Preview الوضع الصحي في غزة

الوضع الصحي في قطاع غزّة
العيش في جحيم الاحتلال

«سوف نفرض حصاراً كاملاً على غزّة. لن يكون هناك كهرباء، أو غذاء، أو مياه، أو محروقات. سوف نغلق كل شيء. نحن نحارب حيوانات بشريّة ونتعامل معهم على هذا الأساس». هكذا أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، تشديد الحصار على قطاع غزّة القائم منذ العام 2007.

أثار هذا الإعلان السخط عند سامعيه بفعل وقاحة الكلام العنصري الذي يجرّد الشعب الفلسطيني من إنسانيته، بعد أن جرّدهم الاحتلال من أرضهم. ولكن هذا الإعلان أثار الذعر أيضاً عند المؤتمنين على الشعب الفلسطيني وأصحاب القرار في المنظّمات الدولية والجمعيات الإنسانية ورؤساء الدول التي تستمد شرعيّتها (وإن بشكلٍ بلاغي) من الدفاع عن حقوق الإنسان. 

فلا بد من التعجّب أولاً كيف صمد الفلسطينيين في قطاع غزّة، الذي وُصف من داعمي القضية الفلسطينية وإسرائيل في آنٍ معاً بأنه «أكبر سجن في الهواء الطلق» و«أكبر معسكر اعتقال على الأرض»، لا سيّما أن تجلّياته على الوضع الإنساني، ولا سيّما الصحّي، كانت كارثية للفلسطينيين في غزّة عشية عملية «طوفان الأقصى».

الوهلة الأولى

تكشف ديموغرافية المقيمين في غزة عن تشوّهات صحيّة مقلقة. بحسب الأونروا بلغ عدد المقيمين في قطاع غزة 2.1 مليون نسمة (1.7 مليون منهم لاجئون) يتوزّعون على 360 كيلومتر مربع، ما يضع القطاع في المرتبة الخامسة عالمياً من حيث كثافة السكّان. اللافت أن 39.75% من السكان لا تتجاوز أعمارهم 14 سنة و2.91% منهم فقط تتجاوز أعمارهم 65 سنة. تفصح هذه الأرقام عن الوضع الصحي الرديء في قطاع غزّة بحيث يعتبر نجاة فلسطيني مقيم في غزة لمدة 65 سنة حالة استثنائية. يجدر التوضيح أن هذه المعطيات الديموغرافية صادرة عن  وكالة المخابرات المركزية الأميركية، مما يحتّم أن القوات الإسرائيلية على يقين أن حوالي نصف من تنعتهم بالإرهابيين والحيوانات البشرية وأهداف غاراتها الجويّة هم من الأطفال الذين لم يبلغوا عمراً كافياً لفهم ما هي فلسطين أو إسرائيل أصلاً.

الوضع الصحي في غزة

مستشفيات/مشارح

بحسب إدارة الإحصاء المركزي الفلسطينية، يحتوي قطاع غزة على 32 مستشفى و1.3 أسرّة استشفاء لكلّ 10,000 نسمة (أي حوالي 273 سرير للقطاع بأسره) وهو معدّل منخفض للغاية ليس لمعالجة السكان بشكل روتيني فحسب، إنّما خصوصاً لاستيعاب الإصابات العديدة التي تنتج عن الغارات الإسرائيلية. فعلى سبيل المثال، في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي بعد أربعة أيام على بدء العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، بلغ عدد المصابين 4,000 شخصاً وهذا ما يتعدّى 14.6 أضعاف القدرة الاستيعابية في المستشفيات. 

يضاعف الجيش الاسرائيلي هذه المأساة عبر استهدافه المتعمّد للمرافق الصحية. أحصت منظمة الصحة العالميّة 645 استهدافاً للمنشآت الصحّية في غزّة من قبل الجيش الإسرائيلي بين عامي 2018 و2022. في سياق الحرب الحاليّة، استهدف الجيش الإسرائيلي، لغاية 10 تشرين الأول/أكتوبر، نحو 13 مرفقاً صحيّاً و15 سيارة إسعاف. كما أن القَطع المتعمّد للتيّار الكهربائي عن قطاع غزّة الذي فرضته سلطات الاحتلال الإسرائيلي يهدّد بـ«تحويل مستشفيات قطاع غزّة إلى مشارح» بحسب المنظّمة الدولية للصليب الأحمر. فيما حظر دخول المحروقات إلى القطاع يمنع سيارات الإسعاف من التنقّل لإغاثة المصابين.

حصار على القطاع الصحّي

تحاصر السلطات الإسرائيلية القطاع الصحّي والمرضى في قطاع غزّة. بحسب تقرير لمنظّمة الصحة العالمية في أيار/مايو 2023، يفتقد قطاع غزّة إلى 40% من الأدوية الأساسية، 18% من المعدّات الطبية الأساسية، و70% من مستلزمات الفحوصات المخبرية. يمنع الحصار دخول معدّات إجراء صور شعاعية أو مغناطيسية، وقوارير الأكسجين، والأطراف الاصطناعية. رفضت السلطات الإسرائيلية 69% من طلبات إدخال قطع غيار لماكينات التصوير الشعاعي (X-ray, CT scan).

