نهاية النظام العظيم

  • مراجعة لكتاب غاري غيرسل بعنوان «صعود النظام النيوليبرالي وسقوطه»، الذي يروي قصّة أيديولوجيا الولايات المتّحدة وسياساتها على مدى القرن الماضي. 

يطرح كتاب غاري غيرسل «صعود النظام النيوليبرالي وسقوطه»، ذي الأسلوب السلس، مسألتين رئيستين: المسألة الأولى، واستمراراً لكتابه السابق «صعود نظام الصفقة الجديدة وسقوطه» الذي شارك في تأليفه ستيف فرايزر، هي الإصرار على فكرة «نظام» سياسي واقتصادي. و«النظام» هو إيديولوجيا تسود في فترة زمنية معيّنة، تولّفها المؤسّسة السياسية وتنشرها. ووفقاً لغيرسل، فقد وُجِد نظامان سياسيان مماثلان في الولايات المتّحدة في خلال القرن الماضي: نظام الصفقة الجديدة الذي بدأ في عهد فرانكلين ديلانو روزفلت، والنظام النيوليبرالي الذي بدأ في عهد رونالد ريغان.

أما المسألة الثانية فتكمن بأنّ هذين النظامين السياسيين مرتبطان بتزامنهما مع صعود الشيوعية وسقوطها. وهذا ليس محض صدفة. فقد أدّى السياق الخارجي (الدولي) دوراً مهمّاً في تخطيط نظاميْ الولايات المتّحدة السياسيين.

كيف تغدو أيديولوجيا ما «نظاماً سياسياً»؟ ثمّة «طور صامت» من أطوار بناء النظام يشتمل على مفكّرين ونظريّاتهم. وبالنسبة إلى النيوليبرالية، يتعيّن علينا أن نعود إلى ندوات والتر ليبمان في باريس، وندوات هايك وميزس في فيينا، ثمّ مؤخّراً إلى ميلتون فريدمان وتوماس سويل وتشارلز موراي وراش ليمبو... ولنتأمل في هذه السنوات: تأسيس مؤسّسة Heritage في العام 1974، ومعهد Cato في العام 1974، ومعهد مانهاتن في العام 1976، وMoral Majority في العام 1979. إذن، تُنشر الأيديولوجيا بين الجمهور وتتبنّاها حركة أو حركات وأحزاب سياسية عدّة، ولكنها لا تصبح «نظاماً» إلا بعد قبولها، أو كما يروق لغيرسل أن يقول، حتى «ترضى بها» أطراف أخرى من الطيف السياسي كانت رفضتها في البداية. يستشهد غيرسل بقول مارغريت تاتشر إنّ أعظم نجاحاتها تمثّل في مواصلة توني بلير سياساتها.

يبدو النظام السياسي في ذروته كأنّه نوع من البداهة. يصعُب التشكيك به. وتدعمه غالبية كبرى من الرأي العام حتى لو اختلفت على قضايا هامشية 

في حالة الولايات المتّحدة، جرت لحظات الانتقال الحاسمة من أيديولوجيا وحركة سياسية إلى نظام في عهد دوايت أيزنهاور، الذي كان (على عكس ويليام تافت) مستعدّاً لمواصلة سياسات الصفقة الجديدة، على الرغم من معارضة الجمهوريين لكل ما مثّلة فرانكلين روزفلت. وبالمثل، يعود الفضل إلى بيل كلينتون في تحوّل النيوليبرالية إلى  «نظام» سياسي واقتصادي. يبدو النظام السياسي في ذروته كأنّه نوع من البداهة. يصعُب التشكيك به. وتدعمه غالبية كبرى من الرأي العام حتى لو اختلفت على قضايا هامشية (من وجهة نظر النظام الاقتصادي).

بالنسبة إلى غيرسل، تواصل النظام النيوليبرالي في الولايات المتّحدة من عهد ريغان في العام 1980 إلى الركود العظيم في الأقل، حين بدأ تفكّكه، وانتهى في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين. وما مهّد لنهايته هو ترامب، والأهم منه، الإعداد الأيديولوجي الصامت لنظام جديد والعيوب الصارخة للنظام النيوليبرالي. ولا يزال من غير الواضح ما سيكون عليه هذا النظام الجديد.

