Preview مجموعة العشرين في الجنوب

مجموعة العشرين في الجنوب

بدأت البرازيل في كانون الأول/ديسمبر 2023 دورتها الرئاسية لمجموعة العشرين، وتنتهي بقمّة سنوية تُعقَد في ريو دي جانيرو في تشرين الثاني/نوفمبر 2024. وهذه الدورة الثالثة بين أربع دورات برئاسة الجنوب العالمي، بعد إندونيسيا في 2022 والهند في 2023 وقبل الرئاسة المقرّرة لجنوب أفريقيا في 2025. حين سلّم ناريندرا مودي الرئاسة رسمياً إلى البرازيل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أعلن لولا ثلاثة أولويات «لوضع تقليل التفاوتات في صلب الأجندة الدولية: 1) الشمول الاجتماعي ومحاربة الجوع، 2) التحول الطاقوي والتنمية المستدامة في ثلاثة مناحٍ (الاجتماعي والاقتصادي والبيئي)، 3) إصلاح مؤسسات الحوكمة العالمية». لقيت المقترحات الاستحسان على الصعيد الدولي. وباتت المهمّة من اليوم ولغاية قمة تشرين الثاني/نوفمبر صياغة مقترحات واتفاقيات ملموسة لتحقيق هذه المستهدفات.

صندوق النقد والبنك الدوليين اللذان تأسّسا بعد الحرب العالمية الثانية، يسندان اليوم نظام حوكمة عالمي لا يعكس التغيُّرات الهائلة في الاقتصاد العالمي منذ السبعينيات ويعيدان إنتاج تفاوتات القوة في مجالات الدبلوماسية المتعددة الأطراف

بيد أن منتديات مجموعة العشرين متعدّدة الأطراف لا تزال تجري، على تقدّمية مقترحات الحكومة البرازيلية، في سياق مؤسّسات دولية تسبقها بسنوات طويلة – وتعكس ميزان القوى الاقتصادية العالمية في أواسط القرن العشرين. فمؤسّسات كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تأسّست بعد الحرب العالمية الثانية، تسند اليوم نظام حوكمة عالمي لا يعكس التغيُّرات الهائلة في الاقتصاد العالمي منذ السبعينيات. وتعيد هذه المؤسسات، المهيمن عليها من بلدان تمثّل اقتصاداتها حصّة متقلّصة من الإنتاج والتجارة العالميين، إنتاج تفاوتات القوة في مجالات الدبلوماسية المتعددة الأطراف – وهذه لا غنى عنها اليوم للتخفيف من آثار تغيّر المناخ العالمي وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل سكان العالم الضعفاء اقتصادياً واجتماعياً.

يشير الثقل المتزايد للجنوب العالمي بين دول العشرين إلى تغيّر في موازين القوى داخل المجموعة – ويبيّن كيف أنّ اللحظة مواتية لتحوّلٍ في الاستراتيجية. وقد أظهرَت المجموعة في قمتها السابقة في نيو دلهي الأهمية المتزايدة للجنوب العالمي. في ظل الرئاسة الهندية، حدث أمران سلّطا الضوء على تحوّلٍ نحو تعدّدية الأقطاب: غياب الموقف الأحادي من الحرب في أوكرانيا، والأهم من ذلك ضمّ الاتحاد الأفريقي إلى المجموعة بصفة عضو دائم.

Previewمجموعة العشرين في الجنوب - رسم 1

وهذا الثقل المتزايد للجنوب العالمي داخل مجموعة العشرين، وبالتبعية القوة السياسية المتزايدة، ينحاز إلى أجندة عالمية جديدة للقرن الحادي والعشرين. والحكومة البرازيلية بتولّيها الرئاسة الدورية للمرة الأولى لديها فرصة عظيمة لتعزيز التنسيق بين البلدان المتوسطة الدخل لتحقيق الأهداف المشتركة.

وعلى الرغم من صعوبة إقامة استراتيجية دبلوماسية رسمية لبناء كتلة اقتصادية متّحدة بين دول الجنوب في المجموعة بحكم تنوّعها السياسي، فإنّ أولويات الحكومة البرازيلية المدرجة تطرح مصالح مشتركة من شأنها تعزيز العمل المشترك بين هذه الدول.

