فادي بردويل: اليسار لم يخرج من ردّ الفعل إلى الفعل

يتمّ التصويب على أي مطالب حقوقية ومعيشية بوصفها سياسات يسارية «غوغائية»، تهدف إلى القضاء على «الاقتصاد الحرّ». وفي الحالة اللبنانية، يتم وصف كلّ معارضة للسياسات المالية والنقدية المعتمدة على أنها «تفكير يساري بائد». وهكذا تتحوّل صفة اليسار إلى وصمة يقصد بها الإقصاء. وعلى الرغم من الصدى المدوّي لانهيار العام 2019، وانكشاف الإفلاس المصرفي والمُخطّط الاحتيالي الذي نُظِّم على مدار سنوات، واضطرار المقيمين والمقيمات في لبنان للتعامل مع تداعيات السياسات النيوليبرالية التي اتبعت طوال عقودٍ، استمرّ «الموّال» نفسه، وباتت المطالبة بإقرار قوانين مثل الكابيتال كونترول وإلغاء السرّية المصرفية، أو القيام بإجراءات إصلاحية مثل إعادة هيكلة المصارف من خلال أموال مساهميها وفرض هيركات على كبار المودعين – وكلّها قوانين وإجراءات مطروحة من ضمن آليّات السوق الرأسمالية – تُقدّم عبر الاعلام على أنّها «سياسات يسارية» تهدف إلى تغيير وجه لبنان وضرب قطاعاته الناجحة، وتسعى إلى وضعه في خانة الدول الفاشلة.

انطلاقاً من أبحاثه التي تركّزت على تاريخ اليسار في لبنان والنظريّات والأفكار اليسارية التي برزت في خلال ثورات الربيع العربي، يردّ أستاذ الأنتروبولوجيا في جامعة ديوك الأميركية، فادي بردويل، على مجموعة من هذه السرديّات في سعي لفكفكتها وفهم أطرها والأبعاد من ورائها، ومحاولة فهم ماهية اليسار والأرضية التي يصعد عليها.

هل اليسار مسؤول عن الانهيار؟

هل اليسار مسؤول عن الانهيار؟

هل اليسار مسؤول عن الانهيار؟

منذ بداية الأزمة وحتّى اليوم، طغت سرديات وبرزت تعريفات عديدة ومتناقضة لليسار، بعضها يصنِّف أحزاباً يمينية مُحافظة ومعروفة بسياساتها النيوليبرالية على أنها «يسار غوغائي»، أو يضع أحزاباً دينية في خانة «اليسار المتطرّف»، ويحمّلها مسؤولية الانهيار. فهل فعلاً هناك سياسات يساريّة طُبِّقت في لبنان؟  وهل يتحمّل اليسار أية مسؤولية عن الانهيار؟

الجواب بسيط للغاية وهو طبعاً لا. اليسار ليس في الحكم ولا يتحمّل أي مسؤولية، والسياسات المطروحة هي نفسها سياسات صندوق النقد الدولي أو مُقترحة منه، مثل إعادة هيكلة القطاع المالي وإضفاء المزيد من الشفافية على السرّية المصرفية. ومن المعروف أن صندوق النقد ليس هيئة يسارية، والدليل دوره بالسياسات التقشّفية والنيوليبرالية التي طبِّقت في أميركا اللاتينية في ستينيات القرن الماضي. يبدو الأمر مضحكاً نوعاً ما، ولكنّه ليس جديداً على لبنان ولا محصوراً به. على سبيل المثال في خلال حراك النفايات في صيف العام 2015، برزت أقاويل عن أن الشيوعيين يتسلّلون إلى الحراك لمجرّد أن الناس طالبت برفع النفايات من الشارع. أيضاً وصف اليمين الأميركي الرئيس باراك أوباما بالشيوعي الاشتراكي، لمجرّد أنه سعى إلى إصلاح النظام الصحّي الأميركي، في حين يمكن لأي متابع لسياسات باراك أوباما أن يدرك أنه ليس شيوعياً ولا اشتراكياً. المغزى من هذه التوصيفات معروفٌ وهو تحديد الملعب السياسي، والمعقول والمقبول ضمن هذا الملعب. بمعنى إن وصم أحدهم بالغوغائي وربط الغوغائية باليسار، هو بهدف إدراجه ضمن حيّز غير المقبول في الملعب السياسي. في الواقع، يستدعي اليمين والنظام هذا الطيف لتأدية وظيفة أيديولوجية تخدم فكرة انضباطيّة ترسم حدود المقبول وغير المقبول أولاً، وتخدم الصراع ضمن أجنحة النظام نفسه ثانياً، وكذلك تخدم عملية استدعاء ذاكرة ماضية لتخويف الناس من دون أن يكون لهذه الذاكرة أية وقائع تعزّزها. باختصار، هناك من يريد أن يسيطر على التعريفات السياسية وتخويف الناس من الإجراءات الإصلاحية.

