Preview مقومات الحراك الثوري في العراق

جدلية الوضع العراقي ومقوِّمات الحراك الثوري

  • تسعى هذه المساهمة إلى طرح نقدي لمفهوم الوطن بين الدين والسياسة في تاريخ العراق الحديث، وتُركّز على تقديم قراءة معمّقة في الاقتصاد السياسي للأحزاب الطائفية في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وما سبقها من طبيعة ممارسات النظام الشمولي الذي حكمَ العراق لأكثر من ثلاثة عقود. ثم مناقشة سيرورة المعايير والطرق الجديدة للتفكير والعيش، على حد قول غرامشي، التي طرَحها الحراك الثوري لعام 2019، وكيف ساهمَ في إنعاش أحاسيس العيش المشترك وإنماء وعي جديد على نطاق شعبي واسع يؤمل بالاستمرار.
  • الوضع العراقي شائك ومعقّد بين هيمنة الجارة إيران وتزايد إصرارها على إخضاع العراق لسيطرتها، وبين مطامع واضحة للنفط العراقي بثمن زهيد نسبياً لاحتواء المشاكل الاقتصادية الكبيرة والضغوط الصناعية لتوفير البتروكيمياويات في دول أوروبا. يتقاطع مع هذين العاملين نظام محاصصة طائفية - لا يُمكن إصلاحه - وسلاح منفلت تحت سيطرة ميليشيات طائفية وإثنية تأتمر للأجنبي. ليس هناك حلولاً سحرية، ولكن هناك حاجة ماسّة للنقد الدقيق والوضوح القاسي وفرصة لأن نجعل الأمل مُمكناً بدلًا من اليأس طاغياً.

تواجدت مفردة الوطن والأمة بكثرة في الأدب العربي منذ القِدَم، إلا أن مفهومي الدولة الوطنية والمواطنة حديثان نسبياً. نشأت محاولات، بُعيد حرب الخليج الأولى في العام 1991، تدعو إلى تفكيك بنيّة العراق جغرافياً وسياسياً ومجتمعياً وأصبح البعض ينظر للعراق ككيان هجين مُفتَعل.1  من الغرابةِ أن جُلَّ هؤلاء الباحثين تغاضوا عن كون العراق من الموصل إلى البصرة قد يكون واحداً من التكوينات الجغرافية والمجتمعية الأكثر وضوحاً في تناسقها وإنسجامها الأنثروبولوجي والثقافي والبنيوي. هذا التناسق والانسجام يترابط عضوياً مع التعدّدية المتوارثة لقرون كثيرة منذ نشأة أول حاضرة ومدينة ومكتبة، ومنذ أن سُنّ أول قانون لتنظيم علاقة الأفراد في المجتمع. ويجد الباحث الجاد أن جغرافية هذا المكان ستخلق مجتمعاً متنوّعاً ومتناسقاً عضوياً، يؤدي فيما بعد - وبشكل منطقي وواقعي - إلى تكوين دولة ناشئة - بالمعنى الحديث لمفهوم الدولة الوطنية - قبل قرن بالتحديد.

الأديان منظومات لها أبعادها وركائزها وأهدافها، وبالتالي يصبح الدين مؤسّسة تخضع لضوابط اقتصادية وسياسية واجتماعية. وهذا ينطبق على أبرشية كانتربري البروتستانية (في بريطانيا) أو المرجعية الشيعية في العراق أو الأزهر في مصر.2  وبالتالي تصبح المؤسّسة الدينية مهمّة في تركيبة هيكلية الدولة، ويكون مهمّاً جداً فهم وتحديد القيود والقوانين والضوابط المفروض أن تمارس فيها المؤسّسات الدينية أدوارها. إذ لا تنصهر الدولة والدين في النظام المجتمعي-السياسي الحديث، بل تتواجد انسيابية في التفاعل بين الدين والدولة والمجتمع، بحكم أن لكلّ من هذه العوامل الثلاثة خصائص تتداخل فيما بينها وتخلق مع الزمن موزاييك من القوانين المجتمعية والأخلاقيات. ولكن هناك عامل رابع شديد الأهمّية في المجتمع الحديث، وهو البنيوية الاقتصادية وتطورها - أو تدهورها - مع الزمن وعلاقتها الموضوعية في بناء وتطوّر المجتمع نفسه. وهنا يصبح جلياً سمو التأثيرات الخارجية على طبيعة التفاعل والتداخل وحيثية/كيفية ما ينمو ويتقدّم أو يضمر ثمّ يندثر.

من هنا، يمكن أن نفهم مسيرة المتضادات في البنيّة المجتمعية والاقتصادية والسياسية في العراق منذ العهد الملكي مروراً بالجمهوري، إلى الاحتلال الأميركي المباشر بعد العام 2003، إلى هيمنة السطوة الدينية بتركيبتها السياسية الإيرانية وتفاقم الخضوع للهيمنة الأجنبية . «الوطن للجميع، والدين لله» - أو العكس - أصبحت مقولة عراقية أثيرة تُجسّد عمق الإدراك اللاغيبي (العلماني) في المجتمع.

تسعى هذه المساهمة إلى طرح نقدي لمفهوم الوطن بين الدين والسياسة في تاريخ العراق الحديث، وتُركّز على تقديم قراءة معمّقة في الاقتصاد السياسي للأحزاب الطائفية في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وما سبقها من طبيعة ممارسات النظام الشمولي الذي حكمَ العراق لأكثر من ثلاثة عقود. ثم ننتقل في تحليلنا هذا إلى مناقشة سيرورة المعايير والطرق الجديدة للتفكير والعيش، على حد قول  غرامشي، التي طرَحها الحراك الثوري لعام 2019، وكيف ساهمَ في إنعاش أحاسيس العيش المشترك وإنماء وعي جديد على نطاق شعبي واسع يؤمل بالاستمرار. وأخيراً، وليس آخراً، لقد قدّم حراك 2019 مثالاً ناضجاً لمفهومي الوطن والمواطنة، لكن هل سيخلق هذا الوعي «الثوري» سلسلة ثورات لاحقة، فالتغيير لا يحصل في حراك واحد؟

هدفت تطلعات المحافظين الجُدد وصقور وزارة الدفاع الأميركية إلى إعادة غربلة الشرق الأوسط وفق منظور الاقتصاد النيوليبرالي البحت. إذ أصبحَ مهماً إدخال العراق، أساساً، إلى شبكة الاقتصاد الرأسمالي والاستفادة من الخزين النفطي والبشري العراقي للمساهمة في ديمومة المركزية الرأسمالية

نظام البعث والمسألة الطائفية والإثنية

مَن يطلِّع على مذكرات روبرت ماكنامارا،3  وزير الخارجية الأميركي في خمسينيات القرن العشرين، ووثائق الخارجية الأميركية للفترة الممتدّة بين عامي 1950 و1965، المتوفرة في مكتبة الكونغرس الأميركي، يستنتج بدقة ووضوح كيف تعاونت الخارجية الأميركية مع حزب البعث في العراق والحركة الناصرية لإجهاض تأسيس الجمهورية العراقية في 14 تموز/يوليو 1958. المشاكل الأساسية التي واكبت تأسيس الجمهورية هي إخراج العراق من «حلف بغداد» وإقرار قانون 80 الذي كان يُشكل تهديداً واضحاً للمصالح الغربية في منابع النفط العراقي، وكذلك مطالبة العراق بحقّه في الكويت والأحواز – التي اجتزّها الاحتلال البريطاني في العام 1917 من العراق وسلّمها لإيران. (ومَن يطلّع على الأحواز سوف يكتشف بسرعة فائقة أن العشائر والعوائل نفسها تتواجد فيها وفي جنوب العراق، لا سيّما مدينة العمارة المحاذية للحدود مع إيران، ولا يزالون يتكلّمون اللهجة العربية نفسها لساكني جنوب العراق).