الجنوب العالمي في مجموعة العشرين

لقد تغيّرت خارطة المجموعة بدرجة كبيرة مع انضمام الاتحاد الأفريقي، فباتت تمثّل في مداولاتها حصة أكبر من العالم. وبالنظر إلى المعيار الجيوسياسي (والمعيارين الجغرافي والاقتصادي)، نميّز بين أعضاء الشمال العالمي في المجموعة (ألمانيا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة وكوريا والاتحاد الأوروبي)، وأعضائها من الجنوب العالمي (جنوب أفريقيا والمملكة العربية السعودية والأرجنتين والبرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا وتركيا والاتحاد الأفريقي).

يبيّن لنا هذا التصنيف التغيّرات الحاصلة في العقود الأخيرة. تشكِّل حصص الناتج المحلي الإجمالي العالمي معياراً مقبولاً للتحليل الاقتصادي الدولي: فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين، طرأ تحول سريع على ثقل المجموعتين. تظهر أحدث البيانات من العام 2022 أنّنا نعيش في لحظة يتفوّق فيها الجنوب العالمي على الشمال.

مجموعة العشرين في الجنوب - رسم 2

مع نمو الاقتصاد العالمي بين العامين 1990 و2022، انخفضت حصة الناتج المحلي الإجمالي العالمي لدول الشمال في مجموعة السبع مجتمعة بمقدار الخُمس – من 57% إلى 37%. ومع تزايد حصة الجنوب العالمي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي باتت مجموعة العشرين، وليس مجموعة السبع، منتدى للحوكمة العالمية فائق الأهمية.

مجموعة العشرين في الجنوب - رسم 3

وعلى الرغم من أنّ الاقتصاد الصيني يقطر إلى حد كبير المسار التصاعدي للجنوب العالمي، فإنّ هذا وحده لا يكفي لتفسير هذا الصعود. بعد استبعاد أكبر اقتصادين على هذا الكوكب (الولايات المتحدة الأميركية والصين)، يتضح لنا أنّ مساهمة بلدان الجنوب الأخرى في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمجموعة العشرين، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، كانت على الدوام تقريباً أكبر من مساهمة البلدان الأخرى من الشمال.

مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 4

وحين نحلّل الإنتاج الصناعي، نجد التحوّل كبيراً جداً. فعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة في مشاركة كل دولة من دول الجنوب في سلاسل القيمة، كان تطوّر مجموعة البلدان هذه من حيث المجموع الكمّي لافتاً. في وقت إنشاء مجموعة العشرين في العام 1999، كانت مشاركة دول الجنوب العالمي في إجمالي الإنتاج الصناعي للمجموعة حوالى 10%. ومنذ العام 2005 فصاعداً، بدأت هذه الحصة في النمو بسرعة، لتصل إلى ما يقرب من 50% في العام 2021. في السنوات المقبلة، وعلى الرغم من حركة «إعادة التوطين» التي تروّج لها الولايات المتحدة، من المرجح أن يتجاوز الجنوب العالمي الشمال، وفقاً لهذا المعيار.

مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 5


وعلى صعيد التجارة الدولية، تتزايد أيضاً مشاركة بلدان الجنوب العالمي. حين تم إنشاء مجموعة العشرين، كانت حصة الجنوب من إجمالي الصادرات حوالى 13%. وفي العام 2021 باتت أكثر من 30%. وتعكس الزيادة في الصادرات النمو في إنتاج السلع الصناعية، ولكنها تعكس أيضاً الأهمية الكبيرة لبلدان الجنوب العالمي في إنتاج السلع الزراعية والمعدنية وتصديرها. وتتبيّن أيضاً أهمية الجنوب في إنتاج بعض المواد الغذائية وثيقة الصلة بالنظام الغذائي لغالبية سكان العالم. لطالما كان الجنوب العالمي رائداً في إنتاج الأرز (الصين والهند) وقصب السكر (البرازيل والهند والصين)، لكن في العقود الثلاثة الماضية زادت دول الجنوب من إنتاج المواد الغذائية الأخرى بعدما كان إنتاجها يتركّز تقليدياً في دول الشمال في مجموعة العشرين.

على سبيل المثال، تجاوز إنتاج القمح واللحوم في الجنوب العالمي إنتاج الشمال في تسعينيات القرن العشرين ويمثل حالياً قرابة 60% من إجمالي إنتاج مجموعة العشرين. وبدأ الجنوب في السيطرة على إنتاج فول الصويا في بداية القرن الحادي والعشرين، حيث بلغت حصته الحالية قرابة 60% (مع التركيز على البرازيل والأرجنتين). وفي إنتاج الذرة، لا تزال الولايات المتحدة الأميركية أهم منتج منفرد، ولكن في تحليلنا، بتقسيم البلدان المشاركة إلى كتلتين، تجاوزت أهمية الجنوب العالمي في الذرة أهمية الشمال (ويرجع ذلك أساساً إلى الإنتاج الصيني والبرازيلي).

مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 6
مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 7

وفيما يتعلّق بمسألة إنتاج الكهرباء البالغة الأهمّية بين مجموعة العشرين، تفوّقت بلدان الجنوب العالمي بالفعل على الشمال في العام 2013، وتتجاوز حالياً إنتاج الشمال بأكثر من 40%. والأهم من الكمّية المنتجة هو تنوّع مصادر الإنتاج. الجنوب العالمي لديه إنتاج مكافئ أو أكبر في المصادر النظيفة (كالطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية)، لكن لا يزال حجم إنتاج الطاقة بواسطة الفحم كبيراً للغاية – ويرجع ذلك أساساً إلى الصين والهند.

تبيّن هذه البيانات استحالة التفكير في التحول الطاقوي على مستوى العالم من دون إشراك الجنوب. فمن ناحية، يشدّد هذا على أهمية التزام البلدان في الجنوب بخفض الانبعاثات، ومن ناحية أخرى، يدعو إلى التعاون والالتزام الجديين من طرف الشمال نحو الجنوب – بما في ذلك نقل التقنية واتفاقياتٍ تضمن سرعة التحول ومن دون تعزيز هيكل التفاوتات. لكن توجد أيضاً أوجه عدم تجانس جدية بين بلدان الجنوب العالمي، ما يجعل التحول الطاقوي أصعب لبعضها مقارنة ببعضها الآخر. وهكذا، لا بد في نطاق مجموعة العشرين من صياغة الأجندة البيئية مع مراعاة المحركات الرئيسة للزيادة (والتخفيض المحتمل) في انبعاثات الكربون لكل بلد.

إنتاج الكهرباء في مجموعة العشرين

وجه العملة الآخر

لكنّ هذه الأهمية المتزايدة للجنوب في مجموعة العشرين، كما كشفت عنها المقاييس الاقتصادية المتعلقة بالإنتاج والتجارة، لا تنعكس في أداء المنظومة النقدية والمالية الدولية. ففي أسواق العملات الأجنبية الدولية ككل، انطوت 90% من المعاملات في العام 1989 ونحو 88% في العام 2022 على الدولار.1

يتناقض صمود الدولار مع تراجع الأهمية النسبية للاقتصاد الأميركي في الإنتاج العالمي. وفي الفترة نفسها، كان الرنمينبي الصيني العملة الوحيدة التي أصدرها الجنوب العالمي والتي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً من 0% من المعاملات في العام 1989 إلى 7% في العام 2022. وبالنظر إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي للصين يمثّل حالياً زهاء 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (بتعادل القوة الشرائية)، فإنّ هذا لا يزال تبايناً كبيراً. أما العملات من الاقتصادات الكبيرة في الجنوب العالمي، كالهند (2%) والبرازيل (1%)، فهامشية تماماً على الساحة الدولية.

ولهذا التباين في المنظومة النقدية والمالية الدولية آثار كبيرة في الاقتصاد الكلّي العالمي، ويولّد ما وصفه فاليري جيسكار ديستان في حقبة سابقة من سياسات العملة بـ «الامتياز الهائل» للبلد المُصدِر للعملة الرئيسة، وللبلدان الطرفية ما أطلقنا عليه «العبء الإلزامي»,2  لأن هامش عملتها القانونية في الأسواق العالمية يعني أنّها تواجه في الغالب تقلّبات أكبر في أسعار صرف عملاتها،  وارتفاع أسعار الفائدة على اقتراضها، وبالتالي تقليل استقلاليتها في السياسة الاقتصادية.3  كما أنّ التباين النقدي مصدر للقوة الجيوسياسية. فمع اعتماد الدول على العائدات الدولارية في التجارة والأسواق المالية، تستخدم الولايات المتحدة عملتها – والمنظومة النقدية والمالية الدولية القائمة عليها – كأسلحة حرب.4

إلى جانب هيمنة الدولار الأميركي، تحافظ المؤسّسات المالية المتعدّدة الأطراف الكبرى على قواعد حوكمة عفا عليها الزمن. على سبيل المثال، يتجاهل ثقل التصويت وحق النقض الأميركي في صندوق النقد الدولي التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية الهائلة في العالم منذ العام 1945، ويفاقم عدم المساواة بين البلدان. فإنشاء حقوق السحب الخاصة في أواخر ستينيات القرن العشرين، في سياق تحولٍ نحو الاعتراف بعالم ينشأ بعد الحرب العالمية الثانية، لا يعني الكثير حين تظل قبضة الولايات المتحدة الأميركية محكمة على مقاليد المؤسسة المصدرة.