الطبقة والطائفة والنظام الأبوي

الطبقة والطائفة والنظام الأبوي

الطبقة والطائفة والنظام الأبوي

انطلاقاً من هذه الدعايات والتعريفات التي تروّج، كيف يمكن فهم طريقة عمل النظام اللبناني من وجهة نظر يسارية؟

هناك الكثير من الأعمال التي تطرّقت إلى كيفية اشتغال النظام اللبناني، وقد ركّزت على ثنائيّات مُحدّدة مثل علاقة الطبقة بالطائفة، أو الطوائف بالعلمانية، كما سعت إلى فهم علاقة البنية الاقتصادية بالبنية السياسية. وفي هذا السياق، برزت أعمال في الثقافة الشعبية أسوة بأعمال زياد الرحباني، ومنها أغنيته الشهيرة «يا زمان الطائفية»، التي تنطوي على تكثيف أيديولوجي يعبّر عن تجانس القاعدة الاقتصادية ومرور الليرة من منطقة إلى أخرى، وانقسام البنية السياسية طائفياً من خلال منع مرور الأشخاص عبر المعابر الطائفية. أيضاً برزت أفكار أخرى لما سُمِّي بتنظير الحرب الأهلية اعتبرت أن لبنان مرتبط بمحيطه العربي اقتصادياً ولكنّه منعزل عن قضاياه السياسية. ومثال على ذلك، توطين رأس المال الفلسطيني والسوري وتحوّله إلى جزءٍ مهمّ من البرجوازية اللبنانية، بالتوازي مع ازدياد منسوب العنصرية ضدّ اللاجئين من الناحية السياسية. بمعنى آخر، لطالما تمحور التنظير حول كيفية فكّ التمفصل الاقتصادي عن السياسي، وكيف أن لبنان من الناحية السياسية معزول عن محيطه ومقسوم داخلياً، ومن الناحية الاقتصادية مربوط بمحيطه ومتجانس داخلياً. لا شكّ أن جميع هذه الأعمال النظرية مهمّة وأساسية، ولكن إذا أردنا أن نعيد التفكير بهذا النظام وكيفية اشتغاله من منطلق يساري، فمن الضروري أيضاً ربط جدلية الطبقة والطائفة بعناصر أخرى جرى إهمالها سابقاً، مثل علاقة الطائفية بالنظام الأبوي، ولا سيما على صعيد قوانين الحضانة والجنسية والانتخاب، التي تعيد إنتاج النظام نفسه، وتقوم على عبادة الزعيم وتوريث الزعامة للذكور، وهي ممارسات أيديولوجية انغمس فيها اليسار القديم حتّى، بحيث اعتاد على إطلاق ألقاب «الأبوات» على قياداته، مثل أبو عمّار وأبو أنيس وأبو خالد، وكرّس هذا التكثيف الأبوي أيضاً من خلال الأغاني الثورية والحزبية التي تشيد بالرجال... هذا الترابط القائم بين الطبقة والطائفة والنظام الأبوي أقصى المرأة كفاعل سياسي أساسي، وأعاد إنتاج الذكورية في القيادة والزعامة. وهو ما يجب البحث فيه أيضاً.

