Preview موجات الحر

«الانشواء» في فرنسا

بينما كنت أتعرّض للانشواء تحت درجاتِ حرارةٍ قياسية بجنوب فرنسا، تبخَّر مفهوم العطلة المشمسة القصيرة بعيداً من تقلّبات الطقس البريطاني. لقد شهد العالم واحداً من أشدّ الأسابيع حرارة على الإطلاق في الفترة الممتدّة من 3 إلى 10 تموز/يوليو من العام الحالي. ويقول خبراء الأرصاد الجوية إن الآتي أعظم، وبكثير. والحقيقة أننا ما زلنا ننتظر تسجيل رقم قياسي جديد لدرجات الحرارة العالمية قبل نهاية العام المقبل.

الانشواء في فرنسا

ونتيجة لذلك، هناك توقّعات بأن يشهد العام الجاري أو العام الذي يليه، تخطي درجات الحرارة العالمية لعتبةِ 1.5 درجة مئوية، التي حددتها اللجنة الحكوميّة الدوليّة لشؤون تَغَيُّر المناخ (IPCC) باعتبارها الحدّ الأعلى لارتفاع الاحتباس الحراري العالمي، الذي من شأنه أن يَحوُل دون تخطي الكوكب «نقاط التحوّل» المناخية، والتي يمكن أن تنشأ عنها تغييرات لا رجعة عنها في أنماط المناخ العالمية. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 61 ألف شخص ماتوا قبل الأوان نتيجة لدرجات الحرارة المرتفعة التي اجتاحت أوروبا الصيف المنصرم.

شهد العالم واحداً من أشدّ الأسابيع حرارة على الإطلاق في الفترة الممتدّة من 3 إلى 10 تموز/يوليو من العام الحالي. ويقول خبراء الأرصاد الجوية إن الآتي أعظم، وبكثيرويكاد يكون من المؤكّد أن العالم سيشهد درجات حرارة قياسية جديدة في الأعوام الخمسة المقبلة، ومن المرجَّح أن ترتفع درجات الحرارة إلى ما يزيد عن 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي. وقد وجدَتْ المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) أن هناك احتمال بنسبة 66% لتجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية في خلال عام واحد على الأقل بين عامي 2023 و2027.

الانشواء في فرنسا

إن تغير المناخ يؤدي إلى المزيد من الظواهر الجوية المتطرفة، بما في ذلك تغيّر أنماط هطول الأمطار التي تسبّبت في فيضانات قاتلة في الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، والهند، واليابان على مدارِ الأسبوع الماضي، وفي الوقت نفسه الذي من المتوقع أن يشهد فيه جنوب أوروبا موجة حَرٍّ شديدة تسمى «سيربيروس». وتشكل هذه الظواهر الجوية المتطرفة مؤشراً آخر، جنباً إلى جنب مع درجات حرارة المحيطات شديدة الارتفاع، وموجات الحرارة الخطيرة، والانهيار السريع لصفائح الجليد القطبية، بحيث يقود إنتاج الوقود الأحفوري واستخدامه إلى اضطراب مناخ كوكب الأرض بشكل كبير.

ووجد تقرير اللجنة الحكوميّة الدوليّة لشؤون تَغَيُّر المناخ التابع للأمم المتحدة لعام 2021، والذي وقّعه 270 عالِماً من 67 دولة حول العالم، أن الاحتباس الحراري العالمي من شأنه أن يحدث تغييرات في الرطوبة والجفاف والرياح والثلوج والجليد. وإلى جانب هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات في بعض المناطق، فإن بعض المناطق ستعاني من جفاف أكثر حِدّة. وقال تقرير اللجنة الحكوميّة الدوليّة لشؤون تَغَيُّر المناخ إن هطول الأمطار من المرجح أن يزداد على خطوط العروض العليا، ومن المتوقع حدوث تغيرات في هطول الأمطار الموسمية.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 61 ألف شخص ماتوا قبل الأوان نتيجة لدرجات الحرارة المرتفعة التي اجتاحت أوروبا الصيف المنصرمتقول راشيل كليتوس من اتحاد العلماء المعنيين إن «ما يفعله تغيّر المناخ هو تفاقم حدة الظواهر الجوية. نحن نعاني الآن من موجات جفافٍ شديدة في المناطق التي كانت تشهد فترات جفاف. هذه الدورة خطيرة للغاية، لأن وجود أرض شديدة الجفاف وعارية من الغطاء النباتي يعرّضها للانهيار عند هطول الأمطار». وأضافت: «أريد أن أؤكد أن هذا تغير مناخي من صنع الإنسان، وهو يحدث بسبب حرق الوقود الأحفوري».

