إعادة تقييم الثورة 

  • مراجعة لكتاب: «الثورة خيار الشعب: الأزمة والانتفاضة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». تأليف آن ألكسندر. يتناول الكتاب الأحداث منذ العام 2010-2011، دامجاً إيّاها في تحليلٍ مُفصَّل للاقتصاد السياسي للمنطقة والحركات الاحتجاجية

منذ العام 2019، يشهد العالم «دورة ثالثة من التمرّد»، بعد الحركة المناهضة للعولمة في أواخر التسعينيات، والحركات الجماهيرية ضدّ الرأسمالية النيوليبرالية والأنظمة الاستبدادية التي اندلعت في العامين 2010-2011. في الدورتين الأخيرتين، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي المفتاح. فوجئ الخبراء في المنطقة بحجم موجات الاحتجاجات والإضرابات، فيما كانت النماذج الأكاديمية السائدة تفترض الاستقرار. ومن ثمّ، سارع الأكاديميون إلى تحويل تركيزهم إلى نجاح الثورات المُضادة الوحشية التي احتوت وقلبت هذه العمليّات الثورية، كتلك التي قادها اللواء عبد الفتاح السيسي في مصر. تعتقد العديد من المرويَّات الأكاديمية والصحافية وكأن قدَر المنطقة، الذي تمليه آليّاتها الداخلية، هو أن تخضع للمستبدين والمَلكيَّات. وكأنه من الطبيعي أن يجيء بأعقاب الربيع العربي القصير «شتاء عربي» بكلّ ما يتضمَّنه من دمارٍ وسلبية. تتحدَّى الثورات الأخيرة في السودان والجزائر، التي بدأت على التوالي في العامين 2018 و2019، هذه النظرة السائدة، وبالتالي لم تحظَ باهتمام كبير.

إن كتاب آن ألكساندر «الثورة خيار الشعب» هو تعقيبٌ بحجم كتاب على تلك الأفكار بأكملها، متأصَّلاً بقوّة في منظور الاشتراكية الدولية. يتناول الأحداث منذ العام 2010-2011، دامجاً إيّاها في تحليلٍ مُفصَّل للاقتصاد السياسي للمنطقة والحركات الاحتجاجية. بالإضافة إلى المساهمة في النقاشات الحالية وتوفير أساس لتنظير الثورات في المنطقة من منظور ماركسي، يقدِّم الكتاب سجّلاً غير أكاديمي للثورات. تهمُّ الدروس الرئيسية المُستخلصة الناشطين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكذلك الناشطين خارج المنطقة.

الجذور التاريخية

تنطلق ألكسندر من تذكيرٍ موجز بمفهوم لينين عن السمات المميِّزة للوضع الثوري، حيث يستحيل على كلٍّ من الطبقة السائدة والطبقات الدنيا أن تستمرّ كما كانت من قبل، فتخرج الأخيرة إلى الشوارع؛ ولكي تنبثق الثورة، يجب أن يعتزم الشعب الإطاحة بالحكومة الحالية. يُحدِّد هذا التصوّر هيكل المراجعة الحالية. في الجزء الأول، سوف أناقش تحليل ألكسندر للعوامل طويلة المدى المُتسبِّبة في جمود السياسة في الأعلى. وفي الجزء الثاني، سوف أناقش انبعاث نضالات الطبقة العاملة في المنطقة. أمّا في الجزء الأخير، فسوف أركِّز على أفكار ألكسندر المُتصلة بمصير الثورات. أعتبر هذا الكتاب مساهمة ممتازة، لذلك سوف أقوم بتلخيص الأفكار الرئيسية لا غير، وأقدِّم أفكاراً إضافية بالاستناد إلى التجربة التونسية بشكل كبير.

