Preview new labor law egypt

قانون العمل الجديد في مصر: تكريس الغبن

مع الانتهاء من تشكيل الحكومة المصرية الجديدة، عاد النقاش بشأن مشروع قانون العمل الجديد الذي تصدّر الأجندة التشريعية مجدّداً. والسؤال الأهم الذي يجب طرحه، ربما، على مشروع قانون العمل الجديد، هو مدى استجابته للمتغيّرات التي طرأت على سوق العمل، ومدى استفادته من تطبيق قانون العمل الحالي رقم 12 الصادر في العام 2003 والمشكلات التي رافقت تطبيقه.

ترتبط الحاجة إلي تعديل قانون العمل الحالي بسببين: السبب الأول هو المشكلات التي ظهرت في تطبيق القانون الحالي وكشفت قصوره في تنظيم علاقات العمل، والسبب الثاني هو التغيرات في سوق العمل وجعلت من الضروري استحداث مواد جديدة لتنظيمها.

ماذا تخبرنا دروس الماضي؟

يبدو السبب الأول متوفراً على نحو واضح، إذ أظهر تطبيق قانون العمل الحالي لأكثر من 20 عاماً قصوراً واضحاً في قدرته على تنظيم علاقات العمل.

لقد صدر قانون العمل رقم 12 في العام 2003 نتيجة التحوّلات الجوهرية التي شهدها الاقتصاد المصري في حينها، على خلفية إطلاق سياسات «التكيف الهيكلي» أو تحرير الاقتصاد عقب إبرام اتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين في مطلع تسعينيات القرن الماضي. تمثلت تلك السياسات بالتوسّع في تطبيق سياسات السوق الحرة، وخصخصة مشروعات الدولة، ودعم القطاع الخاص. وقد انعكست تلك السياسات على سوق العمل، إذ بدأت الدولة في الانسحاب كطرف رئيس في علاقات العمل، وتحوّلت تدريجياً إلى دور المراقب أو المشرف على علاقات العمل بين العمّال وأصحاب الأعمال.

صدر قانون العمل رقم 12 في العام 2003 نتيجة التحوّلات الجوهرية التي شهدها الاقتصاد المصري في حينها وإطلاق سياسات تحرير الاقتصاد بعد إبرام اتفاق مع صندوق النقد في مطلع التسعينيات

عبّر القانون رقم 12 عن تلك التحوّلات في علاقات العمل. وعلى الرغم من انحيازه لأصحاب الأعمال في الكثير من مواده، بدت بعض نقاطه كمحاولة للاستجابة للتحوّلات في علاقات العمل. وأبرز تلك النقاط هو الآلية التي تضمّنها القانون لتحديد الحد الأدنى للأجور ومراجعته بشكل دوري عبر المجلس القومي للأجور. كذلك اعترف القانون بحق العمّال في تنظيم الإضرابات للضغط من أجل تحقيق مطالبهم، وكانت تلك سابقة في التشريعات المصرية. كما اعتمد القانون مبدأ المفاوضة الجماعية بين العمّال وأصحاب الأعمال للتوصّل إلى اتفاقات.

ويبدو قانون العمل رقم 12 بذلك مستجيباً لمتغيرات علاقات العمل، بعد أن أصبحت الدولة أقل تدخلاً في سوق العمل واكتفت بوضع القواعد المنظّمة لتلك العلاقات. ولكن تطبيق القانون على مدار عقدين من الزمن لم يلبِ الآمال. لم يتماشَ تطبيق النقاط الثلاث السابقة مع مستجدات علاقات العمل.

الحدّ الأدنى للأجور: فشلت آلية الحد الأدنى للأجور التي اعتمدها القانون بدورها في تحديد الحد الأدنى للأجور ومراجعته دورياً. لم ينجح المجلس القومي للأجور في اعتماد حد أدنى إلا في العام 2013، أي بعد ثورة يناير والتحوّلات التي شهدتها مصر. تمكّن ممثلو أصحاب العمل في المجلس القومي للأجور من الهيمنة على مناقشات المجلس بفرضية أن رفع الحد الأدنى للأجور سوف يؤدي إلى الإحجام عن التوظيف، واستمرت تلك الهيمنة لأكثر من عشر سنوات، ولم تتم معالجة قضية الحد الأدنى إلا عبر تحوّلات أكثر عمقاً وليس عبر آليات قانون العمل.