إن موجة الحرّ الحالية هي مزيج عنيف من الاحتباس الحراري ووصول النينيو، وهي المرحلة الدافئة من النينو- التذبذب الجنوبي (ENSO)، وترتبط بنطاق من المياه المحيطية الدافئة التي تنشأ في وسط وشرق وسط المحيط الهادئ الاستوائي. والتذبذب الجنوبي (ENSO) هو دورة حرارة سطح البحر الدافئة والباردة (SST) في وسط وشرق المحيط الهادئ الاستوائي. وترافق ظاهرة النينو ارتفاع الضغط الجوي في غرب المحيط الهادئ وانخفاض الضغط الجوي في شرق المحيط الهادئ. ومن المعروف أن دورات النينو تستمر قرابة أربع سنوات؛ بيد أن السجلات تُظهر أن الدورات قد استمرت ما بين سنتين وسبع سنوات. ومن ثم أصبحت درجات الحرارة في المحيط الهادئ أكثر دفئاً من المعتاد، بارتفاع حوالي 0.2 درجة مئوية أثناء ظاهرة النينو. وتؤدي انبعاثات الكربون وظاهرة النينو معاً إلى تسارع ارتفاع درجات الحرارة في نصف الكرة الشمالي بكل ما يترتب على ذلك من عواقب.

في الواقع، إن «ميزانية الكربون» المتبقية في العالم، أو بمعنى آخر كمية ثاني أكسيد الكربون التي يمكن أن تنبعث للحصول على فرصة بنسبة 50% لتقليص الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية، قد انخفضت إلى النصف خلال السنوات الثلاث الماضية، حسبما أفاد فريق من كبار علماء المناخ. وقالوا إن هذه الميزانية سوف تُستنفد في أقل من ست سنوات في ظل مستويات الانبعاثات الحالية من الطاقة والمقدّرة بحوالي 38 مليار طن سنوياً، نتيجة استمرار التلوث، ومع الأخذ في الاعتبار أحدث البيانات التي تشير إلى ارتفاع درجات الحرارة على نحوٍ أسرع من المتوقع. وفي هذا السياق، يقول بيرس فورستر، مدير مركز بريستلي لمستقبل المناخ في جامعة ليدز: «هذا هو العقد الحاسم لتغير المناخ».

الانشواء في فرنسا

التأثير الطويل المدى سيكون على الأمن الغذائي. منذ جائحة كوفيد، سجّلت أسعار الغذاء العالمية ارتفاعات جديدة. لقد تراجعت الأسعار قليلاً منذ ذلك الحين، لكن الضرر الذي يلحق الآن بمحاصيل الحبوب وغيرها من المنتجات الغذائية الرئيسية نتيجة درجات الحرارة المفرطة من المرجح أن يقود إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى.

الانشواء في فرنسا

ارتفع عدد المتضررين من الجوع على الصعيد العالمي إلى 828 مليون شخص في العام 2021، بزيادة قدرها حوالي 46 مليون منذ العام 2020 و150 مليون منذ تفشي جائحة كوفيد 19، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة الذي يقدّم دليلاً جديداً على أن العالم يبتعد أكثر عن هدفه المتمثل في القضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية بجميع أشكاله بحلول العام 2030.

وبعد أن بَقيتْ من دون تغيير نسبياً منذ العام 2015، ارتفعت نسبة من يعانون الجوع في العام 2020، واستمرت في الارتفاع على مدار العام 2021، لتصل إلى 9.8% من سكان العالم. وهذا بالمقارنة مع نسبة 8% في العام 2019، و9.3% في العام 2020. كان حوالي 2.3 مليار شخص في العالم (29.3%) يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل معتدل أو حادّ في خلال العام 2021 - أي أكثر بنحو 350 مليون شخص بالمقارنة مع الأرقام المسجّلة قبل تفشي جائحة كوفيد. وواجَهَ نحو 924 مليون إنسان (11.7% من سكان العالم) انعدام الأمن الغذائي بمستوياتٍ حادة، بزيادة قدرها 207 مليون في غضون عامين.

