معاينة الجامعات الإسرائيلية من أعمدة نظام التمييز العنصري

الجامعات الإسرائيلية من أعمدة نظام التمييز العنصري

في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة، دمّرت إسرائيل كلّ جامعة فلسطينية في القطاع بالقصف الجوّي أو التفجير المخطّط. وأمست المختبرات الطبّية والهندسية وقاعات المحاكم التدريبية في كلّيات الحقوق وقاعات التخرّج والمقتنيات الثريّة من الكتب والقطع الفنية والأرشيفات والآثار جميعها مدمّرة بالكامل، لتنمحي بلمح البصر عقود من الحياة الأكاديمية والسياسية الفلسطينية.

لمؤسّسات التعليم العالي الإسرائيلية «دور أساسي في تخطيط الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري وتنفيذهما وتبريرهما»

هذه الحرب على التعليم الفلسطيني، أو ما أسمته كرمة النابلسي «إبادة التعليم»، مكوّن أساسي في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين. ولم تبدأ للتو، بل تجري منذ 75 سنة. وللوقوف على كيفية استمرار هذه الحرب، لا يكفينا النظر إلى الجيش الإسرائيلي والصناعات العسكرية، ولا إلى حكومة اليمين المتطرّف الإسرائيلي، بل علينا النظر بعد هذه وتلك إلى مفخرة إسرائيل الليبرالية – وأعني جامعاتها.

لاقت الجامعات الإسرائيلية لعقود عدة احتفاءً في الغرب لحريتها الاستثنائية. روّجَت جامعة كولومبيا عند إطلاقها برنامجها الوحيد عن الشرق الأوسط بالشراكة مع جامعة تل أبيب في العام 2020، عن شريكتها الإسرائيلية بأنّها جامعة «تشارك مدينة تل أبيب روح الانفتاح والابتكار فيها – وتفتخر بحياة جامعية لا تختلف في ديناميّتها وتعدّديتها عن حياة المدينة نفسها».

وجامعة كولومبيا ليست وحدها مَن يصف الجامعات الإسرائيلية بمعاقل ليبرالية للتعددية والديمقراطية ووحدها الجديرة بالشراكات العلمية من بين جامعات المنطقة. ففي العام 2022، منحت مؤسسة فريدوم هاوس الأميركية إسرائيل درجة 3 من 4 على مؤشر الحرية العلمية، زاعمةً أن «الجامعات الإسرائيلية كانت منذ زمن مراكز للمعارضة وأبوابها مفتوحة أمام جميع الطلبة».

في تلك السنة نفسها، صنّف معهد «فارايتيز أوف ديموكراسي» الأوروبي إسرائيل ضمن فئة الـ10% الأعلى بين بلدان العالم من حيث الحرية العلمية. تعكس هذه التقديرات الرواية الإسرائيلية الأكاديمية بأنّها «ملتزمة التزاماً راسخاً لا يتزعزع بالتميّز والتعدّدية الثقافية والتعدّد وقضية السلام».

بيد أن هذا التوافق الغربي الواضح قد كان موضع اعتراض وتساؤل الفلسطينيين. في العام 2004، أطلقت مجموعة من الأكاديميين والمفكّرين الفلسطينيين حملة للمقاطعة الأكاديمية والثقافية، ودعت الباحثين حول العالم إلى مقاطعة المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية، وعلَّلت دعوتها بأن هذه المؤسّسات ضالعة منذ عقود في «نظام القمع» الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين.

وتجزم الحملة بأنّ لمؤسّسات التعليم العالي الإسرائيلية «دور أساسي في تخطيط الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الفصل العنصري وتنفيذهما وتبريرهما». والحملة لا ترى في المقاطعة الأكاديمية مجرّد وسيلة لغاية ما، بل استهدافاً استراتيجياً للأكاديميا الإسرائيلية لكونها «من أركان هذا النظام القمعي».

مقاطعة الجامعات الإسرائيلية

بعدها بوقت قصير، في العام 2005، اجتمعت 170 مجموعة من منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية – بينها النقابات العمّالية وجمعيات حقوق اللاجئين والمنظّمات النسائية واللجان الشعبية القاعدية وشبكات المنظّمات غير الحكومية – وأطلقت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).

