Preview تصنيف إسرائيل

قراءة لتخفيض تصنيف إسرائيل

خفّضَت وكالة «موديز» تصنيف سندات الحكومة الإسرائيلية بالعملة الأجنبية والمحلّية من A1 إلى A2 مع توقعات مستقبلية سلبية. والسبب الرئيس لهذا التخفيض تقدير «موديز» بأن النزاع العسكري الجاري مع حماس، وتبعاته وعواقبه، يزيد المخاطر السياسية على إسرائيل، ويُضعف مؤسّساتها التنفيذية والتشريعية، وقوّتها المالية في المستقبل المنظور. وفي حين قد تتراجع حدّة القتال في غزة أو يتوقّف مؤقتاً، لكن ما من اتفاق على إنهاء العمليات العدوانية، وما من اتفاق على خطّة بعيدة الأمد من شأنها استعادة الأمن الإسرائيلي وتعزيزه. تنطوي البيئة الأمنية الضعيفة على مخاطر اجتماعية أعلى، وتشير إلى مؤسّسات تنفيذية وتشريعية أضعف مما قيّمته وكالة «موديز» في السابق. وفي الوقت نفسه، تتدهور المالية العامة الإسرائيلية، والاتجاه المزمع في السابق نحو تخفيض نسبة الدين الحكومي قد انعكس الآن.

في غالبية الأحيان لا تؤثّر الأحكام الخارجية على الحكومة الإسرائيلية. إلّا أن هذا الحكم مختلف. فقد قابله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير ماليته المتطرف بتسلئيل سموتريتش بالازدراء. وسارع المسؤولون الإسرائيليون إلى لندن لمناقشة قضيتهم مع وكالات التصنيف. في الوقت نفسه، طالب لوبي الأعمال الإسرائيلي حكومة نتنياهو اليمينية بإعادة النظر في أولوياتها.

لا يظنّ أحد بأنّ أزمة مالية قد توقف الهجوم الإسرائيلي على غزة. فقد بنيت المالية العامة لإسرائيل على تفادي هذا الاحتمال بالذات. لكن المجال المالي مجالٌ تجتمع فيه قوى عدة للتأثير في برنامج نتنياهو العنيف لإعادة تشكيل النظام الجغرافي والديمغرافي في فلسطين. وهو مجالٌ تكون فيه مجموعة القوى المشاركة داخل إسرائيل وخارجها مكشوفة وتُرجَّح كفّتها بحسب أهميتها.

لديون إسرائيل تاريخ سياسي شائك أيضاً. ففي العقود الأولى، لم تكترث إسرائيل بتصنيفها الائتماني. كانت ديونها سياسية خالصة وبسيطة. لكنها راجعت استراتيجيتها قبل ثلاثة عقود، وشرعت في المنافسة بشروط السوق العالمية ونجحت.

تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل

الحرب الباهظة جداً

ارتفع التصنيف الائتماني لإسرائيل مرّة تلو الأخرى، ولم تعرقلها لا الانتفاضة الثانية ولا الحرب على لبنان. ومن هنا، يكتسي تخفيض «موديز» للتصنيف الائتماني في شباط/فبراير 2024 أهمية مزدوجة. فهو ليس التخفيض الائتماني الأول لإسرائيل فحسب، بل الصفعة الأولى التي يوجهها أسيادُ عالم التمويل لاستراتيجية القوة المالية التي شكّلَت التاريخ الإسرائيلي في العقود الأخيرة.

الحرب باهظة جدّاً. لقد حدّد المصرف المركزي لإسرائيل في التقييم الشامل الأول في 27 تشرين الثاني/نوفمبر بنود الكلفة كما يلي: 

تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل
تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل

يقول البنك المركزي الإسرائيلي: 

تستند التوقعات في الجدول الأول إلى افتراض أنّ أثر الحرب في الاقتصاد سيبلغ ذروته في الربع الرابع من العام 2023، ويستمر مع العام 2024 لكن بتناقص. ستُسفِر الحرب عن خسارة 3% في المتوسط في الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام 2024. ونتوقع أنّ يكون أثر الحرب من جانب العرض وجانب الطلب. 