لا بد من خفض الانبعاثات إلى النصف تقريباً بحلول العام 2030 للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة ومنعها من تجاوز مستوى 1.5 درجة مئوية، ولكن الحرارة تستمر في الارتفاع سنوياً بدلاً من ذلك لا بد من خفض الانبعاثات إلى النصف تقريباً بحلول العام 2030 للحدّ من ارتفاع درجات الحرارة بحيث لا تتجاوز مستوى 1.5 درجة مئوية الذي يُتوقع أن تحدث عنده تغيرات كوكبية لا رجعة فيها. ولكن الحرارة تستمر في الارتفاع سنوياً بدلاً من ذلك. يقول كارلو بونتمبو، مدير كوبرنيكوس: «لم نشهد شيئاً كهذا في تاريخنا. وبالنسبة لي هذا مثال ملموس لما يعنيه العمل في أرضٍ مجهولة. إن تغير المناخ ليس شيئاً سيحدث في غضون 20 أو 30 عاماً، إنه يحدث الآن». إلى ذلك، يقول سومانت سينها، رئيس شركة ReNew Power الهندية، عن هدف باريس المتمثل بعدم ارتفاع الحرارة باكثر من 1.5 درجة مئوية كحدٍ أقصى، «يمكن إلى حد كبير دفن هذا الهدف»، وحتى حصر الارتفاع بدرجتين مئويتين «يبدو مشكوكاً فيه».

لا تفي أوروبا بأهدافها المتعلّقة بالتخفيف من آثار تغير المناخ. ويقدِّر المرصد الأوروبي للحياد المناخي أنه بحلول العام 2021، قام الاتحاد الأوروبي بخفض انبعاثاته بنسبة 30% مقارنة بمستويات العام 1990. ولكن، من أجل الوصول إلى هدف العام 2030، سيتعيّن عليه إجراء المزيد من خفض الانبعاثات بما يعادل 132 ميغاطن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً الناتج السنوي من 332 محطة تعمل بالغاز.

ويضيف: «تقدم بيانات السنوات الخمس الماضية رسالة واضحة: بينما تستمر الانبعاثات في أوروبا في الانخفاض، هناك حاجة ماسة لخفض الحرارة بمعدّل أسرع لتحقيق كلاً من هدف 2030 والحياد المناخي بحلول العام 2050». وذكرت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية هذا الأسبوع أن أوروبا تسخن، حيث ارتفعت درجات الحرارة بنحو 2,3 درجة مئوية عن مستويات ما قبل العصر الصناعي في العام 2022. وفي حين، كان من المفترض أن يتم إلغاء دعم الوقود الأحفوري تدريجياً بحلول العام 2025، ولكنه إزداد على مدى السنوات الخمس الماضية.

الانشواء في فرنسا

لقد حققت شركات الطاقة أرباحاً قياسية من خلال زيادة إنتاج النفط والغاز، بعيداً من وعودها بتقليص الانبعاثات. وفي الشهر الماضي أثناء مؤتمر للصناعة قال دارين وودز، الرئيس التنفيذي لشركة إيكسون، إن شركته تخطّط لمضاعفة كمية النفط المنتج من النفط الصخري في الولايات المتحدة في غضون السنوات الخمس المقبلة. وقال وائل صوان، الرئيس التنفيذي لشركة شل، إن الحد من إنتاج النفط والغاز سيكون «خطيراً وغير مسؤول. في الواقع إن نظام الطاقة اليوم لا يزال في أمسِّ الحاجة إلى النفط والغاز. وقبل أن نتمكن من التخلّي عن ذلك، يتعيّن علينا أن نتأكد من أننا طوّرنا أنظمة الطاقة المستقبلية. ونحن لم نتحرك جماعياً بعد بالوتيرة [المطلوبة] لتحقيق ذلك». بالفعل!

يتعيّن على الاتحاد الأوروبي إجراء المزيد من خفض الانبعاثات بما يعادل 132 ميغاطن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وهو ما يعادل الناتج السنوي من 332 محطة تعمل بالغازتستضيف دولة الإمارات العربية المتحدة قمّة الأمم المتحدة المقبلة حول الاحتباس الحراري COP28، وقد عيَّنَتْ المدير التنفيذي لقطاع النفط سلطان الجابر رئيساً لها! وكما يقول مايكل بلوس، وهو عضو ألماني في البرلمان الأوروبي عن حزب الخضر، فإن التعيين كان «فضيحة» و«مثالاً ممتازاً على تضارب المصالح. الأمر أشبه بتكليف شركات التبغ بمسؤولية الإقلاع عن التدخين!»

في الوقت نفسه، تتعرّض أوروبا والعديد من الأجزاء الأخرى في نصف الكرة الشمالي لدرجات حرارة مرتفعة جدّاً. أمّا الأجزاء الأكثر فقراً من العالم، التي تعاني بالفعل من معدّل أكبر من الفقر بسبب كوفيد-19 وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة، فسوف تعاني أكثر مع تحوّل العديد من المناطق على كوكب الأرض لمناطقٍ غير صالحة لسكن الإنسان - مع العلم أنه جرى القضاء بالفعل على أنواع أخرى.

نُشِر هذا المقال بموافقة مُسبقة من الكاتب - 18 تموز/ يوليو 2023.