الحق في الإضراب: أيضاً لم يكن مصير حق الإضراب مختلفاً. لقد وضع القانون قواعد لتنظيم ممارسة الإضراب جعلت تنظيمه أقرب من المستحيل، إذ رهنت قرار الإضراب بموافقة غالبية التنظيم النقابي، وحظرت تنظيم الإضراب في المنشآت والمرافق التي يصدر بها قرار حكومي، وفرضت تحديد موعد مُسبق لفضّ الإضراب وإخطار مسبق ببدايته. واللافت أن الفترة التالية على إصدار القانون شهدت أعلى معدّل للاحتجاجات والإضرابات العمالية في مصر، ولا سيما الفترة الممتدّة بين عامي 2006 و2011. مع ذلك، لم ينظّم العمال تلك الاحتجاجات وفقاً للقواعد التي وضعها قانون العمل، فيما عدا استثناءات محدودة للغاية لا تتجاوز إضرابين أو ثلاثة إضرابات بين آلاف الإضرابات العمّالية. وبدلاً من تنظيم الإضرابات بقرار من التنظيم النقابي الرسمي، كان العمّال ينظّمون الإضرابات ضدّ هذا التنظيم الذي اعتبروه معادياً لمصالحهم ومنفصلاً عن الحركة العمّالية.

المفاوضة الجماعية: وبالوصول إلى مبدأ المفاوضة الجماعية الذي اعتبر سمة رئيسة من سمات القانون، فقد ربطت بوجود تنظيم نقابي مستقل قادر على تمثيل العمّال في المفاوضة. وفي ظل هيمنة تنظيم نقابي تابع للحكومة تستحيل تلك المفاوضة. واللافت أن وفود التنظيم النقابي لم تكن تتفاوض مع أصحاب الأعمال أو الحكومة لتنفيذ مطالب العمّال، بل مع العمّال لفضّ الإضرابات. 

على الرغم من محاولته الاستجابة لمتغيّرات سوق العمل والعلاقات الجديدة التي فرضتها سياسات الإصلاح الاقتصادي، فشل قانون العمل رقم 12 في تنظيم قضايا العمل الرئيسة، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار في مشروع القانون الجديد.

تغيّرات بنيوية في سوق العمل

النقطة الثانية التي يجب البحث عنها في القانون هو مدى استجابته لمتغيّرات سوق العمل منذ إصدار القانون الحالي، والتحوّلات التي طرأت على علاقات العمل. وهنا يمكن أيضاً ملاحظة تغيّرات هامة وظهور شرائح عمّالية جديدة يجب الانتباه لها عند صياغة مشروع قانون جديد للعمل.

عمّال المنصّات: وأبرز تلك التغيّرات هو ظهور ما يُسمى بـ «عمّال المنصات» (الأبلكيشن) وتناميهم. والحقيقة أن تلك الفئة من العمّال لا تخضع لعلاقات عمل وغير محمية بقانون العمل الحالي. العامل في خدمات التوصيل أو النقل أو الخدمات التي تقدّمها التطبيقات والمنصّات هو من يوفر لنفسه وسائل العمل، سواء سيارة أو/دراجة بخارية أو هاتف أو باقة إنترنت أو غيرها من مستلزمات العمل، فيما الشركة (أو صاحب العمل) غير معنية بتوفير أي منها للعامل. كذلك تقرّر الشركة بشكل منفرد قيمة الأجر أو العمولة التي سوف يتقاضاها العامل، ولا تقدّم أي التزام تجاهه سواء لناحية التأمينات الاجتماعية أو الصحية أو ضد الحوادث، كما لا يستفيد العامل من الإجازات المدفوعة أو ساعات عمل محدّدة.

بدأت ظاهرة توريد العمالة قبل سنوات وتوسّعت لتشمل مختلف الخدمات مثل النقل والتنظيف والأعمال المعاونة، واللافت أن شركات حكومية كبرى مثل شركة «مترو الأنفاق» أصبحت تعتمد عليها أيضاً

شركات توريد العمالة: الظاهرة الثانية التي يجب الانتباه إليها في مشروع قانون العمل الجديد هي انتشار شركات توريد العمالة. على مدار السنوات السابقة انتشرت شركات توريد العمالة على نطاق واسع، وأصبحت علاقة العمل الأساسية بين العامل وشركة توريد العمالة مجرّدة من أي التزام مباشر من الشركة تجاه العامل. وعلى الرغم من أن تلك الظاهرة بدأت قبل سنوات عبر شركات توفر أفراد الأمن للمنشآت الخاصة، فإنها توسّعت لتشمل مختلف الخدمات، مثل النقل والتنظيف والأعمال المعاونة. واللافت أن شركات حكومية كبرى مثل شركة «مترو الأنفاق» أصبحت تعتمد عليها أيضاً لتأمين العمّال من دون توظيفهم رسمياً. والجدير بالذكر أن العمّال من خلال هذه الشركات لا يتمتعون بوجود رسمي، ويتسم وضعهم بالهشاشة الشديدة. والملاحظ أن بعد صدور قرار المجلس القومي للأجور بزيادة الأجور في القطاع الخاص إلى 6,000 جنيه، بقيت رواتبهم أقل بكثير، وبحسب الإعلانات التي تضعها شركات توريد العمالة فإنها الرواتب تصل إلى نصف هذه القيمة. 