بعيداً عن الاقتصاد: السكان

إلى جانب تحليل المؤشرات الاقتصادية، يجدر النظر إلى البيانات الديموغرافية للدول الأعضاء في المجموعة. لقد كانت نسبة سكان الجنوب العالمي بالفعل أعلى بكثير من الشمال بحلول العام 2022، ودخول الاتحاد الأفريقي إلى المجموعة في العام 2023 زاد من اختلال هذه الصورة. أكثر من 80% من سكان مجموعة العشرين (بما في ذلك أعضاء الاتحاد الوطني) موجودون في بلدان الجنوب. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، سيظل عدد سكان شمال العالم وجنوبه بخلاف الاتحاد الأفريقي مستقراً نسبياً أو سيخضع لنمو متواضع على مدى العقود الثلاثة المقبلة، في حين من المتوقع ازدياد عدد سكان الاتحاد الأفريقي بنحو مليار شخص، ما يرفع المشاركة الديموغرافية للجنوب في مجموعة العشرين إلى قرابة 86% من المجموع.

مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 9

وإذا أخذنا في الاعتبار السكان دون العشرين عاماً فحسب، فإنّ التباين أكبر. مع ضم الاتحاد الأفريقي، بات الجنوب العالمي في الوقت الحالي يمتلك قرابة 90% من السكان الشباب في مجموعة العشرين – والمرجح استمرار هذا الوضع في خلال العقود المقبلة.

مجموعة ال20 في الجنوب - رسم 10

تكشف هذه المقاييس الاقتصادية والديموغرافية عن الأهمية الكبيرة والمتزايدة لبلدان الجنوب العالمي في مجموعة العشرين. ولهذه الاتجاهات آثار جيوسياسية لا جدال فيها، وتشير إلى زيادة قوة الجنوب وترجح كفة عمله ككتلة واحدة لتحقيق المصالح المشتركة.

أجندات جنوب – جنوب

إنّ زيادة ثقل الجنوب والزيادة بالتبعية في قوته التفاوضية في مجموعة العشرين يكشف لنا أنّنا بتنا نعيش في لحظةٍ مواتية للضغط نحو هيكل جديدٍ للحوكمة العالمية يعكس بجدية التحولات الاقتصادية والجيوسياسية في العقود الأخيرة. وليس بالجديد محاولة الجنوب العالمي تعزيز صوته في الساحات الدولية، لكنّ الظرف الحالي يتيح للرئاسة البرازيلية استثمار مطالب هذه المجموعة من البلدان.

إن التباين في المنظومة النقدية والمالية الدولية ويولّد «الامتياز الهائل» للبلد المُصدِر للعملة الرئيسة، و«العبء الإلزامي» للبلدان الطرفية

ومن العوامل المهمة التوسع الهائل للقوة الجيوسياسية الصينية. فإذا لم تمنح دول الشمال العالمي مساحة لدول الجنوب الأخرى، سترتأي الأخيرة استمرار التقارب مع الصين. ولعل توسّع مجموعة البريكس على سبيل المثال لتشمل ست دول جديدة (المملكة العربية السعودية وإيران وإثيوبيا ومصر والأرجنتين والإمارات العربية المتحدة)، بدءاً من العام 2023، يعكس لنا الأهمية المتزايدة لمنتديات التنسيق الدولية خارج إطار مجموعة العشرين.

وللسياق البرازيلي المحلي تأثير في هذه اللحظة المهمة في السياسة العالمية. بعد ست سنوات كانت في خلالها منبوذة على الصعيد الدولي، تعود البرازيل إلى دورها ممثِّلةً إمكانية التطور الديمقراطي الاجتماعي على المسرح العالمي مع إعادة انتخاب لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. في الأشهر الأولى من ولايته الثالثة، عاد لولا إلى عداد كبار القادة حول العالم، لا سيما فيما يتعلق بقضايا السلام ومكافحة الجوع وأزمة المناخ. ولتحقيق هذه الأهداف في الاقتصاد العالمي، من المهم أن تدافع الرئاسة البرازيلية لمجموعة العشرين بقوة عن مقترحات تخفيف عبء الديون على البلدان منخفضة الدخل أو إعفائها منها – لا سيما في سياق التصحيح المالي الذي تشجّعه على نطاق واسع المنظومة النقدية والمالية الدولية.