في العام 2003، يُعاد تكرار السيناريو نفسه ولكن بهيكلية جديدة. هدفت تطلعات المحافظين الجُدد وصقور وزارة الدفاع الأميركية إلى إعادة غربلة الشرق الأوسط وفق منظور الاقتصاد النيوليبرالي البحت. إذ أصبحَ مهماً إدخال العراق، أساساً، إلى شبكة الاقتصاد الرأسمالي والاستفادة من الخزين النفطي والبشري العراقي للمساهمة في ديمومة المركزية الرأسمالية. وقد بدأ - في منتصف تسعينيات القرن العشرين - التنسيق وتحالف المصالح بين ثُلة من المحافظين والمتنفذين الأميركيين ومزيج من الأحزاب الإسلامية الشيعية (بالتحديد حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة محمد باقر الحكيم حينها) مع التيّار الليبرالي (المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي) ومجموعة من البعثيين والقوميين (حزب الوفاق الوطني بزعامة إياد علاوي)، إضافة الى تكتلات صغيرة بدأت تظهر بغزارة فى المهجر العراقي في أوائل تسعينيات القرن الفائت. تبلور هذا التحالف الهجين والغريب ساعياً للتأثير على الإدارة الأميركية والمؤسّسة العسكرية للاستثمار، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في تغيير الوضع السياسي في المنطقة العربية من خلال العراق. إذ أعطى احتلال نظام صدّام حسين دولة الكويت العذر والحجّة لتكثيف التواجد العسكري والبحري الأميركي في الخليج العربي بحجّة الدفاع عن أمن المنطقة وضمان ديمومة تصدير النفط والغاز في وضع آمن.

تكوَّنت بعد حرب الخليج في العام 1991 وانتفاضة آذار/مارس من ذلك العام في معظم ربوع العراق (بالتحديد 14 محافظة من مجموع 18)، ما سُمِّي بالمظلومية الشيعية وكذلك المظلومية الكُردية في العراق، وبدأت العملية النظرية لتفكيك فكرة الوطن العراقي والهُوية العراقية. نشأت فكرة المظلومية كنتيجة حتمية للقمع المبرمج لنظام صدّام حسين ضدّ الأقليات والإثنيات المتعدّدة في العراق بهدف إعلاء سيطرة فكرة العروبة على جغرافية العراق ككل. كان هَوَس المعارضة السياسية وقمع الرأي المُعارض يدخلان في صميم العسكريتارية البعثية، إذ كان يهدف حزب البعث - في العراق أو سوريا، مع بعض الاختلافات الثانوية - إلى السيطرة الشاملة أياً كانت الوسائل على كلّ مجريات البلد السياسية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، وبالتالي لم يكن الرأي المُعارض مسموحاً إطلاقاً. الاختلاف والقمع في العراق في خلال حكم البعث منذ العام 1968، بضمنها حكم صدّام حسين العائلي (1979-2003)، كان سياسياً بالأساس. وبدأ القمع ضد الشيعة يتبلور في أواخر سبعينيات القرن الفائت عندما استغل حزب الدعوة الإسلامية تأهيل الحكم الإسلامي الجديد في إيران ومسعاه لتغيير نظام الحكم في العراق. مارسَ حزب الدعوة - كباقي الأحزاب الإسلامية - الانتهازية السياسية بامتياز، إذ أعتبر كامل التكوين الشيعي العراقي كتابع لدعوته الإسلامية، وإن كان الواقع عكس ذلك تماماً. فالوجود الشيعي في العراق متعدّد سياسياً وفكرياً ومجتمعياً، وهناك مَن اعتنقَ الفكر الشيوعي أو القومي أو الليبرالي، وهناك المتشدّد دينياً أيضاً. التنوّع ميزة تشمل كلّ التكوينات المجتمعية في العراق. وبين انتهازية الإسلام السياسي الشيعي وتزمّت البعث بالفكر والنهج الشمولي، أصبح شيعة العراق لعبة بين هذين الطرفين، بالإضافة إلى الدول الإقليمية وحتى العالمية لتمرير مصالح ضيّقة كلها كانت تضرّ العراقيين عموماً، والشيعة تحديداً. وأصبحت مظالم الشيعة الواقعية والقمع المُبرمج ضد الوسط والجنوب العراقي والإهمال المتعمّد مسائل جانبية بنظر الكثير. تغيّر الأمر عند انطلاق الحراك الثوري في تشرين الأول/أكتوبر 2019، الذي أقلع فكرة المظلومية من الجذور، وأعاد التفكير المنطقي في أساس القمع والإهمال الذي أصاب هذه المناطق من حكام الإسلام السياسي الشيعي منذ العام 2003، والذي لا يقل عن كمّ الدمار الذي سبّبه نظام البعث العراقي.

القمع الملازم لحكم البعث والفراغ السياسي الناتج عن إلغاء الرأي المعارِض كانا كفيلين لأن يقدّم التيّار الإسلامي الشيعي «مظلومية» تُفيد مصالحه السياسة وأهدافه للسيطرة ومن ثمّ التمسّك بالحكم أياً كان الثمن

تختلف المسألة الكردية في جوهرها. فالشعب الكردي راح ضحية، هو الآخر، لتقسيمات الحرب العالمية الأولى وما تلاها. تقسّمت جغرافية كردستان وشعبها وضاعت قضيتهم في حق تقرير المصير لما يزيد عن القرن. عانى الشعب الكردي الويل من كل الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة في العام 1921، ولم يحصل الأكراد على حقوقهم الثقافية المشروعة. خاضَ الأكراد في كردستان العراق صراعات عسكرية مستمرّة مع الحكومة المركزية في بغداد، وعانوا أنفسهم من سيطرة القبلية والعشائرية على المجتمع الكُردي من ناحية، ومن التحالفات الإقليمية (مع إيران الشاه، مثالاً) أو الدولية (لا سيّما الولايات المتّحدة) من ناحية أخرى. وكانوا دوماً ورقة مقايضة لكسب مصالح إقليمية أو دولية من الدولة العراقية. حصل الأكراد على بعض من حقوقهم (طالما كفّوا عن المطالبة بحق تقرير المصير) في العام 1971 في نطاق ميثاق العمل الوطني و«الجبهة الوطنية التقدّمية» بين حزب البعث الحاكم آنذاك والحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الكردستاني. وكان هذا الميثاق، نظرياً، فريداً في المنطقة لإعطاء حقوق مشروعة لأقلية إثنية في العالم العربي. وبالفعل أصبح للأكراد حق التنقل والدراسة والعمل وممارسة لغتهم في العراق. لم يدُم ذلك طويلاً، إذ تنصّل حزب البعث الحاكم عن الميثاق وشنّ حرباً شعواء ضدّ التيّار الشيوعي والأكراد في العراق أواخر سبعينيات القرن الفائت. وانتهى حلم التعايش السلمي بعد استيلاء صدّام حسين على الحكم في العام 1979. بُعيدَ ذلك بدأت المجابهات العسكرية بين التنظيمات الكردية والجيش العراقي طوال ثمانينيات القرن الفائت وختمتها الحكومة العراقية بضرب المناطق الكردية بالأسلحة الكيمياوية في خلال ما سمِّي بحرب الأنفال في العام 1988. وبسبب هذه التجربة المروّعة، حصلت فوضى عارمة في رُبى كردستان عقب انتفاضة العام 1991 ضدّ الحكومة المركزية. وخوفاً من نزوح بشري كبير، قرّرت الولايات المتّحدة بعد حرب الخليج الأولى فرض حماية جوّية على أراضي كردستان من الحكومة المركزية العراقية. بينما سمَحَت للطائرات العسكرية (المروحية) العراقية، في أيام معدودة بعد توقيع حكومة العراق (في صِفين) هزيمتهم أمام التحالف الدولي لتحرير الكويت. أنقضَت المروحيات العراقية أسلحتها المدمرّة على سكان الوسط والجنوب في أعقاب انتفاضة آذار/مارس 1991، التي راحَ ضحيتها ما يزيد على مئة ألف قتيل من المدنيين (حسب تقارير محلّية).

