Preview اقتصاد تركيا

انهيار الليرة: حالة الأزمة الدائمة في تركيا

منذ أواخر العام 2021، حطّم الاقتصاد التركي التوقّعات الاقتصادية السائدة. ففي ظل أسعار الفائدة الحقيقية السالبة، والتضخّم المرتفع، والعجز الكبير المستمرّ في الحساب الجاري، وارتفاع رصيد الدين الخارجي وصولاً إلى ما يزيد عن 50% من الناتج المحلي الإجمالي، ووصول صافي احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي إلى -50 مليار دولار، كان الاقتصاد يبدو مُقبلاً على الدخول في أزمة.

يكمن خلف الأزمة الأخيرة عقدان من السياسات التي تركت تركيا بإزاء مجالٍ سياسي يَضِيق أكثر فأكثر، حيث يرتكز اقتصادها على تدفقات رأس المال الأجنبي والمُدخلات المستوردة

وفي كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، عمد البنك المركزي التركي إلى زيادة أسعار الفائدة إلى 42.5% ارتفاعاً من المستوى المنخفض الذي بلغ 8.5% في حزيران/يونيو. وتمثّل الزيادة المفاجئة انقلاباً جذرياً بالقياس إلى السياسة السابقة. وعلى امتداد الشطر الأكبر من العام 2022، أدّت أسعار الفائدة الحقيقية السلبية إلى الابتعاد عن الليرة التركية، ما أسفر عن الانخفاض السريع في قيمة العملة. وبالنظر إلى ارتفاع مستوى المدخلات المستوردة في الإنتاج، فإن الانخفاض في قيمة الليرة التركية كان يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج، الذي سرعان ما انعكس على الأسعار. خرج التضخّم عن نطاق السيطرة حتى وصل إلى 80% بحلول آب/أغسطس 2022.

وعلى الرغم من سياسة التشديد التي يعتمدها البنك المركزي، لا يزال معدّل التضخّم في تركيا يتجاوز نسبة 60%. يأتي ذلك بالتزامن مع اقتراب معدّل البطالة من 10%، حيث لا يحصل نصف العاملين سوى على الحد الأدنى للأجور، والذي انخفض بدوره إلى ما دون خط الفقر تماشياً مع تعرّض القوة الشرائية للتآكل السريع من جراء التضخم.

يكمن خلف الأزمة الأخيرة عقدان من السياسات التي تركت تركيا بإزاء مجالٍ سياسي يَضِيق أكثر فأكثر، حيث يرتكز اقتصادها على تدفقات رأس المال الأجنبي والمُدخلات المستوردة. وقد تمخض ذلك عن نشوء جبلٍ من الهشاشة، يشمل العجز الكبير المستمر في الحساب الجاري وتفاقُم الديون الخارجية المتراكمة.

التجربة مع صندوق النقد الدولي

في خلال أواخر التسعينيات، عانت تركيا من تفاقُم عدم الاستقرار الاقتصادي واستفحال التضخّم المستمر. وكان برنامج مكافحة التضخّم الذي تولّى صندوق النقد الدولي توجيهه، وطُبّق في العام 2000، سبباً في نشوب واحدة من أشدّ الأزمات التي ألمّت بالبلاد في تاريخها. وفي أوائل العام 2001، أسفر التدفّق السريع والفجائي للرساميل صوب الخارج عن أزمة في العملة، والتي ما لبثت أن تحوّلت إلى أزمةٍ مصرفية ومالية. 

عثر التمويل الدولي في أسعار الفائدة المرتفعة التي استحدثتها تركيا على فُرصته المواتية، وعلى خلفية عمليات الخصخصة التي فرضها صندوق النقد الدولي، اقتنص المستثمرون الدوليون عمليات الاستحواذ رخيصة التكلفة

تجاوباً مع ذلك، بادَر صندوق النقد الدولي إلى فرض جملة من التدابير التقشفية الصارمة، تمثلت في رفع أسعار الفائدة، وفَوائض الميزانية الأولية، فضلاً عن القيام بعددٍ كبير من عمليات الخصخصة. تواكب ذلك مع الزيادة التي شهدتها السيولة العالمية وانخفاض أسعار الفائدة عالمياً، بمعنى أن التمويل الدولي عثَر في أسعار الفائدة المرتفعة التي استحدثتها تركيا على فُرصته المواتية. وعلى خلفية عمليات الخصخصة التي فرضها صندوق النقد الدولي، اقتنص المستثمرون الدوليون عمليات الاستحواذ رخيصة التكلفة. مع اعتلائه السلطة في العام 2002، اتبع أردوغان البرنامج الذي رسمه صندوق النقد الدولي حرفياً وطفق رأس المال الأجنبي يتدفّق؛ وبحلول العام 2006، بلغت نسبة تدفق الرساميل الأجنبية إلى الناتج المحلي الإجمالي ما يقرب من 11.3%، وهو رقم قياسي تاريخي.

