حاجتنا إلى حركة عمَّالية فاعلة

  • لم تستفد الحركة النقابية اللبنانية من تجاربها المريرة مع قوى السلطة ورأس المال. وكرَّرت مجدَّداً مواجهتها للأزمة كفئات وشرائح منفصلة ذات مصالح مُتعارضة وأحياناً مُتناقضة، وهو ما كرَّسته السياسات الحكومية والقوانين منذ الاستقلال حتَّى اليوم.
  • يشكِّل وجود حركة عمَّالية مُنظَّمة وفاعلة إضافة نوعيَّة على الجهد من أجل إحداث تغيير في بنية النظام اللبناني. إلَّا أنّ ذلك لا يمكن أنّ يتمّ بشكل تلقائي، أو أن يُترَك للأطر والقيادات النقابية الحالية وحدها، التي أثبتت التجارب عدم قدرتها - أو عدم رغبتها - في تولّي هذه المهمّة

أدَّى إفلاس القطاع المصرفي في لبنان، وانهيار النموذج الاقتصادي الذي نشأ بعد وقف الحرب الأهلية، وما رافق ذلك من أحداثٍ وتطوّرات (ولا سيّما تفشّي فيروس كورونا، وانفجار مرفأ بيروت)، إلى دخول النظام السياسي اللبناني في واحدة من أشدّ أزماته عُمقاً. لم يكن ذلك بسبب انهيار قيمة العملة اللبنانية وما نجمَ عنها من تضخُّم وبطالة فقط، بل بسبب بروز نزاعٍ مُعلن بين أطراف الائتلاف الطائفي- الطبقي الحاكم حول توصيف الانهيار وأسبابه من ناحية، وحجم الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يجب القيام بها، وتصيب بنية الدولة وميزان القوى الاجتماعي عموماً.

ففي الوقت الذي أبدت بعض القوى السياسية عن استعداد، ولو محدودٍ، لتقديم تنازلات - بسبب قلقها من حجم الاحتجاجات التي عمَّت البلاد في أواخر العام 2019 وبعد انفجار بيروت في 2020 - جرى التعبير عنها من خلال تقديم خطّة إصلاحية للتعافي الاقتصادي، تتضمَّن توزيعاً للخسائر يشمل أصحاب المصارف والمساهمين فيها. كان ممثِّلو رأس المال اللبناني، ولا سيّما رأس المال المالي، يقدِّمون موقفاً مُغايراً تماماً، تجلَّى برفضهم التامّ الاعتراف بمسؤوليّتهم عن الأزمة وعدم استعدادهم لتحمُّل تبعاتها، بل أصرُّوا على مسؤوليّة شركائهم السياسيين في الائتلاف الحاكم بالتسبُّب بالأزمة، مطالبين بتحميل الدولة المسؤولية، أي المجتمع كلّه كلفة الخسائر، مع حصولهم على حصانة قانونية، بالإضافة إلى مكاسب جديدة عبر تمكينهم من وضع يدهم مباشرة على أملاك ومؤسَّسات الدولة كافّة عبر ما يُسمَّى بـ«الصندوق السيادي».

لم يستمرّ النزاع طويلاً، إذ سُرعان ما حسمه ممثِّلو رأس المال لصالحهم، وأطلقوا حملة تضليل إعلانية وإعلامية واسعةلم يستمرّ النزاع طويلاً، إذ سُرعان ما حسمه ممثِّلو رأس المال لصالحهم، وأطلقوا حملة تضليل إعلانية وإعلامية واسعة. ليس هذا وحسب، بل عملوا على ممارسة التخويف والعنف بالأشكال المُختلفة ضدّ من صنَّفوهم كأخصامٍ لهم. لقد استعاد الائتلاف الحاكم توازنه مجدَّداً، ويعمل على فرض رؤيته وحلوله للأزمة، ليس في مواجهة القوى الاجتماعية في الداخل اللبناني فقط، بل تجاه المؤسَّسات المالية الدولية، التي ما زالت تُشكِّك في قدرة الحلول المُقترحة من هذا الائتلاف على إعادة بناء اقتصادٍ قادر على تسديد ديونه وتوفير احتياجات المواطنين. وقد استفاد الائتلاف الحاكم في عمله على إعادة ضبط القوى الاجتماعية المُتضرِّرة من الأزمة لتكريس سياسات تقشُّفية تمهِّد الطريق من أجل خصخصة الخدمات العامّة ومؤسَّسات الدولة اللبنانية.