يدعو الباحثون الإسرائيليون إلى ترديد لازمة واحدة مؤداها: لعل الظلم المرتكب ضد الفلسطينيين موجود ولعله ليس موجوداً؛ لكن حتى لو وقع ذلك الظلم، فهذا لا شأن لنا به

بإلهام من الحركة الجنوب أفريقية لمناهضة الفصل العنصري، يدعو الفلسطينيون إلى حركة المقاطعة كوسيلة لممارسة الضغط على إسرائيل لتلبية المطالب الأساسية الثلاثة للمجتمع المدني الفلسطيني على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة: أولاً، إنهاء استعمار الأراضي العربية وتفكيك الاحتلال العسكري والجدار؛ ثانياً، الاعتراف بالحق في المساواة الكاملة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل؛ ثالثاً، احترام حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة وتشجيعه.

وقد استجاب الكثيرون في المجتمع الدولي للنداء الفلسطيني. فقد تبنّت بعض الجمعيات الأكاديمية في أميركا الشمالية قرارات حركة المقاطعة على مدى العقد الماضي، من بينها جمعية الأنثروبولوجيا الأميركية، وجمعية الدراسات الأميركية، وجمعية دراسات الشرق الأوسط، وجمعية دراسات الأميركيين الأصليين والسكّان الأصليين. وبالمثل تبنّتها نقابات أعضاء هيئة التدريس واتحادات طلبة الدراسات العليا. وفي أوروبا، صوّت لصالح تأييد المقاطعة اتحادُ المعلمين في أيرلندا والجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط والاتحاد الوطني للطلاب في المملكة المتحدة وغيرها من المؤسّسات. تكتسب المقاطعة الأكاديمية، المدعومة بتحالفات واسعة والمُعتمَدة بالتصويت على القرارات بعد مناقشتها بعناية، زخماً في جميع أنحاء العالم.

كان رد الفعل العكسي على هذه الحركة المتنامية شديداً. استخدمت الحكومة الإسرائيلية والمنظّمات الصهيونية الدولية الدعاوى القضائية والضغط والتشريعات وما يسمّيه النشطاء ومنظّمات الحقوق المدنية «حملات الترهيب والتشهير» لاعتراض الحركة أو شيطنتها أو حتى تجريمها أينما اكتسبت زخماً. عكَّرَ الجدل حول المقاطعة الأكاديمية صفو الجامعات في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا وجنوب أفريقيا وأصبح محورياً في المناقشات حول العرق والعدالة ومعنى الحرية الأكاديمية في التعليم العالي.

مع استثناءات نادرة، ردّ الأكاديميون الإسرائيليون على حملة المقاطعة بمعارضة ساحقة وغاضبة في كثير من الأحيان. ومن مختلف ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، شكّل أعضاء هيئة التدريس حملات جيّدة التنسيق تقف في مواجهة أي مبادرة لدعم المقاطعة، وغالباً ما تكون مدعومة بالتمويل والآراء المقدّمة من الدولة الإسرائيلية نفسها. وهؤلاء الباحثون الإسرائيليون – ممثّلو حجج الدولة الإسرائيلية في محكمة الرأي العام في الأوساط الأكاديمية الدولية – يدعون إلى ترديد لازمة واحدة مؤداها: لعل الظلم المرتكب ضد الفلسطينيين موجود ولعله ليس موجوداً؛ لكن حتى لو وقع ذلك الظلم، فهذا لا شأن لنا به.

في معرض معارضته للتصويت الأول على المقاطعة الأكاديمية من قبل جمعية الأنثروبولوجيا الأميركية في العام 2015، نشر عالم الأنثروبولوجيا الإسرائيلي البارز دان رابينوفيتش دفاعاَ تبريرياً عن التعليم العالي الإسرائيلي وجَّهه إلى الخارج في الطبعة الإنكليزية من صحيفة هآرتس. وكتب: «إسرائيل تلحق الظلم بالفلسطينيين، إلّا أنّ تحميل وزره للجامعات سخف».

وهذا الادعاء من الباحثين الإسرائيليين بأنّهم مجرّد متفرّجين صار محورياً في استراتيجية معارضتهم، لا سيما مع تزايد الدعم العالمي للمقاطعة الأكاديمية. واستباقاً لتمرير قرار جمعية دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية تأييد المقاطعة في العام 2022، بنى الأكاديميون الإسرائيليون قضيتهم على البراءة المؤسّسية والفردية.