أفضى اليأس المُطبق لدول الحزب الواحد إلى ارتقاء جيل جديد من الطغاة (والملوك) سُدَّة الحكم وتمهيد الطريق للإصلاحات النيوليبراليةبعد أن تعطي لمحة عامَّة عن كيفية اندلاع ما سوف أسمِّيه «ثورة الكرامة»  (وهي لا تستخدم مصطلح «الربيع العربي») في عددٍ من البلدان، تهتمّ ألكسندر بالتغيير الاقتصادي والسياسي الأوسع منذ الاستعمار في أواخر القرن التاسع عشر. خلال المرحلة الاستعمارية، قامت القوى الأجنبية بدمج منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السوق العالمية كمنطقةٍ تابعة عن طريق توجيه اقتصاداتها نحو تصدير الموارد الطبيعية والمنتجات الزراعية والسلع الصناعية منخفضة التكلفة. على الرغم من تناسي الأمر غالباً، إلّا أنها تشير إلى أن تونس وليبيا، بالإضافة إلى فلسطين والجزائر، كانت مستعمرات استيطانية. جرت مقاومة الاستعمار عبر انتفاضات جماهيرية عفوية، لكنّها كانت أضعف من أن تتخطّى ما أسماه المُنظِّر الماركسي توني كليف «الثورة الدائمة المنحرفة»، أي أن الطبقة العاملة في هذه البلدان فشلت في خلق نوع القيادة اللازمة لإرساء أسس الاشتراكية أثناء نضالها ضدّ النظام الاستعماري. وفي المقابل، «استولت أقسام من الطبقة الوسطى الدنيا على الدولة مُستخدمة إيّاها كوسيلة لتسريع التطوّر الرأسمالي». بعد انتزاع الاستقلال الرسمي في الخمسينيات وأوائل الستينيات، جُوبهت النخب السياسية الجديدة بمصاعب اقتصادية وكانت هزيلة المكانة على الصعيد الدولي. وُضعَتْ التنمية التي تقودها الدولة، والمستوحاة من النموذج الستاليني في الاتحاد السوفياتي، موضع التنفيذ  بغية اللحاق بالغرب، وكان من المفترض أن توفِّر حلّاً لمشاكل المنطقة. أدّت التناقضات التي ينطوي عليها هذا النموذج الاقتصادي إلى ارتفاع مستويات الديون، والتسبّب بحرب 1967 الكارثية التي شهدت هزيمة إسرائيل لكلٍّ من مصر وسوريا والأردن.  أسفر انهيار هذا النموذج في نهاية المطاف عن تمهيد الطريق لمقاربة جديدة، وهي «الانفتاح»، الذي تمحور حول تحرير الاقتصاد والاعتماد على الولايات المتّحدة.

الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الانفتاح، ثمّ في النهاية إلى النيوليبرالية المُكتملة، لم يكن بالعملية الناعمة. ناضَل العمّال ضدّ برامج التكيّف الهيكلي في المصانع والشوارع، على نحو ما يتجلّى في المظاهرات المصرية في العام 1977 والإضراب العام في تونس في العام 1978. إلّا أن البديل الثوري لم يظهر سوى في إيران في خلال هذه الفترة. تعمد ألكساندر إلى تسليط الضوء على الأهمّية المستمرّة للثورة الدائمة المُنحرفة هنا، ربّما ردّاً على النقاشات السابقة، لكنني أود التأكيد على أن الأزمة آنذاك كانت بالغة العمق. أفضى اليأس المُطبق لدول الحزب الواحد إلى ارتقاء جيل جديد من الطغاة (والملوك) سُدَّة الحكم وتمهيد الطريق للإصلاحات النيوليبرالية. برزت الخلافات الحقيقية بين الإصلاحيين والحرس القديم، والتي تمحورت حولها الانتفاضات في خلال السبعينيات والثمانينيات، في المستويات العليا من هذه الدول وتواصلتْ على امتداد العقود التالية. ومن ناحية أخرى، تعزو ألكسندر النهاية المحددة لتجربة رأسمالية الدولة في تونس إلى معارضة ملّاك الأراضي في أواخر الستينيات. ومع هذا، ينبغي ألا ننسى مقاومة الفلّاحين التونسيين للتجميع القسري والحركة الطالبية التي تبلورت في آذار/ مارس 1968 ضدّ دكتاتورية الرئيس الحبيب بورقيبة.