لم تؤدِ الأزمة المالية التي اندلعت في العام 2008 إلى الحدّ من هذا النموذج. وعلى الرغم من الجفاف المؤقت الذي شهدته أسواق رأس المال، عمل التيسير الكمّي الذي لجأت إليه الولايات المتحدة وأوروبا واليابان على تخفيف ظروف السيولة العالمية. فعادت تركيا مرة أخرى إلى اجتذاب الكثير من التدفقات الرأسمالية، التي اتخذت غالبيتها شكل المحفظة الاستثمارية والديون الخارجية الخاصة. ومنذ العام 2010 فصاعداً، استمر النمو الاقتصادي، مصحوباً بعجز كبير في الحساب الجاري وتزايد الديون الخارجية المتصلة بالقطاع الخاص.

تشقّقات في النموذج

لم تتكشّف نقاط الضعف الأساسية الكامنة في الاقتصاد التركي إلا في أعقاب تحوّل بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى التشديد الكمّي في منتصف العام 2010. وقد أدرج مورغان ستانلي تركيا ضمن ما يسمى بـ «الدول الخمس الهشة»، إلى جانب إندونيسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، التي تنوء تحت وطأة العجز الكبير في الحساب الجاري وتعاني من مستويات الديون الخارجية المرتفعة. إن التصدي للعجز يستوجب تدفق الرساميل، الأمر الذي يستلزم بدوره رفع أسعار الفائدة. وارتفاع أسعار الفائدة يعني تباطؤ النمو الاقتصادي؛ ومن ناحية أخرى، يؤدّي الحفاظ على ثباتها إلى الضغط في اتجاه انخفاض الليرة التركية. هكذا وجدت تركيا نفسها في مواجهة المعضلة الكلاسيكية: إما رفع أسعار الفائدة من أجل الحفاظ على استقرار سعر الصرف مع تجشُّم احتمال النمو البطيء وربما الركود، وإما الإبقاء على انخفاض أسعار الفائدة مع تحمُّل انخفاض قيمة العملة  وربما حتى أزمة العملة.

تغيّرت البيئة الاقتصادية العالمية في أعقاب الجائحة، ولم يقتصر التغيُّر على الظروف العالمية التي كانت تدعم التدفقات فحسب، بل إن الهشاشة التي نجمت مع الزمن عن تلك التدفقات أصبحت تهدّد النمو والاستقرار

عملت سلسلة الانتخابات التي شهدتها الفترة الممتدّة من 2015 إلى 2019 على تفاقم الأزمة: فمع تعاظـم الاضطراب السياسي، أعطت حكومات أردوغان الأولوية للنمو الاقتصادي على حساب القوة الاقتصادية طويلة الأمد. على سبيل المثال، لجأت الحكومة في العام 2017 إلى استخدام صندوق ضمان الائتمان، وهو آليةٌ صُمِّمت في البداية بهدف دعم المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة لدعم التوسع الائتماني. ولكن النمو الاقتصادي ارتبط بعجزٍ كبير في الحساب الجاري. تضاعفت الضغوط على قيمة الليرة التركية مع التباطؤ الذي ألمّ بتدفقات رأس المال. وتقوّض الصّرح في العام 2018، ونشبت أزمة العملة التي تلاها ارتفاع سعر الفائدة ومن ثمّ الركود.

وكان من الواضح أن الأيام الخوالي التي اتسمت بالنمو الاقتصادي المرتفع، وانخفاض التضخّم، وانخفاض أسعار الفائدة، وانخفاض أسعار الصرف، قد أصبحت من الماضي؛ وهي التي قامت أساساً  على التدفقات الهائلة لرأس المال الأجنبي. ولكن تغيّرت البيئة الاقتصادية العالمية في أعقاب الجائحة. ولم يقتصر التغيُّر على الظروف العالمية التي كانت تدعم التدفقات فحسب، بل إن الهشاشة التي نجمت مع الزمن عن تلك التدفقات أصبحت تهدّد النمو والاستقرار. وفي العام 2020، نشأت دورة أخرى من دورات تخفيض أسعار الفائدة، بهدف تعزيز الاقتصاد في خضم الجائحة هذه المرة، لكي تدفع بالبلادِ إلى شفير أزمة تتصل بميزان المدفوعات في خريف العام 2020، بالتزامن مع استمرار تدفقات رأس المال إلى الخارج. كما استخدم البنك المركزي الشطر الأكبر من احتياطياته من العملات الأجنبية سعياً لتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف مع الحفاظ على انخفاض أسعار الفائدة. وفي خريف العام 2020، تمكّن الرفع الجديد لأسعار الفائدة من البدء في تحقيق الاستقرار في أسواق الصرف الأجنبي.

