Preview عمال المحلة

على هامش إضراب غزل المحلة في مصر

وسط زحمة الأخبار السياسية والاقتصادية، قد لا يمثّل خبر إضراب عمّال شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة المحلة في دلتا النيل، أهمية كبيرة لغالبية المتابعين. ولكن بعض التفاصيل المصاحبة للإضراب ترفعه لمصاف الأخبار الرئيسة في مصر في هذا التوقيت تحديداً.

بدأ عمّال شركة غزل المحلة إضرابهم يوم الخميس 22 شباط/فبراير، على خلفية زيارة محافظ الغربية للمدينة والشركة، لتفقد معرض «أهلاً رمضان» للسلع المخفضة، وهي سلسلة معارض تقيمها الدولة عادة للسلع الغذائية قبيل حلول شهر رمضان. 

ويمكن هنا التوقف عند الملاحظة الأولى، فواقعة الغضب من حضور محافظ الغربية لم تكن الأولى، فقد سبقه محافظ المنوفية، الذي واجه حالة من الغضب الشعبي لدى جولته في معرض «أهلاً رمضان»، اضطرته لمغادرة المعرض، وسبقهما أيضاً وزير التموين عندما ذهب لافتتاح المعرض نفسه في القاهرة. تبدو المفارقة واضحة، فمعارض السلع المخفضة التي تنظّمها الحكومة بهدف امتصاص حالة الغضب الناتجة عن معدّلات التضخم القياسية، خصوصاً في السلع الغذائية لا تقنع الجمهور، الذي تبدو معاناته من ارتفاع الأسعار أكبر من محاولات الحكومة لامتصاصها، وتتحوّل تلك المعارض نفسها لمساحة تعبير عن الغضب من الغلاء، وبدلاً من أن تنقل وسائل الإعلام الترحيب الشعبي بتلك المعارض أصبح الخبر هو الغضب الذي واجهه المسؤولون.

العاملات هن المبادرات

بداية الاحتجاجات بالشركة جاءت من عاملات الشركة، واللاتي انطلقن من مصنع الملابس الجاهزة للتعبير عن الغضب في الشركة والمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور على عمّالها، وتبع تحرّك العاملات انضمام العمّال في مختلف الأقسام للاحتجاج، والذي تحوّل لإضراب عن العمل.

نقابة الشركة التي تمثل النساء ربع عمالها تقريباً، لا تضمّ في تشكيلها أي عاملة، ولم تشهد مجالس النقابة المتتالية في الشركة تمثيل نسائي يذكر

لم تكن تلك المرّة الأولى التي تبدأ عاملات المحلة بالاحتجاج ثم يتبعهن الرجال، فغالبية إضرابات عمّال المحلة بدأتها عاملات مصانع الملابس الجاهزة بالشركة، وربما أشهر مبادرات عاملات المحلة، تلك التي كانت في كانون الأول/ديسمبر 2006، عندما بدأت العاملات بالتظاهر وترديد الهتاف الشهير «الرجالة فين، الستات ها هم» لينضم عمّال الشركة على أثر الهتاف ويبدأ الإضراب.

وهنا تظهر مفارقة أخرى، فمبادرات عاملات المحلة المتتالية، تبدو منطلقة من عاملين، أولهما، أن احتمالات قمع النساء أقل عادة من احتمالات قمع الرجال، وذلك بسبب تقاليد المجتمع المحافظ، خصوصاً في الأقاليم. ثانيهما، أن إحساس النساء بالغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة والضغوط الاقتصادية أعلى عادة من الرجال، وذلك بسبب تحمّل النساء، في المجتمع المحافظ أيضاً، مهمة تدبير أمور الأسرة والمشتريات من الأسواق والمحاولات المضنية لمواجهة احتياجات الأسرة الضرورية مع ارتفاع الأسعار وثبات الدخل. يبدو الأمر غريباً نسبياً، فالقدرة على المبادرة وتأدية دور قيادي في الاحتجاجات العمالية في شركة المحلة، لا ينطلق من أسباب تقدّمية أو تحرّرية، بل على العكس تؤدّي الطبيعة المحافظة للمجتمع الدور الأكبر في دفع النساء للمبادرة وتأدية دور قيادي في الاحتجاجات. ولكن هذا الدور المبادر والقيادي للعاملات في الشركة لم يتجاوز بعد حدود الاحتجاجات، فمثلاً نقابة الشركة التي تمثل النساء ربع عمالها تقريباً، لا تضمّ في تشكيلها أي عاملة، ولم تشهد مجالس النقابة المتتالية في الشركة تمثيل نسائي يذكر.