وأكّدت جمعية دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية الإسرائيلية أنّ المجموعة «لا سياسية» والجامعات الإسرائيلية بالمثل ليست مسؤولة عن سياسة الحكومة. وناشدت في الوقت نفسه الجمعية الأميركية بألّا «تعاقب» الأكاديميين الإسرائيليين لمجرّد «التجريم بحكم التبعية».

حاجب الليبرالية

بعدما أعلن الأكاديميون الإسرائيليون أن لا دور لجامعاتهم وجمعياتهم الأكاديمية في قمع إسرائيل للفلسطينيين – «حتى لو كان» هذا القمع موجوداً – سارعوا إلى الادعاء بأنّهم في الواقع هم مَن يتعرضون للقمع. وبذلك يقوّض الأكاديميون الإسرائيليون الحجة المؤيدة للحقوق الفلسطينية لغاياتهم الخاصة – وعلى وجه التحديد، تقويض الحقوق الأكاديمية للباحثين والطلاب الفلسطينيين. ويجادلون بأنّ الحرية الأكاديمية وحقوق الباحثين الإسرائيليين معرضة لخطر الانتهاك، ويحاسَبون ظلماً على مظالم لا يتحمّلون أي مسؤولية عنها. هذا الادعاء يشوّه دعوة الحركة لمقاطعة المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية وليس الباحثين الأفراد. إلّا أنّ الغالبية المطلقة من الأكاديميين الإسرائيليين تواصل الاحتجاج على ما يصرّون بأنّه موجّه إليهم على أساس شخصي.

ينضم الباحثون الإسرائيليون الليبراليون إلى مواطنيهم اليمينيين في معارضتهم للمقاطعة الأكاديمية، بحجة أنّ الجامعات الإسرائيلية وأعضاء هيئة التدريس فيها يُستهدفون عن طريق الخطأ، وبالتالي ظلماً

ومع توسع النقاشات عن المقاطعة الأكاديمية في الساحة الأكاديمية الغربية، برز بعض الباحثين الإسرائيليين كسدنة للنقاش. ومن الغريب أنّ هؤلاء الباحثين يصفون أنفسهم في غالبية الأحيان بالتقدّميين الذين يجادلون – أمام جمهور دولي – بأنّهم يدعمون الحقوق الفلسطينية لكنهم يعارضون المقاطعة الأكاديمية. في الواقع، كثيراً ما يقيم العلماء والجمعيات الإسرائيلية اللذان يصفان نفسيهما بالتقدميين معارضتهما على هذا التحديد بالذات.

وقال عالم الأنثروبولوجيا باروخ كيمرلينغ إنّ «معظم الأصوات الإنسانوية والمعارِضة في إسرائيل تأتي من صفوف الأكاديميا، أو يدعمها أعضاء هيئة التدريس». واعترف كيمرلينغ بأنّه لا يمكن عدّ جميع أعضاء الأكاديميا الإسرائيلية من بين مؤيدي الحقوق الفلسطينية، لكنّه أصرّ على امتناع المجتمع الأكاديمي الدولي عن إقرار المقاطعة، وذلك لحماية الجامعات الإسرائيلية لكونها منصة للتعبئة التقدمية.

وفي الآونة الأخيرة، في العام 2023، عارضت جمعية الأنثروبولوجيا الإسرائيلية التصويت الثاني على المقاطعة الأكاديمية في جمعية الأنثروبولوجيا الأميركية، مدعيةً بأنّه سيكون من غير المجدي مقاطعة الجامعات الإسرائيلية التي هي، في الواقع، «في طليعة النضال من أجل الحفاظ على الديمقراطية والمساواة في الحقوق».

وعلى هذا، ينضم الباحثون الإسرائيليون الليبراليون إلى مواطنيهم اليمينيين في معارضتهم للمقاطعة الأكاديمية، بحجة أنّ الجامعات الإسرائيلية وأعضاء هيئة التدريس فيها يُستهدفون عن طريق الخطأ – وبالتالي ظلماً. وهم يفعلون ذلك على أساس الادعاء بوجوب تمييز الجامعات الإسرائيلية مؤسسياً عن الدولة الإسرائيلية. وقد أخذ المجتمع الأكاديمي الغربي لفترة طويلة جداً بهذه الادعاءات من دون تمحيص.