تجربة سعر الفائدة

مع بروز نقاط الضعف البنيوية إلى السطح، لم تعد أسعار الفائدة المرتفعة قادرة على اجتذاب كميات كافية من رأس المال الأجنبي. وفي العام 2021، عانت الشركات المحلية حيث طالبت أسواق التصدير بإجراء المزيد من التخفيض في قيمة العملة. 

لم يسمح ارتفاع التضخّم وانخفاض أسعار الفائدة للشركات بفرصة الاستثمار المموّل بالديون فحسب، بل أدى كذلك إلى المضاربة المموّلة بالديون، لا سيما في قطاع العقارات، وقد أسفر ذلك عن انخفاض غير مسبوق في حصة العمل من الدخل

بالتزامن مع بداية ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، شرع أردوغان في تجربته المتصلة بخفض أسعار الفائدة. وكان العامل الحاسم في ذلك هو قرار أردوغان الذي قضى باستبدال وزير المالية ومحافظ البنك المركزي بين عشية وضحاها بشخصياتٍ غير تقليدية تؤازر القيام بتخفيض أسعار الفائدة.

زعمت الحكومة أن تخفيض أسعار الفائدة كفيلٌ بتعزيز الاستثمار الإنتاجي، وأن انخفاض قيمة العملة سوف يؤول إلى استبدال الواردات، ومن ثم إلى تخليص تركيا من العجز المزمن الذي يعانيه حسابها الجاري. ولكن، ما لبث انخفاض قيمة العملة أن خرج عن السيطرة. وعندما بدأ التخفيض الجديد لأسعار الفائدة في خريف عام 2021، تسارَع الهروب بعيداً عن الليرة التركية والأصول المقوّمة بالليرة، ما دفع بالعملة إلى حالة من السقوط الحُر.

وقد أدى ذلك إلى زيادة الطلب على العملات الأجنبية. ومع اعتماد تركيا الكبير على الواردات، قادَ انخفاض قيمة العملة إلى ارتفاع مستويات الأسعار المحلية وتفاقُم التضخم. كان الهدف هو القيام بتخفيض محدود في قيمة العملة، بيد أن الحكومة لم تتوقع ذلك السقوط الحر. عندما سارع الناس إلى بيع أصولهم المقوّمة بالليرة التركية من أجل شراء العملات الأجنبية، قدّمت الحكومة «حسابات الودائع المحمية بسعر الصرف» في محاولة لترويض الطلب على العملات الأجنبية من خلال ضمان عائد للمقيمين المحلّيين يساوي معدل انخفاض قيمة العملة المحلية. حملت الحسابات المقوّمة بالليرة التركية وعد الحكومة والبنك المركزي بأنه في حال تجاوز معدل الاستهلاك سعر الفائدة، سوف يتكفل البنك المركزي أو الخزينة بتعويض أصحاب الحسابات عن الفرق. تَعزّز ذلك عبر تدخلات البنك المركزي غير المباشرة بقصد إجراء تخفيض مُنظّم لقيمة العملة. واستخدمت الحكومة والبنك المركزي احتياطيات النقد الأجنبي المقترضة لتلبية الطلب، مع إدخال «حسابات الودائع المحمية بسعر الصرف» الخاصة بالمقيمين المحليين لمنع المزيد من دَوْلرة المدخرات. أدى قيام البنك المركزي باستخدام الاحتياطيات المقترضة على سبيل التدخُّل في سوق العملات إلى صافي احتياطيات سالبة كما أعاق الاستمرار في سياسة أسعار الفائدة المنخفضة.