بانتظار رفع الحد الأدنى للأجور

المطلب الذي رفعه عمّال شركة المحلة في إضرابهم هو تطبيق قرارات رئيس الجمهورية الأخيرة على عمال شركة غزل المحلة، وخصوصاً رفع الحد الأدنى للأجور الى 6 آلاف جنيه، أسوة بقرار رئيس الجمهورية.

وهنا تأتي الملاحظة الرئيسة، فقرار رئيس الجمهورية برفع الحد الأدنى للأجور لنحو 6 آلاف جنيه شهرياً يشمل العاملين بالحكومة والقطاع العام، ولا يشمل العاملين بقطاع الأعمال، وضمنهم عمّال غزل المحلة، وعمّال القطاع الخاص، والذي يخضع الحد الأدنى لأجورهم لقرارات المجلس القومي للأجور.

وبينما يبلغ عدد العاملين في الحكومة والقطاع العام، والذين يستهدفهم قرار رفع الحد الأدنى للأجور لنحو 6 آلاف جنيه، حوالى 5 ملايين عامل، من إجمالي 21.3 مليون عامل بأجر، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن أكثر من 16 مليون عامل لا يستفيدوا من هذا القرار، وسينتظرون ما إذا كان المجلس القومي للأجور سيعيد النظر في الحد الأدنى لأجورهم، ولكن ما يراه العمّال أن الأسعار ترتفع ولا تنتظر قرار المجلس القومي للأجور.

إضراب عمال المحلة للمطالبة برفع الحد الأدنى لأجورهم أسوة بالعاملين بالحكومة يعيد إلى الذاكرة الدور الذي أدّاه عمّال المحلة أنفسهم في قضية الحد الأدنى للأجور في مصر. فقد كان أول تحرك فعلي للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، بعد إهماله لسنوات طويلة من الحكومة من نصيب عمّال المحلة أنفسهم. 

فقد نظّم عمال المحلة في شباط/ فبراير 2008 مظاهرة ضخمة، تجاوز عددها عشرة آلاف عامل، انطلقت من الشركة لشوارع مدينة المحلّة مطالبين برفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 1,200 جنيه. كانت المرة الأولى التي ينظّم فيها عمّال إحدى الشركات احتجاجاً رافعين مطلب يتجاوز مصالح عمّال الشركة إلى مصلحة كاف العاملين بأجر، في تطوّر ملحوظ للوعي والتنظيم بالشركة نتج عن سلسلة من الاحتجاجات التي خاضها العمّال في تلك الفترة. 

بعد مظاهرة عمّال المحلة، أصبح مطلب الحد الأدنى للأجور أحد المطالب الرئيسية للحركة العمالية في أغلب الإضرابات والاحتجاجات العمالية، واستغرق تنفيذ هذا المطلب أربع سنوات، حيث قررت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه في أيلول/سبتمبر 2013، على أن يبدأ تطبيقه مطلع عام 2014، كانت القيمة الفعلية لهذا الأجر قد تراجعت بالفعل في هذه السنوات، ولكن المشكلة الأكبر أن قرار الحكومة كان يستهدف أيضاً العاملين بالحكومة والقطاع العام، ولا يشمل عمّال القطاع الخاص وقطاع الأعمال، ومن ضمنهم عمّال المحلة. 