على جانب العرض، نتوقع أن تنعكس التعبئة الواسعة لقوات الجيش الاحتياطي والإغلاق الجزئي للمؤسسات التعليمية، لا سيما في الشهرين الأوليين من الحرب، بانخفاض المعروض من العمل في جميع الصناعات. 

في صناعة البناء على وجه التحديد، نتوقع حدوث أثر بليغ في المعروض من العمل بسبب تقييد دخول العمال من يهودا والسامرة (الضفة الغربية) والوقف الكلي لعمالة غزة. ونتوقع استمرار ظهور الآثار في العام 2024 أيضاً. 

في الزراعة، نتوقع حدوث أثرٍ فادح بسبب مغادرة العمّال الأجانب. إلى جانب التراجع في المعروض من العمل، فقد تضرّرت الطاقة الإنتاجية في مناطق القتال والمناطق المهدّدة بسبب تأثر رأس المال المادي والقدرة على العمل. 

يكتسي تخفيض «موديز» للتصنيف الائتماني في أهمية مزدوجة، فهو ليس التخفيض الائتماني الأول لإسرائيل فحسب، بل  الصفعة الأولى التي يوجهها أسيادُ عالم التمويل لاستراتيجية القوة المالية، التي شكّلَت التاريخ الإسرائيلي في العقود الأخيرة

أما على جانب الطلب، نتوقع أنّ يكون لمشاعر المستهلك السلبية أثر في الطلب الاستهلاكي. كما نتوقع تراجع الطلب على صادرات الخدمات السياحية، حسبما بيّنت لنا الحوادث الأمنية السابقة بأنّ هذا الأثر من المتوقع استمراره لفترة طويلة. بالمقابل، نتوقع حدوث زيادة في الطلب في صناعة البناء في خلال الفترة المنظورة بسبب الحاجة إلى إعادة تأهيل البنى. في ضوء هذه التطورات، نرى استمرارية ارتفاع معدل البطالة العامة بين فئات سن العمل، مع العلم أنّ معدل بطالتها قد ارتفع في الربع الرابع من العام 2023.

منذ تشرين الثاني/نوفمبر، خضعت تقديرات بنك إسرائيل للكلفة النهائية للحرب لمراجعات عدّة، ارتفعت في خلالها بالتدريج لتبلغ في شباط/فبراير 2024، نحو 255 مليار شيكل، أو 69 مليار دولار. وبحسب وكالة موديز، فهذه الكلفة تصل إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي المتوقع لعام 2024.

بيد أنّ الحرب الإسرائيلية ليست بأي حال حرباً شاملة، ومع هذا فإنّ كلفتها تساوي كلفة الحرب الروسية في أوكرانيا الجارية منذ بضع سنوات. لقد قيل إنّ أثر هذه الحرب في الاقتصاد الإسرائيلي في 2023-2024 يشبه أثر صدمة كوفيد.

المديونية الإسرائيلية

إذا كانت إسرائيل تحمل عبء ديون مثل تلك في أوائل تسعينيات القرن العشرين – على غرار إيطاليا اليوم – لتسبّّبت مثل هذه الصدمة بمشكلات عويصة. كان ليصح هذا لو كانت إسرائيل تعتمد بشدة، كما كانت في السابق، على مصادر التمويل الأجنبية. لكنّ الهدف من الاستراتيجية المحافظة منذ التسعينيات، كما أوضحه آري كرامبف، كان على وجه التحديد تجنب مثل هذا السيناريو.

تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل

تخفيض التصنيف الائتماني لإسرائيل

تقف ديون إسرائيل إلى الناتج المحلي الإجمالي اليوم على قدم المساواة مع ديون ألمانيا، وليس إيطاليا. وقبل الصراع، توقعت موديز انخفاض النسبة إلى قرابة 55%. لكنّ الحرب ستدفعها من 60% إلى 67%، ما يجعلها موضوعاً لاشتهاء الصقور الماليين في جميع أنحاء العالم.

