رئيس للاستهلاك المحلي وليس التبادل الدولي (وهو الأصل التاريخي فنسبة التجارة الدولية من الإنتاج العالمي زادت من 27% في 1970 إلى نحو 75% حالياً)، سيُبقى على فرص العمل في الشمال، ويخلق فرص في الجنوب لو تحرّكت بعض رؤوس الأموال لتمويل عمليات إنتاج بهدف الاستهلاك المحلي، إذ ستخلق فرص عمل في الجنوب لكن ليس على حساب فقدانها في الشمال.

بعبارة أخرى، في ظل النظام الحالي، حيث تتحرك رؤوس الأموال والسلع بحرية ولكن العمالة مقيدة، عانت الطبقة العاملة المحلية في الشمال من خسائر كبيرة في الوظائف بسبب نقل الصناعات إلى الخارج، نحو مناطق أقل تكلفة في الجنوب بسبب تقييد حركة الأجساد العاملة في أحياز جغرافية ضيقة وترسيخ سياسات تجارية واقتصادية تحافظ على قيمة عملهم منخفضة. وفي حين جعل هذا السلع الاستهلاكية أرخص، ركدت الأجور وأُجبِر الكثير من العمال الصناعيين السابقين على العمل في وظائف خدمية ذات أجور أقل أو عانوا من البطالة طويلة الأجل. في عالم يتمتع بحرية كاملة للعمالة ورأس المال والسلع، كان من الممكن أن يكون نزع الصناعة أبطأ، ولكن العمال المحليين كانوا ليواجهوا منافسة شديدة من المهاجرين الراغبين في قبول أجور أقل، ما يؤدي إلى ضغوط على الدخول والأمن الوظيفي. وإذا كانت حركة رأس المال والسلع مقيدة ولكن العمالة أكثر حرية، فإن وظائف التصنيع كانت لتظل محلية.

تقييد الهجرة ليس مجرد أداة للحفاظ على الوظائف المحلية، بل كان ولا يزال أداة جوهرية في تكريس التفاوتات الاقتصادية العالمية، وتعزيز ديناميات الاستغلال

وغالباً أيضاً الخيار الأكثر استدامة بيئياً على الأرجح هو الخيار الأخير. من شأن هذا السيناريو أن يحافظ على الإنتاج محلياً، ما يقلل من البصمة الكربونية المرتبطة بشحن البضائع لمسافات طويلة والتكاليف البيئية للمناطق الصناعية الجديدة السريعة من دون قوانين وأنظمة قوية. من خلال منع الصناعات من الانتقال إلى مناطق ذات قوانين بيئية متساهلة، كان من الممكن أن يشجع ذلك على معايير بيئية محلية أكثر صرامة وطرق إنتاج مستدامة. 

باختصار، تقييد الهجرة ليس مجرد أداة للحفاظ على الوظائف المحلية، بل كان ولا يزال أداة جوهرية في تكريس التفاوتات الاقتصادية العالمية، وتعزيز ديناميات الاستغلال. فعبر إبقاء العمالة في الجنوب مقيدة ومكدسة جغرافياً يستمر انخفاض قيمة عملهم، ما يتيح لرأس المال في المركز أن يستمر في انتزاع القيمة من العمال، بينما يُستخدم فقدان الوظائف في الشمال كذريعة لتحفيز مشاعر العداء تجاه المهاجرين بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية للأزمة الاقتصادية.