لقد أثبتت مجموعة العشرين بالفعل أن لديها القدرة على مثل هذه الليبرالية المالية. في العام 2020، وسعياً منها إلى الحد من آثار الجائحة والديون العامة في مسارات النمو في البلدان منخفضة الدخل، أنشأت مجموعة العشرين مبادرة تعليق خدمة الدين. وفي الفترة من أيار/مايو 2020 إلى كانون الأول/ديسمبر 2021، علّقت المبادرة مدفوعات خدمة الدين بما قيمته 12.9 مليار دولار أميركي للبلدان المشاركة5 ، ما زاد من الإنفاق الاجتماعي ليشمل الفئات الضعيفة اجتماعياً في لحظة اضطراب اقتصادي عالمي. لكن قيمة ما علقته من الديون لم يزِد إلا قليلاً عن ربع الإجمالي المعلن عند إطلاق المبادرة. وفي العام 2022، استُبدل بالمبادرة برنامج الإطار المشترك لمعالجة الديون، وهو المعمول به حالياً. وقد ثبت أنّ كلاً من البرنامج والمبادرة بطيء ويستبعد البلدان المتوسطة الدخل، وغير قادر على اجتذاب المشاركة الكاملة من جانب الدائنين6 . لكن يوجد مجال للمضي قدماً في مشروع أفضل وأشمل لإعادة التفاوض على ديون بلدان الجنوب العالمي أو إعفائها منها.

ترتبط قضية الديون الخارجية وما يترتب عليها من نقص في المخصصات المالية بمشكلة هامة أخرى: ارتفاع كلفة التمويل المناخيّ. ستحتاج البلدان المثقلة بالديون إلى زيادة الإنفاق على التحول الأخضر إذا شاءت مجموعة العشرين تحقيق أهدافها المشتركة. لكنّ إحجام المجتمع الدولي عن اقتراح بدائل لديون البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل يجعل من المستحيل على البلدان الأكثر عرضة لتغير المناخ الاستثمار في التخفيف والتكيّف7 . وواقع أنّ الحكومة البرازيلية اليوم دائن دولي صاف يزيد من شرعية هذا المطلب.

تكشف السياسات العالمية للقواعد المالية الوطنية عن أوجه عدم التماثل في المنظومات النقدية والمالية الدولية التي يمكن لرئاسة مجموعة العشرين البرازيلية البدء في معالجتها. لا تزال مقاومة بلدان الشمال العالمي للإصلاحات شديدة القوة، لكنّ الاعتراف باختلالات النظام الحالي يضفي الشرعية على مطالب الجنوب. بعضُ التغييرات لن تأتي من الهيئات التداولية المتعددة الأطراف، بل من تحولات اقتصادية وجيوسياسية هائلة غير متوقعة. بيد أنّ المؤسسات المتعددة الأطراف في بريتون وودز أدوات مهمة، ويجب إخضاعها للحوار والضغط في اجتماعات مجموعة العشرين.

بالإضافة إلى ذلك، من شأن المبادرة البرازيلية لإنشاء تحالف عالمي ضد الجوع والفقر أن تحمل تداعيات عالمية واسعة النطاق – إذا تُوِّجَت باقتراح ملموس يتضمن، قبل كل شيء، هيكلاً تمويلياً وتنسيقاً بين مختلف الهيئات الحكومية. ومن خلال الإرادة السياسية والعزم المؤسسي الفعال، من الممكن التخفيف من الواقع البشع لما يقرب من 800 مليون شخص يتضورون جوعاً في عالم ينتج كميات كافية من الغذاء لإطعامهم. ويمكن أن يستند هذا العزم إلى قصص نجاح من الجنوب العالمي نفسه – كالصين بسياستها المتمثلة في التخفيف من حدة الفقر المستهدف، والبرازيل بسياسة القضاء على الجوع.

وأخيراً، يجب إعطاء الأولوية لقضية الاستدامة – في أشكالها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية –، لأنّها تشمل جميع مسائل التمويل والتنسيق التي تطرّقت إليها أجندة البرازيل لمجموعة العشرين. فبلدان الشمال والجنوب يهمها مسائل تمويل التحول الأخضر، وضمان الظروف لعدم استغلال المناطق البيئية المحفوظة، والعبء المتمايز لخفض انبعاثات الكربون.