كشف صعود النيوليبرالية في المنطقة، والذي لم يكن يشكِّل قطيعة كاملة مع الماضي، عن الطبيعة «المُركبَّة» للتطوّر الرأسمالي. فقد تضمّن استمرار السمات الرئيسية لنظام رأسمالية الدولة السابق، والذي جرى دمجه مع نموذج جديد يرمي إلى تحفيز تراكم الرأسمال الخاصّ على حساب عموم الشعب. أدّت هذه العملية إلى قيام علاقات وثيقة بين الرأسماليين والدولة، غالباً ما تنطوي على الفساد والمحسوبية، إلى جانب تدهور الخدمات العامّة. وعلى الرغم من هذه الآثار الواسعة، تشكِّك ألكسندر - عن حقّ - في نجاح الإصلاحات النيوليبرالية. وعلى غرار نموذج رأسمالية الدولة السابق، فشل النموذج الجديد في إنعاش اقتصادات المنطقة. وفي غضون ذلك، تعزّز نفوذ القوى الأجنبية كالولايات المتّحدة، ودفعت سياسة النخبة نفسها إلى الركود.

شهدت الفترة بين الاستقلال وثورة الكرامة تطورين حاسمين. أولاً، في خلال السبعينيات والثمانينيات، بدأ الإسلام السياسي يحلُّ محل اليسار باعتباره المنافس الأساسي للأنظمة الاستبدادية في المنطقة. ولسوء الطالع، فإن أكثر السرديات التي تصف هذه العملية تصوِّر على نحوٍ تبسيطي الأحزاب الإسلامية كممثِّلة لرأس المال. مثلاً، وفقاً للماركسي الفرنسي اللبناني جيلبير الأشقر (الذي يعرفه قرَّاء هذه المجلّة من مناظرته مع أليكس كالينيكوس حول طبيعة الحرب في أوكرانيا)، فإنّ جماعة الإخوان المسلمين في مصر تمثِّل «المصالح المُشتركة لكل شرائح  الرأسمالية المصرية، كبيرها وصغيرها، بما فيها الشريحة التي تعاونت مع النظام القديم». على النقيض من هذا، تقترح ألكسندر وجهة نظر أكثر دقّة، تكشف عن الكيفية التي تمكّن بها الإسلام السياسي من اكتساب النفوذ بين الطبقات الدنيا. في دولٍ مثل مصر، تمكّن النشطاء الإسلاميون من الانخراط في العمل الحزبي، ممّا ساهم في نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات بعد سقوط النظام الاستبدادي للرئيس حسني مبارك في العام 2011.

خلال السبعينيات والثمانينيات، بدأ الإسلام السياسي يحلُّ محل اليسار باعتباره المنافس الأساسي للأنظمة الاستبدادية في المنطقةالتطور الحاسم الثاني الذي تتبعه ألكسندر يتمثّل في صعود قوى إقليمية مثل تركيا وإسرائيل ودول الخليج.  ومن اللافت للاهتمام أن بروز هذه الدول أصبح ممكناً بسبب اختلافها عن النيوليبرالية الأرثوذكسية. ومع ذلك، فإن النمو الاقتصادي الكامن وراء النفوذ المُتزايد لهذه القوى، وخصوصاً دول الخليج، يرتكز على قطاعات المضاربة، ممّا قد يقوِّض استقرارها في المستقبل والتوسّع الإمبريالي لمصالحها. فضلاً عن ذلك، يشير الكتاب إلى الصلات بين أزمة المناخ وصعود دول الخليج، التي تغذّي صادراتها الهائلة من النفط والغاز الرأسمالية الأحفورية العالمية وما ينجم عنها من دمارٍ بيئي. تصف ألكسندر هذه القوى الناشئة باعتبارها إمبريالية فرعية، على الرغم من عدم وضوح دلالة هذا المصطلح، وكذلك معناه فيما يتصل بالهيكل الهرمي والصراعات الجارية في إطار منظومة العلاقات بين الدول.