يبقى الرأي القائل بأهمّية الشيوعية في تعريف النظامين المذكورين وجيهاً ومنطقياً بشدّة. وكما كتب غيرسل، فقد مُنِح اهتمام كبير في خمسينيات القرن الماضي لمحاولة الديمقراطيين عدم الظهور بمظهر المتساهلين مع الشيوعية، في حين كان الاهتمام ضئيلاً للغاية بقبول الجمهوريين معظم بنود الصفقة الجديدة من أجل أمن الملكية الخاصة. («لقد مكّن تهديد الشيوعية الدولية من انتقال الصفقة الجديدة من حركة سياسية إلى نظام سياسي، وضَمَن سيطرتها على الحياة الأميركية على مدى 30 عاماً»، صفحة 46).

مع تراجع جاذبية الشيوعية ومن ثم سقوطها، باتت حاجة الإذعان لمطالب العمّال أقل بكثير. لم يعد للعمّال مكان يقصدونه، أو يحلمون أو حتى يهدّدون بأن يقصدونه

مع تراجع جاذبية الشيوعية ومن ثم سقوطها، باتت حاجة الإذعان لمطالب العمّال أقل بكثير. لم يعد للعمّال مكان يقصدونه، أو يحلمون أو حتى يهدّدون بأن يقصدونه. وشكّل طرد ريغان لآلاف المراقبين الجوّيين شرارة الحرب على العمّال. (وربما تكون العولمة والاستعانة بمصادر خارجية من الصين الشرارة الثانية). هذا الرأي جدير بالطرح، ولكنه ليس جديداً. فقد طرح كريشنان نايير الرأي نفسه في كتابه الممتاز إنّما المهمَل «الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية»، لا في ما يتصل بالولايات المتحدة فحسب، بل بالغرب السياسي بأكمله (سبق أن كتبت مراجعة عن كتاب نايير). كما عبّر بيكيتي، وإن بصراحة أقل، عن الفكرة نفسها من خلال إظهار التزامن بين «مرحلة ترويض» الرأسمالية وذروة قوة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والنقابات العمّالية في أوروبا الغربية. ومؤخراً، اختبر أندريه ألبوكيرك سانت آنا، في ورقة بحثية مهمّة، هذا الطرح تجريبياً وأثبت صحّته.

ومع ذلك، يبقى كتاب غيرسل محدوداً باقتصاره على إظهار تأثير بقية العالم في الولايات المتّحدة، وليس العكس. والواقع أنّ الولايات المتحدة كانت فاعلاً رئيساً في جعل النظام النيوليبرالي عالمياً. كما كان لريغان وصدمة فولكر (بالمناسبة، كارتر هو من عيّن فولكر) تأثير حاسم. فقد جلبا إلى النظام، مجازياً وفعلياً في كثير من الأحيان، أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشرقية. وفي الوقت الذي جعل كلينتون من النيوليبرالية النظام السياسي والاقتصادي الأميركي، جعل حُكمها عالمياً أيضاً. يغيب هذا الجانب تماماً عن كتاب غيرسل. وحين يظهر باقي العالم، ولو باقتضاب شديد مع غورباتشوف وبشكل أوسع مع كارثة حرب العراق، فإنه يُرى من منظور الولايات المتّحدة فحسب. لا يعتبر هذا عيباً في الكتاب الذي يروي قصّة أيديولوجيا الولايات المتّحدة وسياساتها على مدى القرن الماضي، ولكن كان يمكن الإشارة إليه. فالعنوان الفرعي «أميركا والعالم في عصر السوق الحرّة» مُضلل بعض الشيء، وذلك ببساطة لعدم وجود «عالم» في الكتاب. كان من شأن كتابة «أميركا في عصر السوق الحرّة» أن يكون أكثر دقة.