القمع الملازم لحكم البعث والفراغ السياسي الناتج عن إلغاء الرأي المعارِض كانا كفيلين لأن يقدّم التيّار الإسلامي الشيعي «مظلومية» تُفيد مصالحه السياسة وأهدافه للسيطرة ومن ثمّ التمسّك بالحكم أياً كان الثمن. دخلَ الإسلام السياسي الشيعي العراق بمساعدة الأميركي المحتل، وعلى مدى عقدين لم يُقّدم إنجازاً واحداً للشعب، وبالتحديد الشيعة، سوى مزيداً من الفقر والسرقة وتهميش المحتوى الروحاني للفكر والممارسات الدينية. وعندما جوبِهَت أحزاب التيّار الإسلامي بالغضب الشعبي منذ اعتصامات العام 2011، وصولاً إلى الحراك الثوري في تشرين الأول/أكتوبر 2019، قامت هذه الأحزاب بقمع المتظاهرين والثوّار بالرصاص الحيّ والاغتيالات.

«نريد وطناً»4

سلّطَ نظام البعث فكراً إقصائياً لمفهوم المواطنة، وجنّد المفهوم العقائدي القومي والتهميش المتعمّد لنسبة كبيرة من سكّان البلد. إلا أن انتماء الفرد بقيَ، ضمنياً، للعراق. وتعود مسألة الاختزال العشوائي للمواطنة إلى العهد الملكي عندما شنّت القوات العراقية حرب إبادة ضد الآشوريين في ثلاثينيات القرن الماضي لمطالبتهم بحقوقهم كمواطنين على الأرض نفسها. وشاركت حكومة نوري السعيد فيما بعد في المشروع الصهيوني بسحب الجنسية العراقية من اليهود العراقيين والاستيلاء على ممتلكاتهم وطردهم من الوطن. وفي الجانب الثقافي-السياسي، نجد محاولة ساطع الحصري (الذي ينحدر من أصول تركيّة وتتلمذ في المدارس العسكرية العثمانية)، المسؤول الرسمي عن المناهج التربوية في الحقبة الملكية، إلغاء الجنسية العراقية عن شاعر العرب الراحل محمد مهدي الجواهري. وعادت الكَرّة نفسها في خلال حكم البعث عندما أقصي الكُرد الفيلية، على سبيل المثال، واستمرت التخوينات ومحاولات سحب الجنسية العراقية من الجواهري أو الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي.

الطائفة أو المذهب حقيقة ملموسة، لكن الطائفية فكرة سياسية لها ركائز اقتصادية. لم يعرف العراق الطائفية نهجاً سياسياً إلا بعد الغزو والاحتلال الأميركي في العام 2003، ولم يشهد العراق في تاريخه الطويل حرباً طائفية واحدة أبداً. ما حصل بين عامي 2006 و2008 كان حرباً طائفية بممارسة ميليشياوية. بمعنى أن عموم سكان العراق، شيعةً وسنة، لم يشاركوا بها، وإلا لكان أعداد الضحايا بالملايين. وكذلك فإن الحرب الطائفية-السياسية لتينك العامين انتهت كلياً والتعايش الأهلي في العراق واضح. أضف إلى ذلك، لا تُشير الدلائل إلى أن الحرب الأهلية تعود إلى نقص الوعي، وإنما إلى التحريض السياسي ودوافعه الاقتصادية للجهات الطائفية. لم يحصل في العراق – ولن يحصل – أن يهجم أهل الناصرية ضد الموصل أو الرمادي ضد النجف. إن التعايش السلمي بين المشارب المتعدّدة مذهبياً ودينياً موجود في العراق، وكل الحروب التي حصلت ذات طابع سياسي-اجتماعي (ومن الممكن أن نرجع إلى ثورة الزنج في الجنوب العراقي في خلال الحكم العباسي)،5  وليس هناك بذور للاختلاف أو الاحتراب الطائفي. بدأ ذلك بعد العام 2003، ومعظم العراقيين يدركون ذلك كلياً وجوهرياً. لم يحصل إقصاء على أساس مذهبي في حكم البعث، بل مارسَ البعث عملية تبعيث لمعظم مؤسسات الدولة وبالتالي فان الولاء السياسي كان الأساس في التقييم وليس الدين أو الطائفة (80% من قيادي انقلاب 8 شباط/فبراير 1963 كانوا شيعة، وما يزيد عن 60%؜ من كادر حزب البعث عند استلام السلطة ثانيةً في العام 1968 كانوا من الشيعة).6  كان الشيعة يمارسون طقوسهم، إلا أن الموضوع تغيّر حوالى العام 1977 عندما باشر حزب الدعوة الإسلامية بتصعيد العمل السياسي، واشتدّ بعد العام 1979. كانت فصائل من المرجعية في النجف قريبة من البعث منذ خمسينيات القرن الفائت بحجة مجابهة المدّ الشيوعي، وتحالفَ عبد المحسن الحكيم (جد عمار الحكيم) مع البعث منذ العام 1959 وأصدرَ فتوته «أن الشيوعية كفر وإلحاد». أضف الى ذلك تقرّب محمد صادق الصدر (والد مقتدى الصدر) من حكم صدام – كما أُوضح أدناه – واستخدامه الصدر (الوالد) كمنوّم للجماهير الفقيرة. سيطرت الأحزاب السياسية الإسلامية الشيعية على سيرورة الأمور في العراق بعد أن أرسى المُحتَل الأميركي دستوراً مبنياً على أسُس طائفية-عِرقية لم يُتَداول بها مؤسّساتياً في العراق من قبل – على الرغم من حدّة النزاعات السياسيّة لعقود، ولا سيّما حقبة القمع المُبرمج لأي أشكال من المعارضة في خلال حكم البعث. استغلّت هذه  الأحزاب – وشريكتها السنيّة أيضاً – المسألة الطائفية (والكُرد المسألة القومية) أبشع استغلال لتمرير نظرتها السياسية للسيطرة على الناس، وتأجيج مشاعر الخوف والهلع من الآخر.

الطائفة أو المذهب حقيقة ملموسة، لكن الطائفية فكرة سياسية لها ركائز اقتصادية. لم يعرف العراق الطائفية نهجاً سياسياً إلا بعد الغزو والاحتلال الأميركي في العام 2003، ولم يشهد العراق في تاريخه الطويل حرباً طائفية واحدة أبداً

تحدّت ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019 هيكليات الطائفية السياسية وسَطوة الدين المسيّس والعنف العشائري من دون التعالي على الموروث الثقافي والديني-الفطري في مجتمعٍ أنهكته الحروب العبثية والدكتاتورية والحصار الاقتصادي العنيف وهمجية الاحتلال الأميركي وما تلته من سيطرة الميليشيات الإسلامية في كل تفاصيل الحياة اليومية. ثارَ هؤلاء الشباب والشابات ضد الواقع المرير والفساد المُستشري، وتجاوزوا ثنائيات الولاء لإيران أو الولايات المتحدة، وتجنّبوا مظاهر العنف السائد إلى حدٍ كبير في تاريخ العراق السياسي الحديث. حافظت ثورة تشرين الأول/أكتوبر في كل المحافظات على سلميتها ولم تنجرف إلى التسلّح – على الرغم من تفشي السلاح في العراق ما-بعد الاحتلال كتفشي الفساد. وجاء ردّ فعل الحكومة العراقية والميليشيات المتحالفة معها عنيفاً ضد حجم التغيير الاجتماعي والسياسي الذي دعا إليه الثوّار. فالطائفية المؤسساتية هيكلية سياسية-إقتصادية أساساً. والطائفية ليست تركيبة عضوية طبيعية في أي مجتمع، بل تحتاج إلى منظومات سياسية واقتصادية وعسكرية تدعم وجودها. إذ تقف الطائفية أساساً ضد مفهوم الوطن والمواطنة. ومن هذا المنطلق يجب استيعاب صرخة ثائرات وثوّار العراق ضد هيمنة منظومة الفساد الحكومي والمليشيات الطائفية التي تحميها، بل ضدّ فكرة الطائفية برمّتِها. فشهدنا في العراق بداية ثورة اجتماعية كُبرى، للمرأة دورٌ بارز فيها، تُبشّر بتغيّر تنظيم العلاقات المجتمعية.