العمّال يناضلون

بالنظر إلى إطار ألكسندر الماركسي الكلاسيكي وتعريفها للأزمة، يبدو أن العداء بين العمّال ورأس المال يمثِّل مُنطلقا أساسياً لفهم المنطقة. في الواقع، عندما نقوم باستعراض نجاحات وإخفاقات الحركات الجماهيرية في المنطقة، يتبيَّن أن قوة الطبقة العاملة مكوِّن أساسي. ومع ذلك، فإن العديد من الأكاديميين والصحافيين ما زالوا ينظرون إلى الثورات وعمليات التحوّل الديمقراطي باعتبارها نتيجة الرغبة التحرّرية المتأصّلة في الرأسماليين والنظام الرأسمالي. تقترح ألكسندر تفسيراً مغايراً تماماً. يعتمد نجاح الحركات من أجل الديمقراطية على تأكيد الذات العمّالية في معارضة رأس المال وضدّ النظام الرأسمالي ذاته. يعني هذا التوجّه أن اهتمامها يتركّز على الديناميكيات الناشئة من أسفل، والتي يميل حتى بعض الماركسيين الذين يكتبون عن ثورة الكرامة إلى تجاهلها.

إحدى رؤى ألكسندر ذات الأهمّية القصوى بالنسبة لكلٍّ من النشطاء في المنطقة ونشطاء العالم الشمالي، هي أن «النيوليبرالية لم تخلِّف إرثاً من الهزيمة فحسب، بل ظروفاً موضوعية للثورة الشعبية أيضاً». في المرحلة النيوليبرالية، نمت الطبقة العاملة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتركَّزت في أماكن العمل والمناطق الحضرية المتوسِّعة. قد تكون النيوليبرالية إعادة تشكيل للنظام الرأسمالي، إلّا «أنها لا تزال رأسمالية، والرأسمالية بحاجة إلى عمّال». اشتملت إعادة هيكلة الطبقة العاملة على بلترة طبقة من المهنيين المتعلِّمين الذين واجهوا ظروفاً متدهورة في القطاع العام؛ وثبُت أن هذا التطوّر حاسم لأنّ موظّفي القطاع العام يمتلكون القدرة على مهاجمة الدولة مباشرة من مواقع العمل. كان المعلمون، من بين موظّفي القطاع العام الآخرين، في طليعة النضالات التي برزت منذ العام 2010-2011 ضدّ أنظمة المنطقة، فيما لم تبقَ الطبقة العاملة الصناعية مستكينة. الأهمّ من ذلك، أن ألكسندر تُخصِّص فصلاً كاملاً للدور البارز الذي لعبته المرأة في الثورات، وتبحث في كيفية انحياز النساء إلى القوى العاملة، ولكن، بالنظر إلى دورهن المُحدَّد في الرأسمالية، فقد تأثرن سلبياً بالإصلاحات النيوليبرالية.

نتيجة لهذه العمليّات، بدأت موجات الإضراب تتشكَّل في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في مصر وتونس. جابهت هذه الحركات العمَّالية الجديدة أنظمتها، بما في ذلك البيروقراطيات النقابية المُعيِّنة. وبعد سنوات قليلة، مرّ السودان والجزائر بتجارب مماثلة. تسمح المقارنة المميَّزة التي أجرتها ألكسندر بين العديد من البلدان بملاحظة أنه بمجرّد اندلاع الثورات في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رجّح نشاط الطبقة العاملة تقدُّم الديمقراطية من أسفل، وحدّاً من نطاق الثورة المضادة. الشاهد السلبي على صحّة هذه الأطروحة هو سوريا، حيث اتسم انخراط الطبقة العاملة المُنظّمة في العملية الثورية بالضعفِ النسبي، ممّا مهَّد الطريق لثورةٍ مضادة مُدمِّرة شهدت سنوات من الحرب الأهلية الدامية وبقاء النظام الوحشي للرئيس بشار الأسد.

