فراغٌ في الساحة النقابيَّة!

  • يُكرِّر العاملون والعاملات في القطاع العام تجربتهم في معركة هيئة التنسيق النقابية في العام 2014، عندما تركَّز مطلبهم المُحقّ على زيادة 121% على أساس الراتب، ولم يقبلوا الذهاب أبعد من ذلك من أجل ملاقاة مطالب فئات اجتماعية وشرائح مهنية مختلفة.
  • لم تنجح محاولات إقامة إطار أو تيَّار يُعبِّر عن مصالح العمَّال والعاملات، ويعلن مواقفه في الاقتصاد من وجهة نظرهم، ويقدّم نموذجاً لما يريدون، ويطرح برنامجاً قادراً على تحويل الأزمة إلى فرصة. 

تُعبِّر الأزمة الاقتصادية المالية التي يعيشها لبنان عن حالة حرب حقيقية ومُعلنة بين فئتين أساسيتين: الفقراء من عمَّال ومُعطَّلين عن العمل من جهة، وتجّار ومصرفيين وأصحاب سلطة وامتيازات من جهة أخرى. تدير هيئات أصحاب الأعمال حربها هذه بالكثير من النفاق، من خلال ادعاء الحرص  على مصالح العمَّال، فرئيس جمعية تجَّار بيروت نقولا شمَّاس ينتقد زيادة الأجور بحجّة أنّها مجرّد زيادة على الورق ولا تفيد العمَّال وتُدخِل الاقتصاد في حلزون تضخُّمي بين الأسعار والأجور. لا تكتفي هذه الهيئات بمثل هذا الادعاء، بل تعتمد أيضاً وسائل خبيثة تحت مسمى الأعمال الخيرية. يتفاخر رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد شقير في شباط/فبراير 2022 أنّه أوّل من دعا «المؤسَّسات الخاصّة التي لديها قدرة، وقبل تشكيل الحكومة، إلى إعطاء مساعدات اجتماعية لعمَّالها». والمساعدات الاجتماعية لا تُقدَّم هنا لأشخاص لا يعملون، بل هي مقابل عمل، بحيث يصبح العمل - مع شقير - واجبٌ على العمّال، والأجور مكرمة من أصحاب العمل يجب شكرهم عليها.

نتائج هذه الحرب كارثية، فقد ارتفع معدّل السكّان الذين يطالهم الفقر، وفق المقياس المُتعدد الأبعاد، من 28% في العام 2019 إلى 55% في العام 2020، وصولاً إلى أكثر من 83% في نهاية 2021. هذه القفزات المخيفة في معدّلات الفقر تعود بشكلٍ أساسي إلى ارتفاع معدّلات البطالة والعمالة غير النظامية وازدياد  التشغيل الناقص، بالإضافة إلى ضمور التغطية الصحّية وانهيار الخدمات العامّة والتعليم. وبحسب تقدير منظّمة العمل الدولية في كانون الثاني/يناير 2022، وصلت العمالة غير الرسمية إلى 62.4%، أي بزيادة قدرها 7.5 نقطة مئوية عن النسبة البالغة 54.9% في 2018-2019.

شفيق حميدي صقر، رئيس اتحاد العاملين والمستخدمين في محافظة بيروت والأمين العام للاتحاد العمَّالي العام، يُقدِّم درعاً تكريمياً لرئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير «تقديراً على جهوده وأعماله في خدمة القضايا الإجتماعية والعمَّالية والاقتصادية»أمّا على مستوى الحماية الاجتماعية المحصورة في العاملين النظاميين فقط فقد أصبحت بحكم المنسية، إذ لا أحد (تقريباً) من العاملين النظاميين يعتمد على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من أجل استرداد أكلاف العلاج أو الأدوية. فتكلفة العلاج تعتمد سعر الصرف في السوق الذي يلامس 100 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، في حين ما زالت تسعيرة الضمان عالقة عند مستوى 1500 ليرة، على الرغم من رفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة لبنانية.

الحالة غير «الآدمية» التي يعيشها غالبية المقيمين في لبنان هي النتاج الطبيعي لهذه الحرب التي يديرها مصرفيون ورجال أعمال وسياسة، والقائمة على «تشليح» السكّان ثرواتهم وقوّة عملهم.