كيف نجحت هذه التقاطعات بين الطبقية والطائفية والأبوية والمصالح الاقتصادية بأن تحيّد نفسها عن النقد والصراع، وأن تروِّج لدعايات أو صبغات مماثلة عن اليسار للتجييش ضدّه، على الرغم من أنه غير مؤثّر في الواقع اللبناني الحالي، عدا أنه لم يحكم يوماً؟

هناك عامل أساسي له علاقة بجزءٍ من عمل النظام، الذي استطاع فرض هيمنته على الصعيد الاقتصادي بما يتخطّى الجماعات والمناطق والطوائف. مثلاً قبل الانهيار كان هناك ثقة بالنظام المصرفي اللبناني واستقرار الليرة على مستوى كلّ الطوائف وكلّ الطبقات، وكان متوسّطو الدخل وصغار المودعين والمترسملين يستثمرون بالفائدة ويضعون أموالهم في المصارف. لكن في الوقت نفسه، تميّز النطاق السياسي بتأجيج سياسات الخوف بشكلٍ دائم. بمعنى أن كلّ جماعة كانت تعتبر نفسها مُقَاومة ومُستهدَفة في آنٍ معاً. وهذا الشعور بالاستهداف والمقاومة حاضرٌ بين مأموري الأحراج الذين حرموا من التوظيف بسبب طائفتهم وصولاً إلى المشاركين في انتفاضة 17 تشرين الذين اتهموا بتقاضي الأموال من السفارات. والاستهداف هنا وجوديٌ، ويخدم سياسات الخوف التي تعزّز الهيمنة السياسية داخل كلّ جماعة، فيما تمتدّ الهيمنة الاقتصادية عبر كلّ الجماعات.

الهوّة بين الأيديولوجيا والممارسات

على الرغم من الانجازات التي حقّقها اليسار من خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي ونجاحه بتحقيق بعض المكاسب العمّالية، إلّا أن تجربته العامّة لم تنجح بالحفاظ على قاعدته الشعبيّة التي بناها في ظروفٍ معيّنة. وهناك الكثير من التحليلات التي تقول إنّه لا يوجد يسار في لبنان أصلاً، ويعيد السبب إلى التركيبة الطائفية أو إلى اليسار بحدّ ذاته وتفكّكه وعدم امتلاكه مشروعاً. انطلاقاً من الأبحاث التي قمت بها على تاريخ اليسار في لبنان، ما هو شكل اليسار الذي برز؟ وما هي أسباب فشله؟

تركّز عملي على ما كان يُسمّى باليسار الجديد الذي برز في ستينيّات القرن الماضي، وخرج من جيلٍ ولد بين منتصف الثلاثينيات ومنتصف الأربعينيات، ومن حركة القوميين العرب وحزب البعث، وتشكّل وعيه السياسي في خلال نكبة 1948 بعد تدفّق اللاجئين الفلسطينيين، واستكمل مع تجربة جمال عبد الناصر والوحدة بين مصر وسوريا في الخمسينيّات قبل انفراطها في العام 1961. اتسم هذا اليسار بضمّ مجموعة من المناضلين، الذين أصبحت أكثريتهم من المثقّفين والباحثين المعروفين مثل فوّاز طرابلسي، وعزّة شرارة بيضون، وأحمد بيضون، ووضّاح شرارة، ووجيه كوثراني، ومحمود سويد، وكريستيان غازي. اللافت في هذه المجموعة هو انتقالها من الأفكار القومية والانبهار بمفهوم الأمّة العربية إلى الفكر الماركسي المتمايز بنظرته للتناقضات الطبقيّة الداخليّة بدلاً من التركيز حصراً على التناقضات الخارجية والسطوة الخارجية والإمبريالية. لكن أتت صدمة الحرب الأهلية، وانتهت بخروج عددٍ كبير منهم من العمل التنظيمي والحزبي نحو العمل النقدي والثقافي.