يعتمد نجاح الحركات من أجل الديمقراطية على تأكيد الذات العمّالية في معارضة رأس المال وضدّ النظام الرأسمالي ذاتهوفقاً لألكسندر، تشكِّل الإضرابات عنصراً حاسماً بالنسبة للحركات الواسعة من ثلاثة جوانب. أولاً، إنّها بمثابة تجربة تعليمية للجماهير. ثانياً، إنّها تعزِّز الاحتجاج العام وتمكّن من الحفاظ على المقاومة وتعميقها. وثالثاً، يمكن أن تشكِّل ضربة قاضية للمنظّمات الجماهيرية الملجومة بالفعل مثل النقابات العمّالية التي تسيطر عليها الدولة و«أحزاب الزومبي» المُرتبطة بالمستبدين. أعتقد أن المجال يتسع لنقطة رابعة. ذلك أنه عبر النضالات من أجل المطالب الاقتصادية المباشرة، عوضاً من المطالب السياسية في المقام الأوّل، تمكَّن العمّال من لجم تراكم رأس المال ونجاح التكيّف الهيكلي النيوليبرالي. كان هذا هو الحال بالتأكيد في تونس التي، كما تؤكِّد ألكسندر، تمتلك الحركة العمّالية الأكثر تنظيماً. ربّما كان تجاهلها لهذا الجانب مرتبطاً بتركيزها (المفهوم) على الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو الاتحاد النقابي الشهير في تونس. ينشط الاتحاد العام التونسي للشغل بشكل حصري تقريباً في القطاع العام، في حين أن القطاع الخاص - السياحة والميكانيك والمنسوجات والملابس والصناعات الكهربائية والإلكترونية - هو الذي ظهر كقوّةٍ دافعة للاقتصاد منذ السبعينيات. كانت الإضرابات في هذه القطاعات أقل بروزا وتنظيماً، ولكن نظراً لقدرتها على تعطيل القطاعات الرئيسية لخلق القيمة، لم تكن أقل تأثيراً. وبالتالي، ساهمت بشكل كبير في أزمة أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

الدولة والحزب السياسي

تعتقد بعض المرويَّات الماركسية كما لو أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدأت مع النيوليبرالية. على سبيل المثال، في كتابها الأخير عن الاقتصاد السياسي في مصر، تصف الباحثة أنجيلا جويا نظام رأسمالية الدولة لجمال عبد الناصر، الذي حكم البلاد من الخمسينيات حتى السبعينيات كالآتي:

«يُمثِّل عهد عبد الناصر فترة فريدة من نوعها في تاريخ مصر الحديثة حيث واجهت الطبقات المالكة للمرّة الأولى تحدّياً خطيراً من أولئك الذين يسيطرون على الدولة، وشكّلت مصالح العمّال والفلّاحين جوهر سياسات الدولة».

وبالتالي، فقد يكون أحد الحلول هو العودة الجزئية إلى تلك السنوات، على الأقل من الناحية الاقتصادية. ومع ذلك، وكما رأينا، تتحفَّظ ألكسندر على هذا المنطق، بحجّة أن العديد من المشاكل التي أجّجت ثورة الكرامة نشأت في مرحلة ما بعد الاستعمار الباكرة وداخل النظام الرأسمالي العالمي بالتبعية. لذلك، لا بدّ من التغلّب على النظام الرأسمالي بأكمله، والوسائل المؤدِّية إلى تحقيق ذلك قد ظهرت بالفعل.