تكرار مشهد 2014

يبدو المشهد الحالي تكراراً لما جرى في 2014، أي قبل عشر سنوات، وللصدفة في شباط/ فبراير أيضاً، فعمّال المحلة بدأوا الإضراب عن العمل، بعد أن تفاداهم قرار الحد الأدنى للأجور، وبمبادرة من العاملات أيضاً، للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور الجديد عليهم، وهو ما أدّى إلى سلسلة من الإضرابات العمالية في الوقت نفسه في شركات قطاع الأعمال والقطاع الخاص رافعين المطلب نفسه.

إضراب عمال غزل المحلة، البالغ عددهم أكثر من 16 ألف عامل قد يمثل محطة هامة في رد الفعل الاجتماعي على الأزمة الاقتصادية وتبعاتها

إضراب عمال المحلة الذي بدأ الخميس 22 شباط/ فبراير ليس الإضراب العمالي الأول الذي يطالب بتحسين الأجور في مواجهة ارتفاع الأسعار، فقد سبقه إضرابات في عدد من شركات القطاع الخاص، خصوصاً مع موجات الغلاء المتتالية، مثل شركة مطاحن السويس، وشركة «إتش أند سي» للنسيج في مدينة العبور، ولكن إضراب عمال غزل المحلة، البالغ عددهم أكثر من 16 ألف عامل، وفقاً لآخر بيانات نشرها مركز معلومات قطاع الأعمال، قد يمثل محطة هامة في رد الفعل الاجتماعي على الأزمة الاقتصادية وتبعاتها. ليس فقط بسبب حجم الشركة وتأثيرها في الحركة العمالية المصرية، ولكن بسبب طبيعة اللحظة التي يبدأ عمال المحلة فيها احتجاجهم.

فاللحظة التي يبدأ عمّال المحلة حركتهم فيها، ليست هي ذروة الأزمة واستحكامها وغياب أي إمكانية للانفراج، بل على العكس، يبدأ عمّال المحلة في التحرّك نحو مطالبهم في اللحظة التي تبدو فيها إمكانية لتلبية تلك المطالب.

لقد عكست حزمة الحماية الاجتماعية الكبيرة التي أطلقتها الدولة، وتضمّنت رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50% للعاملين بالحكومة والقطاع العام، إحساساً بإمكانية تدخل الدولة لتخفيف آثار الأزمة، وهو ما خلق بدوره شعوراً بالاستحقاق لدى العمّال الذين لم يستفيدوا من تلك الحزمة، وهو ما يدفع للتحرك أكثر من تأثير الأزمة نفسها. كما خلقت الدعاية الرسمية للدولة عن قرب انفراج الأزمة عبر اتفاق مع صندوق النقد، وإبرام صفقات اقتصادية ضخمة، توقعات بقرب سيطرة الدولة على الأزمة وقدرتها على السيطرة على سوق الصرف، وبالتالي السيطرة على أسعار السلع التي ترتفع جراء ارتفاع سعر الدولار، وهو ما يخلق بدوره تطلعات لدى القطاعات التي تعاني من آثار الأزمة بقرب تراجع تلك الآثار.

يشبه هذا التحوّل في تفاعل الحركة الاجتماعية مع الأزمة الاقتصادية الصعود الذي شهدته الحركة العمالية بعد تدفق إيرادات تصدير الغاز الطبيعي وعوائد الخصخصة في العام 2005، وهو ما منح الأمل في إمكانية تحسين الأوضاع وبالتالي أعطى دفعة قوية للاحتجاجات العمالية والاجتماعية المطالبة بتحسين الأوضاع.

ظلت هناك حالة من الترقب لردود الأفعال على الأوضاع الاقتصادية طوال العامين الماضيين، وظلت دائماً ردود الأفعال غير متناسبة مع حجم الأزمة، والواقع أن تزايد الأزمة في حد ذاته كان يعني غياب أي إمكانية واقعية لتحسين الأوضاع، وبالتالي ضعف أو غياب جدوى الحركة، ولكن مع ظهور تلك الإمكانية، يظهر معها الشعور بالاستحقاق والجدوى من الحركة. تظهر اليوم، من المحلة، بوادر الحركة التي يدعمها هذا الشعور بالجدوى، تلك البوادر التي طالما التقطتها الحركة العمّالية من المحلة لتجوب أنحاء مصر.