غياب التضامن

أدَّت الأزمة المُستمرَّة منذ سنوات إلى تراجعٍ مريعٍ في شروط وظروف عمل ومعيشة الطبقة العاملة في البلاد، حيث انهارت قيمة الأجور الفعلية في ظلّ ارتفاعٍ شبه يومي في مؤشِّر غلاء المعيشة بسبب تحرير الأسعار وربطها بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، كما تقلَّصت قيمة التغطية الصحِّية التي يوفِّرها الضمان الاجتماعي وغيره من الصناديق إلى نحو 20% من التكلفة الفعلية. هذا بالإضافة إلى ازدياد نسبة البطالة، والتوسُّع في أشكال العمل غير النظامي. لقد كشفت الأزمة عن الاحتياجات الموجودة مُسبقاً والتي لم تتمّ تلبيتها، بما في ذلك السكن والرعاية الصحِّية الشاملة والتعليم والأمن الغذائي وخدمات الرعاية الاجتماعية، فضلاً عن غياب أي تعويض للبطالة، وتآكل فرص كسب العيش، وعدم وجود أنظمة مناسبة للضمان الاجتماعي. دفعت مرارة هذا الواقع إلى احتجاجات عمَّالية في قطاعات عديدة، بما في ذلك إعلان أساتذة التعليم الرسمي وموظَّفي القطاع العام الإضراب المفتوح. تميَّزت هذه الاحتجاجات بالانفعال ومحدوديّة المطالب، حيث ركَّزت مطالبها على تصحيح الأجور بما يواكب نسبة التضخّم الحاصل ويُعزِّز القدرة الشرائية للمداخيل بالليرة.

وفي الوقت الذي صعّد فيه ممثِّلو قوى رأس المال من عملهم لإعادة إنتاج نظام سياسي واقتصادي وجتماعي للبنان يتوافق مع مصالحهم، كانت الحركة النقابية بمختلف تشكيلاتها واتحاداتها بما في ذلك روابط المعلِّمين والأساتذة - الهيئات الرسمية منها وغير الرسمي - تقيم وسط عجزٍ مُطلق عن الاستفادة من الفرصة المُتاحة أمامها لتكريس توازن اجتماعي جديد قادر على تمكينها من الدفاع عن مصالحها وحماية حقوقها المُكتسبة. وبدلاً من الاستفادة من انخراط قوى اجتماعية كانت تاريخياً مكوِّناً أساسياً داعماً للتحالف الحاكم - أعني هنا بالتحديد تلك الشرائح من الطبقة الوسطى التي خسِرت مدَّخراتها وتراجعت مستويات دخلها وظروفها المعيشية - للعمل على إنجاز برنامج سياسي يساهم في إصلاح النظام السياسي لوقف الانهيار وإعادة التعافي الاقتصادي عبر تفعيل مؤسَّسات الدولة والقطاع العام، وتحميل قوى تحالف السلطة وخصوصاً المصرفيين وكبار التجَّار والمتموِّلين المسؤوليّة عما آلت إليه أوضاع البلاد عموماً وأوضاع الطبقة العاملة خصوصاً. عمدت إلى تكرار أسلوب تحرُّكاتها الفئوية والمُنفردة من دون أي جهد فعلي لبناء التضامن فيما بين قطاعاتها ومع القوى الاجتماعية الأخرى على أهداف سياسية واضحة، في معركة مفصلية سوف تؤدي نتائجها إلى تحميل الطبقة العاملة والمجتمع عموماً أوزار خيارات السياسات النيوليبرالية للتحالف الطبقي الحاكم، بما في ذلك تسديدها لكامل فاتورة الخسائر المالية الناجمة عن إفلاس المصارف على مدى سنوات طويلة مقبلة.

كشفت الأزمة عن الاحتياجات الموجودة مُسبقاً والتي لم تتمّ تلبيتها، بما في ذلك السكن والرعاية الصحِّية الشاملة والتعليم والأمن الغذائي وخدمات الرعاية الاجتماعيةلم تستفد الحركة النقابية اللبنانية من تجاربها المريرة مع قوى السلطة ورأس المال، وكرَّرت مجدَّداً مواجهتها للأزمة كفئات وشرائح مُنفصلة ذات مصالح مُتعارضة، وأحياناً مُتناقضة، وهو الأمر الذي كرَّسته السياسات الحكومية والقوانين منذ الاستقلال وحتَّى اليوم. لقد ساهم هذا الأمر في نجاح التحالف الطبقي الحاكم في استعادة هيمنته التي تخلخلت بفعل الأزمة، كما واستفاد أيضاً من التركيبة الاجتماعية الطائفية - المناطقية للشعب اللبناني في هذه المواجهة، وهو لن يتوانى كما يبدو عن ضخّ خطاب العنصرية والكراهية ضدَّ العمّال المهاجرين واللاجئين في لبنان بصفتهم فئة ضعيفة تمّ استغلالها منذ بداية الأزمة إلى يومنا هذا، بما يخدم ويُعزِّز هذا الواقع. وقد أتت قرارات السلطة السياسية الأخيرة المُتعلِّقة بتصحيح الأجر - على نحو جزئي واستنسابي - لتعزِّز منطق «الفئوية المهنية»، الذي تمنح من خلاله امتيازات لشرائح عمَّالية على حساب أخرى، بحيث تسعى كلّ شريحة عمَّالية إلى نيل مطالبها بشكل منفرد ومُستقل عن الآخرين.