بالاعتماد على كتاب الدولة والثورة للينين، تجادل ألكسندر أنّه من اللازم تحطيم الدولة الرأسمالية واستبدالها بمؤسّسات ديمقراطية جديدة مبنيّة من أسفل. وتقارن التجارب الثورية للجماهير في مصر وسوريا والسودان، والتي تضمّنت جميعها إنشاء مجالس لتنظيم الإضرابات والاحتجاجات، وكذلك تنظيم تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة اليومية. في معظم مرويَّات ثورة الكرامة، عانت هذه التطوّرات من التجاهل التام. ونتيجة لذلك، غالبا ما تُفسَّر إعادة إنتاج سلطة الدولة بعد سقوط الديكتاتور بغياب البديل. والحقّ، أنه على الرغم من ظهور بدائل للدولة الرأسمالية، إلّا أنها فشلت حتّى الآن في تحقيق التطوّر الكافي. في مصر، أسَّس الثوّار مؤسّسات جديدة في ميدان التحرير في القاهرة وأسَّسوا نقابات عمّالية مستقلّة، لكن بقيت هذه المشاريع معزولة. فشلت النضالات في أماكن العمل في الاندماج مع سياسات الشارع الأوسع. وفي سوريا، كان الناس العاديون قادرين جزئياً على تحييد الدولة المركزية في المناطق الريفية، لكنّهم لم يتمكّنوا من شلّ أجهزتها في المدن الكبرى. علاوة على ذلك، أدّى غياب النضالات العمّالية في القطاع العام السوري إلى إضعاف السيرورة الثورية. في المقابل، نجح الثوّار السودانيون في إنشاء مجالس أحياء في جميع أنحاء البلاد ونسَّقوا فيما بينهم على النطاق الوطني. ومع ذلك، فإن قلّة لا غير ترى هذه الهيئات كبديل للدولة الرأسمالية.

قد تكون النيوليبرالية إعادة تشكيل للنظام الرأسمالي، إلّا «أنها لا تزال رأسمالية، والرأسمالية بحاجة إلى عمّال»تشير هذه التطوَّرات (ولا سيّما تلك التي جرت في السودان) إلى جدوى الثورة الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، تسلِّط ألكسندر الضوء على شرطٍ ضروري آخر لهزيمة الرأسمالية: حزب ثوري متجذِّر في الطبقة العاملة، وموجَّه نحو الثورة الدائمة وضدّ الدولة الرأسمالية. لا بدّ من أن يعمل الثوّار على توسيع «عملية التعطيل والبناء»، لا سيما عندما تقع في مكان العمل، والسعي إلى تسريع ديناميكيات الثورة من خلال تعزيز جوانبها الاقتصادية والسياسية، وكذلك استغلال التوتّرات الاجتماعية الناتجة عن التطوّر غير المتكافئ والمركَّب للرأسمالية. تذكِّر ألكسندر أنه ما من حزبٍ استطاع الاضطلاع بمهام قيادة الجماهير خلال ثورة الكرامة، على الرغم من المحاولات المهمّة التي يقوم بها النشطاء، مثل الاشتراكيين الثوريين في مصر، لبناء تنظيم مماثل.

يُعدُّ كتاب ألكسندر تشجيعاً للثوّار في جميع أنحاء العالم، بما فيه الشمال العالمي، عبر التعلّم من هذه الإخفاقات والانخراط في بناء الحزب في أقرب وقت ممكن.

يمكن ملاحظة أهمّية بناء حزب ثوري من خلال التركيز على تطوّر الثورة التونسية. في خلال الثورة التي اندلعت في أواخر العام 2010، تمكّن العمّال من وضع بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل تحت الضغط، وتشكّلت لجان للدفاع عن الثورة على المستويين المحلّي والوطني (على الرغم من أن هذه اللجان كانت أقل تطوّراً من تلك التي تشكّلت في مجرى الثورة السودانية). بمجرّد انهيار ديكتاتورية الرئيس زين العابدين بن علي، على عكس البلدان الأخرى التي أخضعتها ألكسندر للتحليل، بدت قوى الثورة المُضادة أضعف بما لا يقاس. انهارت الشرطة ولم يلعب الجيش سوى دور ثانوي في النظام. ومع ذلك، شهدت تونس في السنوات الأخيرة احتواء وتقليص المكاسب الديمقراطية للثورة، حيث تولّى الرئيس قيس سعيد سلطات جديدة كاسحة بعد انقلاب العام 2021 والاستفتاء الدستوري الذي جرى في 25 تموز/ يوليو 2022.