النقابات في لبنان: شركاء غبّ الطلب

أمام هذا التوحُّش في إدارة الأزمة، تظهر القيادة النقابية منقادة كلّياً وبشكل فاقع لهيئات أصحاب الأعمال، فشفيق حميدي صقر، رئيس اتحاد العاملين والمستخدمين في محافظة بيروت والأمين العام للاتحاد العمَّالي العام، يُقدِّم درعاً تكريمياً لرئيس هيئات أصحاب العمل محمد شقير «تقديراً على جهوده وأعماله في خدمة القضايا الإجتماعية والعمَّالية والاقتصادية». 

على الرغم من «تشليح» العاملين قوّة عملهم من خلال الزيادات النقدية الشحيحة للأجور، وحرمانهم من الزيادات على الشطور، ورفع الأسعار، وتحميل السكّان منفردين عبء الأزمة، يتعمّد الاتحاد العمّالي العام، برئاسة بشارة الأسمر، تمييع هذه الحرب، ويقرِّر الوقوف مع هيئات أصحاب العمل كتفاً بكتفٍ للمطالبة بإنتخاب رئيس للجمهورية، في لقاء دعا فيه الاتحاد العمَّالي إلى النفير العام مع أصحاب العمل  في 20 شباط/ فبراير 2023.

رئيس اتحاد عمَّال جبل لبنان، مارون الخولي، الذي يعتبر نفسه معارضاً للاتحاد العمَّالي العام، لأنه «سقط نهائياً بيد الأحزاب»، بحسب توصيفه، لا يتوانى عن الانجرار المذهل إلى خطاب عنصري ضدّ اللاجئينرئيس اتحاد عمَّال جبل لبنان، مارون الخولي، الذي يعتبر نفسه معارضاً للاتحاد العمَّالي العام، لأنه «سقط نهائياً بيد الأحزاب»، بحسب توصيفه، لا يتوانى عن الانجرار المذهل إلى خطاب عنصري ضدّ اللاجئين، ويروّج لسرديات السلطة السياسية وهيئات أصحاب الأعمال، بهدف حرف الصراع الاجتماعي كلِّياً عن مساره الاقتصادي، متناسياً كلّ الانتهاكات التي طالت وتطال القوى العاملة، فيما أطلق اتحاده «الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري». في هذه الحملة يُقرِّر «النقابي» مارون خولي تبرئة السياسيين والمصرفيين وهيئات أصحاب الأعمال، الذين ثبت تورُّطهم سواء من خلال المحاكمات الأوروبية، أو من خلال تقارير ديوان المحاسبة وغيرها من المؤسّسات الرقابية المحلّية والدولية، ليضع الخولي كلّ اللوم على اللاجئين السوريين، أو ما يُسمِّيه «الاحتلال الديموغرافي السوري» الذي يقول إنه «ساهم في تدمير اقتصادنا وبنيتنا التحتية وسرقة مياهنا وكهربائنا وفي تلويث أرضنا وهوائنا وثقافتنا وقيمنا».

الحاجة إلى توسيع التضامن العمَّالي

بمعزل عن النقاش في أسباب انحطاط الاتحاد العمَّالي العام وغيره من الاتحادات العمَّالية، فالقناعة الراسخة هي أن لا إمكانية لإصلاحه. ولعلّ هذا هو سبب الكثير من الدعوات إلى إنشاء أطر نقابية بديلة. ولكن المحاولات في هذا الاتجاه سرعان ما اضمحلت - بغالبيّتها - تحت وطأة الخمول السياسي لقوى التغيير وعجزها عن بناء مشروع، وهو ما انعكس سلباً على أدائها في النقابات المهنيّة، وفشلها في تثبيت انتصارها، ويمكن القول إن هذه الأطر النقابية كانت لتنجح أكثر لو استمرَّت الحركية السياسية للانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

لقد أبدى العمّال والعاملات في مواضع عدّة الاستعداد للدفاع عن أنفسهم وشنّ الهجوم أحياناً، ولكن تحرّكاتهم بقيت موضعية في غياب الحاضنة السياسية التغييرية. حصلت بعض التجارب النقابية المثيرة منذ انفجار الأزمة الاقتصادية، مثل التي قدَّمها العاملون في سلسلة «ستارباكس» التابعة لمجموعة «الشايع»، أو عمَّال معمل غندور الذين استطاعوا شلَّ خطوط الإنتاج أكثر من مرّة في خلال الأعوام 2021 و2022 حتّى تحقيق مطالبهم في تحسين أجورهم وبدلات نقلهم. وقفت هذه التحرّكات عند حدّ الزيادات الجزئية على الأجور من دون الوصول إلى تضامن يطال قضايا أبعد من ذلك.