تصطدم البرازيل هنا بعقبة تتشاركها معها بلدان أخرى من الشمال والجنوب: إن عالماً يحدث فيه التحول الطاقيّ ببطء شديد يوفر فرصاً اقتصادية مستمرة لأحد أكبر منتجي النفط في العالم لمواصلة التنقيب عن النفط في مناطق مثل أحواض الهامش الاستوائي. كما يوفر أشكالاً جديدة من القوة الجيوسياسية (انظر التحرك نحو الانضمام إلى أوبك بلس). في خضم الأزمة البيئية الحالية، يجب على الحكومة الحالية أن تظل حازمة في الدفاع عن السياسات البيئية الفعالة. وبالنظر إلى مركزية التحول الأخضر في أجندة مجموعة العشرين، وحقيقة أنّ البرازيل ستستضيف أيضاً قمة المناخ (كوب 30) في العام 2025، فإنّ الوقت مناسب لفتح قنوات الحوار والشراكات والتمويل للحفاظ على هذه الالتزامات البيئية.

قدَّمنا هنا بعض الأمثلة على كيف يمكن لأولويات الرئاسة البرازيلية لمجموعة العشرين التعبير عن الأهمية المتزايدة للجنوب العالمي في الكتلة والتأثير في التغييرات الفعالة في قرارات قمة 2024. ما من حلول وطنية للمشكلات العالمية. وقد أظهر الوباء بوضوح فشل هياكل الحوكمة العالمية الحالية في تنسيق الحلول الجماعية. فالسباق البعيد عن الأخلاق لشراء اللقاحات أظهر بوضوح الحاجة إلى القيام بالتغييرات، حين كانت الدول الغنية تحصل لنفسها على كميات من الجرعات تتجاوز احتياجاتها بكثير في حين لم يحصل معظم الجنوب العالمي على الجرعة الأولى لسكانه حتى.

وبالمثل، لن تجد القضايا المتعلقة بالتفاوت البنيوي أو أزمة المناخ أي حلٍّ إذا استمرت البلدان الغنية على نهجها في ظل نظام واضح المثالب. وإذا لم تكن مجموعة العشرين بقادرة على تحدي هذه الهياكل، فلا فائدة من بقائها كمنتدى فاعل. إذ من كل عشرة شباب في مجموعة العشرين ثمّة تسعة من الجنوب العالمي. وإذا كانت أجندة المجموعة تولي اهتماماً أكبر لشاب واحد من الشمال العالمي على حساب تسعة من الجنوب، فقد حاق المنتدى الفشل. وبهذا المعنى، يمكن لرئاسة البرازيل لمجموعة العشرين أن تؤدي دوراً تاريخياً في إعادة تنظيم الحوكمة العالمية. ولتفعل ذلك، يتعين عليها توخي الحذر فيما تفرضه عليها المؤسسات التقليدية متعددة الأطراف من أجندات، وإعطاء الأولوية لاحتياجات الجنوب العالمي وترجيح كفة التنسيق بين هذه البلدان لتعمل ككتلة واحدة في الدفاع عن مصالحها المشتركة.

  • 1BIS Triennial Central Bank Survey (for 1989 and 2022)
  • 2Ricardo Carneiro and Bruno De Conti, “Exorbitant privilege and compulsory duty: the two faces of the financialised IMS,” Cambridge Journal of Economics 46, no. 4(2022): 735–752
  • 3Daniela Magalhães Prates, “Crises Financeiras dos Países ‘Emergentes’: Uma Interpretação Heterodoxa,” (tese de doutoramento, Universidade Estadual de Campinas, 2002)
  • 4Ernani Teixeira Torres Filho, “A bomba dólar: paz, moeda e coerção,” (Texto para discussão IE/UFRJ, n. 29, 2019)
  • 5World Bank, World Development Indicators (2023), https://datatopics.worldbank.org/world-development-indicators/
  • 6Marina Zucker-Marques, Ulrich Volz, and Kevin P. Gallagher, Debt Relief By Multilateral Lenders. Why, How and How much? (Boston, London, Berlin: Boston University Global Development Policy Center; Centre for Sustainable Finance, SOAS, University of London; Heinrich-Böll-Stiftung, 2023)
  • 7Zucker-Marques, Volz, Gallagher, “The debt and climate crises are escalating—it is time to tackle both,” in Debt Relief By Multilateral Lenders

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.