أمّا فيما يتعلّق بهزيمة اليسار، فأعتقد أن هناك عوامل كثيرة مؤثّرة؛ أولاً هناك تبعية اليسار اللبناني أو عدم استقلاليّته والتحاقه بقوى «النظام»، ففي مرحلة ما التحق بالزعامة الجنبلاطية، ولاحقاً التحق جزءٌ منه بحزب الله، بحيث تحوّل إلى تابع أو ملحق أو وجه علماني لمشروع يتقاطع معه على القضية الوطنية المناهضة للإمبريالية ويتناقض معه في القضية الطبقية وقضية الحرّيات. ثانياً هناك الهرمية أو السلطة الحزبية داخل الأحزاب اليسارية نفسها، وأذكر على سبيل المثال محسن إبراهيم الذي استمرّ عقوداً في منصبه كأمين عام لمنظّمة العمل الشيوعي إلى حين وفاته. وهذا ما يطرح سؤالاً عن الهوّة بين الأيديولوجيا التي تنادي بالتحرّر والممارسات داخل التنظيمات التي تتسم بالهرمية والسلطوية وينعدم فيها تداول السلطة. وهذا ليس نقداً ليبرالياً، وإنّما له علاقة باليسار وعدم بروزه كحركة تحرّر ذاتي. أيضاً يبرز عامل آخر يتمثّل بالأسباب الموضوعية للحرب الأهلية، بحيث انخرط اليسار بالحرب والعصبيّات الطائفية، وانغمس فيها أكثر بعد اندلاع الثورة الإيرانية في أواخر السبعينيّات، ممّا فتح أفقاً نحو عالمٍ آخر، فترك بعضٌ من اليسار مجموعاته وتحوّل إمّا إلى الإسلام السياسي أو انتسب لحركة أمل والقوات اللبنانية. وهناك فئة التزمت منازلها، ولكن أحدٌ لا يتحدّث عن انسحابها من الحقل العام بعد أن واجهت حقيقة الحرب وسطوة السلاح وتغيّر علاقات السلطة داخل التنظيمات التي يطغى فيها حكم السلاح والمال.

وأعتقد أن السؤال المحوري اليوم هو: هل يستطيع اليسار أن يخلق مخيّلة سياسية بديلة عن المخيّلة السياسية التي تنتجها الأحزاب والجماعات عن نفسها أم يكتفي بنقدها؟ لقد كان سهلاً على اليسار أن ينقد الفكر القومي اللبناني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتبيان الفصل بين المستويين الاقتصادي والسياسي. لكنّه اكتفى بالنقد ولم يبنِ مخيّلة سياسية مختلفة عن الفكر القومي يستبدل فيها مخيّلة الجماعة. في المقابل، نجح حزب الله في بناء مخيّلة وإنّما على أساس مذهبي وديني. فالأيديولوجيا ولو كانت هشّة يبقى لها فعالية عند الناس. وهذا ما تحدّث عنه وضّاح شرارة في العام 1975 مشيراً إلى أن النقد سهل ولكنّه لا يوقف فعالية الأيديولوجيا عند الناس مهما كانت هشّة. بمعنى آخر، لم يخرج اليسار من ردّ الفعل إلى الفعل نفسه من أجل خلق هيمنة مُضادة.

من اليسار التغييري إلى اليسار المعارض

تقول إن اليسار يظهر عندما يكون هناك بالأساس مشروع يناقضه، وتعطي مثالاً عن حقبة التسعينيات ومشروع الرئيس رفيق الحريري. كيف بنظرك يمكن تفسير ذلك؟

اليسار كمشروعٍ معارضٍ للنظام يتماسك أكثر وتزيد فعاليته عندما يكون للنظام مشروع متماسك. فهوية اليسار وفاعليته مرتبطة بهذا الأمر. في أوائل التسعينيات، انطلق ما سُمِّي بمشروع إعادة الإعمار وأنشئِت سوليدير برهان على سلامٍ آتٍ. فانتقل اليسار من يسار حزبي أراد تغيير النظام في الستينيات إلى يسار معارض، وتشكّلت جبهة ثقافية سياسية معارضة تضمّ يسار الستينيات لحماية الذاكرة ومناهضة السياسات النيوليبرالية والخصخصة وعمليّات التراكم من خلال الاستيلاء على أملاك الناس في وسط بيروت. ثمّ تحوّل اليسار في أواخر التسعينيات إلى مقاومة سطوة الجهاز الأمني السوري اللبناني المشترك وخاض معركة الحرّية.  الأمر نفسه يطبق على فترة الشهابية حيث كان هناك مشروع يمكن العمل عليه ومواجهته. على عكس فترة الثمانينيات حيث تكرّست المعارك ضمن المجموعات الطائفية التي لم يجد اليسار مكاناً فيها.