هيمنة المنشآت الصغيرة: الظاهرة الثالثة التي يجب مراعاتها عند وضع قانون جديد للعمل هو هيمنة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر على سوق العمل في مصر. وبحسب التعداد الاقتصادي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن نسبة منشآت القطاع الخاص التي يزيد عدد العمّال فيها على 100 عامل لا تتجاوز، 5,699 منشأة من إجمالي 3.741 مليون منشأة، أي ما نسبته 0.16% من إجمالي منشآت القطاع الخاص، وتضم أقل من 2.2 مليون عامل من أصل 12.6 مليون عامل في منشآت القطاع الخاص. والمعلوم أن عمّال المنشآت الصغيرة لا يتمتعون بمزايا تشريعات العمل، إذ لا يحق لهم تكوين نقابة، ولا تستفيد العاملات من تأمين صاحب العمل لدار حضانة لأولادها على عكس العاملات في المنشآت الكبيرة. كما أن قرارات المجلس القومي للأجور تستثني المنشآت التي يقل عدد عمّالها عن 10 عمّال، والتي تمثل أكثر من 97% من إجمالي منشآت القطاع الخاص وتضم أكثر من 6 مليون عامل. أي نحو نصف العاملين في القطاع الخاص، الذين لن يستفيدوا من تعديلات الحد الأدنى للأجور وغيرها من المزايا.

نسخة مُكرّرة 

إذا اعتبرنا أن معالجة مشكلات تطبيق القانون الحالي والاستجابة للمتغيرات في سوق العمل هي المهام الرئيسة لمشروع قانون العمل الجديد المفترض تطبيقه على نحو 13 مليون عامل بمنشآت القطاع الخاص وقطاع الأعمال، إلا أن مشروع القانون المطروح لم يحاول حتى لحظ هاتين المهمتين. إذ لم يطرأ أي تغيير على النصوص المتعلقة بالمجلس القومي للأجور، وأعيد صياغة العلاوة الدورية لتصبح 3% من الأجر التأميني بدلاً من 7% من الأجر الأساسي، وهو ما يفتح الطريق أمام تخفيض العلاوة الدورية. 

كما لم يطرأ أي تغيير إيجابي فيما يتعلّق بحق الإضراب لتخفيف القيود المفروضة، بل على العكس أضيف قيد جديد وهو حظر الإضراب في الظروف الاستثنائية، والتي يمكن للمشرّع أن يستنسب في تحديدها. أما بالنسبة إلى المفاوضة الجماعية، فقد كرّس ما نصّ عليه قانون النقابات القديم من هيمنة التنظيم النقابي التابع للحكومة ليستمر غياب تمثيل العمّال في المفاوضة.

لم يرَ المشروع المتغيرات التي طرأت على سوق العمل وعلاقاته وغابت عنه البنود المنظّمة لعمل عمّال المنصات وشركات توريد العمالة، كما لم يكترث المشروع بانتشار المنشآت متناهية الصغر

من ناحية أخرى لم يرَ المشروع المتغيرات التي طرأت على سوق العمل وعلاقاته في الفترة التي تلت تطبيق القانون الحالي، إذ غابت عنه مواد لتنظيم عمل عمّال المنصات وشركات توريد العمالة، ولم يكترث المشروع بانتشار المنشآت متناهية الصغر.

وعلى الرغم من أن القانون عالج ظاهرة سيئة مزمنة في علاقات العمل في مصر، وهي إجبار العمّال على توقيع الاستقالات عند توقيع عقود العمل، تجاهل عدم التزام أصحاب العمل بتطبيق القانون واكتفى بنظام المخالفات المعتادة في قوانين العمل، التي تعد تكلفتها على صاحب العمل أقل من تكلفة الالتزام بالقانون. علماً أن الحكومة تمتلك القدرة على إلزام أصحاب الأعمال بمعايير العمل اللائق ومواد قانون العمل، من خلال تحكّمها بالمزايا التي يحصل عليها أصحاب الأعمال، سواء تسعير الطاقة والأراضي والدعم والإعفاءات بأنواعها لإلزام صاحب العمل بمواد القانون وتوفير شروط العمل اللائق.

وعليه، من غير المفهوم أهمية إصدار قانون جديد للعمل في مصر، إذا لم يكن سبب إصداره معالجة مشكلات القانون الحالي أو الاستجابة لمتغيرات سوق العمل. وفي حين أعلنت الحكومة أن هدفها هو إدماج القطاع غير الرسمي في القطاع الرسمي، فإن ما يجري فعلياً هو صبغ القطاع الرسمي بكل ملامح القطاع غير الرسمي عبر الاستعانة بشركات توريد العمّال والمنصّات وتكريس الغبن اللاحق بعمّال المنشآت متناهية الصغر وغيرها من الظواهر الجديدة في سوق العمل.