الفرصة لا تزال مُتاحة

إن استمرار تعامل قيادات الحركة النقابية العمَّالية اللبنانية مع هذا الواقع كأمر طبيعي ومقبول من دون أي محاولة جدية لتجاوزه، شكَّل خدمة إضافية للتحالف الحاكم وضدّ المصالح المباشرة والاستراتيجية للطبقة العاملة، حيث أتاح لقوى التحالف الحاكم إعادة تدجين القوى الاجتماعية إلتي خرجت مُطالبة بالاصلاح والتغيير، وبالتحديد عبر نشر الأوهام حول قدسيَّة الودائع في البنوك والعمل على إعادتها.

على الرغم من التفوُّق الواضح اليوم للتحالف الحاكم، إلَّا أن المعركة لم تُحسَم بعد، ولا تزال الفرصة مُتاحة من أجل تصحيح ميزان القوى الاجتماعي، بما يُمكِّن الحركة النقابية من استعادة دورها وتصحيح الخلل الذي شاب مسيرتها النضالية، وأن تلعب دورها في قيادة الحركة العمَّالية والشعبية من أجل مستقبل أفضل، خصوصاً وأن وجود حركة نقابية عمَّالية مُنظَّمة وفاعلة تقوم على أساس مصالح مادية مشتركة وحقيقية بين العمَّال يشكِّل إضافة نوعية في الجهد من أجل إحداث تغيير في بنية النظام اللبناني. غير أن تحقيق مثل هذا الأمر الهامّ لا يمكن أن يتمّ بشكل تلقائي، أو أن يُترك للأطر والقيادات النقابية الحالية وحدها التي أثبتت التجارب عدم قدرتها - أو عدم رغبتها - في أداء هذه المهمّة، وإنّما يأتي من خلال التدخّل السياسي والتنظيمي للقوى السياسية التقدّمية ونُخبِها وتنظيماتها في لبنان، وهو أمر يتطلّب منها اتخاذ خطوات عملية وفعلية تتجاوز التمنيات والبيانات.

أتت قرارات السلطة السياسية الأخيرة المُتعلِّقة بتصحيح الأجر - على نحو جزئي واستنسابي - لتعزِّز منطق «الفئوية المهنية»تتطلَّب هذه المهمّة انخراط هذه القوى عبر كوادرها في العمل الميداني في أوساط العمَّال لبناء حركة نقابية ديموقراطية ومُستقلّة ذات تمثيل عمَّالي حقيقي، وعليها في الآن نفسه أن تضغط على المستوى السياسي لإجراء تعديل قانوني يسمح بتحرير الطبقة العاملة في لبنان من كافة القيود التي تعيقها من إنشاء نقاباتها وتنظيم شؤونها باستقلالية ومن دون تدخُّل من السلطة أو أرباب العمل، بالإضافة إلى العمل على مساعدة الحركة النقابية على بناء كوادر عمَّالية جديدة قادرة على الذهاب نحو إطار تنظيمي جديد يضمُّ جميع فئات الطبقة العاملة، بعيداً من أي تمييز من أي نوع كان، ومن بناء استراتيجية عمل مختلفة في مواجهة التحدِّيات الحالية والمُقبلة، بما في ذلك تحالفها مع أطياف المجتمع المعنيّة بتحقيق مجتمع العدالة الاجتماعية ودولة الحقّ والقانون.

إن بناء إطار مماثل ووجوده ليس ترفاً البتة، بل هو شرط أساسي لبناء أي تحالف اجتماعي واسع، حيث أن غياب مثل هذه الحركة العمَّالية المُنظَّمة سوف يزيد من ضعف الصوت العمَّالي لصالح قوى اجتماعية أخرى، ويعطي المزيد من المجال للتحالف الطبقي – الطائفي الحاكم لتحديد حاضر السياسات الاقتصادية والاجتماعية ومستقبلها، وبالتالي سوف يعيق النضال من أجل تحقيق مجتمع العدالة والمساواة. إن العمل المباشر مع العمَّال يتطلَّب من القوى المدنية التقدّمية إعادة تقييم تدخُّلاتها انطلاقاً من التطوّرات التي طرأت وسبل التغيير المُمكنة، والتركيز على تقديم كافة أشكال الدعم والإمكانات بما يسمح للطبقة العاملة من بناء قدراتها التنظيمية وبرامج عملها، وتعزيز التضامن بين مختلف مكوِّناتها المهنية والقطاعية، وتنمية قدرتها على تقديم المساعدة لبعضها البعض وخصوصاً الفئات العمَّالية الأكثر ضعفاً وتضرُّراً من الأزمة والمرشّحة لمزيدٍ من الانهيار.