الاقتصاد السياسي للطائفية المؤسّساتية في العراق

لم تستثمر الحكومات العراقية المُتتابعة منذ العام 2003 في إعادة بناء مؤسّسات الدولة التي دمّرها الاحتلال الأميركي بصورة مُمنهجة، بل أجهزت عليها كلّياً عن طريق المحاصصة الطائفية-الإثنية والفساد المُرتبط جوهرياً بها. وأصبح دور الحكومة (محلّياً ومركزياً) مُقتصراً على ممارسة الفساد وتنظيمه بشكل فعّال لخلق دولة المحاصصة العميقة. وأنتجَ ذلك منظومات ميليشياوية تجمع بين الأيديولوجية الدينية-السياسية وفكرة المرتزقة العسكرية. وأضحت إيران7  المُبَرمِج الأساس والمُنَظّم والمُموّل الأيديولوجي والعسكري لهذه الميليشيات. وهكذا فَرَضَت الجمهورية الإسلامية الإيرانية هيمنتها الأيديولوجية (مبدأ ولاية الفقيه) والسياسية والعسكرية على العراق عموماً من خلال التشكيلات الميليشياوية الشيعية المتعدّدة وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي (مثل المجلس الإسلامي الأعلى، ومنظّمة بدر، والتغييرات والمسميّات اللاحقة التي يترأسها عمار الحكيم وهادي العامري، أو حزب الدعوة الإسلامية بأجنحته كافة). كان كلّ القادة الإيرانيين، ولاسيّما قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، مؤمنين بأنّ خلق إيران قويّة يتطلّب عراقاً ضعيفاً ومُشرذَماً. وبالتالي نفذّت إيران نهجها من خلال الأحزاب الإسلامية الشيعية التي كان لها همّين: أولاً، الخضوع المطلق للرأي والنفوذ الإيراني كجزء أساس من الفكر العقائدي، وثانياً، نهب إمكانيّات البلد وثرواته من دون وازع.

لم تستثمر هذه الأحزاب فِلساً واحداً في مدن وسط العراق وجنوبه، ولم تسعَ إلى بناء البنية التحتية وتطويرها في هذه المناطق ذات الغالبية الشيعيّة المُهملة منذ عقود، والمُنهَكة بسنين الحروب العبثيّة والحصار الاقتصادي الأميركي (1991-2003) الذي دمّر البنية الاقتصادية للمجتمع. بل استمرّت إيران بهذه الممارسات وكثّفتها، وهيمنت اقتصادياً على العراق، لا سيّما أنّها تُعاني من حصار اقتصادي أميركي وتحتاج إلى مُتنَفس مادي يُمّول أهدافها الاستراتيجية في المنطقة. هكذا أصبح العراق سوقاً لتصريف كلّ المنتوجات الزراعية الإيرانية ومواد البناء وغيرها من السلع على حساب المنتج العراقي المحلّي. أيضاً حوّلت مجاري مياه الأنهار المنحدرة من أراضيها نحو الأراضي الزراعية في وسط العراق وجنوبه، فجفّت الأراضي وتلفت المحاصيل وانتقل العراق من الاعتماد ذاتياً على تزويد الغذاء للسكّان - حتى في فترة الحصار الاقتصادي - إلى بلد مستَورِد كلياً لمعظم المنتجات الغذائية.

شكّلت الميليشيات المُسلّحة ذراع إيران في فرض سيطرتها على اقتصاد العراق، بحيث كوّنت شركات تعنى بالاستيراد والتصدير وخلقت منظومة وثيقة للسيطرة على الاستيراد والتوزيع في داخل البلد تحت سيطرة السلاح ومشاركة «مؤسّسات» الدولة من باب المحاصصة الطائفية ومغريات الرشاوى والفساد. نَمَتْ هذه المنظومة لتشمل تصدير النفط الخام والسيطرة على أنابيب التصدير لا سيّما في جنوب العراق. وأضحت مدينة البصرة بالتحديد مركزاً لمعارك شرسة بين الحين والآخر بين المليشيات المتعدّدة - عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله، حزب الفضيلة، المجلس الإسلامي/منظّمة بدر، وكذلك التيار الصدري. ووصلت ذروتها في فترة حكم حزب الدعوة عندما أعلن المالكي انحيازه الصريح للميليشيات المدعومة إيرانياً ضد التيّار الصدري في ربيع 2008، واندلعت معارك شديدة بين الحكومة والصدريين راح ضحيتها مئات من القتلى. منذ ذلك الوقت أصبحت السيطرة على نسبة مهمّة من تصدير النفط العراقي مسألة أساسية لتأمين الركيزة المالية لهذه الميليشيات. وهكذا نلاحظ الترابط الوثيق بين المحاصصة الطائفية، والفساد المستشري، والهيمنة الإيرانية من خلال الميليشيات المسلّحة، ومساهمة هذا التداخل في خلق كيان دولة المحاصصة العميقة. لا يقتصر هذا التشخيص على أحزاب الإسلام السياسي الشيعي - وإن كان لها الدور الأكبر والأهم في بنية المحاصصة والفساد، بل يشمل الأحزاب السنّية والكردية من خلال علاقاتهم التجارية مع إيران بالتحديد، من ناحية، ومع تركيا من ناحية أخرى (وإن كانت بنسبة أقل بالمقارنة).

من هذا الأساس يجب فهم ما حصلَ في بغداد وبعض محافظات الجنوب، البصرة والناصرية تحديداً، في صيف/خريف 2022 بأنه حراك موجّه من التشكيلة السياسية-الدينية المسيطرة على البلد لما يزيد عن خمسة عشر عاماً. إذ بدأ الإطار التنسيقي - الذي يضمّ المليشيات والأحزاب الموالية لإيران - بتحريك أتباعه للاستحواذ على الشارع، ثم تَبعه مقتدى الصدر - المُتحدّي للنفوذ الإيراني في العراق ولكن لا يبتعد عنها عقائدياً. وبالتالي هدف العرض الميداني المسلّح للطرفين في الشارع إلى محاولة فرض واقع تصعيدي لخدمة المصالح السياسية لهذه التشكيلات، وتأمين النفوذ الضروري لتحقيق المنفعة الاقتصادية. 