إنّ 80% من الاقتراض الإسرائيلي أو أكثر هو بالعملة الإسرائيلية وفي أسواق السندات المحلية. وسوف تستوعب هذه الأسواق المزيد من الديون، حتى لو احتاجت إسرائيل إلى إصدار سندات تصل قيمتها إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي.

تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل

تدير صناديق التقاعد الإسرائيلية وغيرها من المؤسسات الاستثمارية الكبيرة رصيداً إجمالياً قدره 3 تريليونات شيكل من المدخرات. في وقت مبكر من حملة إسرائيل في غزة، تجاوز الاكتتاب في إصدار السندات المحلية الإسرائيلية أكثر من ستة أضعاف.

وإذا تعرضت الأسواق لضغوط فإنّ عائدات السندات سترتفع. وحتى الآن، ظلت أسعار الفائدة الإسرائيلية على الديون بالعملة المحلية على قدم المساواة مع تلك التي تدفعها وزارة الخزانة الأميركية على آجال استحقاق مماثلة.

تخفيض التصنيف الائتماني لاسرائيل

وكما قال يالي روتنبرغ، المحاسب العام لوزارة المالية، في مقابلة مع شبكة بلومبرغ: «نحن قادرون جيداً على تمويل دولة إسرائيل حتى في سيناريوهات أكثر تطرفاً من القتال الحالي».

وحين تنوي إسرائيل الاقتراض من الخارج، فإنّ علاقاتها الممتازة في مجال التمويل العالمي تعني أنّها تستطيع تجنّب الاكتتاب العام على السندات لصالح الاكتتابات الخاصة عبر بنوك وول ستريت، مثل مجموعة غولدمان ساكس أو دويتشه بنك. وكما قال روتنبرغ لبلومبرغ: «كانت عمليات طرح السندات الدولية الأخيرة لإسرائيل لجهات استثمارية مؤسسية كبرى تؤمن حقاً بإسرائيل حتى في حالة الحرب... هذه رسالة قوية منها للجميع».

وفي كانون الثاني/يناير وحده، تمكنت إسرائيل من تنفيذ أربع صفقات ديون خاصة جمعت ما مجموعه 1.7 مليار دولار. وعلى صعيد العام ككل، يتوقع المحللون أنّ إسرائيل قد تحصل على 10 مليارات دولار من التمويل الخاص. ومعدلات الفائدة على هذه القروض أعلى من معدلات الديون بالعملة المحلية. إذ إنّ 500 مليون دولار من الديون المستحقة في العام 2027 والصادرة في البرازيل في كانون الثاني/يناير، تحمل عائداً مكافئاً للدولار يبلغ حوالي 5.3%.

تأنيب موديز لإسرائيل

على أي حال، لقد أفضى «تأنيب» إسرائيل من قبل «موديز» إلى تسخين النقاش داخل السياسة الإسرائيلية بشأن أولويات إدارة نتنياهو.

حين أصدر بنك إسرائيل تقريره الشامل الأول عن الأكلاف المحتملة للحرب في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، لم يكن فعله مجرد عملية تحليلية. وكما ذكرت غاليت ألشتاين من بلومبرغ:

حذر المحافظ أمير يارون من أنّ «الإرهاصات المالية» للحرب ستستمر على المدى المتوسط وحث الحكومة على توخي الحذر وهي تضع موازنة جديدة. وقال: «إلى جانب الحاجة إلى توفير استجابة من الموازنة للاحتياجات التي خلقتها الحرب، فإنّه في أوقات الطوارئ أيضاً، تبرز أهمية كبيرة للحفاظ على إطار مالي مسؤول. من المهم أن تخفض الحكومة النفقات الجديدة ذات الطبيعة المطولة»... يدور نقاش في إسرائيل عن التغييرات في موازنتها الحالية، حيث انتقد مسؤولو البنك المركزي مؤخراً إحجام الحكومة عن إلغاء الإنفاق على البرامج الدينية ومستوطنات الضفة الغربية في وقت تتعرّض فيه لضغوط لجمع المال لتمويل المجهود الحربي... في غضون ذلك، تصاعدت التوترات بشأن المخصصات الخاصة بين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومنافسه السياسي، وزير الدفاع السابق بيني غانتس، الذي شكّل مؤخراً حكومة وحدة وطنية طوال مدة الحرب. وقال غانتس إنّ حزبه «سينظر في خطوات مستقبلية» إذا ظل التمويل الاستنسابي في الموازنة الجديدة.