في ظل الأزمات المتعدّدة التي نعيشها في لبنان، كما غيرنا من البلدان، ما هي الأرضية التي يصعد عليها اليسار؟ وما هي مُحدِّدات أي سياسة يسارية سواء على الصعد الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية؟

تتألّف الأرضية التي يصعد عليها اليسار من أقانيم ثلاثة: القضية الوطنية أو الإمبريالية، والقضية الاجتماعية أي الطبقات، والقضية الثقافية ومسألة الحداثة. تفتتت القضية الاجتماعية بمرحلة ما وغُيِّبت، وحلّت مكانها القضيّة الإمبريالية والممانعين، وأولئك الذين ركّزوا على التنوير والثقافة ونقد الداخل. قبل اندلاع ثورات العالم العربي، انتعشت القضية الاجتماعية مجدّداً، وقد شهدنا في العام 2007 إضرابات عمّالية كبيرة في مصر، وظهر فاعل سياسي ينادي بالكرامة، وهو مفهوم من الجيّد التفكير به بجدّية، خصوصاً بعد أن وصلت الأنظمة إلى مستوى من التعذيب وقمع الحرّيات والتفلّت من العقد الاجتماعي من خلال السياسات النيوليبرالية التي أثّرت على إعادة إنتاج الحياة نفسها، حتى قبل الحديث عن استغلال العمّال، بحيث أصبح الهواء ملوّثاً وكذلك التربة، وتهالكت البنية التحتية. لقد أصبحت الحياة الكريمة البسيطة صعبة للغاية. يضاف إلى ذلك العديد من التغيّرات العالمية والتخلخل على أصعدة الاقتصاد والاجتماع وفهم السياسة. على صعيد الاقتصاد، أزاحت العولمة الاقتصاد عن الدولة الأمّة، وباتت الصين مصنع العالم. وعلى الصعيد الاجتماعي، برزت أزمة الهجرة واللجوء والعمالة المهاجرة التي أزاحت قضية العامل عن العامل المواطن. وهذا ينطبق على لبنان، الذي عايش تغييرات مماثلة سواء لناحية دور السوريين في إعادة الإعمار أو بعد الثورة السورية، أو دور الدياسبورا اللبنانية. بمعنى آخر، لم يعد العمل السياسي مرتبطاً بالأشخاص المقيمين في البلد.

يستدعي هذا الواقع إعادة التفكير باليسار ومقارباته ومواقفه من كلّ القضايا الراهنة. على سبيل المثال، يبرز في أوروبا يسار قومي ضدّ المهاجرين ويسار معهم. وفي البلدان العربية، برز يسار وقف إلى جانب الطغاة إبّان الثورات العربية. فهل يصنّف أولئك كيسار، وأي نوع من اليسار؟ أيضاً في أميركا اللاتينية، برزت تجارب ضدّ السياسات النيوليبرالية والاستغلال والعنف ضدّ النساء والسيطرة العرقية، يقودها السكان الأصليون الذين يعدّون رأس حربة في محاربة النيوليبرالية، ويقدّمون نموذجاً مختلفاً للعلاقة مع البيئة ويفتحون أفقاً تاريخياً لإعادة التفكير بأمور مهمّة لها علاقة بتنظيم المجتمعات. ربما لم أقدّم جواباً عن الأرضية، ولكنّني تحدّثت عن كيفية تغيّر الأمور وانقسامات اليسار حولها.
 
تقول إن اليسار منقسم على هذه القضايا والتطوّرات. قد تشكّل كل هذه العوامل أرضية ليصعد اليسار عليها، ولكن من هو الفاعل الذي قد يقود هذا النهوض؟

السؤال عن الفاعل الثوري أساسي وقديم جدّاً في التراث اليساري، لكن من  الصعب التكهّن بمن قد يكون الفاعل الثوري أو الأسس التي تبني جماعة سياسية ثورية معيّنة، حتى لو كانت مبنية على تقاطع فئات مهمّشة وأخرى مستغلة وفئات مسيطر عليها. لكن الممارسة هي التي تولّد معاييرها وبالتالي الفاعل الثوري، لكن تحليل التهميش والسيطرة والاستغلال، بالتوازي مع عمل سياسي يمدّ الجسور وقد يخلق حركة معينة، ولو أن الأمر صعب. ولكن اللافت في التاريخ هو أن أحداً لا يعرف ماذا سيحصل، وأحداً لا يستطيع توقّع الثورات والانتفاضات.


فادي برديول؛ كاتب، وأستاذ الأنثروبولوجيا في ديوك الأميركية، تركّزت أبحاثه على تاريخ اليسار في لبنان والنظريّات والأفكار اليسارية التي برزت في خلال ثورات وانتفاضات الربيع العربي.