يوجد في العراق اليوم – حسب بعض الإحصائيات – 67 فصيلاً شيعياً، 44 منها يُقلد ولاية الفقيه علي خامنئي – وتُسمّى فصائل ولائية، و17 تُقلد علي السيستاني، والبقية تقلّد مراجع أخرى. وهناك 43 فصيلاً من الحشود العشائرية والمناطقية، وهي فصائل سنيّة. وهناك، أيضاً، فصائل مسيحية (2) وتركمانية (2) وإيزيدية (2) وكاكائية (1). ويشمل عدد المقاتلين ما يزيد عن 160 ألف مقاتل، جميعهم يتقاضون رواتب شهرية من وزارة المالية العراقية شبيهة بمنتسبي الجيش النظامي، إلا أن هذه التنظيمات العسكرية، ومن ضمنها الحشد الشعبي، لا تخضع لهيكلية وزارة الدفاع وقوانينها. وبالتالي تموِّل الحكومة العراقية هيكليات ميليشياوية خارج سيطرة الدولة الفعلية، بل تتبع أجندات أجنبية، وإيرانية تحديداً. وجديرٌ بالذكر أنه توجد فروق كبيرة في تسليح وإمكانيات وصلاحيات الفصائل الشيعية، ولا سيّما الولائية، مقارنة بنظرائها السنّية وغيرها. ويتقاطع مع ذلك تفشّي الفساد، فكثير من الزعماء السياسيين يسيطرون على مصادر مالية ضخمة تبلورت في تأسيس مصارف أهليّة لها دور مهمّ في تبييض الأموال وتهريب العملة خارج البلد من ناحية، وتمويل الفوضى السياسية من ناحية أخرى.

تتجسّد بوضوح دولة المحاصصة العميقة من خلال التقاطع بين الهيمنة الأيديولوجية لولاية الفقيه الإيراني والطائفية المؤسّساتية التي أسّس لها الاحتلال الأميركي، وتقاسمت الطوائف السياسية الفساد والمناصب

وهكذا تتجسّد بوضوح دولة المحاصصة العميقة من خلال التقاطع بين الهيمنة الأيديولوجية لولاية الفقيه الإيراني والطائفية المؤسّساتية التي أسّس لها الاحتلال الأميركي، وتقاسمت الطوائف السياسية الفساد والمناصب كلٌ بحسب نسبته السكّانية المزعومة، وكلٌ يعتمد على الآخر لديمومة الطائفية السياسية والفساد، وتصبّ الاختلافات الظاهرية للأحزاب الشيعية والسنّية والكردية على قدَر الفائدة الاقتصادية المُكتَسبة، ولا وجود إطلاقاً للشعب أو الوطن في المعادلة. الطائفية السياسية سلاحٌ شرس يفتك بالوطن والمواطنة ليضمن استمراريته.

توزّع ملكيّات المصارف بين الأحزاب والطوائف

الثورة المضادة: الإشكالية الدينية-السياسية والمسيرة نحو شرذمة المجتمع

على مدى عشرين عاماً ترسّخت الطائفيّة السياسيّة في كلّ دوائر الدولة وساهم الإسلام السياسي في ممارسة الانتهازية بين أروقة السفارات والمموّلين الإقليميين والدوَليين. شَهَدَ العراق واحدة من أبشع الفترات في تاريخه الحديث في خلال حكم حزب الدعوة الإسلامي، لا سيمّا تحت زعامة نوري المالكي. عمَدَ نوري المالكي في خلال سيادته الوزارية (2006-2014) إرساء أسس العنف الطائفي بما يخدم استمرارية حكم منظومته الاقتصادية والسياسية، التي أصبحت تُقدَر بمئات الملايين من الدولارات. وسعى المالكي بالنتيجة لخلق نظام شبيه بأنظمة الحكم العسكريتارية في أميركا الوسطى في ثمانينيات القرن الفائت. كان المالكي مسؤولاً عن توقيع الاتفاقية العراقية-الأميركية في العام 2008 والتي تنصّ ضمن بنودها على اتخاذ الولايات المتحدة الخطوات «المناسبة» لتعزيز «الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية» و«إدامة المؤسسات العسكرية والأمنية» في العراق، وهو ما يجعلها فعلياً بمثابة وصاية أميركية طويلة المدى على العراق.8

1. مرجعية النجف والسياسة

امتازت مرجعية النجف على مرور القرون بتركيزها على الجوانب الفقهية والفلسفية واللغوية وعلوم الكلام. وباتت مركزاً معرفياً وثقافياً ولغوياً مهمًا، إلى جانب كونهاً مركزاً فقهياً، لا يؤمهُ التلامذة الشيعة فحسب، بل مختلف مُريدي المعرفة. ومعظم مراجع النجف الكبار رفضَت - ولا تزال - التدخّل في السياسة؛ ولذا لم يكن هناك - على العموم - صدىً مهماً لنظرية «ولاية الفقيه». على سبيل المثال، لم يكن لمرجعية النجف دوراً رسمياً مُسانداً أو فعّالاً في ثورة العشرين الكبرى ضدّ الاحتلال البريطاني، ولكن ساهم رجال دين، كأفراد، في الثورة أو دعموها. وكان متعارفاً تقرّب المرجعيّة من المتنفّذين - لا سيّما في أرياف وسط وجنوب العراق - من شيوخ العشائر وملاكيّ الأراضي الزراعيّة. حاول البعثيون في أواخر خمسينيّات القرن الفائت التقرّب من بعض المراجع للتأثير على الرأي العام والحدّ من المدّ اليساري ونجحوا في الحصول على مساندة المرجع محسن الحكيم (جد عمّار الحكيم الذي وَرَثَ المجلس الإسلامي الأعلى عن عمه، محمد باقر الحكيم، ثم أبيه ويتزعّم الآن تيّار الحكمة). أصدرَ محسن الحكيم في العام 1960 - حين كان الحزب الشيوعي يقود مسيرات عيد العمّال بمئات الآلاف في عموم العراق وكان تعداد السكّان لا يزيد عن أربعة ملايين نسمة - فتوى تحريم الانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي على أساس «أنّ الشيوعية كُفرٌ وإلحاد». وباستثناء هذه الظواهر، حافظت مرجعيّة النجف على استقلاليّتها وابتعادها عن التدخّل في السياسة وشؤون الدولة. واحترمت حكومات العراق منذ العهد الملكي مروراً بالحكم الجمهوري هذه الخصوصية. ولم تفلح حكومات البعث في التدخّل السافر في شؤون المرجعيّة أو محاولة إقحامها في سياسة الدولة، إلّا أنّها سَعَتْ للتخلّص من الأصوات المعارضة أينما وُجِدت ومن هنا نُدرِك اغتيالات وقتل بعض رجال الدين الشيعة كمحمد باقر الصدر في العام 1980 وغيرهم. (وللعلم فإنّ أول مَن قُتِلَ كان رجل الدين السنّي عبد العزيز البدري في العام 1969 المعروف بتحديه لسلطة البعث).

تغيّر موقع المرجعيّة بعد 2003، وبدأ الاحتلال الأميركي بإقحامها في الشأن السياسي والتظاهر بالسماع لرأيها. ثم كثفّت أحزاب الإسلام السياسي الشيعي وحتى شخصيّات شيعيّة تدّعي الليبرالية (مثالاً، ما سُمي بالـ «البيت الشيعي» الذي ترأسه أحمد الجلبي) ظاهرة استشارتها بهدف الحصول على الدعم والقبول من الشارع العراقي. وعلى ما يبدو، تزايدت هذه الممارسات و أدّت بالنتيجة إلى محاولة المرجعية - أو عناصر منها - الإدلاء بالآراء في مواضيع اجتماعيّة وسياسيّة عديدة ليس للمرجعية الخبرة أو الممارسة المعرفيّة فيها. وسادَ خلط بين دور المرجعية الفقهي والمعرفي من ناحية، والأهداف الدنيويّة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي من ناحية أخرى. وإذا كانت أهداف أحزاب الإسلام السياسي الشيعي تنبع من مَنفعة سياسية-اقتصادية بحتة وأُفُق طائفيّة تهدف للسيطرة على الشارع والحكومة، فلا يمكن التغاضي عن عدم وضوح مرجعيّة النجف في وضع حدٍّ لهذه التجاوزات ونقد ممارسات هذه الأحزاب والسياسيين ورجال الدين المنطوين تحت رايتها أو القريبين منها بشكل صارم ودقيق.