وأدى الارتفاع السريع للتضخم إلى انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات قياسية. وفي حين تمكّنت «حسابات الودائع المحمية بسعر الصرف» من النجاح في تقليص طلب المقيمين المحلّيين على العملات الأجنبية، فإن ضوابط رأس المال المفروضة على مقايضة الليرة بالعملة الأجنبية بين البنوك المحلية وسوق لندن، والتي طُبقت للمرة الأولى في أعقاب أزمة العملة في العام 2018، حالت دون المضاربة على العملة. ومع ذلك، عمل اتساع العجز في الحساب الجاري خلال العام 2022 على الحدّ من مواصلة هذا المسار السياسي. وفي غياب التدفق الكافي لرأس المال الأجنبي، كان البنك المركزي يستخدم الاحتياطيات المقترضة (سواء من البنوك المحلية أو البنوك المركزية الأجنبية) للحيلولة دون حدوث صدمة أخرى للعملة. ومع تحديد موعد الانتخابات الرئاسية في العام 2023، كانت الحكومة غير راغبة في التخلّي عن التأثير التوسعي المترتب على أسعار الفائدة الحقيقية السلبية ــ فقط لتغيير المسار بمجرد الفوز بالانتخابات.

ومع استمرار التضخم المرتفع تأخرت زيادات الأجور، وفي غالبية الأحوال لم تُعوّض انخفاض الأجور الحقيقية. وفي الوقت نفسه، قامت الشركات بتعديل أسعارها بل وزادت من أرباحها. لم يسمح ارتفاع التضخم وانخفاض أسعار الفائدة للشركات بفرصة الاستثمار المموّل بالديون فحسب، بل أدى كذلك إلى المضاربة المموّلة بالديون، لا سيما في قطاع العقارات. وقد أسفر ذلك عن انخفاض غير مسبوق في حصة العمل من الدخل.

عبء التقشف

ربما تمكّنت الحكومة من تحقيق بعض النجاح في الحفاظ على النمو الاقتصادي مع الإبقاء على الارتفاع النسبي لمستويات التوظيف، إلا أن انخفاض قيمة الليرة التركية بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم لا يعنيان سوى البؤس بالقياس إلى الغالبية العظمى.

يمكن استخلاص الدروس العامة من الحالة التركية، لا سيما فيما يتعلّق بالحيّز السياسي المحدود المتاح للاقتصادات النامية والناشئة، بمعنى أنه لا سبيل إلى قيام سياسة نقدية مستقلة من دون إخضاع رأس المال للضوابط

يمكن استخلاص الدروس العامة من الحالة التركية، لا سيما فيما يتعلق بالحيز السياسي المحدود المتاح للاقتصادات النامية والناشئة التي تندمج بصورةٍ كبيرة في الاقتصاد العالمي عبر التجارة المفتوحة والتدفقات المالية: بمعنى أنه لا سبيل إلى قيام سياسة نقدية مستقلة من دون إخضاع رأس المال للضوابط. لم تكن الفترة الوجيزة التي طُبقت خلالها السياسة النقدية التوسعية ممكنة لولا الضوابط الانتقائية المفروضة على رأس المال (التي تحظر اتفاقيات المبادلة بين البنوك المحلية ولندن لتقليل المضاربة على العملات)، وتدخلات البنوك المركزية الثقيلة في سوق الصرف، والمنتجات المالية الجديدة مثل «حسابات الودائع المحمية بسعر الصرف» التي تحدّ من طلب السكان المحليين على العملات الأجنبية.

وحتى في ذلك الوقت، توقفت هذه التجربة في يونيو/حزيران 2023 عندما قرّر أردوغان تعيين وزير مالية جديد ومحافظ جديد للبنك المركزي لاسترضاء قوى رأس المال المالي الدولي. لقد بات من الواضح الآن أن عبء التكيّف سوف يُلقى على عاتق العمّال مع تخلّف الزيادات في الأجور عن التضخّم، ومن المرجح أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة وسياسات التقشف إلى زيادة معدلات البطالة.

نُشِر هذا المقال في Phenomenal World في 27 كانون الثاني/يناير 2024.

أوزغور أورهانغازِي

أستاذ الاقتصاد في جامعة قادر هاس في إسطنبول، تركيا. ومؤلف كتاب «الأمْولة والاقتصاد الأمريكي»، وكتاب «هيكل الاقتصاد التركي». نشر العديد من المقالات المعنية بالتمويل والأزمات المالية والاتجاهات الاحتكارية بالإضافة إلى مقالات تمس الجوانب المختلفة للاقتصاد التركي. قام بالتدريس في جامعة روزفلت في شيكاغو، وجامعة مدينة نيويورك، وجامعة سيول.