الجامعة الاستيطانية الإسرائيلية

قامت الدولة الإسرائيلية على أساس التهجير الجماعي للفلسطينيين، بهدف إقامة غالبية يهودية تكون أساساً لدولةٍ يهودية. وكانت الأكاديميا الإسرائيلية ضالعة منذ البداية في مشروع التصفية والإحلال الاستعماري الاستيطاني هذا. وبالفعل، فقد أسست الحركة الصهيونية ثلاث جامعات، من قبل إقامة إسرائيل، والغرض منها بكل وضوح خدمة الأهداف التوسعية في فلسطين.

أنشأت ميليشيا الهاغاناه، فيلقَ العلوم الذي فتح قواعد في الجامعات الثلاثة لإجراء الأبحاث في القدرات العسكرية وصقلها. وطوال حرب 1948، ساعدت الجامعات على استمرارية التهجير الجماعي للفلسطينيين لإقامة دولة إسرائيل

أُسِّسَت في البداية، في العام 1918، الجامعة العبرية لتكون جامعة ومركزاً لتشكيل هوية وأمة يهودية صهيونية جمعية جديدة. بموقعها على جبل المشارف، بُنيَت هذه الجامعة هناك لتكون قاعدةً استراتيجيةً لمطالبة الحركة الصهيونية بالقدس. وبالمثل، أُسِّس معهدا التخنيون ووايزمان في حيفا ورحوفوت على التوالي لدفع عجلة التطوّر العلمي والتقني لإسرائيل بصفتها دولةً يهودية على أرض فلسطين التاريخية.

في الفترة السابقة على حرب 1948، جرى تجنيد مؤسّسات التعليم العالي الثلاث هذه مباشرة لدعم التجريد العنيف المطلوب للتوسّع الصهيوني. أنشأت الميليشيا الصهيونية الرائدة، الهاغاناه، فيلقَ العلوم وقد فتح هذا الفيلق قواعد في الجامعات الثلاثة لإجراء الأبحاث في القدرات العسكرية وصقلها. وطوال حرب 1948، ساعدت الجامعات على استمرارية التهجير الجماعي للفلسطينيين لإقامة دولة إسرائيل. فقام أعضاء هيئة التدريس والطلاب بتطوير الأسلحة وتصنيعها، ووضعوا حرمهم الجامعي ومعداتهم وخبراتهم في خدمة الميليشيات الصهيونية أثناء تهجيرها للفلسطينيين من أراضيهم.

مع إقامة إسرائيل، واصلت الدولة مشروع الإحلال المكاني والديموغرافي هذا، وأطلقت عليه رسمياً اسم «التهويد». ومع أواخر ستينيات القرن العشرين، توسّع برنامج «التهويد» الإسرائيلي على جيهات متعددة. واليوم، أُقيمَت جامعات إسرائيلية جديدة لترسيخ هذا المشروع المكاني والديموغرافي، إذ شيّدت حرمها الجامعي كبؤر استيطانية استراتيجية زادت كلاً من التطويق الفلسطيني والتوسّع الاستيطاني اليهودي.

في أكبر مدينة ذات غالبية فلسطينية، الجليل، طوّرت إسرائيل ومنحت الاعتماد الكامل لجامعة حيفا في العام 1972. وفي العام نفسه، بنت إسرائيل جامعة بن غوريون في وسط النقب، وهي المنطقة المعروفة في إسرائيل باسم (Negev) والأقل كثافة سكانية من اليهود الإسرائيليين.

بعد العام 1967، خلقت الجامعات الإسرائيلية حقائق على الأرض في شكل مستوطنات يهودية دائمة في الأرض الفلسطينية المحتلة. ووسعت الجامعة العبرية حرمها الجامعي في جبل المشارف إلى القدس الشرقية المحتلة، في حين حصلت جامعة أريئل على الاعتماد الكامل في العام 2012 لتكون أحدث جامعة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. وعلى مدار ما يزيد عن قرن، خُطِّطت الجامعات الإسرائيلية وبُنِيَت لتكون ركائز للهندسة الديموغرافية الإقليمية وتجريد الفلسطينيين من الملكية.