2. قراءة في تاريخ التيّار الصدري

حاول محمد باقر الصدر أن يؤسّس حزب الدعوة الإسلامي أواخر خمسينيات القرن الفائت - كرّد فعل على نموّ الشيوعية واليسار في العراق - على غرار منظّمة الإخوان المسلمين في مصر. إلّا أنّ حزب الدعوة بقيَ هامشياً في تاريخ العراق السياسي الحديث حتى أواخر سبعينيات القرن الفائت لسببين أساسيين؛ أولاً، صعود نجم الإسلام السياسي الشيعي في إيران واستيلاء الخميني على الثورة الإيرانية في العام 1979، وثانياً، هلع حزب البعث من فكرة «الشعوبيّة» واختزال الأقليات المذهبيّة أو الدينيّة أو الإثنيّة – مثل الشيعة العرب أو الأكراد في العراق – كتوابع للأجنبي لا مواطنين في بلد أعطوه الغالي والنفيس. وانتهجَ صدام حسين بعد استيلائه على السلطة في تموز 1979 نهجاً قمعياً ضدّ حزب الدعوة، بعد أن أقصى الحزب الشيوعي والاتحاد الوطني الكردستاني – حلفاء الأمس في ما سُميَّ بـ «الجبهة التقدّمية». ومنحَت هذه الرعونة السياسية زخماً لم يحلم به قادة حزب الدعوة، وسرعان ما انتقلوا إلى ممارسة السياسة في إيران أوائل ثمانينيات القرن العشرين. في هذه اللحظة انتقلَ العراق من بلد ذي تاريخ سياسي عنيد وصراع شرس بين مشارب فكرية مختلفة، إلى بلد تحكمه أوهام طائفية-قومية تخدم أولاً وآخراً مصالح الأجنبي، أياً كان.

كانت الأحزاب الإسلامية الشيعية – الدعوة الإسلامي والمجلس الإسلامي الأعلى وغيرها – والسنيّة محدودة في حجمها وفي مقدار النفوذ الذي تملكه شعبياً داخل العراق بُعيد الاحتلال الأميركي. الاستثناء الوحيد كان التيّار الصدري، الذي وُلِد فعلياً بعد 2003، ولو أنّ جذوره تعود إلى ما قبل الغزو/الاحتلال الأميركي. حاول محمد صادق الصدر، والد مقتدى، تأسيس نهج مُغاير للمرجعية الدينية في النجف، أطلقَ عليها وصف «الحوزة الناطقة». تمتعَ الصدر الأب بشعبية عالية وسط جموع الشيعة الفقراء في وسط وجنوب العراق التي عانت الأمرين من بطش نظام صدام حسين الشمولي خصوصاً بعد انتفاضة 1991، ومن الحصار الاقتصادي الجائر التي فرضته الولايات المتحدة على شعب العراق طيلة ثلاثة عشر عاماً وقبلها حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران. كان للصدر الأب علاقة جيّدة مع نظام صدام، إذ كان بمثابة صمّام الأمان، يؤمّن خضوع الشيعة الفقراء لنظام الحكم البعثي، ويسمح في الوقت نفسه بتأدية الطقوس الدينية البسيطة. قُتل الصدر الأب أواخر تسعينيات القرن الماضي – بعد اختلاف مع نظام صدام – وتراجع المدّ الصدري حتى مجيء الاحتلال الأميركي.

توارثَ مقتدى قيادة التيّار بحكم النَسَب من دون أن يتميّز بمعرفة دينية أو سياسية، وتفاقمت خلال قيادته الخلافات داخل التيّار، وظهرت انشقاقات أبرزها منظّمة عصائب أهل الحق التي يترأسها قيس الخزعلي. كان لهذه الانشقاقات دوراً مهماً في ترسيخ التيّار الصدري كحركة ضمن الإسلام السياسي الشيعي والمليشياوي أيضاً، إذ كان الصدريّون جزءاً أساسياً في كلّ الحكومات العراقية منذ 2005، وكان للتيّار المليشياوي من خلال جيش المهدي دوراً بارزاً في الحرب الأهلية (2006-2008) وفي فرض السيطرة شبه المطلقة على مناطق بأكملها في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية. 

في عراق يصول ويجول به أكثر من مئة تنظيم مليشياوي مسلّح، يشكِّل «جيش المهدي» (وتوابع أخرى مثل «سرايا السلام» الصدريّة) التنظيم الأكبر، تليه «منظّمة بدر» و«كتائب حزب الله»، ثمّ «عصائب أهل الحق» من ناحية عدد المنتسبين والهيكليّة التنظيميّة. وإذا كانت المليشيات الأخرى تنتمي علناً لولاية الفقيه الإيراني الخامنئي، تمتاز «سرايا السلام» «وجيش المهدي» بتبعيّتها للصدر الأب الذي أوصى بعد موته - كما هو مُتَبع في الفقه الشيعي الإثنى عشري - بتقليد المرجع كاظم الحائري9  العراقي الأصل الذي استقرّ منذ أواسط سبعينيّات القرن الفائت في قمّ. (ويُقلّد البعض من الصدريين، فقهياً، المَرجِع علي السيستاني).

تعتمد هيكلية التيّار الصدري على خليط من المعتقدات المذهبية وعلى نظام شبه عسكري. وبالتالي، للتيّار الصدري وجود متنوّع ومتقلّب، يتغيّر بانتهازيّة لملائمة الجوّ السياسي السائد. في الواقع، تغيّر الخطاب الصدري من «محاربة» الاحتلال إلى القتل على الهوية المذهبية خلال الحرب الأهلية، إلى المشاركة في حكومة المحاصصة (في البرلمان والدولة)، إلى التظاهر ضدّ الدولة. وتارةً كان الصدريّون أقرب إلى إيران، وتارةً أخرى إلى الخطّ السعودي-الأميركي. تشكّل هذه التقلّبات جوهريّة النهج الصدري منذ تأسيسه على يدي محمد صادق الصدر: الانتهازية لنيل المكاسب السياسيّة أساساً. بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، أصبحت هشاشة المليشيّات في العراق من دون الوصي الإيراني واضحة، فاستثمر مقتدى الصدر الحدَث لمحاولة سدّ الفراغ من خلال إبراز عضلات رجاله (سواء «القبعات الزرقاء» أو «سرايا السلام») في ساحات الاعتصام والتنكيل بثوّار حراك تشرين 2019، والتقرب من أصحاب القرار في طهران وقمّ. وهكذا، تبنّى الصدر وتيّاره نهجاً ميكيافيلياً بامتياز، إذ استخدمَ – ويستخدم – أي أسلوب للوصول إلى مبتغاه السياسي. فتزايدَ بعد مقتل سليماني الاعتداء العنيف على الثوّار (مِن قتل أو حرق للخيَّم)، وبعدها مهاجمة الطلاب وخطف واغتيال المسعفات الطبية وإرهاب النساء المشاركات في ثورة تشرين 2019. هكذا أصبح التيّار الصدري المليشياوي يداً مساندة للحكومة لضرب الثائرات والثوّار، وضمان دوره المهمّ في تشكيلة المحاصصة الطائفية، وكسب ودّ المرشد الإيراني ودعمه.