حصار على المرضى

بحكم هذا الانقطاع المتعمّد للمستلزمات الطبية، لا يستطيع سكان غزّة تلقي العلاج اللازم في مستشفيات القطاع فيتقدمون بأذونات مرور من معبر بيت حانون (شمالي غزة) تمنحهم إياها السلطات الإسرائيلية للتنقل من غزة إلى الضفة الغربية لتلقي العلاج. بحسب منظمة الصحة العالمية، تقدم 234,233 مريض فلسطيني من قطاع غزّة بطلبات للحصول على تصاريح خروج لتلقي العلاج في الضفّة الغربية بين عامي 2008 و2022.  رُفض أو أُخّر 30% من هذه الطلبات كما رُفض أو أُخّر 44% من 260,729 طلب لمرافقة مريض. تجدر الإشارة إلى أنّ 26% من المرضى المتقدّمين بطلب يعانون من سرطان و31% منهم هم من الأطفال، ما يعني أن مرافقتهم من قبل ذويهم أساسية. لكن أجبرت السلطات الإسرائيلية 43% من الأطفال الذين حصلوا على تصاريح على الخروج لتلقي العلاج من دون أهلهم. عمدت السلطات الإسرائيلية مع الوقت الى تأجيل البت في الطلبات بدلاً من رفضها مباشرةً، وقد أدّى هذا التأجيل إلى وفاة 839 مريض وهم ينتظرون البت في تصاريحهم بين عامي 2008 و2021، فيما انخفضت حظوظ شفاء مرضى السرطان 150% مقارنةً مع الذين حصلوا على تصاريح مباشرةً.

الوضع الصحي في غزة

حصار على المحدّدات الاجتماعية للصحة

لا يمنع الحصار وصول سكان غزّة إلى العلاجات اللازمة فحسب، بل يتسبّب أيضاً في الأمراض الناتجة عن تدهور المحدّدات الاجتماعية للصحة.

يعاني قطاع غزّة من أعلى مستويات البطالة في العالم بفعل الحصار، وانعدام فرص النموّ، والعنف الإسرائيلي المتجدّد الذي يدمّر القطاع بشكل دوري، وقد بلغت نسبة البطالة 44% في العام 2022 (مقارنةً مع 14% في الضفة الغربية)، فيما بلغت نسبة فقر 81%، ومديونيّة الأسر نحو 83%. 

يتسبّب الفقر والبطالة بصعوبات عند سكّان غزة في تحمّل أكلاف حاجاتهم الغذائية الأساسية (70%) والصحية الأساسية (65%) والمياه والكهرباء (55%). يعاني المقيمون في غزّة من انقطاع مزمن في التيّار الكهربائي، وصل قبل الحرب الجارية إلى حوالي 12 ساعة يومياً، كون لا يصل إلى غزّة سوى 45% من حاجاتها في الطاقة. تضاعف أزمة الكهرباء أزمة شحّ المياه بحيث أن 90% من الأسر يستهلكون مياهاً ملوثة مما يؤثّر سلباً على نظافة الأفراد والمنازل ويتسبّب بأكثر من 25% من كلّ أمراض الأطفال.

يهدّد العدوان المتكرّر منازل سكّان قطاع غزة. بحسب مسح أجرته الأمم المتّحدة في العام 2022، تبينّ أن 60% من الوحدات السكنية تضرّرت جراء القصف الإسرائيلي وانعدام قدرة الأسر على إصلاحها، كما أحصت 21,500 وحدة سكنية لا تستوفي الحد الأدنى من معايير الاكتظاظ والمساحة والنظافة والحماية من المناخ.

أخيراً، عندما يهدأ القصف، تهدّد مخلفات الحرب المتفجّرة حياة 900 ألف مقيم في غزّة وتستهدف الأطفال خصوصاً، بحيث أن 79% من ضحايا مخلفات الحرب في العام 2022 كانوا من الأطفال.

أوقفوا الحرب، ارفعوا الحصار الآن

في ظل هذا الوضع المأساوي المتعدّد الأبعاد الذي لا يمكن مفاقمة مأساويّته سوى بالغارات العنيفة التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزّة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لا بد من إتخاذ  بعض الإجراءات، وإن كانت طفيفة نسبةً للأزمة، لتفادي مجزرة تطال مليوني شخص في الأيام المقبلة.

لا بدّ أولاً من كفّ يد العدوان الذي يستخدم أسلحة متطورة وخطرة ضدّ أفراد محاصرين في بقعة جغرافية ضيّقة يشكّل الأطفال واللاجئين نصفهم. 

ثانياً، فتح معبر رفح لإدخال المساعدات وطواقم الإغاثة على أنواعها فوراً وتأمين حماية المعبر من القصف الإسرائيلي الذي استهدفه ثلاث مرّات متتالية في تاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ثالثاً، على الدول التي تجاهر في الدفاع عن حقوق الإنسان والأخلاق الإنسانية والدول العربيّة التي  تدعي مساندة الشعب الفلسطيني أن تتحمّل مسؤولية السكوت عن أكبر جريمة معاصرة بحق الإنسانية، ترتكبها إسرائيل يومياً بحق الفلسطينيين، وأن ترسل دعماً مالياً ومادياً إلى غزّة. 

لا يجوز ألّا نتعلّم من تجارب الماضي وأن نغض النظر عن إبادة جماعية وشيكة. بحسب تقرير صدر في العام 2023، تسبّبت الحروب العديدة «على الإرهاب» منذ 2001 حتى يومنا بوفاة 4.5 مليون شخص في أفغانستان، باكستان، العراق، سوريا، واليمن. وها هي اليوم اسرائيل تطلق «حرباً على الإرهاب» من جديد بعد أن شبّهت عملية «طوفان الأقصى» بهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. حفاظاً على إنسانيتنا أولاً قبل الدخول في الألاعيب المعجمية والأيديولوجية: أنقذوا شعب غزّة.