ما الذي حدث؟ تلقي تونس بالضوء على سبب الحاجة إلى حزب ثوري. فحتى لو كانت الطبقة الحاكمة عاجزة وقام الشعب بثورة للتو، فإنّ الفكرة المُتعلّقة بضرورة «تعميقها» لتحقيق الهدف المُشترك، الكرامة، تبدو بعيدة كلّ البعد عن الوضوح. يدفع عدم الاستقرار بالناس إلى أيدي أولئك الذين يعدون بأن الدولة والاقتصاد الرأسمالي الذي أُصلِح يمكن لهما أن يخدما الجميع. يكشف إخفاق الديمقراطية الليبرالية في تونس عن عجز هذا الشكل السياسي عن حلّ التناقضات التي أوجدتها الطبيعة غير المتكافئة والمركبة للتطوّر في شمال أفريقيا.

وكما توضح ألكسندر، اعتمدت الثورة المضادة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على الدوام تقريباً، على الجيش لسحق الاحتجاجات والإضرابات. يجب أن تستجيب الحركات لهذا عبر استهداف تقسيم الجيش، واستقطاب الجنود العاديين والرتب الدنيا إلى جانبهم، كما دلّت التجارب قي بقاعٍ أخرى من العالم. النقطة التي أجادت الكسندر في إيضاحها تتمثّل في تبيان تجذّر العسكرة بعمق في التنافس الإمبريالي للسيطرة على المنطقة. ربّما تدعم تحليلها، المُقنِع بالفعل، بواسطة استكشاف التفاعل المتغيّر بين المنافسات الإقليمية والدولية على مدى العقود القليلة الماضية وكيف أثر ذلك على ثورة الكرامة. قد يشمل ذلك النظر إلى دور إيران وروسيا اللتين استغلتا ضعف الإمبريالية الأميركية في مواجهة الاضطرابات الإقليمية وصعود الصين. قد تحلّل أيضاً دور ألمانيا، التي أصبحت قوّة مُهيمنة في أوروبا وفاعلاً غربياً جديداً في شمال أفريقيا، على سبيل المثال، من خلال نشر قواتها في مالي. كل هذا من شأنه أن يؤكِّد سبب أهمّية الأممية. ليس لأن ثورة الكرامة قد ألهمت وأجَّجت النضالات في الشمال العالمي فحسب، بل كذلك لأن المستغلين والسياسيين في الغرب قد حاربوا رغبة شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الكرامة. لا يمكن توضيح هذه النقطة بما فيه الكفاية، لا سيّما للقرّاء الناشطين سياسياً في البلدان الإمبريالية.

غالباً ما تُفسَّر إعادة إنتاج سلطة الدولة بعد سقوط الديكتاتور بغياب البديل. والحقّ، أنه على الرغم من ظهور بدائل للدولة الرأسمالية، إلّا أنها فشلت حتّى الآن في تحقيق التطوّر الكافيلا يمكن ولا ينبغي لأيٍّ من تعليقاتي أن يبخس من قيمة هذا العمل. وضعت ألكسندر كتاباً رائعاً يرفد القراءة الماركسية لثورة الكرامة بأفكارٍ جديدة ويستخلص دروسها الجوهرية. ما من دراسة أخرى تتعقّب نضالات وإمكانيّات الطبقة العاملة عبر بلدان المنطقة في حقبة ما بعد الاستعمار  على هذا  النحو من التفصيل. إن الإعجاب بكتاب ألكسندر لا ينصبّ فحسب على معرفتها العميقة بالمنطقة (يمتدُّ الكتاب بأكمله إلى أكثر من 400 صفحة)، ولكنّه يشمل أسلوبها المشرق في الكتابة، ممّا يجعل الكتاب مناسباً للطلّاب والنشطاء وكلّ من يهتم بالمنطقة والسياسة الراديكالية. ونأمل أن يشقّ طريقه عبر الترجمة إلى لغات أخرى في القريب، وإلى اللغة العربية على وجه الخصوص.

نُشِرت هذه المراجعة في International Socialism في 14 كانون الثاني/ يناير 2023