درّس يارون في السابق مادة التمويل في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا. وتدخل مراراً وتكراراً في كل من مسائل السياسة المالية الإسرائيلية في ائتلاف نتنياهو ومسألة استقلال القضاء.

جاء رد الفعل الرئيس في سوق مقايضات العجز عن سداد الائتمان، حيث أشارت الأسعار إلى أن خطر التخلف عن السداد في إسرائيل أصبح الآن على قدم المساواة مع المكسيك وإندونيسيا

عاجل آفي سمحون، رئيس المجلس الاقتصادي الوطني لنتنياهو، إلى الرد:

إنّ بنك إسرائيل وقسم الموازنات كمن يرتدي بنطالاً بحزامٍ وحمالات ومع ذلك يرفعه بيديه. إنّ للتحفظ المفرط ثمن... «أخبرني قسم الموازانات أنّ مؤشر المخاطر في إسرائيل يعكس مخاطر عالية. أي أنّ دولة إسرائيل كانت في خطر رهيب. ردي كان: كلام فارغ».

في 1 كانون الثاني/يناير، رأى البنك المركزي أنّ التضخم تحت السيطرة والأسواق المالية مستقرة بما يكفي لخفض أسعار الفائدة إلى 4.5. لكن العبء المالي للحرب ظل مصدر قلق كبير وفي 10 كانون الثاني/يناير عاد يارون إلى الواجهة:

في رسالة بعث بها صباح الأربعاء إلى نتنياهو ووزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، حثّ يارون على إجراء تعديلات فورية في الموازنة لخفض النفقات وزيادة الإيرادات في خلال العامين المقبلين. بعض الخطوات التي وضعها لا تحظى بشعبية كبيرة ومن غير المرجح أن تتخذها الحكومة في الوقت الحالي. وقال يارون: «مهمتنا اليوم القيام بنشاط قوي وحاسم – على الرغم من كل الصعوبات والتحديات التي ينطوي عليها الأمر، ما سيعزّز القوة الاقتصادية والمالية للاقتصاد الإسرائيلي ويجنبنا السنوات الضائعة»... ينصب تركيز يارون في الرسالة على إجراءين محددين كانت حكومة نتنياهو متردّدة في تبنيهما: زيادة معدل ضريبة القيمة المضافة بنسبة 17% وإلغاء المزايا الضريبية الموعودة منذ فترة طويلة للآباء والأمهات الذين لديهم أطفال صغار.

في الأيام التي تلت ذلك، التف قادة الأعمال حول دعوات يارون إلى تخفيض المخصصات، لا سيما الأموال الاستنسابية التي خصصها الائتلاف لدفع أكلاف مشروعات حلفاء نتنياهو الدينيين. منذ الخريف، كانت تحالفات الاقتصاديين وخبراء الأعمال تضغط باسم اقتصاد الحرب لخفض تمويل الائتلاف لليمين الديني. في كانون الثاني/يناير 2024 عادوا إلى المعركة:

مع اقتراب التصويت في مجلس الوزراء، دعت رسالة، وقعها 200 من كبار قادة الأعمال والرؤساء التنفيذيين في إسرائيل، الحكومة إلى تجنب «الإضرار بالقوة الوطنية والاقتصادية لإسرائيل»، وطالبوها بالنظر في خطر خفض التصنيف الائتماني المحتمل. وهذه وجهة نظر ردّدها دوف كوتلر، رئيس أحد أكبر بنكين في البلاد: «الأولويات الوطنية يجب أن تتغير»، قال كوتلر، المدير العام لبنك هبوعليم، في مقابلة نادرة. «لنبقي أي شيء يدعم الدفاع والنمو، ولنتخلص من كل شيء آخر».