تتعاون الجامعات الإسرائيلية مع شركات الأسلحة الإسرائيلية في بحوث التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي والدولة الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة

وجاء احتلال قطاع غزة والضفة الغربية في العام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، ليرسّخ كيفية إنتاج الأوساط الأكاديمية للمعرفة لصالح الحكم العسكري الإسرائيلي. فالمطالبة بأراضٍ جديدة مع التمييز في حكم المواطنين اليهود والفلسطينيين، وكذلك الرعايا الفلسطينيين تحت الاحتلال العسكري، تتطلب قدرات جديدة ومعززة. 

أتت التخصصات الأكاديمية المتنوعة على الفور لتنتج هذه المعرفة كي تستخدمها الدولة الإسرائيلية، وبذلك وسّعت حدودها العلمية. وما فتئ علم الآثار والدراسات القانونية ودراسات الشرق الأوسط، من بين مجالات أخرى في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، يخدم الدولة ويحافظ على نظام الفصل العنصري.

لم يتطوّر إنتاج المعرفة الأكاديمية الإسرائيلية من خلال العلاقات مع الحكومة الإسرائيلية فحسب، بل كان في كثير من الأحيان موجّهاً نحو التطبيقات العسكرية المباشرة. صمّمت الجامعات الإسرائيلية – ولا تزال تدير – برامج أكاديمية مصمّمة خصيصاً لتدريب الجنود وقوات الأمن على القيام بعملهم وتحسين عملياتهم.

كان تطور التعليم العالي الإسرائيلي مقروناً مع صعود الصناعات العسكرية الإسرائيلية، ولا تزال الجامعات الإسرائيلية تدعمها. قامت شركتا «رافائيل» و«إسرائيلي أيروسبيس إندستريز»، وهما من أكبر صنّاع الأسلحة في إسرائيل، على أساس البنية التحتية التي وضعها معهد وايزمان والتخنيون. واليوم، تتعاون الجامعات الإسرائيلية مع شركات الأسلحة الإسرائيلية في بحث وتطوير التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي والدولة الأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولاحقاَ تباع هذه التكنولوجيا في الخارج بصفتها مختبرة ميدانياً أو «مثبتة في المعركة».

من القمع إلى إبادة التعليم

شكّل الالتزام المؤسسي للجامعات الإسرائيلية تجاه الدولة فرص وخبرات أعضاء هيئة التدريس والباحثين الفلسطينيين المبتدئين. وبعد عقود من منع البحث النقدي، في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، فتح الفلسطينيون وبعض العلماء اليهود الإسرائيليين أبواباً جديدة لاستكشاف تاريخ العنف والقمع وبُناه في الدولة الإسرائيلية.

منذ إنشائها، كانت الجامعات الفلسطينية يحكمها الجيش الإسرائيلي، ويُخضِعُها ليمنعها من التحوّل إلى مواقع للمقاومة الفلسطينية

وهذا البحث وما أثاره من مناقشات وُصِفَت على الفور بأنّها تتعدّى الحدود، وتعرَّضَ الباحثون وأعضاء هيئة التدريس لحملات مضايقة وإسكات. وقد تصاعد رد الفعل العنيف هذا على مدى العقدين الماضيين، فتحالفت إدارات الجامعات مع الدولة والجماعات اليمينية المتطرّفة الإسرائيلية لتحديد البحث والتدريس والخطاب المسموح به في حرمها الجامعي بشكل أضيق.

كما أنّ الطلبة الفلسطينيين تأثَّروا بشدة. فإسرائيل منذ قيامها حدَّت من وصول المواطنين الفلسطينيين إلى التعليم، وقيّدت الجامعات من التحاقهم بها واعترضت طريقهم بالاشتراطات. وتواصل إدارات الجامعات الحدّ من الحضور والتعليم الفلسطيني في حرمها وتتعاون باستمرار مع الحكومة الإسرائيلية لقمع طلبتها الفلسطينيين، وبالتحديد قمع منظّمي الطلبة.

لطالما رأت إسرائيل في التعليم الفلسطيني تهديداً لحكمها واستهدفته في جميع الأراضي تحت حكمها. ومنذ إنشائها، كانت الجامعات الفلسطينية يحكمها الجيش الإسرائيلي، ويُخضِعُها ليمنعها من التحوّل إلى مواقع للمقاومة الفلسطينية.

في الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، تتعرّض الجامعات الفلسطينية لقيود بيروقراطية تعزلها وتعرقلها، فضلاً عن عمليات الإغلاق والمداهمات العسكرية المتكرّرة، واختطاف واحتجاز وتعذيب أعضاء هيئة التدريس والطلبة. وفي قطاع غزة، اختنقت الجامعات الفلسطينية تحت الحصار غير القانوني لما يزيد عن 17 عاماً وتحت القصف الجوي الإسرائيلي المتكرّر.

واليوم، دمّرت إسرائيل كل جامعة فلسطينية في قطاع غزة. ولم نرَ أيَّ إدارة جامعة إسرائيلية تطالب الحكومة الإسرائيلية بوقف قصف الجامعات الفلسطينية والتدمير المتعمد للتعليم العالي الفلسطيني.

عند هذه المرحلة الحالية والأكثر تدميراً من إبادة التعليم، فإنّ الجامعات الإسرائيلية متواطئة. وهي تجنّد معاهدها ومواردها ومنهاجها لإنتاج هسبارا، دعاية الدولة، للدفاع عن إسرائيل من الانتقادات الدولية. وهي تدبّج دراسات قانونية لحماية إسرائيل من المساءلة عن جرائم الحرب التي ارتكبتها. وتُدرِّب الجنود وتُطوِّر أسلحة للجيش الإسرائيلي. وتمنح مزايا خاصة ومنحاً دراسية وحتى ساعات دراسية لجنود الاحتياط العائدين من قطاع غزة. وكل يوم، تجعل الجامعات الإسرائيلية هذه الإبادة الجماعية ممكنة.

تعمل الجامعات الإسرائيلية بنشاط على إدامة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الإسرائيليين، فضلاً عن تواطئها في الانتهاك المستمر لحقوق الفلسطينيين على النحو المعترف به بموجب القانون الدولي. وعلى أساس هذا التعاون مع الدولة الإسرائيلية، دعا المجتمع المدني الفلسطيني، بما في ذلك الاتحاد الفلسطيني لنقابات أساتذة الجامعات وموظّفي الجامعات، المجتمع الدولي إلى إقرار المقاطعة الأكاديمية.

ودعت حركة المقاطعة المجتمع الأكاديمي الدولي إلى مطالبة الجامعات الإسرائيلية بقطع علاقاتها مع نظام القمع الإسرائيلي. وتعطي الحركة أعضاء هيئة التدريس والطلاب في جميع أنحاء العالم الفرصة للانضمام إليها لإعادة تشكيل التعليم العالي من أجل التحرير. لأنّه، وكما تعلمنا حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية، ما من حرية أكاديمية ما لم تُطبّق على الجميع.

نشر هذا المقال في Jacobin في 27 شباط/فبراير 2024.

مايا ويند

زميلة في برنامج كيلام لدراسات ما بعد الدكتوراه في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا. تتناول أبحاثها موضوعات المجتمعات الاستيطانية وأنظمة العسكرة والمراقبة حول العالم وكيفية استمرارها، وتركز بوجه خاص على إنتاج المعرفة الأمنية الإسرائيلية وتصديرها. والمادة المترجمة جزء من مقدمة كتابها الصادر حديثاً عن دار فيرسو بعنوان «أبراج عاجية فولاذية: كيف تمنع الجامعات الإسرائيلية الحرية الفلسطينية».

علاء بريك هنيدي

مترجم، حاصل على ماجستير في المحاسبة، وشارك في تأسيس صحيفة المتلمِّس. صدر له ترجمة كتاب ديفيد هارفي «مدخل إلى رأس المال» عن دار فواصل السورية، وكتاب جوزيف ضاهر «الاقتصاد السياسي لحزب الله اللبناني» عن دار صفصافة المصرية، وكتاب بيتر درَكر «الابتكار وريادك الأعمال» عن دار رف السعودية، وكانت أولى ترجماته مجموعة مقالات لفلاديمير لينين عن ليف تولستوي صدرت ضمن كراس عن دار أروقة اليمنية. كما نشر ترجمات عدّة مع مواقع صحافية عربية منها مدى مصر، وإضاءات، وذات مصر، وأوان ميديا.