إذا كان الاقتصاد العراقي ريعياً قبل العام 2003، فهو الآن هجين مافيوي غريب لا يخضع لمفاهيم النظريات الاقتصاديّة السائدة

انطلقت في الثالث عشر من شباط 2020 عشرات آلاف النساء في مظاهرات حاشدة في بغداد والناصرية والبصرة والديوانية ومدن أخرى ضدّ الوصاية الدينيّة والذكوريّة، وفي أعقاب تصريحات مقتدى الصدر المتناقضة مع جوهر ثورة تشرين العراقية حين دعا إلى «فصل الذكور عن الإناث» والامتثال «لقواعد الدين الإسلامي». شكلَّت ثورة تشرين 2019 مساراً واضحاً تحدّى الهيكليات السياسيّة والمجتمعيّة الطاغية من دون التعالي على الموروث الثقافي والديني في المجتمع مهما كان بسيطاً وعفوياً. فمحرِّك الثورة الأساس هو الطبقة المجتمعيّة الفقيرة والمُهمَلة لزمنٍ طويل، طبقةٌ انحدَرت من بيئة وسطى مُتعلمة أنهكها الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، وهمشّها سياسيو ما بعد الاحتلال الأميركي. تجاوز شابات وشباب الثورة المرجعيات السياسية السائدة، وكان جُلَّ تفكيرهم يرفض الواقع المرير والفساد المُستشري، ولم يدعموا أياً من الزعماء السياسيين وأتباعهم،  تجاوزوا ثنائيّات الولاء لإيران أو الولايات المتحدة، وأيضاً مظاهر العنف السائد إلى حدٍّ كبير في تاريخ العراق السياسي الحديث. 

النفط محور كلّ الصراعات

إذا كان الاقتصاد العراقي ريعياً قبل العام 2003، فهو الآن هجين مافيوي غريب لا يخضع لمفاهيم النظريات الاقتصاديّة السائدة. العراق، بعد العام 2003، بلد لا يُنتج ولا يُصنّع أي شيء إطلاقاً، يُصدّر النفط الخام فقط ويمنح الشركات العالميّة - وفق اتفاقيّة أنجزها وزير النفط الأسبق (2006) حسين الشهرستاني10  - حقّ التنقيب عن النفط (والغاز) من دون رقابة الحكومة المركزيّة وبنسبة تُقرِّرها هذه الشركات من دون التشاور مع وزارة النفط العراقية. عدا ذلك، دُمِّرت الزراعة فعلياً في البلد لأسباب عدّة متداخلة منها، الحروب والأسلحة الكيمياويّة المحرّمة مثل اليورانيوم المنضّب، والتي استخدمتها القوات الأميركيّة منذ العام 1991، وسياسات تجفيف الأهوار من قبل النظام السابق لمعاقبة ثوّار انتفاضة آذار/مارس 1991، وانخفاض كمّية المياه في نهري دجلة والفرات بسبب بناء السدود في تركيا وتغيير مجاري الأنهار من قبل إيران وهما يشكلان انتهاكاً واضحاً للاتفاقيّات الدوليّة بخصوص مجاري الأنهار المشتركة بين دول جوار، ومؤخراً التدمير المتعمّد للمنتجات الزراعية المحلّية للسماح بتصريف المنتجات الزراعية الإيرانية. وبالتالي أضحى العراق فعلياً مزبلة لكل تَرَكات إيران، بالدرجة الأولى - ودول أخرى أيضاً. حوّلت هذه العوامل مجتمعة العراق من بلد مُنتج للموارد الطبيعية، ولديه صناعات محلّية (بتروكيمياويات وأدوية وأصباغ ومواد إنشاء و پلاستيك، الخ) متطورة نسبياً بمقياس دول الشرق الأوسط، ونِتاج زراعي يؤمّن الاكتفاء الذاتي، إلى بلد استهلاكي يستورد كلّ احتياجاته. مع ذلك، لا يستثمر هذا البلد النفطي في المحروقات حتّى، بل يهدرها لكي يتسنّى استيراد الغاز والكهرباء من إيران بأضعاف الأسعار.

بلغت إيرادات صادرات النفط العراقي خلال شهر حزيران 2022 نحو 11,5 مليار دولار أميركي وفقاً لوزارة النفط (نقلاً عن وكالة الأنباء العراقية)، ومن المتوقّع أنّ تصل إيرادات النفط لعام 2022 إلى أكثر من 120 مليار دولار. مع ذلك، أعلن وزير التخطيط العراقي في 5 تموز/يوليو 2022 أنّ نسبة البطالة بلغت 16%، وإن كانت النسبة الحقيقية تزيد عن ذلك بكثير. وهو ما يُبيّن انعدام التخطيط في بلد غني جدّاً، وفشل الدولة في الإسهام في تطوير اقتصاد البلد. النفط العراقي أساسي لأوروبا، وينظر الكثير من المحلّلين إليه كبديل مهمّ عن الخامات الروسية في أسواق أوروبا بعد الحرب الروسية-الأوكرانية والمقاطعة الأميركية-الأوروبية ضدّ روسيا. لكن إيران تمسك بالعراق، وتستخدمه ورقة في محادثاتها مع الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي حول الملف النووي والحصار الاقتصادي، خصوصاً أنّ الميليشيات الولائية وميليشيا التيّار الصدري تسيطر على غالبية حقول النفط وأنابيب التصدير في البصرة والجنوب العراقي، وبإمكان إيران خلق بلبلة مهمة في الإنتاج أو التصدير إذا شاءت أو تسهيل المسألة إذا إنسجمَ الأمر مع أهدافها.

لا يمتلك الإسلام السياسي - الشيعي أو السني - نظرة واقعية للنمو الإقتصادي في البلد اأو التطور الصناعي  والزراعي والمعرفي عموماً. المرتجى هو دويلات ريعية استهلاكية بحتة تفتقد إلى الاستقلالية.

خاتمة

لا يؤمّن تداخل الدين والسياسة بناء مجتمع ونظام حكم يستندان على أسس المواطنة والمساواة. فشلَ الإسلام السياسي في العراق منذ 2003 في بناء هيكلية إدارية ودستورية، ونجحَ في إشاعة الفساد والسرقة وإقصاء الرأي المُعارِض. لكن شباب وشابات العراق أعادوا في حراكهم الثوري الكبير في تشرين 2019 الوضوح في ضرورة عزل الدين عن السياسة، وكان هتاف زملائهم في السنين التي سَبَقَت الأكثر وضوحاً وجوهرية: باسم الدين باگونا (سرقونا) الحرامية. 

سطَّر الشباب العراقي منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019 مَلحمة تاريخية لم يشهد مثيلها العراق الحديث. إنه – وبكل صراحة – أكثر أجيال العراق وعياً وتمسكاً بمبدأ حقوق المواطنة. تجلى هذا الوعي من خلال تلاحم الطبقات المُستضعفة والمهمّشة مع الحركة الطلابية في هيكلية عُضوية متناسقة، شامخة في خيالها وإصرارها، مُتحديةً الواقع القذر والمرير الذي يُجسِّده نظام طُفيلي قادم مع المُحتل الأميركي ومدعوم من الجارة إيران. جيلٌ مُنفتِحٌ على العالم الخارجي وعميقٌ في تعامله مع الوضع – معرفياً وثقافياً وأخلاقياً – تمكّن مِن نَفض غبار الصراع العقائدي، وموضوعي في تقييمه الواقع دون أن يُساوم على مفهوم الحرية والسيادة. ثوار العراق قدّموا مثالاً ناضجاً لمفهوميْ الوطن والمواطنة. ولكن هذا الوعي لابدّ وأن يخلق سلسلة ثورات، فالتغيير لا يحصل في حراكٍ واحد. وعلى حد قول غرامشي، تَخلق الثورات الكبرى معايير وطرقاً للتفكير والعيش جديدة، كما تُنعِش أحاسيس العيش المشترك وتُنمّي وعياً نفسياً جديداً على نطاق شعبي واسع يستمر بالازدهار. تَخلق الثورات أبطالها. وأبطال ثورة تشرين الأول/أكتوبر التي انطلقت في بغداد وسائر محافظات العراق بزخمٍ لم يشهد مثيله تاريخ العراق الحديث هم الفقراء والمهمَشون. العراق الذي يَعوم على جزيرة من الخيرات والموارد الطبيعية، يَرضخ ما يزيد عن ثلث سكانه تحت البطالة والفقر والعوز. سقط الآلاف بين شهيد وجريح منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019، بالإضافة إلى اختطافات واغتيالات الناشطات والناشطين المستمرة، من أجل أن يستعيدوا فكرة الوطن العراقي والمواطنة.