رد سياسي على تخفيض التصنيف

حين اتفِقَ أخيراً على الموازنة في الحكومة في 16 كانون الثاني/يناير، صوّت غانتس وحلفاؤه في حزب الوحدة الوطنية ضدها.

يقدّم البرنامج المالي الذي يدعمه مجلس الوزراء مزيجاً من الإجراءات مثل زيادة الضرائب وخفض الإنفاق – بما في ذلك خفض بنسبة 5% من موازنات الوزارات – للمساعدة في التعامل مع الزيادة الحادة في الإنفاق إلى 582 مليار شيكل هذا العام.

إذا وصلت الكلفة في إجمالي الإنفاق الدفاعي إلى 107 شيكل، كما قدّر البنك المركزي في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ السياسيين الأميركيين يخططون لتعويض إسرائيل عن نصف كلفة حملة التدمير التي تشنها تقريباً

ارتفع معدل ضريبة القيمة المضافة. ورُفِعت الضريبة على أرباح المصارف. ومن المزمع تخفيض بنسبة 15% في العديد من البرامج الموجهة إلى المجتمع العربي في إسرائيل.

بيد أنّ البرنامج لم يمس العديد من النفقات المثيرة للجدل على المؤسسات الدينية وغيرها من القضايا السياسية، التي يدافع عنها حلفاء نتنياهو من الحريديم واليمين المتطرف المحتاج إلى دعمهم للبقاء في السلطة.

كما خُفِّضَت «أموال الائتلاف» – وهي مخصصات استنسابية بقيمة 8 مليارات شيكل مخصصة للأحزاب الخمسة التي تشكّل الحكومة – بأقل بكثير مما طالب به المنتقدون من مؤسسة الأعمال.

وكما علّق أندرو عبير، نائب محافظ البنك المركزي: «يدور عمل الحكومة حول تحديد الأولويات، ويتعين على أي حكومة أن تضع شكلاً من أشكال تحديد الأولويات حول مبالغ الإنفاق أو، من ناحية أخرى، الضرائب التي تفرضها». وفي الوقت نفسه، بارك الحاكم يارون التسوية الوزارية من دافوس، معلناً دعمه لجهود الحكومة لتثبيت الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عند 67%. وقال في مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ: «الخطوات المتخذة لتحقيق الاستقرار في ديون إسرائيل المستقبلية تشكّل رسالة مهمة جداً إلى الأسواق».

لكن رأت الأسواق من جانبها بوادر هذا الأمر. حين أعلنت وكالة «موديز» قرارها بتخفيض التصنيف في 9 شباط/فبراير، ووضع إسرائيل على قدم المساواة مع الأسواق الناشئة مثل بولندا وتشيلي، كانت الأسواق قد أخذت هذه الأخبار في حسبانها. وجاء رد الفعل الرئيس في سوق مقايضات العجز عن سداد الائتمان، حيث أشارت الأسعار إلى أن خطر التخلف عن السداد في إسرائيل أصبح الآن على قدم المساواة مع المكسيك وإندونيسيا.

ولم يستوعب وزير المالية سموتريتش أنباء خفض وكالة موديز للتصنيف الائتماني. ورفض تقييم موديز ووصفه بأنّه «بيانٌ سياسي يستند إلى نظرة جيوسياسية متشائمة لا أساس لها من الصحة». وأصدر رئيس الوزراء نتنياهو بياناً أعلن فيه: «هذا يرجع بالكامل إلى حقيقة أنّنا في حالة حرب. سيرتفع التصنيف مرة أخرى بمجرد أن نكسب الحرب». كان السؤال الذي يدور في ذهن السوق: هل الحرب على وشك التوسع.

