Preview تمويل المناخ

من دبي إلى باكو
معضلة التمويل العادل للمناخ

طُويت صفحة قمّة المناخ بنسختها الثامنة والعشرين (COP28) في دبي أواخر العام الماضي، مع ما حملته من تعهّدات فضفاضة تشكلّ تحدّياً لكلّ الموقعين عليها، ليبدأ الحديث والتحضير للقمّتين المقبلتين، COP29 في باكو (أذربيجيان) وCOP30 في بلين (البرازيل)، واللتين تعدّان مصيريتين لتحديد وجهة العالم في مجابهة أزمة المناخ. ففي الأولى، يُنتظر أن يتمّ الاتفاق على الهدف الجديد المتعلّق بتمويل المناخ من الآن وحتى العام 2030 (New Collective Quantified Goal on Climate Finance - NCQG)، في حين أنّ الثانية في انتظار النسخة المحدّثة من المساهمات المحدّدة وطنياً (NDCs) على صعيد الدّول.

في الواقع، بعيداً من التعهّدات والالتزامات في COP28 والتي فصّلناها في مقال سابق، وتحديداً في مجال التمويل، والتي لا يمكن غضّ النظر عنها، تمّ تأجيل معظم القرارات المفصلية المتعلّقة بالتمويل إلى القمم اللاحقة، نتيجة التباعدات والاختلافات الجوهرية بين الدّول النامية والدّول المتطوّرة بشأن من سيدفع كلفة هذه المساهمات وكلفة التحوّل المجتمعي نحو الطاقات النظيفة، في عالم تتفاقم فيه مؤشرات اللامساواة يوماً بعد يوم.

من هنا، يبدو أن العالم بحاجة لرسم خارطة طريق أوضح بشأن موضوع التمويل. هناك ثمانية أشهر فقط حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2024 ، موعد انعقاد القمّة المقبلة، للاتفاق على الأهداف الجديدة. وهو شهر حافل بالاستحقاقات بما في ذلك الانتخابات الأميركية حيث أن إمكانيّة عودة دونالد ترامب يمكن أن تُطيح بكلّ الجهود المناخية. فهل تكون قمّة باكو قمّة التمويل؟ 

تمويل المناخ بعيد من الأهداف المرجوّة

في العشرين من شهر شباط/فبراير الماضي، استضافت منظمة الطاقة الدولية (IEA) اجتماعاً على مستوى قادة المناخ للتباحث بالخطوات التي يجب الإسراع في اتخاذها لتطبيق مقرّرات COP28 وإبقاء الباب مفتوحاً أمام هدف عدم تجاوز 1.5 درجة مئويّة كمعدّل لارتفاع درجة حرارة الأرض بحلول العام 2030 بالمقارنة مع درجة الحرارة التي كانت عليها قبل الثورة الصناعية. والسؤال الأبرز في الاجتماع: «ماذا فعلنا منذ قمّة دبي؟ ومن هي الدول التي بدأت فعلاً رحلة الانتقال بعيداً من الوقود الأحفوري؟». تمّ الإعلان في خلال المؤتمر عن تشكيل «ترويكا» رئاسية تضمّ رؤساء قمم المناخ في كل من الإمارات (COP28)، أذربيجيان (COP29) والبرازيل (COP30)، من أجل التعاون على تحقيق المقرّرات السابقة والتحضير والتنسيق لإنجاح القمم المقبلة.

تمويل المناخ

تمحور النقاش الأبرز حول موضوع التمويل، إذ لا تزال الهوّة كبيرة وهامش الوقت المتاح ضيّق، مع ما يحيط به من عوامل جيوسياسية معقّدة، فضلاً عن الحاجة للبدء بالحديث عن «تريليونات» من الدولارات للتمويل المناخي، بدلاً من المليارات الحالية. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الدّول المتطوّرة تعرقل تسمية مندوبيها لتشيكل مجلس إدارة «صندوق الخسائر والأضرار» الذي أقرّ في دبي، مؤخّرة بذلك تفعيل الصندوق. تجدر الإشارة هنا إلى أن مجموعة العشرين (G20) مسؤولة عن نحو 80% من الانبعاثات العالمية و70% من إنتاج الوقود الأحفوري.

تُعرّف معاهدة الأمم المتّحدة للمناخ (UNFCCC) تمويل المناخ بـ «التمويل المحلي أو الوطني أو العابر للحدود، المنبثق من مصادر التمويل العامة والخاصة والبديلة، والذي يسعى إلى دعم إجراءات التخفيف والتكيف لمعالجة تغيّر المناخ». إذاً، ينقسم موضوع تمويل المناخ إلى قسمين: تمويل التخفيف من آثار التغيّر المناخي (Mitigation) وتمويل التأقلم مع تداعياته (Adaptation).