الوضع العراقي شائك ومعقّد بين هيمنة الجارة إيران وتزايد إصرارها على إخضاع العراق لسيطرتها، وبين مطامع واضحة للنفط العراقي بثمن زهيد نسبياً لاحتواء المشاكل الاقتصادية الكبيرة والضغوط الصناعية لتوفير البتروكيمياويات في دول أوروبا. يتقاطع مع هذين العاملين نظام محاصصة طائفية - لا يُمكن إصلاحه - وسلاح منفلت تحت سيطرة ميليشيات طائفية وإثنية تأتمر للأجنبي. ليس هناك حلولاً سحرية، ولكن هناك حاجة ماسّة للنقد الدقيق والوضوح القاسي وفرصة لأن نجعل الأمل مُمكناً بدلًا من اليأس طاغياً.

  • 1أنظر/ي على سبيل المثال واحداً من الكتب المهمة التي صدرت أوائل تسعينيات القرن الفائت: Iraq: Power and Society, Hopewood, D., Ishow, H., and Koszinowski, T. (Eds.), Ithaca Press, 1993 (ISBN 9 170 86372 0)
  • 2 ليس هناك ترابط جذري، حسب قرائتنا، بين الدين كمنظومة أو مؤسسة وبين الجانب الروحاني والفكري لأي معتقد ديني. بالتأكيد هناك علاقة تاريخية، ولكن ليس ترابطاً بالضرورة. إذ أن دور المؤسسات الدينية، إن كانت دوائر الوقف (الشيعي أو السني) او المرجعية او الأزهر او الڤاتيكان او أبرشية كانتربري الپروتستانية، يستند الى ويتحكم أساساً بقواعد إقتصادية وسياسية بحتة متجردة عن الروحانيات. فهذه المؤسسات مسؤولة عن تنظيم ومتابعة أملاكها، و الوظائف المرتبطة بهيكلياتها الإدارية وما شابه ذلك. مَن كان مُهتماً بالتعبد وإنماء الجانب الروحاني في ذاته/ا يمارس الطقوس الدينية دون الحاجة للإلمام أو التماس مع هذه المؤسسات. بالتأكيد تُمارس هذه المؤسسات دورها التوجيهي وقرائتها/ترجمتها للنص الديني على الإنسان العادي وتتحكم بخلق ظوابط إجتماعية بين الناس (تتعلق بالزواج الى الميراث، الخ.) لغرض فرض السيطرة والتحكم بسيرورة المجتمع. فكيف يمكن للمؤسسات الدينية أن تحصل على الدعم المادي دون وجود تابع بشري لها؟ وقد تختلف الوسيلة في توفير الدعم المادي. ففي العراق على سبيل المثال، يحصل الوَقف - السني أو الشيعي - على ميزانية من الدولة، بينما تحصل المرجعية على إيراداتها أساساً من الخُمس المفروض على أتباع المرجعية. وخلال العقود الأخيرة بدأت المرجعية بإستثمار أموالها لضمان ديمومة الوضع الإقتصادي للمرجعية. وهذا أفضل مثال كيف إنسابت المؤسسة الدينية في صُلب النظام الرأسمالي. حصلَ ذلك مع الڤاتيكان وسنرى مسار المرجعية هذا القرن.
  • 3أنظر/ي: Promise and Power: The Life and Times of Robert McNamara, Shapley, D., 1993, Little: Brown (ISBN 7 78280 316 0)
  • 4تناقلت كالنار في الهشيم - في صيف 2018 - صرخة رجل خمسيني في الناصرية في جنوب العراق: «عمّي نريد وطن!» أصبحت بعدها شعاراً لكل الإحتجاجات، ولاسيّما الحراك الثوري في تشرين الأول 2019
  • 5أنظر/ي الكتاب القيّم: ثورة الزنج، د. فيصل السامر، دار المدى، الطبعة الثانية، 2000
  • 6إحصائيات غير رسمية مبنية على تقديرات الكاتب بالإستناد الى مراجع متعددة وبالتحديد الدراسة المهمة للبروفسور حنّا بطاطو عن العراق: الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق. The Old Social Classes and the Revolutionary Movements of Iraq - A Study of Iraq’s Landed and Commercial Classes and of its Communists, Ba’thists, and Free Officers, Batatu, H., Princeton University Press, 3rd Paperback Printing 1989 (ISBN 11 10 987654 3)
  • 7تجدر الإشارة إلى أنّ تركيا حاولت اتباع المنهجيّة نفسها، لكنها لم تنجح لأسباب عدّة
  • 8مؤخراً، نَشرَ الصحافي العراقي علي فاضل (المقيم في الولايات المتحدة) مجموعة تسجيلات صوتية لنوري المالكي وآخرين يتحدّثون عن علاقتهم الوثيقة بالمرشد الإيراني الخامنئي وجهاز المخابرات، إطلاعات، والحرس الثوري الإيراني، وكيف بإمكان المالكي كسب ودّ الخامنئي ودعمه في قضايا عدة. كما تضمّنت التسجيلات شتائم بحق الصدر وتهجّم على التيّار الصدري. كان من المفروض أن تُحدث هذه التسريبات ضجة كبيرة تؤدّي إلى محاكمة - أو في أقل تقدير محاسبة – المالكي، إلّا أنها مرَّت مرور الكرام وكأنّ الإعلام العراقي والدولة والبرلمان في مجرّة أخرى لا تَعي فحوى الموضوع. ونشر الصحافي فاضل تسجيلات أخرى تفضح نهب وفساد سياسيين آخرين (مثلاً، أحمد عبدالله الجبوري، المُكنّى أبو مازن، القيادي في تحالف العزم السنّي)، ووَعدَ بنشر المزيد
  • 9أعلن الحائري اعتزاله المرجعية آواخر آب/أغسطس 2022 وهو أمر نادر لم يحصل في تاريخ المرجعية الشيعية في النجف أو قمّ، ومن المرجّح أنّ يكون حصل ذلك بضغط من ولاية الفقيه الخامنئي لسحب البساط من تحت مقتدى الصدر. في رسالة اعتزاله، كان الحائري شديد اللهجة ضدّ الصدر لكن من دون أن يتخلّى عنه، وطلَبَ من مُقلّديه أتباع الخامنئي. وهنا تتضح محاولة إيران كسر ظهر مقتدى الصدر وتدجين أتباعه، لكنّها لن تنجح على الأرجح. يعتبر كثير من المراقبين أنّ الحائري هو حلقة الوصل بين التشيّع العربي والتشيّع الفارسي، ونرى الآن أنّ الحلقة بدأت بالصدأ وقد تنكسر كلياً. هناك إحساس عام وسط الشيعة -سواء كانوا ملتزمين دينياً أم لا - أنّ الغبن بحقّ الشيعة العرب تعاظم في العقدين الأخيرين. فإذا حاول صدام تقييد الشيعة العراقيين ومنعهم من ممارسة طقوسهم علناً، فإن التشيّع الفارسي يحاول محو تاريخ التشيّع العربي وشارك صدام ونظام البعث الشمولي بمعاداة وحتى قتل المعارضين الشيعة العراقيين. ربّما نرى من الآن فصاعدًا التصادم بين مرجعيتي النجف وقمّ وبداية ضمور - ونأمل نهاية - الهيمنة الإيرانية
  • 10تولى الشهرستاني بعدها منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة في حكومة نوري المالكي الثانية، ووزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي في حكومة حيدر العبادي في العام 2016. ظهر اسمه واضحاً وكان له علاقة مباشرة في ملفات فساد كبرى ونُشِرت التفاصيل في تحقيقات أجرتها صحيفة الـ Huffington Post بتاريخ 30 آذار/مارس 2016