أبدى العمّال والعاملات في مواضع عدّة الاستعداد للدفاع عن أنفسهم وشنّ الهجوم أحياناً، ولكن تحرّكاتهم بقيت موضعية في غياب الحاضنة السياسية التغييريةيُكرِّر العاملون والعاملات في القطاع العام تجربتهم في معركة هيئة التنسيق النقابيَّة في العام 2014، عندما تركَّز مطلبهم المُحقّ بشكل أساسي على زيادة 121% على أساس الراتب ولم يقبلوا الذهاب أبعد من ذلك من أجل ملاقاة مطالب فئات اجتماعية وشرائح مهنيّة مختلفة. تطغى العقلية النقابية التي تعتبر أن واجب القيادة النقابية المُطالبة والضغط من أجل إقرار مطالب الذين تمثّلهم من دون فرض آلية تمويل لا تصيب الفقراء. فعلى الرغم من جدِّية الحراك النقابي المطلبي لهيئة التنسيق حينها، والتزام القادة النقابيين بمصالح القوى العاملة التي يناضلون من أجلها، إلّا أن هؤلاء النقابيين بقوا بعيدين عن ساحة المعركة الأساسية، وهي الاقتصاد، أو بمعنى أدقّ، معركة إعادة توزيع الدخل والثروة والموارد.

العمل السياسي كمدخل للعمل النقابي

لطالما كانت النقابة وسيلة من وسائل الصراع الاجتماعي لا غايته. تنشأ النقابة في سياق هذا الصراع، عندما يُدرك العمَّال أن تضامنهم هو السبيل إلى تحقيق مطالبهم والدفاع عن مصالحهم. لا يمكن للنقابة أن تحقِّق الغاية منها من دون تضامن أعضائها. ولكن، في حالة العمَّال والعاملات في لبنان الآن، الذين يعانون من الوهن والضعف الشديدين، سواء في القطاع العام أو الخاص، في العمل النظامي واللانظامي، فإنّهم يحتاجون إلى أكثر من التضامن بين أعضاء النقابة، ففي ظلّ الحرب الضروس التي يشنُّها تجَّار ومصرفيون وسياسيون، باتوا بحاجة إلى تضامن أكثر من 80% من السكَّان المُستهدفين بهذه الحرب.

أن نقدّم للناس نقاشاً يفتح الباب أمام حلول أقل وطأة عليهم وأكثر استجابة لحاجاتهم الفعلية​​​​​​​عادة، يتمّ بناء البرامج النقابية على طبقتين؛ الأولى تتناول القضايا القطاعية المُحدَّدة، والثانية تطال السياسات الاقتصادية والاجتماعية العامّة، وغالباً ما تتمّ المساومة على الطبقة الأولى في مقابل تجاهل الطبقة الثانية. قد يستطيع بعض العمّال أن يحصلوا على زيادات جزئية على أجورهم، ولكنّهم يواجهون جميعهم مع فئات واسعة أخرى من السكّان غول التضخّم والانكماش والبطالة وانهيار نظم الحماية الاجتماعية القاصرة والخدمات العامّة المُتردية أصلاً. ويواجهون أيضاً المزيد من الخسائر التي يجري نقلها من رأس المال وتحميلها إلى المجتمع على المدى الطويل. لذلك، يتحمّل العمّال مسؤولية تنظيم أنفسهم في هذه الحرب، ولكنها ليست مسؤوليّتهم وحدهم، وإنّما مسؤولية جميع القوى التي تدّعي النضال من أجل التغيير، فترك الساحة النقابية تحت سيطرة الأحزاب الطائفية وهيئات أصحاب العمل هو بمثابة التخلّي عن واحدة من أهم وسائل الصراع.

حتى الآن، لم تنجح المحاولات لإقامة إطار أو تيّار يُعبّر عن مصالح العمَّال والعاملات، يعلن مواقفه في الاقتصاد من وجهة نظرهم، ويقدّم نموذجاً لما يريدون، ويطرح برنامجاً قادراً على تحويل الأزمة إلى فرصة. إلّا أن هذه المهمّة ليست مستحيلة، ودونها عقبات وخلافات وتقوقعات كثيرة، ولكن الأزمة لا تزال تُبرِّر مواصلة المحاولة لإيجاد جبهة التصدّي لتوحّش سلطة رأس المال. أقلّه أن نقدّم للناس نقاشاً يفتح الباب أمام حلول أقل وطأة عليهم وأكثر استجابة لحاجاتهم الفعلية.