تشغل رئاسة كلينتون نحو 50 صفحة من الكتاب المكوّن من 300 صفحة. وهو يُظهِر كيف استنتج كلينتون بذكاء أنّ العودة إلى سياسات الصفقة الجديدة أمر مستحيل، فتبنّى النيوليبرالية وجذّرها. ويناقش غيرسل قراريّ كلينتون بالغي الأهمية في ما يتصل بتحرير صناعة المعلومات والاتصالات والخدمات المصرفية، وكلاهما يتعلّقان باستراتيجية «التثليث» الشهيرة التي تبنّاها كلينتون، مدركاً عجزه (والديمقراطيين) عن الحكم من دون دعم وادي السليكون وول ستريت. وقد نجح كلينتون في كسب تأييدهما بمنحهما ما يريدانه، وتحرير المزيد من القيود التنظيمية مقارنة بريغان (كما يكتب غيرسل). فضلاً عن ذلك، نجح في تقليص دولة الرفاهية في الولايات المتّحدة وضبط الموازنة العامة. وبالنتيجة، استمرّت اللامساواة في الارتفاع، ولكن بدرجة أقل ممّا كانت عليه في عهد ريغان.

الولايات المتحدة كانت فاعلاً رئيساً في جعل النظام النيوليبرالي عالمياً. كما كان لريغان وصدمة فولكر تأثير حاسم. فقد جلبا إلى النظام، مجازياً وفعلياً في كثير من الأحيان، أميركا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشرقية

إن دور كلينتون محوري بكل تأكيد. أمّا الباقي فهو «التفاصيل». تعرّض بوش الابن لانتقادات شديدة بسبب تعامله غير المسؤول مع فقّاعة الإسكان والأزمة المالية الوشيكة، وأكثر من ذلك بسبب قراره غزو العراق ثمّ عدم القيام بأي شيء. يرى غيرسل أنّ كلا القرارين قاما على الإيمان المُطلق لبوش الابن بالأسواق: لا حاجة لفعل أي شيء، الأسواق قادرة على إصلاح كل شيء. لا حاجة إلى القلق بشأن القروض المتعثّرة، فإذا قسّمتها المصارف إلى أجزاء صغيرة ونجحت في إيجاد مشترين لها، سوف تختفي المخاطر بسحر ساحر. هذا هو «اقتصاد فودو» (أي السحر) الذي وصفه والده بحقّ في سياق مختلف. وكذلك بالنسبة إلى مقاربة الحرب على العراق: لا حاجة لإعداد ما يتخطّى الحملة العسكرية؛ علينا أن نترك الأمر لقوى السوق فحسب، وسوف يحوّل العراقيون، السعداء من تحرّرهم من صدّام، البلاد إلى هونغ كونغ جديدة. لكني أعتقد أنّ قناعات بوش الابن المبسّطة بُنِيت على كسله الفكري الذي لا يصدق: فهو صبي محظوظ، مدلّل، وغير ذكي، لم ينضج قط، كمل لم يُظهر أدنى اهتمام بتعلّم أي جديد عن أي أحد سوى «الذين مثلنا».

يبدو أن رئاسة أوباما لم تترك تأثيراً. وعند قراءة الكتاب، من الصعب على المرء أن يصدّق استمرارها لثماني سنوات كاملة. وكما هو معروف، فقد التقط أوباما جميع «الكلينتونيين» الاقتصاديين الذين باتت أفكارهم النيوليبرالية مجرد نسخة باهتة من الماضي. وفي حين ظهروا جميعاً في عهد كلينتون مرتدين سترات جديدة جميلة (على سبيل المجاز)، ارتدوا في عهد أوباما سترات رثة مستخدمة من نيوليبرالية سابقة.

ما الذي يقوله الكتاب عن ترامب؟ أقلّ ما يمكن. يفقد كتاب غيرسل زخمه فجأة. وهذا مفهوم لأنه يرى أن النيوليبرالية وصلت إلى طريق مسدود، لكنه يعجز، هو وغيره، عن تكهّن ما سيكون عليه «النظام» التالي. والفصل الأخير (الذي يشتمل على رئاستي ترامب وبايدن) هو الأضعف، إذ يكتفي بإعادة سرد الأحداث الرئيسة، وتكرار الكليشيهات نفسها عن ترامب. وربما كتبه في وقت مُبكر جداً من رئاسته.

نُشِرت هذه المراجعة في مدوّنة الكاتب في 22 آب/أغسطس 2024، وتُرجِمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» بموافقة مُسبقة من الكاتب.