وكما أفاد تقرير بلومبرغ، فقد اعترض يالي روتنبرغ، المحاسب العام، على تحليل موديز: «نُكِّن الكثير من الاحترام لوكالة موديز، لكنّ قرارها لا يتوافق مع بيانات الاقتصاد الكلي والبيانات المالية». وقال روتنبرغ إنّ مزادات وزارة المالية للسندات يوم الاثنين جذبت طلباً قياسياً من المستثمرين المحليين وعاد سعر الفائدة إلى مستويات ما قبل الحرب، الأمر الذي وصفه بأنّه علامة على ثقة السوق بعد خفض التصنيف. وقال في مكالمة مع الصحافيين «حتى وإنْ كان قرار موديز مهنياً، فإنّه يتضمن عناصر جيوسياسية أُعطِيَت، في رأينا، وزناً مبالغاً فيه».

ما هو موقف لوبي الأعمال؟

جاء رد فعل لوبي الأعمال أقل هدوءاً:

تخفيض التصنيف الائتماني والتوقعات الائتمانية السلبية، هي «تطورات خطيرة لم نشهد مثلها منذ 36 عاماً، حتى خلال الحروب والتحديات السابقة التي تعاملنا معها»، هكذا حذر منتدى الأعمال الإسرائيلي الذي يمثل مجموعة من أكبر 200 شركة في إسرائيل، بينها أكبر أصحاب العمل في القطاع الخاص. وقال منتدى الأعمال في بيانه إنّ إجراء موديز كان «دليلاً آخر على أنّ الموازنة المقترحة لعام 2024 ليست متوازنة ولا تركز بما فيه الكفاية على إجراءاتٍ تدعم النمو وإعادة تأهيل وانتعاش الاقتصاد في المستقبل. نعتقد أنّ الأوان لم يفت بعد لتقديم موازنة مسؤولة بعجز أقل وبترتيب للأولويات ينحاز نحو دعم النمو، مع تشجيع الابتكار والإبداع والإنتاجية. ولعل مقترحاً كهذا كان ليؤدي إلى نتيجة مختلفة، بل أيضاً يستبعد النظرة المستقبلية السلبية إلى الاقتصاد».

الدعم الأميركي الهائل يخفّف من الضغوط المفروضة على الحكومة الإسرائيلية لحملها على مراجعة أولوياتها الداخلية، ويقدم تأييداً سخياً للجهود التي تبذلها إسرائيل لمحو القضية الفلسطينية بالقوة الغاشمة

وبحسب صحيفة هآرتس، فإنّ وزارة المالية الإسرائيلية تحت قيادة وزيرها المتعصب منقسمة بشدة.

إنّ الأقسام المختلفة في الوزارة في خضم حرب عصابات شعواء حول قضايا السياسة مثل موازنة 2024. ولكن محصلة الأمر صراعٌ على السلطة ونزاعات حول من يقع عليه اللوم في التسريبات إلى وسائل الإعلام. وأعرب العديد من المسؤولين يوم الأحد عن غضبهم من أنّ قسم المحاسب العام ورئيسه، يالي روتنبرغ، لم يبقيا أقسام الوزارة الأخرى على اطلاع على نية «موديز» خفض التصنيف من A1 إلى A2. ولم يعلموا بالقرار إلا من التقارير الإعلامية بعد صدور التقرير، على الرغم من أنّ الوكالة ابلغت المحاسب العام بقرارها في نهاية الأسبوع السابق. وقام روتنبرغ بإخطار سموتريتش والمدير العام للوزارة، شلومي هايزلر، لكنّه رفض إخبار أي شخص آخر في وزارة الخزانة، ولا سيما قسم الموازنة. كان روتنبرغ قلقاً، حسبما يفترض، من تسريب خبر تخفيض التصنيف إلى الصحافة في انتهاك لسياسة «موديز».

في 12 شباط/فبراير، طار روتنبرغ إلى لندن لإجراء محادثات مع «موديز» و«فيتش» على أمل الحد من الأضرار. وستنشر «فيتش» أحدث آرائها بشأن إسرائيل في آذار/مارس و«ستاندرد آند بورز» بحلول أيار/مايو. تمنح «ستاندرد آند بورز» إسرائيل أعلى تصنيف بين الوكالات الثلاث.