يعود الحديث عن تمويل المناخ إلى العام 2010 حين التزمت الدول المتطوّرة بدفع مبلغ 100 مليار دولار للدول النامية بحلول العام 2020، وشكّل هذا الرقم موضع النقاش بشأن التمويل في العقدين الأخيرين حيث اعتُبر «رقماً سياسياً» غير منبثق من أرض الواقع وحاجات الدول. لكن الأرقام تشير الى أن هذا الهدف لم يتحقّق فعليّاً، لا في العام 2020 ولا في العام 2021، إذ بلغ مجمل ما تمّ حصده لتمويل المناخ نحو 83 مليار دولار في العام 2020، و89 مليار في العام 2021، فيما يحوم غموض بشأن تمويلات العام 2022.

تمويل المناخ

ما بعد COP28 وما قبل COP29، حيث تحدّي الاتفاق على الهدف الجديد الذي يجب أن يعتمد على العلم وتقدير الحاجات، يصبح من الصعب الحديث عن رقم يقلّ عن 500 مليار دولار. فيما تذهب بعض الجهات الأمميّة إلى التقدير أن تطبيق الخطط المعلنة وطنيّاً تحتاج إلى ما يقرب من 5.8 تريليون أو 5.9 تريليون دولار بحلول العام 2030، أي أن الدّول الغنيّة بحاجة لدفع نحو تريليون دولار سنوياً من الآن وحتى العام 2030، ما يشكّل عشرة أضعاف ما كان متاحاً سابقاً في خلال 7 سنوات فقط.

أي قرار سيُتّخذ في باكو نهاية هذا العام سيكون له تداعيات كبيرة على الدّول النامية التي ستكون بحاجة أن تعرف حجم الأموال التي ستحصل عليها ومن أيّة مصادر، في حين تسعى الدّول المتطوّرة إلى تنويع مصادر التمويل من صناديق وغيرها قبل الحديث عن مساهماتها.

أمّا بالنسبة لتمويل التكيّف مع تداعيات التغيّر المناخي (Adaptation)، فهو لطالما حظي بأهميّة أقل على الرغم من أن معظم البلدان النامية بدأت تستشعر خطر التغيّر المناخي وتعيش تداعياته على صعيد المياه، والأمن الغذائي، والتنوّع البيولوجي، والحماية الاجتماعية وغيرها. تَشكّل الهدف العالمي للتكيّف مع التغيّر المناخي (Global Goal for Adaptation) في العام 2015 كجزء من اتفاقية باريس للمناخ من أجل تعزيز قدرة الدّول على الصمود والحد من التعرّض لتغيّر المناخ. إلّا أن هذا الهدف لم يحظ بالاهتمام اللازم إلّا في العام 2021 في خلال COP26، حين تقرّر مضاعفة المبالغ المرصودة من 20 مليار دولار (حجم الأموال التي صُرفت على التكيّف في العام 2019) إلى 40 مليار دولار بحلول العام 2025. 

حصل  نقاش بالعمق في دبي نهاية العام الماضي في الإطار العام لهذا الهدف، ويُتوقّع أن يستمرّ بفعالية أكبر في باكو هذا العام، حيث يجري الحديث عن وضع خطط وطنيّة للتكيّف لكلّ دولة على حدة، وتطالب الدول النامية بألّا يقل تمويل التكيّف عن 400 مليار دولار بحلول العام 2030، أي 10 أضعاف ما أقر في العام 2021. بالمحصّلة، تبقى الهوّة في تأمين هذا التمويل كبيرة جدّاً أمام حجم تمويل المناخ بشكلٍ عام. وهنا تبرز معضلة إضافيّة في خلال المفاوضات المرتقبة في باكو، إذ تطالب الدّول النامية بأن تكون مجمل هذه المبالغ عبارة عن منح وليس قروض لعدم السقوط أسرى الديون والفوائد، ممّا قد يحدّ من استقطاب رأس المال الخاص لتأدية دور في تمويل المشاريع الخضراء.

هل يمكن أن نصل يوماً إلى تمويل عادل؟

إن تعهّد الـ100 مليار دولار، إن دلّ على شيء، فعلى فشل الدول المتطوّرة في الإيفاء بوعودها التمويلية، فيما هي المسؤولة عن أكبر قدر من الانبعاثات. فنجاح إقرار «صندوق الخسائر والأضرار» في العام الماضي قابله شهيّة ضعيفة على رفده بالأموال، ومضاعفة تمويل التكيّف يجابهه فشل الوصول إليه ما بعد COP26، في حين يحتدم النقاش اليوم بشأن الأهداف والرؤى قبل قمّة باكو. 

ستكون طريق تمويل المناخ صعبة وشاقّة، وتشير الصورة العامّة إلى أنه على الحكومات كما البنك الدولي وغيرهم من الجهات التمويلية الأخرى وضع المزيد من الأموال العامّة في سلّة المناخ، إلّا أن ذلك يحتاج أيضاً إلى سلسلة من السياسات العامّة الهادفة، أبرزها خفض ووقف الاستثمار في المصادر الملوّثة لا سيّما الوقود الأحفوري، والعمل على تسريع إيجاد البدائل الأكثر استدامة وتمويلها. يتبع ذلك إقرار تحفيزاتٍ وخطط طويلة الأجل ومبتكرة لجذب رأس المال الخاص بحيث لا تتحمّل الأجيال المقبلة كلفة التحوّل على أنواعه (طاقة، نقل، شحن، وغيرها).