لكن ما هو على المحك في هذه الصراعات حول الموازنة ومستقبل إسرائيل المالي ليس الأرقام الاقتصادية فحسب. لم تبدأ إعادة تقييم «موديز» للوضع الإسرائيلي في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بل بدأت الوكالة في مراجعة تصنيف إسرائيل في خلال الأزمة الدستورية التي أثارها هجوم نتنياهو على القضاء في ربيع العام 2023. وما هو على المحك الآن يتجاوز الوضع المالي المباشر، وهو الاستراتيجية الكاملة لـ«السلام الاقتصادي» في الشرق الأوسط والأساس المنطقي للهجوم الإسرائيلي الوحشي المتواصل على غزة.

وكما يعلق أنطونيو بيتا في إل بايس بطريقة ذكية: ليست تفاصيل السياسة المالية دون غيرها ما يشغل وكالة التصنيف. إذ تقر وكالة «موديز» بسلامة الاقتصاد الوطني في تقريرها، وقد فعلت ذلك بحكم الأمر الواقع من خلال الانتظار أربعة أشهر لخفض تصنيف السندات. ففي نزاعات أخرى، كان القرار فورياً. لكنّه بالأحرى الإحساس بأنّ لا أحد يعرف بالضبط معنى «النصر الكامل» الذي يطمح إليه نتنياهو، أو متى سيأتي.

المشاركة الأميركية في الحرب وتمويلها

وعلى هذه الخلفية يجب أن نقيّم المساعدات المالية التي وعدت بها واشنطن إسرائيل. فالمساعدات التي تدفعها إدارة بايدن والكونغرس ترقى إلى دعم غير مبرر بقيمة 14.5 مليار دولار. وإذا أخذنا من تقدير بنك إسرائيل البالغ 255 مليار شيكل دليلاً لنا، فإنّ واشنطن تَعِدُ بتغطية 20% من إجمالي أكلاف الحرب الإسرائيلية. وإذا وصلت الكلفة في إجمالي الإنفاق الدفاعي إلى 107 شيكل، كما قدّرً البنك المركزي في تشرين الثاني/نوفمبر، فإنّ السياسيين الأميركيين يخططون لتعويض إسرائيل عن نصف كلفة حملة التدمير التي تشنها تقريباً. وتسارع الولايات المتحدة إلى تقديم هذه المساعدات، على الرغم من أنّ إسرائيل، كما يصر التكنوقراط الماليون الإسرائيليون، أكثر من قادرة على دفع ثمن حربها. وإذا فعلت ذلك، فإنّ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل ستكون أقل بكثير من تلك التي سيأتي بها دافعو الضرائب الأميركيون.

بيد أنّ الغرض من المساعدات الأميركية أولاً وقبل كل شيء تلبية الضرورات السياسية المحلية. ولأسباب خاصة بهم، يريد الساسة الأميركيون أن ينظر إليهم على أنّهم ينفقون أموال دافعي الضرائب الأميركيين على إسرائيل. وفيما يتعلق بإسرائيل، فإنّ أثر المساعدات ليس مالياً أو اقتصادياً في المقام الأول. بل أثره الرئيس سياسي. وخلافاً لوكالة «موديز» التي يضع تخفيضها مسار السياسة الداخلية والخارجية الإسرائيلية موضع تساؤل، فإنّ الدعم الأميركي الهائل يخفّف من الضغوط المفروضة على الحكومة الإسرائيلية لحملها على مراجعة أولوياتها الداخلية، ويقدم تأييداً سخياً للجهود التي تبذلها إسرائيل لمحو القضية الفلسطينية بالقوة الغاشمة.

إذا كان تخفيض تصنيف وكالة «موديز» يستند كما يقول سموتريتش إلى نظرة جيوسياسية للعالم، فإنّ المرء يتساءل عما إذا كانت الوكالة لا تقلل من شأن القوى التي تدعم حملة إسرائيل العنيفة والمكلفة.

نشر هذا المقال على مدوّنة أدم توز في 15 شباط/فبراير 2024.

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.